فتبسم عند سماع ذلك همام، فإن سعيد كان أحمر الشعر ومعشوقته شقراء شديدا، وجاهد نفسه ليمتنع عن الضحك مخافة أن يغضبه في ساعة يرى استرضاءه واجبا؛ لإتمام زواج فؤاد بشقيقته سعدى، فرأى أن يغير موضوع الكلام، وقال ملتفتا إلى فؤاد: لو لم تكن ابن أختي وعلى أهبة الزواج، والمطلوب منك أن تكون قدوة في السلوك الحسن لأقمتك بيننا حكما تفصل في الخلاف.
قال سعيد: وهل الزواج يمنع فؤادا عن إبداء رأيه؟ إنه صاحب نظر دقيق، وذوق صحيح، ولي ركون إلى قوله واقتناع بحجته.
قال همام: ماذا تقول شقيقتك حين يبلغها أنا انتدبنا خطيبها حكما بيننا يقضي في خلاف مثل هذا يتعلق بالنساء؟
قال سعيد: كيف يبلغها الحديث؟! فإن من عاداتي ألا أفوه ببنت شفة.
قال همام: ونحن أيضا نكتم الخبر، فلا يظهر له من أثر، وشرطنا على فؤاد أن يتقدم، ويدقق النظر في البنات، ويفصل المشكلة بيننا ، فقد قبلت برأيه وحكمه.
فتقدم فؤاد ودقق النظر في البنات تدقيق المنتقد الخبير، فأبصر أولا الفتاتين الشقراء والسمراء، فوجدهما لا تستحقان النظر أو تليقان أو تروقان في أعين أهل الذوق السليم، ووجه بصره إلى الابنتين الأخريين فلم يجد فيهما شيئا من الحسن، فلوى عنقه لينصرف إذ وقع بصره على الابنة الخامسة المقيمة بمعزل عن رفيقاتها ... وكان قد سقط الشريط من يديها على ركبتيها، فتنهدت الصعداء من التعب، ووقفت تنظر إلى ما فوقها، ومالت بوجهها نحو باب المخزن بحركة من يستيقظ من نومه مضطربا بسبب الأحلام المزعجة، وانكشف وجهها بنور الغاز فزاده اصفرارا، فتأمل فؤاد فيها مندهشا من بديع جمالها، ولطف قوامها، وبهائها، وملاحة فمها، وسحر عينيها، ورأى آثار النباهة على جبينها، فكأنما في وجهها مادة شفافة عما يخالجها من الشعور إن محزنة وإن مفرحة، فيرتسم فيه ذكاء الفضل والنباهة والفضول والمكر والخجل والسذاجة، وغير ذلك من العلامات التي تقرأ في العيون إن سكنت أو تحركت، فترسل الشرر عند الغضب، وترشق القلوب بلواحظ الرقة في ساعات الرضا.
وبينما كان فؤاد ينظر مبهوتا تفرس فيها أمارات الحزن الشديد، وكأنها سابحة في أبحر التصور والافتكار، فلا تعي شيئا مما حولها، ولا تدري ماذا تفعل، حتى هبت كبيرة الخياطات تناديها زاجرة بقولها: أعدت إلى الكسل يا عفيفة - وهو اسم الفتاة - أضجرت من الشغل ففتحت للهواء فاك؟ فإن استمرت الحال هكذا مضى الشهر كله فلم تفرغي من عمل البرنيطة التي تصنعين شريطها مع علمك بأن صاحبتها مستعجلة في طلبها.
فتنبهت الفتاة واستأنفت العمل ورئيستها توبخها وتعنفها بكلام أحد من ضرب الحسام، والرفيقات الأخريات يهزأن بها. فرق لها قلب فؤاد، واشمأز من سخرية البنات الأخريات منها، واستمر ناظرا إليها لعلها ترفع رأسها ثانية فيتمتع بمرأى جمالها البديع.
وكان همام في أثناء ذلك قد ضاق ذرعا من انتظار حكم ابن أخته في الأمر الذي اختلف مع سعيد عليه، فتقدم وأمسكه بيده وخاطبه بقوله: إن سليمان الحكيم لم يصرف من الزمان في إبرام حكمه المأثور ما صرفت لإصدار رأيك في المسألة التي جعلناك حكما فيها ... فأفتنا، أليست السمراء الحديثة السن الجيدة الصحة أجمل من رفيقتها الشقراء المقيمة إلى جانبها؟
قال سعيد: لا ريب أنه استحسن الشقراء لجمال قوامها ولياقتها، فهو على الذوق الحسن ورأيه لا يختلف عن رأيي.
Shafi da ba'a sani ba