هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نقشت عليها وملأها بالثغرات والفجوات، والملاحظ على سبيل المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه!
ولا شك أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطور عناصرها في بناء محكم، وأبرز أهم هذه العناصر - وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم - في أكثر من موضع، وذلك قبل أن ينتقل من الدوران حول الأنا إلى الاهتمام بالنحن، وقبل العثور على «نبتة» الخلود التي عبر عن رغبته في أن يشاركه شعب مدينته أوروك وشيوخها في الأكل منها لتجديد الشباب والحياة، حتى إذا اختطفتها منه الحية وجددت بها جلدها، صورت لنا الملحمة بأسه وضياعه الذي تحول - بعد اقترابه من مشارف مدينته ورؤية سورها وأبراجها - إلى نوع من الفرح والتصميم على مشاركة شعبه في العمل والبناء ... (4) وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية، ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص، ومن الملحمة أيضا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد ... وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعرضها على جلجاميش مقابل الزواج منها حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري، ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش، ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها، عندئذ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة أم على مصير الكون كله ...) ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين) ...
وقد بقيت من النص أجزاء شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبا من حديث أنكيدو مع جلجاميش، ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها، والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبها كاتب الملحمة - على لسان جلجاميش - على رأس الربة الجميلة، كما أنها - فيما يبدو - لم تتطرق لغضب الألهة - بخاصة إنليل - على أنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، ودفعته للبحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين ... (5) ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرا واضحا على اللوح الثاني عشر الذي يجمع العلماء على أنه مقحم على الملحمة ولا ينتمي إليها انتماء عضويا كما نقول اليوم، وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي» وهي تبدأ - شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة - بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية، إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف كور، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة هي شجرة الخولويبو، ولعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها، ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك، وتعنى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرا تنام عليه وكرسيا يليق بها. أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل، إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنا لطائر العاصفة الإلهي «بدزو» الذي بنى عشه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت، تعذر إذن على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة فراحت تبكي بكاء مرا وتبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها، ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلا، وبلطة زنتها أربعمائة رطلا، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها، وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا أو عودا يدق بها عليها، (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما - كما يعلمنا الكاتب البابلي - في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر 143 وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر 1-20)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به كما قلنا إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا إلى العالم السفلي»، والبنات الصغيرات هن اللائي دأب جلجاميش على اختطافهن من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن ...
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة شبه حرفية وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى - العاصمة الآشورية الثانية - ووجدت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال)، ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو البوكو والموكو ...) ومحاولته استدعاء روح أنكيدو الذي كان قد هبط إلى العالم السفلي استجابة لأمر سيده بإحضارهما له فأطلقت عليه «صرخة الأرض» أو ذلك العالم، وتخرج الروح من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته وعن مصير أرواح الموتى فيه ... والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد آداتي جبروته واستبداده العزيزتين على قلبه ... لهذا لا أستبعد كما قلت من قبل أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من أوهام مجده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر على هذه الأرض، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ... (6) وأخيرا فلا بد من كلمة قصيرة عن بقية القصص التي أغفلها الكاتب البابلي، فالقصة الثالثة «جلجاميش وأجا حاكم كيش»
5
تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن «أجا ابن أنميباراجاسي» بعث برسله إلى أوروك طالبا منها الاستسلام، وناقش جلجاميش هذا الطلب مع «مجلس» شيوخ المدينة وختم كلامه بقوله: «لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح»، ولكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب ... ولم يقتنع جلجاميش برأي «مجلس الشيوخ»، فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح (مما يدل على وجود نوع من الديموقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه!) قائلا لهم: «لا تخضعوا لبيت كيش، فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح»، وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر أنكيدو أن يقلده أسلحته، مؤكدا أنه (أي أجا)، سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله! ولم تمر عشرة أيام حتى زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها، فأخذ جلجاميش يبحث عن محارب يتطوع لقتال «أجا» أمام أسوار المدينة، مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم، وأعلن رجل اسمه «بيرشور نوري» عن استعداده لمواجهة «أجا» ومضى في طريقه واثقا من النصر، ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربا وساقوه إلى قائدهم، وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربا مبرحا ... ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر، مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجاميش بالتفوق والسيادة والرئاسة ... ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختتم القصة بالثناء على ملك أوروك المسالم وفارسها الحكيم ...
والواضح من النص أنه يصور واقعة تاريخية مجردة من كل ثوب أسطوري، فشخصية جلجاميش فيها شخصية ملك «إنساني» عاقل، كما أن الآلهة لا تقوم فيها بأي دور، ولعل كاتب القصة أو ناسخها الذي سجل اعتراف جلجاميش بسيادة كيش قد حرص على تصوير هذه الواقعة المهينة في صورة لا تقلل من شهرة بطل أوروك ولا من مجد مدينته ذات الأسوار المنيعة ... والحقيقة أن القتال بين المدن السومرية كان أمرا معروفا، كما أن بكاء شعرائها على مدنهم المخربة بأيدي أبناء المدن المجاورة أو غيرهم من الشعوب والقبائل الغازية يعد من أهم الأنواع الأدبية في التراث السومري،
6
ومن أعمقها تأثيرا على قلب القارئ العربي المعاصر الذي يشهد خراب مدنه بأيدي العرب أنفسهم ... (7) أما القصة الخامسة - وهي «موت جلجاميش» - فقد وصلت إلينا في حالة من التشوه يرثى لها، ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبين له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول - كما سيفعل أنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة - أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس، إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة، ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك وترتفع أصوات النواح عليه، ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رفع إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي» ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى، وأخيرا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه، ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور» وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياء وفقا لطقوس الموت، ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف - الذي لا أفتي فيه عن غير علم! - أو تنفيه ... (8) أما عن قصة الطوفان السومرية التي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن صيغة القصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد أيضا على ذلك، وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار «آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج»، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو، أبو شهرين، ولاراك وسيبار بجانب مدينة الطوفان شوروباك التي تعرف باسم فارة).
ويبدو أن القصة الأصلية ذكرت قرار الآلهة بإفناء البشر بسبب إزعاجهم لهم، إذ نفهم من بعض سطورها الباقية أن بعض الآلهة قد أسفوا على اتخاذ هذا القرار، وراحوا يدبرون الحيل للوقوف بجانب البشر ... ثم يرد ذكر بطل الطوفان السومري، وهو زيوسودرا - أي الذي رأى الحياة - ملك مدينة شوروباك الذي يسر إليه أحد الآلهة (ولعله أن يكون هو إله الماء والحكمة إينكي الذي أصبح اسمه أيا عند البابليين، كما قام بنفس الدور في الملحمة) بخطة الآلهة في خطابه الهامس للجدار، ولا بد أن الفجوات الكثيرة في النص قد سردت قصة بناء الفلك وانهمار الأمطار من السماء، إذ توحي السطور التي جاءت بعدها بهبوب الأعاصير المدمرة وإغراق الطوفان للأرض سبعة أيام وسبع ليال «ثم طلع إله الشمس أوتو وغمر بنوره السماء والأرض، وفتح زيوسودرا نافذة - أو كوة - في السفينة الجبارة التي أضاءها البطل أوتو، وركع الملك زيوسودرا أمام أوتو، وذبح ثورا وخروفا» ... وبعد فجوة أخرى كبيرة نفاجأ بأن الإلهين آنو وإنليل قد ندما على ما فعلا، وأشفقا على البشر فأرسلا عليهم ريحا سماوية وأخرى أرضية بعثتا الحياة في مملكة النبات، ويلقي بطل الطوفان بنفسه أمام الإلهين اللذين يمنحانه الحياة الخالدة، ويقرران له العيش في جزيرة الخلود ديلمون (أو تيلمون)
Shafi da ba'a sani ba