قال: جئت للصلاة على زوجتي المرحومة.
قالت: أتجسر أيها العاتي الشرير أن تلفظ اسم والدتي بفمك المرجوس، ولا تخشى الأرض تنفتح فتبلعك، وتنقض الصواعق من فوقك فتطحن منك العظام؟!
فنظر إليها خليل نظر اليائس المستغيث، ووقع على قدميها ضارعا مستغفرا وقال لها: عفوا ومرحمة فإن كنت قد حملت إثما أو جنيت ذنبا فإني طالب الغفران، وكان الاصفرار قد صبغ وجهه والاضطراب قد أوهن قوته شأن المحبين المتيمين حين يقابلون محبوبا.
فقالت له عفيفة: تطلب مني غفرانا، وأنت جدير لطلبه من والدتي بما جنيت عليها، فمنها وحدها يجب الاستسماح، أيها الشقي الفاجر إن والدتي راقدة في القبر قد أنقذها الله من جورك وعدوانك، وجعل مقرها النعيم حيث لا كدر ولا انتقام على أني أجاوبك بما تستحق، فلتكن ملعونا إلى آخر فسحة من حياتك جزاء عما اعتديت وافتريت. ثم إن عفيفة أقبلت نحو فؤاد، وأخذته من يده وقالت: هلم بنا من هذا المكان فإني لا أستطيع المكوث فيه ولا رؤية هذا الغدار القاتل، فإنها تجدد أوجاعي وأحزاني وتثير همومي وأكداري، فما انتصب خليل وتقدم نحوها ابتغاء منعها عن الذهاب وقال لها: كلا لا أدعك تخرجين مع هذا الرجل.
فاعترضه همام وقال: حسبك أيها الرجل كفرا وعنادا، إن السيدة في زمام ابن أختي برضاها وخاطرها، فليس لك أو لغيرك منعها عن فعل ما تشاء، فلها الرأي وحدها.
فقالت عفيفة: الرأي لوالدتي، فإنها في ساعة النزاع سلمتني إلى هذا الشاب الكريم العزيز النفس، وهو عضدي الوحيد، وهو صديقي وأخي، لا يفرقني عنه أحد.
فقال همام لخليل: قد سمعت قولها، فليس من سبيل لك عليها. ثم إنه التفت إلى فؤاد يأمره بالانصراف، وعاد خليل يحذره التعرض له بقوله: إن تحركت من مكانك أخمدت أنفاسك بهذه الحربة. وكانت الحربة مهيأة بعصا تفتح ثم تقفل، فانطلق مع عفيفة، وخليل ينظر إليهما بوجل وعقله يكاد أن يطير من رأسه من شدة الغيظ والغضب، وحاول أن يلحق بهما فلم يستطع ذلك، فإن هماما كان يمنعه عن الانصراف حتى غاب ابن أخته والفتاة عن الأبصار، فناوله حينئذ خنجره وقال له: لا مانع من ذهابك الآن، وسأنظر في أمر هذه الفتاة فإن كانت لك حقوق عليها أوجبتها لك، وإلا فقد أخذت نصيبك، فصرخ خليل صرخة الحاقد المريد ورفع الخنجر شاهرا بيده وهو يقول: لا بد لي من أخذ الثأر.
الفصل الثالث عشر
بعد أن سار سعيد وخليل، ركب همام عربة وأشار إلى السائق بأن يتوجه إلى منزل شقيقته، وكان منزعجا مما شاهد، فلما وصل دخل البيت فوجده مرتبا نظيفا والسلالم مفروشة بالأبسطة، فظل داخلا إلى الحجرة التي اعتاد أن يجلس فيها، فرأى شقيقته جالسة على كرسي مزينة بأبهى الملبوس وأفخره، فلما رأته هرعت لاستقباله مبتسمة، وبادرته بالتحية والإكرام، وقالت: إني في انتظارك كما ترى، قد استعددت لكل شيء، وقضيت هذا اليوم في التجهيز منذ الصباح، ولم أفرغ من العمل إلا من نصف ساعة، فلبست ثيابي على عجل تشوقا لحضورك، جعل الله يومنا مباركا والخاتمة خيرا.
قال همام: ولمن هذا الاهتمام واحتمال العناء؟
Shafi da ba'a sani ba