وإن سل من قلبه السخائم، وجرى في ميدان المكارم، ولم يأت أمرا يكره أن يؤتى إليه مثله، سكن غليله، وصفت له عيشته، وطالت سلوته، وكثرت راحته، ورسخت في القلوب محبته، ونقيت من صدره ضغينته، وأشرقت بالفضل صفحته، وعادت له من صنوه مودته، وتأكدت في رقبته منته. ولعله إن طال تمعزه، أن يكثر عما يروم به عجزه، فيريه الغيظ والحرد، ويغلغله الحزن والكمد.
تم نصف كتاب المكنون والحمدلله رب العالمين.
ألا وإن أحمد الناس مذاهب، وأكملهم ضرائب، وأحسنهم فعلا، وأرسخهم في اللب أصلا، من تجافى عن هفوات إخوانه، ووادع أيام زمانه، وصاحب بالمسالمة خدينه، وبالمناصفة قرينه، ورضي من دهره بالموجود في غيره، وساير الناس كلا على ما طبع عليه في عصره، فإن أعظم النوائب، وأقبح النواكب، أن يسكن قلبك البغضة لمن كنت له وامقا، وتقل ثقتك بمن كنت به واثقا، وتستوحش ممن كان لك نصيحا، وكنت إليه حين تحزبك الأمور مستريحا.
واعلم يا بني: أن الحقد والحسد والغضب إذا اعتلجت في قلب أوقدته، وأعمدتهوأقلقته، فربما تهيج من ذلك الداء المستكن فاستوحش له البدن، وأظهر من غوامض الأوجاع ما بطن، فتغيرت لذلك الطبيعة، واستدعيت القطيعة.
فالواجب على الأريب العاقل، أن يسلو فيما نزل به سلو الذاهل، وأن يتسبب لدفع ما ألظ به من محاورة الأوداد، بالملاينة وترك البعاد، وإخماد ما يتشبب بالأحقاد، ويتطلف للمسالمة والراحة، وما فيه عائدة المصلحة، حتى يعود إلى ما تعود من السرور في قديم العهد، ويبعد عنه خواطر البال أشد البعد، ويدفع عنه طول الحمية، وبعد أهل الجاهلية، فإن الضمائر المذمومة أشر ذخيرة، ادخرها أهل المكرمة والبصيرة، وليس تنجع المواعظ إلا في ذوي العقول، وأهل الرأي الأصيل.
يا بني: فأما ذوو الأذهان المستلبة، الممنوعون حسن النظر في العاقبة، فغير سآدين ببصيرة ولا فكرة، في أمر دنيا ولا آخرة.
Shafi 199