كذلك نوه أمين في دروسه بالانتفاع بمنتجات المنحل الانتفاع الأوفى، وبالإكثار منها؛ إذ لا يجب أن تقتصر العناية على تسويق العسل والشمع فحسب، وذكر أن في أمريكا توجد شركات تعني بصناعة خل العسل باعتباره ألطف طعما وأصلح نفعا من الخل التجاري المعتاد، وحتى خل المولت (أي الخل المصنوع من الشعير المنبت أو شعير الجعة)، وثمة شركات تعني بصناعة المشروبات الروحية لا يفوتها صنع التبغ أو خمر العسل، وهو من المشروبات الروحية النقية الفاخرة.
ولو وجدت جمعية تعاونية مركزية تعني بالتوسع في منتجات المناحل وفي تسويقها في محلاتها الخاصة لوجدت مجالا فسيحا لعملها، ولنشأت فيها أقسام مختلفة لكل منها اختصاصه ومحاله في التحضير والبيع، فعدا صناعة الخل والمخللات من خضر وفواكه توجد صناعة التبغ، وصناعة المشروبات كالليموناده وأمزجة العسل باللبن والشيكولاتة وصنوف الكوكتيل، ثم صناعة الفواكه المحفوظة بالعسل، فضلا عن الكعكة والهلام ومخاليط الزينة وغيرها من صنوف المأكولات المتعددة التي يجملها العسل، ثم صناعة المربيات العسلية، وصناعة صابون العسل، والدهانات الطبية، والورنيش الذي تطلى به الأثاثات والأرضية الخشبية للغرف ... وغير ذلك من التحاضير التي لا حصر لها.
وما ظهر الوروار أو آكل النحل حتى كان أمين شديد السخط على عدم التعاون على محاربته، وكيف أن القانون يحميه باعتباره من آكلي الحشرات، مع أن تشريح حوصلته أثبت على أن جل محتوياتها إن لم يكن كلها عبارة عن نحل أو أجزاء من النحل. فهذا الطائر عدو لدود للنحل، وهي تسمع لصوته المنفر المخوف، وتراه يتبعها أفواجا بل ويكاد يقف في الجو وهو طائر ويلتقط أخواتها غنيمة باردة، وبعضها في شجاعتها تجري وراءه تريد لسعه، ولكن هيهات! وهكذا يعطل الطوائف عن العمل بل قد ينكبها في أعز شيء لديها وهي ملكاتها إذا ما عادت إلى الخلايا للتخصيب، وقد يؤدي ذلك إلى خراب مناحل التربية. فمن الغرابة بعد ذلك أن يحمى مثل هذا الطائر هذه الحماية العمياء، وهناك طيور لاقطة غير الوروار ولكن هذا الطائر الشره كان أشدها خطرا.
أما سخط أمين على الشفافير فكان أشد من سخطه على الوروار، وقد عد ضررها للنحالة المصرية مقابلا لضرر الأمراض المعدية للنحل في أوروبا وأمريكا، وكان تألمه منصبا على التهاون في محاولة استئصالها أو على الأقل محاربتها كما يحارب الجراد، فكلاهما ضار بالزراعة، والشفافير لا تقضي على المناحل فحسب بل تسيء كذلك إلى محصول الفاكهة، وإن النحالين ليعانون منها كثيرا ما بين تعطيل النحل وما بين الإنفاق على صيدها في المناحل وما بين حبس الطوائف بالحواجز المعدنية المشابهة لحاجز الملكة مثبتة على أبواب الخلايا، في حين أن التشريع بمسؤولية كل مالك عن تسميم أعشاشها في ملكة مع مراقبة تنفيذ ذلك كفيل باستئصال شأفتها في سنوات قليلة بدل الخسائر الفادحة التي تصيبنا منها عاما بعد عام.
وأما عن أعداء النحل الأخرى كالفيران والضفادع والسحالي والعناكب والنمل فأمرها هين بالنسبة إلى هذه الشفافير المتوحشة، وقد يعد من أعداء النحل النحال الجاهل والنحل المنحطة. فالنحال الجاهل بسوء تصرفه قادر على إتلاف خير الطوائف وأقواها، والنحل المنحطة إذا استقرت في منحل أفسدت ذكورها تلقيح الملكات العذارى، وبلبلت بطباعها الشاذة النظام الهادئ في المنحل ما بين لسع مفاجئ لا مبرر له وسرقات متعددة وغير ذلك من المتاعب المضايقة، ولذلك يجب على النحال الحصيف أن لا يسمح أبدا بإقامة مثل هذا النحل في منحله، وكفى شيوع الذكور المصرية وتنقلها الذي لا يحد ما بين المناحل.
ولما اقترب الشتاء هم أمين أن تكون جميع الخلايا مثبتة جيدا بحواملها في الأرض حتى لا ينال منها عصف الرياح، كما همه أن تكون جميع طوائفها قوية، وقد عمل على تحقيق ذلك، ولم يعبأ بما اعتاده سواه من وضع قش الأرز وما إليه في غرفة خالية فوق الغطاء الداخلي؛ بل كان يصرح بأن أفضل غطاء للنحل هو النحل، أي أن الطوائف القوية في غنى عن أي غطاء خارجي، وأن ما يؤذي النحل ليس البرد ما دام في حدود الاعتدال كما هو الحال في مصر، وإنما هي الرطوبة، ولذلك يجب أن يكون سقف الخلية محكما لا يسمح بتسرب المطر إلى داخلها. •••
وهكذا انتهى الموسم على أحسن الأحوال من تعليم وصحبة وإنتاج، فانقطع المتعلمون وانفض السامر، ووزع أمين الهدايا على أصحابه، وخص بثينة بهدية غالية نفيسة، وحسب أن فريدا قد عاد إلى القاهرة مفاجأة لاستئناف دراسته فإذا به يزوره ويبلغه أنه حول دراسته إلى كلية الطب بجامعة فاروق الأول، فسر أمين من ذلك؛ لأنه كان يحب فريدا ويستظرفه ويعجب باستقامته وبتنزهه عن الغرور، ولكن مضت الأيام ولم تتكرر الزيارة، فحسبه في البداية مشغولا بدراسته ورأى من الواجب أن يسأل عنه، وعلى الأخص؛ لأنه فاتته رؤية بثينة زمنا، وكان كلما سأل عنها قيل له إنها ما تزال متغيبة في العاصمة ...
وذات مرة توجه إلى منزل فريد فإذا بشقيقته صفية تبلغه أنه ذهب إلى السينما مع الآنسة بثينة لمشاهدة عرض رواية (الأرملة الطروب) الغنائية.
فذهل أمين ، وأسقط في يده، ولكنه تمالك نفسه وسأل صفية: حسبت أن الآنسة بثينة ما تزال في القاهرة. - لا أعرف أنها سافرت بعد، فهي كثيرا ما تزورنا مع شقيقتها الآنسة نادية، وقد كنا نتحدث عنك أمس فقالت الآنسة بثينة إنك مشغول جدا في هذه الأيام.
يا لله! أهذه نهاية الحب؟ أكذا يكون الوفاء؟ أيمكن أن تفكر في شاب صغير مثله لم ينضج بعد؟ ثم ما هذه الزيارات المتواصلة المتبادلة بينها وبين فريد في حين أنها كان تهرب من لقاء أمين؟ وما هذه السينما التي تجمعهما في مشاهدة أوبريت غرامية قائمة على الاستهواء والمجازفة؟ أكان سخيفا أبله في ابتعاده هو عن الاستهواء والمجازفة؟ ... لقد فقد كل شيء، حينما كان يأمل في قرارة نفسه أن تكون فاتحة العام الجديد المقبل فاتحة سعادة جديدة له.
Shafi da ba'a sani ba