والمديرية التي تفوق في كثافة سكانها باقي المديريات الأخرى هي مديرية المنوفية، ففيها يشترك كل ثلاثة أشخاص في فدان واحد، أو بعبارة أخرى كل 714 نفسا في كيلومتر واحد مربع.
والآن يوجد - كما سبق ذكر ذلك - مناطق مأهولة بسكان يقل عددهم عن العدد اللازم لزراعتها زراعة مرضية، لما كان الأمر كما ذكر، فكيف استطاع سكان يكون عددهم في الزمن القديم أقل منه اليوم زراعة الأراضي المزروعة وغير المزروعة الآن؟
إننا لا يمكننا القول بضعف التربة وقلة المحصول في ذلك الحين، والزعم أنهما هما اللذان استوجبا تشتت الأهالي ونزوحهم عن الأراضي التي كانوا يزرعونها إلى أخرى حتى يستطيعوا استغلالها؛ لأننا لو ذهبنا إلى ذلك لاعترضتنا المحاصيل التي ذكرها مؤلفو العرب في عصرهم الذي وصفوه لنا بأنه كان عصر انحطاط بالقياس إلى العصر السابق، وقد أيد ذلك أميان مارسلان الذي يعتبر شاهد عيان تأييدا تاما، مع أن محاصيل ذلك العصر الذي سموه عصر انحطاط لم نحصل نحن على مثيلها أو ما يقرب منها في أيامنا هذه. ومما يبرهن على أن قوة الإنتاج كانت في الزمن الغابر أعظم مما هي عليه الآن، استطاعة القطر أن يمير ويسع عددا من السكان إن لم يكن أزيد منهم في وقتنا الحاضر، فلا ينبغي أن يكون أقل منهم.
ولرب معترض يعترض علينا بأن الزراعة المتكررة في الوقت الحاضر (الصيفية والشتوية) تستلزم من الأيدي العاملة أكثر مما كانت تستلزمه الزراعة القديمة، أي زراعة الحياض، فنقول: إن هذا لحق، ولكن إلى حد محدود، وعلى أي حال فذلك لا يمنع من أن المنطقة التي تروى بواسطة الحياض تسع وتمير سكانا لا يقلون في كثافتهم عن سكان المنطقة التي تروى أكثر من مرة، ونضرب لذلك مثلا بما هو جار في وقتنا الحاضر في مديريتي جرجا وقنا اللتين ترويان بواسطة الحياض، ولا تختلفان الآن من حيث الري والزراعة عما كانتا عليه منذ ستة آلاف من السنين؛ فقد أظهر الإحصاء الأخير الذي عمل في سنة 1917م أن متوسط عدد الأشخاص الذين يشتركون في الفدان الواحد فيهما هو ، أو بعبارة أخرى أن الكيلومتر المربع الواحد يشترك فيه 635 نفسا، وهذا المتوسط يزيد على متوسط جميع القطر، وهو اشتراك
من الأشخاص في فدان أو 535 نفسا في كيلومتر مربع واحد، وهو يكاد يدنو منه في مديرية المنوفية التي يشترك في كل فدان منها 3 أشخاص، أي في الكيلومتر المربع الواحد 714 نفسا. هذا وإن جميع أطيان هذه المديرية يزرع صيفا وشتاء ويروى ريا متكررا، وهي تفوق في كثافة سكانها مديريات القطر جميعها.
وبناء على ما تقدم لو اتخذنا حتى متوسط هاتين المديريتين والستة ملايين فدان أساسا لتقديرنا؛ لوجدنا أن عدد سكان القطر يبلغ ستة عشر مليون نسمة.
ولكن ماذا يقال عن الجزية التي جباها العرب عند فتحهم مصر من ستة ملايين من الأشخاص الذكور الذين يبلغون الحلم، وجاوزت سنهم الخمسة عشر عاما إلى الستين، ولم يدخل في هذا الإحصاء الشيوخ الذين جاوزوا هذه السن الأخيرة، ولا النساء ولا الأولاد المعفون من دفع هذه الجزية؟ فهذا العدد المفروض عليه هذه الجزية لا بد أن يبلغ ثلث السكان، على أن بعض المؤرخين قد ذكر أن عدد الأشخاص الذين فرضت عليهم الجزية بلغ ثمانية ملايين نسمة.
ولدينا غير ذلك، الإحصاء الذي عمله ابن رفاعة بعد الفتح العربي ب 75 سنة، ويستخلص منه أنه كان بالقطر المصري عشرة آلاف قرية، تحتوي أصغرها على خمسمائة نسمة من أولئك الذين تجب عليهم الجزية.
فإذا فرضنا أن هذا العدد هو متوسط ثلث السكان، كان عدد سكان القطر المصري في ذلك العهد خمسة عشر مليون نسمة.
وخير ما نستطيع ذكره هنا ما ذكره أبو الحسن المخزومي من أن المنطقة الواقعة بين الفرما ونهاية ترعة الإسكندرية كانت تكسوها المزروعات إلى ما بعد سنة 350ه/961م، غير أنه في الوقت الذي كان يكتب فيه وهو عام 580ه/1184م كان القسم الأكبر منها قد أدركه العفاء وخربت مزارعه، وهذه الناحية هي بالدقة إقليم الدلتا الشمالي، أي المنطقة التي تربتها أقل جودة من سواها، وهذا الذي حدث هو أمر طبيعي، وقد كان يحدث عكس ذلك لو زاد عدد السكان، أي إنه عندما نقص عدد السكان في عهد العرب نقصا كبيرا، وقل عددهم في المناطق الجيدة التربة، ترك أولئك الذين كانوا يعيشون في مناطق أراضيها أقل جودة أطيانهم، ونزحوا إلى المناطق التي تربتها جيدة لاستغلالها.
Shafi da ba'a sani ba