ولما كانت في ذات ليلة جالسة في قصرها فاكرة في أمر الخليقة، وقد اتسع فكرها مما استحصلت عليه من المعارف، وقالت في ذاتها: كيف يتسنى للنار أن تقدر على إبداع هذه المخلوقات، مع ضعفها، إذ إنها لا تتقد إلا بيد بشرية، والقليل من الماء يطفئها؟! فأشغل هذا الفكر الجزء الأعظم من عقلها، وجعلت جل بحثها في هذه الغاية، وكان من جملة أساتذتها رجل جليل القدر، عالي الهمة، خبير بدقائق الأمور، يقال له الكاهن «أرباسيس» وكان كلما حضر بين يديها يرى على وجهها علائم الحيرة والارتباك، فيفكر في ذلك لعله يجد إلى معرفة الحقيقة من سبيل. وبحث في داخليتها، وفتش في أسرارها؛ لئلا تكون انشغلت بسبب طارق غرامي أشغل فؤادها بحب أحد يليق بمقامها، فلم يجد لذلك من أثر.
فاحتار في سبب انشغالها، وصبر يتربص الفرص إلى أن كان ذات يوم طلبت الأميرة «مندان» من والدها أن يأذن لها بالتجول في أنحاء المملكة؛ لأجل أن تزيل بعض ما عندها من الانقباض الذي لم تعلم له سببا، فأذن لها الملك بذلك، وكان يحبها محبة بليغة؛ لفرط جمالها وكمالها ووافر معارفها وآدابها، ولكونها وحيدته ووريثته في الملك، وكان يعتمد على آرائها في الأمور المهمة ... ولما استحصلت على رضا والدها استحضرت الكاهن «أرباسيس» وأخبرته بعزمها، وكانت تعتمد عليه وتذعن لقوله، وتقدمه على جميع أساتذتها، فلما سمع منها ذلك فرح وأيقن ببلوغ المراد، وقال في نفسه: لعلي أطلع على ما في سريرتها، أو أجد منها فرصة على انفراد، فأستطلع ما في نفسها.
فقال لها نعم ما رأيت أيتها الملكة؛ لأن في السياحة فوائد عظيمة منها: رياضة للنفس، وزيادة في اتساع المعار. والاطلاع على عوائد الأمم وعقائدها وأديانها يكسب الإنسان حياة جديدة.
وعند سماع هذه الجملة ظهر الانشراح على محياها، وبرقت أسرة جبينها الزاهر، وقالت: هل في مملكة أبي من يتدين بدين غير ديننا؟
قال: لا بد أن يوجد ذلك، ولو سرا؛ لأن الملك لو علم بهذا الأمر لأهلك من يخرج عن عبادة النار؛ لأنه شديد التعصب لدينه.
فتنهدت «مندان» وشكرته على ما بين لها من هذا القبيل، وطلبت إليه أن يصحبها في سفرها هذا، فلبى طلبها وكان يعزها كابنة له، ويحافظ على عدم تغير إحساساتها، ويحب أن ينفذ أوامرها، ولو مهما كان الأمر خطرا. ولكنه تعجب منها حينما رأى على وجهها علائم البشر وقت ما سمعت منه ما يختص بالأديان، وكان هو أيضا ممن يعبدون الباري تعالى ويمجدونه، ولكنه لا يطلع على ما في ضميره أحدا؛ لأنه يخاف من سطوة الملك، فاستبشر بهذا الأمر، وكتم ما عنده لبينما يتبين الحقيقة.
وبعد ثلاثة أيام هبت الأميرة للسفر، وودعت والدها ووالدتها ومن في القصر، وركبت هودجها، وسارت تحفها الحراس من كل مكان، ولم تأخذ من الخدم الداخلي سوى جاريتين من خواصها فقط، وعلى يمين الهودج الكاهن «أرباسيس»، وساروا يقطعون البراري والقفار مدة ثلاثة أيام، وهم يسيرون بين رياض وغياض. وفي اليوم الرابع وصلوا إلى مكان يقال له المرج الأخضر، وكان في ذلك المكان المعبد الأكبر الموجود في بلاد «مادي» وكان على غاية من الإتقان وحسن البناء وغرابة الموقع، وهو مقام في سهل واسع الأرجاء بهج المناظر ذو غدران دافقة وأطيار ناطقة وأشجار ناضرة وأنوار ظاهرة.
وفي داخل المعبد 800 غرفة لنزول الزائرين، وهي في غاية الإتقان والنظام التام، مفروشة على نسق ذاك الزمان، لا تنقص عن غرف الملوك شيئا، بل تزيد إتقانا؛ لأنها تختص بالآلهة التي تعبدها الملوك، وفي وسط هذه الغرف حجرة الملك. وكان يزور هذا المعبد كل عام في أيام العيد ، ويتقرب إلى النار بذبح العدد الوافر ممن يعبدون غيرها، ولما حضرت الأميرة «مندان» خرجت المرازبة لملاقاتها على مسافة أميال، وكانت البشائر قد أتت إليهم من قبل بأمر «أرباسيس» فدخلت الملكة المعبد يحفها الحراس، وقد زين لها الهيكل بأنواع الزينة، وبعد أن أخذت لنفسها الراحة من وعث السفر، أمر الموبدان الأكبر خدمة النيران أن يوقدوها بالعود والند والصندل، وجميع الأخشاب العطرية، وأمرت الملكة «مندان» أن يخرج الجميع، ولا يدخل معها أحد سوى أستاذها «أرباسيس» لئلا يشغلها كثرة الناس عن العبادة. فأذعنوا لأمرها، وخرج الجميع، ودخلت هي و«أرباسيس».
وفيما هي داخلة من باب الهيكل إذ نظرت إلى مخدع عن يمين الداخل فيه ثلاثة أولاد لا يتجاوز أحدهم الأربع من سنيه، وقد وضع كل منهم في قفص حديد، وأمامه الماء والطعام، فلما نظرت الملكة إلى الأطفال اقشعر جسمها والتفتت إلى «أرباسيس»، وقالت له: ما سبب حبس هؤلاء الأطفال أيها الأستاذ، ومالي أراهم يحافظون على حياتهم من الجوع والعطش؟
قال: إنهم قربان للنار يا مولاتي! وإن محافظتهم على حياة الأطفال لأجل أن تلهمهم وهم في قيد الحياة؛ ليكون ذلك أبلغ لرضاها عن عبادها!
Shafi da ba'a sani ba