مقدمة
مسرحيات لطفي جمعة بين الواقع والتاريخ
هرماكيس
قلب المرأة
كانت لقية مقندلة
حبيب القلب وحبيب الجيب
الوالد والولد
خضر أرضك
نيرون
في سبيل الهوى
يقظة الضمير
الأم المتعبة
مقدمة
مسرحيات لطفي جمعة بين الواقع والتاريخ
هرماكيس
قلب المرأة
كانت لقية مقندلة
حبيب القلب وحبيب الجيب
الوالد والولد
خضر أرضك
نيرون
في سبيل الهوى
يقظة الضمير
الأم المتعبة
مخطوطات مسرحيات محمد لطفي جمعة
مخطوطات مسرحيات محمد لطفي جمعة
الأعمال الكاملة
دراسة
سيد علي إسماعيل
محمد لطفي جمعة.
مقدمة
عندما توقف قلب الأديب الموسوعي «محمد لطفي جمعة»، عن نبضه في 15 / 6 / 1953، توقف بالتالي هذا السيل المنهمر من الكتابات الأدبية الثرية، التي خطت بيد هذا الأديب. وصار أدبه في طي النسيان، إلا من بعض المقالات اليسيرة، التي كانت تدبج في بعض المناسبات، وخصوصا من قبل أوفى أبناء الأدباء، المستشار رابح محمد لطفي جمعة. ذلك الابن الذي حافظ على تراث أبيه المخطوط، أكثر من حفاظه على حياته وصحته، بل ودافع عن أبيه وعن أدبه دفاع المستميت، الذي لا يتورع عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على اسم أبيه نقيا، وعن أدبه مرفوعا إلى عنان السماء.
وإذا قمنا بعملية إحصائية عما كتب عن لطفي جمعة منذ وفاته وحتى عام 1992، سنفاجأ بأنه لا يعدو عدة صفحات في بعض الصحف والمجلات والكتب التعريفية. أما ما كتب عن لطفي جمعة، أو طبع له منذ عام 1993 وحتى هذه اللحظة، فهو كثير بالنسبة لما سبق!
وتفسير هذا الأمر يتمثل في أن لطفي جمعة له من الإنتاج المخطوط ما يفوق أضعاف إنتاجه المطبوع! وهذا التراث المخطوط، كان أبناؤه يتوارثونه الابن بعد الآخر؛ أملا في تنفيذ وصية والدهم بطبع هذه المخطوطات بعد وفاته. ولكن مشاغل الحياة لم تعط الأبناء فرصة تنفيذ هذه الوصية، واكتفى كل ابن بالحفاظ على هذا الإرث الأدبي، حتى يسلمه لمن يليه ... وهكذا حتى وصل أخيرا إلى الابن ... رابح لطفي جمعة.
فما كان من هذا الابن البار إلا أن استغل كل فرصة ليظهر هذا التراث والتحدث عنه في كل مناسبة متاحة، وظل هكذا حتى شاء القدر أن يلتقي بأحد الكتاب المتخصصين في نبش قبور الأدباء المنسيين والدفاع عنهم، وإظهارهم بقوة للعيان مرة أخرى؛ وهو الكاتب «أحمد حسين الطماوي».
استحضر أحمد الطماوي كل إمكاناته الفكرية الذهنية والشخصية، وركزها تركيزا شديدا على لطفي جمعة، وعكف على تراثه الأدبي، المخطوط منه والمطبوع، وأخرج كتابا وافر المادة تحت عنوان «محمد لطفي جمعة في موكب الحياة والأدب» عام 1993، ليكون أول كتاب درس معظم أعمال لطفي جمعة المطبوعة والمخطوطة، علاوة على كم كبير من مقالاته الموزعة في الدوريات. ولم يكتف الطماوي بذلك، بل ذيل كتابه بببليوجرافيا - تكاد تكون - شاملة عما كتبه لطفي جمعة، وعما كتب عنه، لتكون مفتاحا لأية دراسة تكتب عن لطفي جمعة بعد ذلك.
وهكذا أخرج الطماوي لطفي جمعة من قبره مرة أخرى، كعنقاء الأدب الحديث، أو كمارد القمقم الذي حبس فيه لسنوات كثيرة. ومنذ خروج هذا الكتاب، أصبح للطفي جمعة شأن آخر! فتهافتت أقلام الكتاب والباحثين وأساتذة الجامعات على دراسة أدب لطفي جمعة، منطلقة من كتاب أحمد حسين الطماوي.
ولعل القارئ يتساءل: ألم يحاول لطفي جمعة في حياته نشر هذا الكم الهائل من المخطوطات الأدبية، وبالأخص المخطوطات المسرحية؟! وألم يحاول من بعده أبناؤه القيام بهذه المهمة؟! والإجابة عن هذا التساؤل، تجعلنا - تبعا لما بين أيدينا من وثائق ومعلومات - أن نقول: لقد حاول الأب، وأيضا حاول الأبناء ... ولكن دون جدوى!
ففي عام 1916، وبعد تمثيل مسرحية «قلب المرأة» - من قبل جوق أبيض وحجازي - أرسل لطفي جمعة خطابا إلى أحد الناشرين - وهو غرزوزي حبيب - من أجل نشر المسرحية، وقد وضع لطفي بعض الشروط في هذا الخطاب. وبعد أيام قليلة جاء الرد، وفيه قال غرزوزي: «سيدي الفاضل، وافاني كتابكم الكريم المملوء من العواطف النبيلة ما يعجز عن وصفه الجنان ... أشكركم شكرا وافرا لما أوليتموني من الجميل بإظهار ثقتكم بي وثنائكم علي، ومن خصوص طبع الرواية فأنا مستعد لقبول شروطكم، وإنما ثمن الورق الآن مرتفع جدا، ولا سيما الجيد منه، وهو يكاد أن يكون معدوما، ولكن ذلك لا يمنع من تهيئة الأصول للطبع، وفي أول فرصة مناسبة أبادر بطلبها منكم. المخلص غرزوزي حبيب.»
ومرت الأيام والسنون دون أن يطلب الناشر الأصول، وما كان سيطلبها في يوم من الأيام؛ لأن أسلوب التهرب من طبع المسرحية، واضح بصورة جلية في الخطاب، وهذه كانت المحاولة الأولى.
أما المحاولة الثانية، فكانت في عام 1923، عندما أرسل أمين الريحاني، رسالة إلى لطفي جمعة، نفهم منها أن لطفي جمعة - في هذه الفترة - كان يائسا من طبع مسرحياته، فيقول له أمين الريحاني في رسالته: «وما أحزنني في كتابك أنه في سؤالك بخصوص طبع رواياتك التمثيلية تقول إن المصريين لا يفهمون إلى الآن معنى
فإذا كانت لا تفهم عندكم يا أخي يا لطفي، أتظنها تفهم في أمريكا؟ وهل تفهم في سوريا، أو في العراق؟ لا تيأس يا أخي، إن السياسة اليوم مستولية على العقلية المصرية الاستيلاء المطلق التام، وبعد قليل إن شاء الله تعودون إلى الأدب فتطبع إذ ذاك رواياتك ويكون عليها الإقبال الذي تستحقه إن شاء الله.»
1
لازم هذا اليأس لطفي جمعة لسنوات طويلة، حتى وصل إلى مرحلة الزهد. فقد قال في مذكراته: «إنني منذ سنة 1940 - وهو تاريخ آخر ما نشرت من الكتب - عكفت على الكتابة والاختزان، وكففت عن الطبع والنشر، وجعلت هذه المخطوطات أمانة عند أولادي، وقد أشركت بعضهم في تحضيرها وتدوينها، وقصدت بهذه المخطوطات - وهي أنواع شتى في الفلسفة والتاريخ والأدب والقصص والمسرحيات والمذكرات - إشباع رغبتي ونهمي في التدوين والانتفاع بالقدرة ما دامت، والاعتراف بفضل الله علي بتمكيني من الدرس والتأليف، فهذا نوع من العبادة والتمجيد لله والعرفان.»
2
وبمرور الأيام شعر لطفي جمعة بدنو أجله، وبالتالي عدم تحقيق أمنيته في رؤية مخطوطاته مطبوعة ومنشورة، ومتداولة بين أيدي القراء! فما كان منه إلا أن كتب وصية خاصة بهذه المخطوطات، في شكل خطاب أرسله إلى أحد أصدقائه - وهو محمد خالد صاحب جريدة الدستور - قال فيه: «أشعر بأنك الإنسان الوحيد في هذه الحياة الذي أستطيع أن أكتب إليه هذه الرسالة طالبا منه تنفيذ ما فيها على بساطته وسهولته ... إنني شعرت بأنني مقبل على الانتقال من هذه الدنيا، وعندي مسألتان لهما أهمية في نظري؛ الأولى: كتبي التي جمعتها والمخطوطات التي أنجزتها على مدى سنوات طويلة ... فالكتب المطبوعة؛ فأحب أن تتصرف فيها أنت بشخصك بأن تقدمها هدية إلى أحد المعاهد العامة هبة بلا شرط ولا قيد سوى عدم تفريقها. المخطوطات التي جرت العادة بتسميتها مؤلفات مبالغة، أن تودعها أيضا مكانا عاما كوديعة يتسلمها أولادي عند بلوغهم سن الرشد؛ خشية أن تبعثر أو تباع بالميزان، وقد يكون فيها ما ينفع أحدا من الناس.»
3
وبالفعل مرت السنون، وبلغ بعض الأبناء سن الرشد، وشرعوا في تنفيذ وصية أبيهم، وكانت محاولتهم الأولى في عام 1963، عندما حاولوا نشر المسرحيات المخطوطة. وعن هذه المحاولة يقول رابح لطفي جمعة: «أما المسرحيات المخطوطة؛ فهي أعمال أدبية كاملة كنا قد تقدمنا بها سنة 1963 للجنة إحياء التراث بوزارة الثقافة والإرشاد لطبعها وإخراجها إلى عالم النور، فظلت باللجنة أمدا طويلا ثم استرددناها!»
4
كانت المحاولة الثانية، في عهد الرئيس أنور السادات، و«يحكي الأستاذ رابح أن الرئيس الراحل أنور السادات - رحمه الله - عرض على المرحوم زكريا لطفي جمعة، وكان عضوا بمجلس الشعب آنذاك، أن يوافيه بكتب والده لتطبع على نفقة الدولة، لكنه للأسف ترك هذه الفرصة تضيع.»
5
لم تتوفر أية فرصة بعد ذلك لأبناء لطفي جمعة، كي ينفذوا وصية أبيهم، من خلال طبع ونشر مخطوطاته. وعندما آلت تركة هذه المخطوطات إلى الأستاذ رابح، بدأ في تنفيذها بصورة جدية. ففي عام 1975، أصدر كتابا عن والده من خلال مذكراته. وفيه نادى بنشر مسرحيات والده المخطوطة، قائلا: «الأمل معقود على القائمين على النشر وإحياء النهضة المسرحية أن تخرج هذه المسرحيات والتمثيليات إلى النور، فقد كانت إحدى أمنيات لطفي جمعة أن تطبع هذه المسرحيات وأن تمثل.»
6
وظل هذا النداء أكثر من خمس عشرة سنة، دون مجيب! ولم ييأس رابح فأتبع نداءه الأول بنداء ثان - من خلال كتابه الثاني عن أبيه - عام 1991، قائلا فيه: «ترك لطفي جمعة مؤلفات عديدة لا تزال مخطوطة وماثلة للطبع ، تعد ذخائر ثمينة في الدين والأدب والتاريخ والاجتماع والفلسفة والتصوف والسياسة والاقتصاد والقصة والمسرح والترجمة الذاتية ... والأمل معقود في أن تتحرك الهيئة المصرية العامة للكتاب ودور النشر عندنا لطبع هذه المؤلفات المخطوطة المتعددة الجوانب لهذا الرائد من رواد نهضتنا الفكرية والثقافية الحديثة، وتقديمها للجيل الجديد خدمة للفكر والأدب.»
7
وبكل أسف كانت نتيجة النداء الثاني، هي نفس نتيجة النداء الأول؛ لا مجيب! وظلت وصية لطفي جمعة تؤرق الابن رابح ليل نهار، وبدأ تأثير الزمن يظهر عليه ويهدده وينذره ويدفعه إلى تنفيذ الوصية بكل وسيلة ممكنة، قبل فوات الأوان! تزامن هذا الشعور مع ظهور أحمد حسين الطماوي، الذي قرأ وفهم ودرس تراث لطفي جمعة المخطوط، قبل أن تمسسه يد الآخرين. هنا قرر رابح أن ينفذ الوصية بنفسه!
فقد عكف على مخطوطات والده، بالقراءة والإعداد والتصحيح والتنقيح والمراجعة؛ ومن ثم نشرها وطباعتها على نفقته الخاصة، واستطاع في وقت قياسي أن ينشر أغلب تراث والده المخطوط، الذي لم يبق منه سوى القليل. هذا المجهود الخارق لهذا الابن البار، كان له محل تقدير واحترام من قبل أعضاء لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة؛ وذلك من خلال تكليفهم لي بإعداد هذا المجلد عن مخطوطات مسرحيات لطفي جمعة، ليظهر في احتفالية كبرى يقيمها المجلس الأعلى للثقافة يوم 20 / 1 / 2001، تحت عنوان «لطفي جمعة أديبا موسوعيا».
رحم الله محمد لطفي جمعة وأسكنه فسيح جناته، ولتسكن روحه هادئة في قبرها؛ فقد تم تنفيذ الوصية، فإذا كان الله قد خلق رابح لطفي جمعة ليكون مستشارا وأبا وزوجا وإنسانا؛ فهذا كله لا يعادل أن خلقه الله ليكون ابنا بارا حافظا لتراث أبيه، ومنفذا لوصيته!
والله ولي التوفيق.
دكتور
سيد علي إسماعيل
القاهرة في: 30 / 12 / 2000
مسرحيات لطفي جمعة بين الواقع والتاريخ
هرماكيس
بناء على ما بين أيدينا من وثائق - وما كتب عن لطفي جمعة، وما كتبه لطفي جمعة عن نفسه - نستطيع القول إن بداية لطفي جمعة في الكتابة المسرحية كانت عام 1909، عندما ألف مسرحية «هرماكيس». وفي مذكراته المنشورة، قال عن هذه البداية: «هرماكيس المصري ، اسم لرواية تمثيلية في فصل واحد، وضعتها خلال شهر نوفمبر سنة 1909، وخلصت منها في يومين، وهي من حوادث التاريخ المصري القديم، وبطلها نبي جاء قبل موسى، ولكنها لا تزال في حاجة إلى بعض التنقيح والتصحيح.»
1
ومن خلال قراءتنا للمسرحية، نتفق مع المؤلف في رأيه الأخير، من احتياج النص إلى بعض التنقيح والتصحيح! فبعض الأحداث تعتبر غير منطقية، ولا مبرر لحدوثها، هذا بالإضافة إلى الجهد الذي يبذله القارئ لتفهم الأحداث، ومتابعة الحوار؛ وذلك بسبب عدم اهتمام المؤلف بالإرشادات المسرحية التي تجعل القارئ يجسد الأحداث في ذهنه ... إلخ، هذه الأمور التي تحتاج بالفعل إلى تنقيح وتصحيح، ولكن مات المؤلف دون أن يقوم بذلك. ونحن بدورنا لا نملك هذا الحق!
هذا ما ذكره لطفي جمعة عن هذه المسرحية، وهنا نتوقف قليلا، أليس من المنطقي أن يسجل لطفي جمعة - في مذكراته - الدافع الذي جعله يؤلف أول مسرحية له، ويقتحم جنسا أدبيا جديدا عليه، ألا وهو المسرح؟! فهل تمر مناسبة كهذه دون ذكر لها من قبل لطفي جمعة؟! الذي لم يترك شاردة أو واردة عن أعماله الأدبية إلا وقد شرحها وفسرها، وأكد عليها، ووثقها بكل وسيلة ممكنة، وفي كل مناسبة أيضا!
إصراري على معرفة الدافع وراء كتابة هذه المسرحية، جعلني أتفحص مخطوطتها بعناية شديدة، فلاحظت أن الورقة الأولى منزوعة! وبعد استرجاعها،
2
وجدت لطفي جمعة كتب عليها بتاريخ 30 / 10 / 1909، تحت عنوان «قصة عن تأليف هذه القطعة»: «في مساء ذلك اليوم أعلاه كنت على موعد من فتاة فرنسية «أنطونيا شينو» من شوفاي على نهر الصون، ومقيمة في مدينة ليون، فتنزهنا وتعشينا، وعادت معي إلى غرفتي بنمرة 14 شارع رامبارديني، وهي مسترخية مستعدة للغرام، وعند نصف الليل أبيت أن أعاشرها وانقطعت لتأليف هذه القطعة.»
وإذا عاد القارئ إلى كتاب مذكرات لطفي جمعة «تذكار الصبا»، سيجد لهذه القصة وجها آخر! بل سيلاحظ أن الفتاة اسمها «ماري مادلين» وليست «أنطونيا شينو». والتلاعب بالأسماء الأجنبية شيء اعتاد عليه لطفي جمعة في كتاباته!
3
والدليل على ذلك التفاوت في الوصف، بين ما كتبه على الصفحة الأولى من مخطوطة «هرماكيس»، وبين ما سطره بقلمه عن نفس القصة في مذكراته!
قال لطفي جمعة في كتابه «تذكار الصبا»: «... ثم قلت لها اسمعي يا مادلين، مستحيل أن تنامي على هذا المقعد، وإذا سمحت لي فإنني أضطجع بجانبك! قالت: باختيارك أم تورطا؟ فضحكت وقلت: مختارا راجيا بإلحاح. وقامت فأطفأت المصباح ونامت ... ولكنني أنا لم أنم، وأنا الذي تمنيت طول الليل وزوال النوم ووقوف الصبح عن الطلوع، وأنا الذي استمتعت بجوارها وترديد أنفاسها وعبق عطر الأنوثة منها، وأنا الذي سهرت على نومها فلم تأخذني سنة، ولا أمنت الظلام عليها، وعجبت لاطمئنانها واستسلامها وتقلبها، ما أعظم تلك اللذة من كل شيء! أن ترى الفاكهة الناضجة وتشمها وتضمها وتلمسها، ثم تصونها وتكتفي بلونها ورائحتها! ويعز عليك أن تخدش قشرتها بيدك أو أسنانك!»
4
قلب المرأة
مرت سنوات عديدة، لم يقتحم فيها لطفي جمعة التأليف المسرحي، حتى أعاد الكرة مرة أخرى في عام 1915، عندما كتب مسرحيته «قلب المرأة». وإذا كانت المرأة الغربية كانت الدافع وراء كتابته لهرماكيس، فامرأة غربية أخرى كانت أيضا وراء مسرحيته «قلب المرأة»، ولكن شتان بين هذه وتلك!
فالمرأة الأولى كانت عابرة، لم تترك إلا بعض صفحات في مذكراته، أما المرأة الأخرى ... فكانت كل المذكرات، وكل الإبداعات، ولولاها ما أنتج لطفي جمعة معظم أعماله الأدبية والإبداعية، ولولا مساعدتها له ما نجح في أوروبا، ولولا وجودها في حياته ما كان له من وجود أدبي، ولولا شبح هذه المرأة الذي يطل علينا في مجمل إنتاج لطفي جمعة الأدبي ما كان اهتمامنا الآن به ولا بأعماله الأدبية. فهذه المرأة هي الأديبة الروسية «أوجستا دامانسكي فيليبوفنا»، التي قال عنها لطفي جمعة في مذكراته: «أسجل فضل الله علي وأحمده على رزق كريم، وقد صادف مجيء هذا الرزق معرفتي بهذه السيدة؛ لأن هذه السيدة أدت إلي من الفضل والجمائل ما لا يحصى، وتحملت بسببي آلاما كثيرة، واستهانت في سبيلي بما لا يستهان به، وأدخلت إلى عقلي وقلبي وروحي خواطر ومبادئ ومشاعر تركت فيها آثارا لا يمحوها الزمن، ولم يكن إليها من سبيل أو ذريعة غيرها، وقد تفتحت في ظلها كل مواهبي ورغائبي، وتجسدت كل حقائق الحياة في نظري بفعلها وقوتها وإيمانها، وأرشدتني إلى مطالعات ودراسات لم أكن أنالها بدونها، وأعانتني في قراءات وتحصيل علوم، وسهرت علي سهر الشقيقة والزوجة والصديقة والأم الرءوم ... ولكنها حيال هذه النعم كلها أدنتني بفعلة واحدة من الموت المحقق لولا عناية الله ورحمته، فأزهدتني في الحياة أعواما، وأفقدت ثقتي في جنس الإنسان، وأخرجتني من حلم الأديب إلى غيظ المنتقم فكتبت «قلب المرأة» وبالغت في تسويد صحيفتها، وما كان ينبغي لي أن أفعل هذا.»
5
إذن كتب لطفي جمعة مسرحية «قلب المرأة» بدافع الانتقام من هذه السيدة، التي كتبت اسمه في سجل الأدباء والموسوعيين بحروف من النور. وإذا كان لطفي جمعة ندم على كتابته لهذه المسرحية، بعد أكثر من ثلاثين سنة، إلا أننا سنعود بالقارئ إلى هذا الزمن البعيد لنتعرف على حقيقة ظهور هذه المسرحية، التي تعتبر أول مسرحية للطفي جمعة ترى النور، عندما عرضت على خشبة المسرح.
بدأت قصة هذه المسرحية في مناخ المسرح المصري، عندما ذكرت بعض الصحف، عام 1915، ما يفيد بأن لطفي جمعة كتب مسرحية باسم «قلب المرأة». بعد أيام أرسل رئيس جمعية النهضة بالتمثيل، خطابا
6
إلى لطفي من أجل قيام الجمعية بتمثيلها، ولكن هذا الأمر لم يتم.
ولعل هذا الخطاب شجع لطفي جمعة على الاهتمام بعرض أعماله المسرحية على خشبة المسارح، لما في ذلك من شهرة لاسمه بين الجمهور، ومنفعة مادية أيضا، فاتجه نظره نحو جوق أبيض وحجازي، لما له من صداقة وثيقة بجورج أبيض، وبالفعل تم التعاقد في 29 / 10 / 1915، بين لطفي جمعة وبين جورج أبيض وسلامة حجازي، على تمثيل مسرحية «قلب المرأة».
وبعد الاستعداد التام لعرض المسرحية، انهالت الإعلانات المختلفة في الصحف،
7
وكذلك الملصقات، تدعو الجمهور لحضور عرض مسرحية «قلب المرأة» في الأوبرا السلطانية. وبالفعل عرضت المسرحية في 25 / 3 / 1916، وقام بتمثيل دور لورنزو جورج أبيض، وبوريس كراشوف عبد العزيز خليل، وشارل راسين عمر وصفي، وجودياس محمود رضا، وجوزيف الخادم أحمد ثابت، والمارجراف توفيق ظاظا، وكترين كراشوف ألمظ أستاتي، وألتونيا بلادونا أبريز أستاتي، وكوستيا كراشوف نظلي مزراحي، ومدام راسين أستير شطاح، ومدام جيرمون وردة ميلان، وجانيت ماري كافوري.
وبعد العرض الأول، بأيام قليلة نشرت جريدة «المنبر» سلسلة مقالات طويلة، تحت عنوان «قلب المرأة للكاتب الكبير عباس حافظ». وفي هذه المقالات وجدنا كاتبها ينهال على لطفي جمعة ومسرحيته، بطوفان من النقد اللاذع، وبسيل من الشتم الجارح، واصفا لطفي جمعة بأنه «من الحشرات الأدبية التي تمتص أفكار المنتجين.»
وبعد مقدمة طويلة من الشتائم غير اللائقة، وجدنا عباس حافظ ينبش في تاريخ لطفي جمعة، فيعيد لأذهان القراء كتاب لطفي جمعة «حكم نابليون»، وكتاب «كلمات نابليون» لإبراهيم رمزي، الذي ظهر قبل كتاب جمعة، قاصدا من ذلك اتهام لطفي بالسرقة. ويختتم هذا الموضوع بعبارة «وكانت لهذه المسألة ضجة بين الأدباء والكتاب.»
ثم يتجه عباس حافظ بعد ذلك إلى واقعة مشابهة، قائلا: «ولم يكتف الأستاذ بهذا، بل عمد بعد ذلك إلى مقال طوال في مجلة أدبية كبيرة بقلم كاتب مصري مفكر كان يدور حول نقد كتاب «سر تطور الأمم» لمؤلفه جوستاف لوبون، وعربه الأستاذ فتحي زغلول. فاجترأ على انتحال كل آراء الرجل وأفكاره.»
وبعد هذه المقدمة التشكيكية في قدرات لطفي جمعة الأدبية، واتهامه بالسرقة العلمية، فجر عباس حافظ مفاجأته بأن مسرحية «قلب المرأة» ليست من بنات أفكار لطفي جمعة، قائلا: «إن موضوعها لا يمكن أن يكون من ابتكار المؤلف؛ لأن الروح الإفرنجية مطردة في أكثر أجزائها، وأن الأسماء الروسية والإيطالية والفرنسية تدعو إلى الدهشة والاتهام والاسترابة، ولا سيما إذا ذكرنا الحوادث القديمة التي سردناها الآن للناس ... وقد عمدنا إلى البحث والتنقيب، فأدركنا أن صاحب رواية اليوم انتحل موضوعها انتحالا مشوها من روايتي أوجييه، وهما زواج أولمب وجبريل ... وهناك مصادر أخرى في هذا الموضوع بذاته نخص منها روايات بول بورجيه، وهي «قلب المرأة»، و«جريمة حب»، و«تقلبات القلب»، ورواية «ليزالتو رجنيف الروسي».»
ويستمر بعد ذلك عباس حافظ في إلقاء اتهاماته على صاحب المسرحية، موجها سهامه السامة إلى المسرحية وأشخاصها باسم النقد،
8
ذلك النقد الهدام. ومن الغريب أن لطفي جمعة لم يرد على هذا الكلام، ولم يسجل في كل ما كتبه أي شيء حول هذا النقد القاسي، أو حول عباس حافظ نفسه، بل ولم يرفع قضية ضده في المحاكم - وهو المحامي الفذ - ولا نعلم سبب هذا الصمت المريب من قبل لطفي جمعة نحو عباس حافظ. على الرغم من أن عباس حافظ أرسل رسالة إلى لطفي جمعة، بعد عام من كتابة هذه المقالات، نشعر منها بأن عباس حافظ نادم أشد الندم على ما كتبه في حق لطفي جمعة، ويبرر ذلك بأنه كان مدفوعا له.
9
ومن محاسن الصدف أنني وجدت سلسلة أخرى من المقالات،
10
كتبها محمد الهراوي - الكاتب الأول لدار الكتب السلطانية - في جريدة «الأفكار»، هي في الظاهر نقد لمسرحية «قلب المرأة»، وفي الباطن رد على مقالات عباس حافظ. وفي هذه المقالات - التي نشرت يوميا ابتداء من 9 / 4 / 1916 إلى 17 / 4 / 1916 - وجدنا الكاتب يؤكد على أن المسرحية، نوع جديد في التأليف المصري لم يسبق إليه قلم عربي، قائلا بعد ذلك: «ويصح إذن أن تكون هذه الرواية علما على تلك الأطوار المختلفة التي عمد المؤلف إلى إظهارها للناس «على المكشوف» وأراد أن يذيقهم طعمها «بالكأس المر» وأن يلمسهم وقعها «بوخز الإبر» وتلك خطة فرنسية محضة احتذى فيها المؤلف ديماس الصغير حذو الكف بالكف.»
أما إيجابيات وسلبيات المسرحية، فيقول عنها الناقد: «فمن مزاياها أن المؤلف، وإن رمى فيها إلى غرض مقصود، فإنه لا يتقيد أمام الجمهور بهذا الغرض. ومنها أنه يطلق للمتفرجين ملكة التفكير وقوة الاستنباط وحرية الإرادة. ومنها أن الرواية، أو الحوادث، هي التي تأخذ مجراها في النفوس بطبيعتها فلا تثقل بغرض قد لا تنهض به أو لا يخف هو إذا كانت أشد منه، ومنها ... ومنها ... وأما مساوئها فمنها أن في كل شيء غرضا وإذا لم يظهر هذا الغرض فلا معنى لهذا الشيء. ومنها أن صاحب الغرض يجب أن يكون مسئولا عنه مدافعا له، وحوادث الرواية هي لسان الدفاع. ومنها أن الجمهور يدخل إلى المسرح وفكره محصور في معرفة غرض الرواية الظاهر منها فإذا خفي عليه اضطرب رأيه بتشويش الحوادث.»
ومن الجدير بالذكر أن معرفة الآخرين بأن موضوع مسرحية «قلب المرأة»، هو نفسه موضوع قصة حب لطفي جمعة لأوجستا دامانسكي، التي انتهت عام 1912، ثم كتب عام 1947 قصته مع هذه المرأة في مخطوطه «تذكار الصبا». وقد مس محمد الهراوي ذلك عام 1916، في مقالاته السابقة، قائلا: «فقلب المرأة عبارة عن مجموعة حوادث بعضها قد يكون وقع بالفعل، وبعضها من ذهن المؤلف التمسه التماسا من الخيال بحيث لا يمنعه ذلك إذا وقع، أن يكون مطابقا لحقيقة الحال. وإن هذه المجموعة يصح أن تكون كل حادثة فيها منفصلة وحدها قائمة بذاتها، وهي لو كانت كذلك؛ أي إنها لو لم تكن مرتبطة بأخواتها لكانت أقرب إلى الحقيقة منها إلى الخيال. ولكن ارتباطها هذا جعل التأليف بينها بعيد التصديق، وإن كان محتمل الوقوع.»
وهذا الأمر وصل إليه أيضا إبراهيم رمزي - الكاتب المسرحي وأحد الأصدقاء المقربين للطفي جمعة - في نقده للمسرحية، عندما قال: «وكأني بها حادثة شهدها أو لابسها [أي لطفي جمعة] أيام كان يدرس القانون بأوروبا، لولا ما هناك من أعراض لا تحتملها الحقيقة المنطقية.»
11
ومن الملاحظ أن مقالة إبراهيم رمزي كانت في نقدها، وسطا بين هجوم عباس حافظ، وبين مديح محمد الهراوي. ومهما يكن من قيمة هذه المقالات في وقتها، إلا أنها تدل على أن المسرحية لاقت نجاحا كبيرا، والدليل على ذلك أن جوق أبيض وحجازي، أعاد عرضها مرات عديدة، بعد أيام قليلة من عرضها الأول.
12
وآخر عرض لهذه المسرحية، وقفنا عليه، كان في عام 1923، عندما قالت جريدة «مصر»، تحت عنوان «حفلة أدبية خيرية»: «لمساعدة دار التربية العلمية والأخلاقية يقيم حضرة الفاضل توفيق أفندي عزوز صاحب ومدير مدرسة التربية العلمية والأخلاقية حفلته السنوية بمسرح كازينو البسفور بميدان باب الحديد يوم السبت 15 سبتمبر الجاري؛ حيث يمثل أعضاء النهضة التمثيلية رواية «قلب المرأة» لأول مرة، فنرجو أن يكون الإقبال على هذه الحفلة عظيما لأن دخلها مخصوص لمساعدة هذه المدرسة المجانية.»
13
المسرحيات الكوميدية
والمتتبع لإنتاج لطفي جمعة الأدبي - في تلك الفترة - ربما كان يظن أنه سيتجه في تآليفه المسرحية بعد ذلك إلى هذا اللون الاجتماعي النفسي الفلسفي، الذي تميزت به مسرحيته «قلب المرأة». ولكن ما حدث كان مخالفا لكل التوقعات. فقد وجدنا لطفي جمعة يتجه نحو الكتابة المسرحية، متخذا اللون الكوميدي، وبلغة عامية، وبأسلوب مبتذل. لدرجة أن من يقرأ بعض إنتاجه المسرحي بعد قلب المرأة، يصاب بالتعجب ويتساءل: هل مؤلف مسرحية «قلب المرأة»، هو نفسه مؤلف المسرحيات الهزلية «حبيب القلب وحبيب الجيب»، «كانت لقية مقندلة»، «خضر أرضك» أو «خضر زرعك» ... إلخ. هذا اللون، الذي رفضت الرقابة بعضه من التمثيل؟!
14
والواقع المجهول، حول هذا التحول الخطير، يتمثل في وثيقة غير منشورة، عبارة عن عقد اتفاق بين لطفي جمعة وعزيز عيد، تم في 11 / 2 / 1917. ونص هذا العقد يقول: «اتفق كل من محمد لطفي أفندي جمعة طرف أول، وعزيز أفندي عيد مدير فرقة الكوميدي العربي في الأبيه دي روز طرف ثاني على ما يأتي: أولا: يقدم محمد أفندي لطفي جمعة الطرف الأول روايتين؛ الأولى ذات فصلين والثانية ذات فصل واحد، وهما مختارتان من الروايات الفرنساوية من نوع الكوميدي، وذلك في ميعاد أقصاه 18 فبراير سنة 1917 لتمثيلهما بواسطة فرقته المسماة فرقة عزيز في تياترو الأبيه دي روز. ثانيا: يتعهد الفريق الثاني بتمثيل الروايتين بعد خمسة عشر يوما من تاريخ استلامهما، ويدفع للفريق الأول عشرة فرنكات عن كل يوم يمضي بعد حلول هذا الميعاد إذا لم يمثل الروايتين. ثالثا: حقوق تأليف الروايتين المذكورتين هو خمسة عشر جنيها تدفع على قسطين؛ الأول: نصف مجموع إيراد ليلة التمثيل الأولى مخصوما منها الثلث الذي يتناوله الخواجة روزاتي مؤجر التياترو، ولا يخصم أي شيء آخر، والبقية من حقوق تأليف الروايتين، يدفعها عزيز أفندي عيد للمؤلف بعد شهرين من تاريخ تسليم الروايتين ليد عزيز أفندي عيد. رابعا: ليس للفريق الثاني حق رفض الروايتين المذكورتين بحال من الأحوال، أو الرجوع في أي بند من بنود هذا الكونتراتو، وإذا حصل منه ذلك يلزم بدفع مبلغ 15 خمسة عشر جنيها من تاريخ 11 مارس سنة 1917. خامسا: لعزيز أفندي عيد حق تمثيل هاتين الروايتين طول حياته، وليس للفريق الأول حق إعطائها لغيره. سادسا: الروايتان المذكورتان مختارتان من؛ أولا: رواية «بويوروش» تأليف كورتلين، ثانيا: من «البورتفويل» تأليف هرفيو. سابعا: إذا ظهرت واحدة من هاتين الروايتين أو الاثنتين معا بقلم كاتب آخر على مرسح عزيز أفندي عيد وبواسطة فرقته، فعزيز أفندي ملزم بدفع 15 جنيها للفريق الأول. تحريرا في يوم 11 فبراير سنة 1917 بنسختين [توقيع] الفريق الأول: محمد لطفي جمعة، الفريق الثاني: عزيز عيد.»
وإذا علم القارئ أن فرقة عزيز عيد، في تلك الفترة، كانت تقدم المسرحيات الكوميدية الهزلية ذات الطابع المبتذل، واللغة السوقية، سيتضح له لماذا اتجه لطفي جمعة إلى خوض غمار هذه التجربة، التي أساءت إلى إنتاجه المسرحي كثيرا. هذا بالإضافة إلى أن اختيار لطفي جمعة لعناوين مسرحياته، جاء بصورة مقززة، مثل: «خضر أرضك»، «حبيب القلب وحبيب الجيب»، «كانت لقية مقندلة»! فهذه العناوين ربما كانت من اختيار عزيز عيد، أو أن لطفي جمعة أراد أن يجاريه في اللون الذي يقدمه؛ لأن عزيز عيد كان دائما يتعمد إثارة الجمهور ولفت نظره، بعناوين شاذة لعروضه المسرحية، مثل «سكرة بنت دين كلب»، «يا ستي ما تمشيش كده عريانة» ... إلخ.
وبالرغم من ذلك، فإن التاريخ يثبت أن مسرحيات لطفي جمعة هذه لم تر النور مطلقا، ولم تعرض على خشبات المسارح. وقد ثبت أيضا أن العقد الذي تم بينه وبين عزيز عيد لم يتم تنفيذه، من قبل عزيز عيد، رغم تنفيذه من قبل لطفي جمعة، بدليل وجود مخطوطات هذه المسرحيات إلى وقتنا هذا. والتفسير المحتمل لما حدث أن لطفي جمعة كتب المسرحيات المتفق عليها في العقد، بل وأكثر منها، ظنا منه أنها ستمثل وستدر عليه ربحا وفيرا، ولكن من يعرف عزيز عيد، يعرف أنه غير مستقر في فنه المسرحي! ففرقته تتكون وما إن تبدأ حتى تتوقف ويتفرق أعضاؤها.
فإذا كان العقد المبرم بين لطفي جمعة وبين عزيز تم في فبراير 1917، فإن التاريخ يقول إن في مايو عام 1917، كان عزيز عيد ممثلا في فرقة نجيب الريحاني.
15
وهذا يعني أن فرقته قد توقفت قبل ذلك، وربما توقفت بعد كتابة العقد بأيام قليلة. ومن الطريف أن عزيز عيد لم يلبث ممثلا عند نجيب الريحاني، إلا ثلاثة أشهر، انتقل بعدها ممثلا في فرقة جورج أبيض.
16
وفي العام التالي 1918، انتقل إلى فرقة منيرة المهدية
17 ... وهكذا.
والسؤال الملح الآن ... لماذا أقدم لطفي جمعة على خوض هذه التجربة التي أساءت إليه وإلى إنتاجه المسرحي؟! الإجابة المحتملة - في ظني - هي الاحتياج المادي. فلطفي جمعة في مذكراته، كان دائما يشتكي من ضيق ذات اليد، خصوصا في هذه الفترة. وعندما أدرت عليه مسرحيته «قلب المرأة» بعض المال، أراد تكرار التجربة من أجل تكرار إدرار المال عليه، فلم يجد أمامه إلا عزيز عيد، ونوعيته المسرحية الممقوتة والمبتذلة، فسار في هذا الطريق، تحت ضغط الحاجة المادية.
والدليل على ذلك هذا الكم الهائل من المقالات - المتفاوتة في القوة والضعف الفنيين والأدبيين - التي نشرت في الكثير من الدوريات بقلم لطفي جمعة، والتي تؤكد أنه كان يكتبها، بصورة دورية منتظمة، تبعا لاتفاق بينه وبين أصحاب هذه الدوريات، مقابل مرتبات مادية يسيرة، ولكنها منتظمة. وإذا قام أحد الباحثين بحصر شامل لهذه المقالات، سيتضح له أن لطفي جمعة كان يكتب في كل دقيقة، وكل ساعة، وكل يوم ... في هذه الفترة!
18
وإحقاقا للحق؛ فإن لطفي جمعة ندم ندما شديدا؛ لأنه كتب هذه المسرحيات الكوميدية العامية، ودليلنا على ذلك أنه كان يتهرب منها، بل وكان يحاول بكل قوة عدم ذكرها في كتاباته أو مذكراته، أو الإشارة إلى الدافع الحقيقي لكتابتها، أو أي شيء يدل عليها أو على وجودها كمخطوطات إلا في القليل النادر. والدليل على ذلك أننا فوجئنا بها كمخطوطات ما زالت محفوظة حتى الآن!
نيرون
كانت تجربة لطفي جمعة مع عزيز عيد، تجربة أليمة، ولكنها لم تبعده عن رغبته في كتابة المسرحيات من أجل عرضها أمام الجمهور.
19
ففي 25 / 11 / 1918، أرسل عبد الرحمن رشدي المحامي - صاحب إحدى الفرق المسرحية الشهيرة في ذلك الوقت - خطابا إلى لطفي جمعة، قال فيه: «حضرة المحترم الأستاذ محمد أفندي لطفي جمعة، تحية وتكريما، وبعد، فقد رأت إدارة الفرقة حرصا على المثابرة في التقدم الفني أن تكون لجنة دائمة تنظر في شئون الفرقة الداخلية والخارجية وتراقب سير العمل، فنرجو تشريفكم يوم الخميس 28 نوفمبر سنة 1918 الساعة الرابعة في إدارة الفرقة الكائنة بدار المؤيد، شارع محمد على، والشكر نقدمه سلفا. [توقيع] مدير الفرقة عبد الرحمن رشدي المحامي.»
وعلى الرغم من عدم وجود ما يفيد بحقيقة ما تم في هذا اللقاء، فإننا نجزم بأن لطفي جمعة عرض في هذا الاجتماع، على عبد الرحمن رشدي، مسرحيته «نيرون» التي انتهى من كتابتها في 11 / 9 / 1918. وبناء على هذا العرض، وافق رشدي على تمثيلها من قبل فرقته. وهذا الجزم يؤكده إعلان جريدة «المقطم» في فبراير 1919، الذي جاء فيه أن فرقة عبد الرحمن رشدي، ستمثل مجموعة من المسرحيات في الأوبرا في شهر مارس، ومنها: «الأجراس - هنري الثالث - حلاق إشبيلية - نيرون».
20
وبالفعل تم تمثيل المسرحية، وقام بأدوارها كل من: عبد الرحمن رشدي، فاضل أفندي، عمر وصفي، الست ميليا ديان، سليمان، أحمد، فوزي، علي أفندي، الست ليلى، نازلي ميزراحي، شافع الأسمر.
21
وأعادت الفرقة عرض المسرحية مرة أخرى في يونيو 1919، في تياترو برنتانيا.
22
ورغم إعادة العرض فإننا لم نستطع الحصول على أي نقد لها في تلك الفترة، بعكس ما وجدناه من مقالات نقدية كثيرة، لمسرحية «نيرون»، تأليف بترو كوستا تعريب حسن صديق، والتي عرضتها فرقة يوسف وهبي عام 1927.
23
في سبيل الهوى
انشغل لطفي جمعة عن الكتابة المسرحية، لمدة ست سنوات؛ لأنه لم يجد الحافز للكتابة. ولكن في عام 1925 فوجئنا بأنه ألف مسرحية جديدة أطلق عليها اسم «في سبيل الهوى». والمفاجأة تمثلت في أن هذه المسرحية، ما هي إلا إعادة صياغة لروايته القديمة «في وادي الهموم» المطبوعة عام 1905!
24
وتساءلت لماذا يقدم لطفي جمعة على إعادة صياغة رواية قديمة في ثوب مسرحي، وهو الأديب الموسوعي الغزير الإنتاج؟! وما الدافع إلى هذه العجلة؟ ألم يكن أمامه متسع من الوقت ليدبج بقلمه موضوعا مسرحيا جديدا؟!
والإجابة عن هذه التساؤلات تكمن في سطور خطاب أرسله لطفي جمعة إلى طلعت حرب عام 1925، قال فيه: «حضرة صاحب العزة محمد بك طلعت حرب، رئيس شركة ترقية التمثيل العربي، بعد التحية، أتشرف بأن أخبركم بما وصل إلى علمي من أنكم تطلبون روايات تمثيلية مصرية تتناول أخلاق هذه الأمة، وتقوم المعوج منها، وتصلح الفاسد من العادات الاجتماعية الشائعة في بلادنا، وعلمت أيضا أن عزتكم تتفضلون بمراجعة الروايات التي تقدم لكم بنفسكم لتبدوا فيها حكما عادلا بما ركز في طبعكم من أصول المعرفة بالفنون، لا سيما ولكم قدم راسخ في التأليف، وهذه طريقة أفضل من سواها وأضمن. ولما كنت شغفا بدرس أخلاق أمتنا المصرية، فقد وضعت رواية تنطبق على رغبتكم في خمسة فصول، سميتها «في سبيل الهوى»، وهي من الروايات الاجتماعية المعروفة بأوروبا بأنها
COMEDIE SERIEUSE ، فضلا عن كونها ذات أغراض مبينة في ثنايا مناظرها، فهي في الواقع تجمع بين الحوادث وبين الأغراض الاجتماعية من قبيل
. وقد سبق لي وضع روايات تمثيلية قد مثلت فعلا؛ منها رواية «قلب المرأة» وقد مثلت لأول مرة في تياترو الأوبرا الخديوية بمعرفة فرقة جورج أبيض في مارس سنة 1916، ثم رواية «نيرون» وقد مثلت في تياترو الأوبرا أيضا في مارس سنة 1919، ثم رواية «الوالد والولد» و«خضر أرضك» و«الحب والمجد»، إلى آخره. فترون عزتكم من هذا أنه قد سبق لي ممارسة هذا الفن الجميل. ولما كنت أعلم حقيقة أميال الجمهور المصري، فقد جعلت في الرواية كثيرا من مناظرها باللغة العامية، فضلا عن أنها مكتوبة جميعها بلغة سهلة مفهومة، وجعلت حوادثها موزعة على الأماكن التي تنطبق على وقائعها وأخلاق أبطالها. فالفصل الأول في ملعب القمار، والثاني في بيت عائلة مصرية شريفة عريقة، والثالث في بيت معشوقة بطل الرواية، والرابع في عيادة طبيب اختصاصي، والخامس في حانة. وترون من هذا التقسيم سعة المجال للبحث في أخلاق كثيرة. فإن كنتم تتفضلون بقراءة هذه الرواية ويعوزكم بعض التفسير فأنا مستعد لإفصاح اللازم، وإن كنتم تفضلون سماع الرواية بواسطة إلقائي على أفراد أو في حضرة من تنتخبون، فأنا لا أرى بأسا في ذلك، وعلى أي حال لا أريد غير اتباع العرف المعمول به عندكم بما فيه ضمانة القراءة بشخصكم مباشرة دون سواكم. وإني أعتذر عن طول هذا الخطاب وأنتظر من عزتكم ردا عن هذه المسألة. وأرجو أن تتفضلوا في الختام بقبول فائق تحياتي وإخلاصي. [توقيع] محمد لطفي جمعة.»
25
إذن الدافع وراء إعادة لطفي جمعة صياغة رواية قديمة في ثوب مسرحي، هو رغبته في عرض إحدى مسرحياته على الجمهور، كما حدث في مسرحيتيه؛ «قلب المرأة»، و«نيرون»، هذا بالإضافة أيضا إلى المكسب المادي، الذي سيناله من طلعت حرب نظير تمثيل فرقة عكاشة لمسرحية «في سبيل الهوى». وبالرغم من ذلك، فإن التاريخ يثبت أن فرقة عكاشة، لم تمثل هذه المسرحية، ولم تمثلها أيضا أية فرقة أخرى.
مسابقة التأليف المسرحي
إذا كان لطفي جمعة، لم يوفق مع طلعت حرب وشركته التمثيلية، إلا أن السعي وراء ما يدره المسرح على المؤلفين، كان يشغل لطفي جمعة بصورة ملحة. ففي 4 / 3 / 1925، أرسل لطفي جمعة خطابا إلى عبد الحميد بدوي باشا قال فيه: «حضرة صاحب السعادة عبد الحميد بدوي باشا، رئيس لجنة بحث الروايات التمثيلية الاستشارية بوزارة الأشغال، تحية وسلاما وبعد، فإني تشرفت بتقديم روايتين تمثيليتين من تأليفي للجنة بحث الروايات التمثيلية الاستشارية وهما: (1) قلب المرأة: وقد سبق تقديمها إلى قسم المطبوعات بوزارة الداخلية والتصديق عليها في سنة 1916، ومثلتها للمرة الأولى بتياترو الأوبرا الملكية في مساء السبت 25 مارس سنة 1916 فرقة الأستاذين أبيض وحجازي. وقد سلمتها لحضرة سكرتير اللجنة وهي في مجلد مؤلف من 131 صحيفة من القطع الكبير. (2) نيرون: وقد سبق تقديمها إلى قسم المطبوعات بوزارة الداخلية والتصديق عليها في سنة 1918 ومثلتها مساء 4 مارس سنة 1919 فرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي المحامي، وقد سلمتها لحضرة سكرتير اللجنة وهي مؤلفة من جزأين الأول في 162 صفحة وهو يشمل الفصول الأول والثاني والثالث، والجزء الثاني في 112 صفحة ويشمل الفصلين الرابع والخامس، وإني أحيط سعادتكم علما بأن هاتين الروايتين لم تطبعا، وهذا الذي ألجأني للاكتفاء بتقديم نسخة واحدة من كل منهما، وهي النسخة الوحيدة عندي ما عدا النسخة التي يحفظها مدير الفرقة التي مثلت الرواية. وتفضلوا بقبول تحياتي. [توقيع] محمد لطفي جمعة المحامي بمصر.»
وهذا الخطاب، يعني أن لطفي جمعة أراد الاشتراك في أول مسابقة حكومية، في الكتابة المسرحية، تعقد في مصر عام 1925.
26
وبالفعل كللت جهوده بالنجاح وفاز بإحدى جوائز المسابقة،
27
والتي تمثلت في مبلغ نقدي، هو 65 جنيها!
وما كان من صاحب مجلة «المسرح» - محمد عبد المجيد حلمي - إلا أنه كتب مقالة قال فيها: «... مضت سنوات طوال على لطفي جمعة، لم يكتب فيها حرفا واحدا لا بخير ولا بشر. ومرت الأيام، وتألفت في البلد لجنة حكومية لفحص مجهود المؤلفين المسرحيين وتقدير المكافآت لهم، وظهرت نتيجة عمل اللجنة، فإذا الأستاذ لطفي جمعة قد نال الدرجة الثانية ومكافأتها 65 جنيها مصريا. وكان للجنة فحص الروايات تقرير أصدرته فتسلمه الأستاذ لطفي جمعة، وصبر عليه أياما، فإذا به قد طلع علينا في جريدة المقطم بمقالات ضافية في الصحيفة الأولى ينقد بها تقرير اللجنة، نقدا أدبيا فنيا منطقيا بسيكلوجيا ...! أما أنا فقد حمدت الله طويلا. لقد نطق الأستاذ، وما أنطقه إلا ال 65 جنيها وتقرير اللجنة ... فأنا أدعو الناس أجمعين من أنس وجان إلى تكوين جمعيات تمنح مكافآت، وتصدر تقريرات، حتى يتسع المجال للأستاذ فيكتب. «عرفنا ديتها» يا أستاذ ...!»
28
خضر زرعك
بعد خمس سنوات، وتحديدا في عام 1930، أنشأت وزارة الأشغال أول معهد مسرحي حكومي في مصر - وفي الأقطار العربية أيضا - تحت إدارة زكي طليمات، الذي كان على علاقة ما بلطفي جمعة. وبسبب هذه العلاقة أرسل زكي طليمات رسالة - بصفة رسمية في 18 / 9 / 1930 - إلى لطفي جمعة، قال فيها، تحت عنوان «بشأن الإذن بدراسة رواية «خضر زرعك» في معهد فن التمثيل»: «حضرة الأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي. تقضي دراسة فن الإلقاء بمعهد فن التمثيل أن يقوم طلبة المعهد بدراسة وتمثيل أدوار مختلفة من روايات قيمة مما أخرجته الأقلام المصرية في التأليف المسرحي. وقد رأت الوزارة أن تكون روايتكم المذكورة ضمن الروايات التي تدرس بالمعهد. فاقتضى تحريره إلى حضرتكم رجاء التفضل بموافاتنا بصورة منها. هذا مع العلم بأن هذه الرواية لن يجرى تمثيلها قبل استئذانكم والحصول على موافقة مدير الفرقة الذي يملك حق تمثيلها. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام [توقيع] زكي طليمات، والسكرتير العام.»
وعلى الرغم من عدم التأكد مما ذكر في هذا الخطاب الرسمي، قد تم أو لا، إلا أننا نعتقد بأنه لم يتم. والدليل على ذلك أن هذه المسرحية، ألفها لطفي جمعة، في فترة كتاباته المسرحية، على غرار ما تقدمه فرقة عزيز عيد، كما بينا فيما سبق. هذا بالإضافة إلى أن لغتها عامية سوقية، ولا يعقل أن معهدا أكاديميا يستطيع أن يقدم على تدريس هذه المسرحية لطلابه، خصوصا في مادة «فن الإلقاء»! وأيضا لا يستطيع أي معهد أن يقدم على تمثيل مثل هذه المسرحية - كما جاء في الخطاب - بسبب موضوعها المبتذل! وأخيرا لم نجد أية أخبار تتعلق بهذه المسرحية، فيما نشر عن المعهد عامي 1930، 1931 وهي كل فترة وجوده حينئذ.
29
وتفسير هذا الخطاب، أن زكي طليمات - من خلال علاقته بلطفي جمعة - أرسل له هذا الخطاب، دون أن يعلم موضوع المسرحية، بل وقبل أن يقرأها، ولكن بعد القراءة - للأسباب السابقة - صرف المعهد نظره عن هذه المسرحية.
30
يقظة الضمير
من الجدير بالذكر أن لطفي جمعة كانت تربطه علاقة وثيقة بشاعر القطرين خليل مطران. وفي إحدى الرسائل المتبادلة بينهما عام 1935، قال مطران: «حضرة الأخ العزيز الأديب الكبير والمحامي الشهير الأستاذ محمد لطفي جمعة، بعد التحية والإكرام. تلقيت كتابك وتاريخه 9 / 12 / 1935 وسررت بمطالعته سروري بكل ما يجيء منك، أما ظنك أنني نسيتك فقد أثارني شجنا، وهل كان لي أن أنساك في مثل ما نيط بي من الأمر. غير أنني كنت معتقدا أنك صرفت إحدى قواك الفكرية الكبرى عن هذا الفن الذي نشتغل به [يقصد المسرح] ولعل ذلك تأتى من انقطاعي بضع سنين عما كانت تجود به قرائح أكابر كتابنا الذين عنوا حينا بالمسرح، أما عملك وإخلاصك فأنا أعرف الناس بهما، ومكاني منك كمكانك مني - فيما طال به العهد بيننا - فوق الزلفى أيا كان نوعها وسببها. فرجائي إن اتسع وقتك للقاء أن تعين لي موعدا نجتمع فيه، ونتباحث فيما تريد أن تتفضل به من النصرة على هذه الفرقة وأنت مشكور كل الشكر على ما يتيسر لي من تلافي التقصير إن كان قد وقع تقصير، وحياك الله وأبقاك لمحبك المخلص [توقيع] خليل مطران.»
وهذه الرسالة كتبها مطران، وهو مدير الفرقة القومية المسرحية، ولنا عليها عدة ملاحظات؛ أولا: أنها رد من مطران على رسالة قد أرسلها لطفي جمعة، وهذا يعني أن ما في الرسالة هو إجابات أو تبريرات لأشياء ذكرها لطفي جمعة في رسالته المرسلة في 9 / 12 / 1935. ثانيا: الرسالة تؤكد أن خليل مطران كان لا يراسل لطفي جمعة لفترة طويلة، لدرجة النسيان ... أي إن خليل مطران كاد أن ينسى لطفي جمعة. ثالثا: تبرير مطران لنسيان جمعة، راجع إلى اعتقاده بأن لطفي جمعة نسي المسرح وابتعد عنه وانشغل بأمور أخرى. رابعا: يطلب مطران من لطفي جمعة موعدا كي يتباحث معه فيما يريد لطفي أن يخدم وينصر به الفرقة القومية، تبعا لما كتبه في رسالته لمطران.
وهذه الملاحظات في مجملها - بالإضافة إلى أسلوب الخطاب - يشتم منها القارئ رائحة تهرب مطران من لطفي جمعة! فما الشيء الذي عرضه لطفي في خطابه على خليل مطران، كي يخدم وينصر به الفرقة القومية؟! من المؤكد أنه نص مسرحي جديد، يريد لطفي من مطران أن يمثله من خلال الفرقة القومية ... ولماذا لا وخليل مطران هو المدير والصديق القديم للطفي؟! وهكذا بدأت قصة آخر نص مسرحي متكامل للطفي الجمعة، وهو نص مسرحية «يقظة الضمير».
ولهذه المسرحية قصة طريفة، فقد أعطى لطفي جمعة نص المسرحية إلى مطران في أواخر 1935، كي تمثلها الفرقة القومية بصورة سريعة، وبالتالي يقبض لطفي الثمن بصورة سريعة أيضا. ولكن مطران تكاسل بعض الشيء، أو فلنقل كان يتهرب من لطفي جمعة لمدة سنة كاملة، مما جعل لطفي يطلب استرداد النص مرة أخرى. وبالفعل قام سكرتير الفرقة بتسليم النص إليه، ولم يقم بذلك خليل مطران نفسه. وهذا التصرف دليل قاطع على تهرب مطران من لطفي بكل وسيلة ممكنة. وهكذا استرد لطفي النص بعد عام تقريبا - في أواخر 1936 - عندما فقد الأمل في تمثيلها.
وفي عام 1937 شاهد لطفي جمعة أحد الأفلام السينمائية، وهو فيلم «نشيد الأمل» لأم كلثوم، ففوجئ بأن قصة الفيلم، هي نفسها مسرحيته «يقظة الضمير» بكل ما فيها من تفاصيل وشخصيات وأحداث ... إلخ. وعندما علم أن أدمون تويما هو كاتبها، وأنه أحد رعايا خليل مطران. هذا بالإضافة إلى أن خليل مطران كانت له يد قوية في شركة فيلم الشرق، التي أنتجت الفيلم! أمام هذه الحقائق كلها اتضحت للطفي جمعة خيوط المؤامرة التي دبرها خليل مطران مع أدمون تويما لسرقة موضوع مسرحيته «يقظة الضمير»؛ مما جعل بعض الأصدقاء يشيرون عليه برفع دعوى قضائية على الشركة المنتجة للفيلم وأيضا على الرجلين.
31
ولحسن الحظ أن لطفي جمعة لم يتبع شيطانه، وتمهل في التفكير، فاهتدى إلى طريقة مسالمة، وهي إرسال رسالة عتاب وتوضيح لصديقه مطران، حتى يبرر له ما حدث. وبالفعل أرسل هذه الرسالة في 15 / 1 / 1937، قائلا فيها: «حضرة أستاذي وأخي عميد الأدب العربي، علم المكارم التي لا ترام، وفخر مصر والشام، شاعر الأقطار العربية خليل المطران بك حفظه الله ... شهدت قصة «نشيد الأمل» ... وقد قرأت في البرنامج أن كاتب القصة هو أحد الأدباء من أصدقائك المشمولين بعنايتك، فتأكدت أن الحوادث التي أفرغت في قالب سينمائي ليست مجهولة لدي ولا بعيدة عني، بل وليست مجهولة لديك، فما هي يا سيدي الأستاذ الجليل إلا رواية «يقظة الضمير» الدرامية التي تشرفت بتقديمها إلى شخصك الكريم ... وبقيت في حراسة عزتكم إلى ديسمبر سنة 1936 فردها إلي السكرتير كطلبي ... فما أفظع تهكم القدر! إن خمسا وثلاثين سنة تربطنا بمودة أعتقد من جانبي أنها وثيقة، فهل لي أمل بأن أستعين على جلاء هذا الغموض بك؟ وهل تعينني بما هو معهود فيك من الشرف والأمانة والذمة والصدق وحسن النية على اكتشاف سر انتقال قصتي من كراستي التي كانت في العهدة إلى الشاشة البيضاء؟ وأنت تعلم يا أستاذي ويا أخي أن في حرمان الأديب من ثمرة أدبه، والمفكر من فائدة تفكيره ذهاب كل نعمة عن الجماعة، وتفرق كل كرامة، وإجلاب كل ضرر، وإدبار كل منفعة، والعمل بكل جور وفناء كل حق. فكيف وصلت حوادث هذه القصة إلى غيرنا وكلانا شديد الحرص على هذه الأمانة؟! أنت لأنك تمثل الشرف والأمانة والأدب العربي، وأنا لأني صاحب الرواية ومؤلفها ... أعلم يقينا أنك تغضب للحق وتثور للعدل وتأبى الظلم وتذود عن الكرامة ... فهل لك أن تنهض بالعبء هذه المرة صديقا وفيا وقاضيا عادلا وحكما خبيرا وأخا كبيرا ومجاهدا كريما في سبيل الفن والخلق الكريم ... إنني طبعا لن أفاتح أحدا في هذا الأمر حتى أرى نتيجة شكواي إليك واستنجادي بك في حل هذا اللغز ورفع الستار عن هذا السر، بما هو معهود فيك من الإيثار والوفاء والعدل وعلو الهمة.»
32
وإذا كنا قد اجتزأنا بعض الفقرات من هذه الرسالة المطولة، فإن الأجزاء الأخرى، ما هي إلا عبارات تترادف في معانيها وأحاسيسها للأجزاء المنقولة هنا. وهذه الرسالة يلاحظ القارئ أن أسلوبها بليغ في الحوار، حيث تتمازج كلمات العتاب بكلمات الحب، وكلمات الوفاء بكلمات الغدر ... إلخ هذه الأضداد. ولكن فحواها العام يؤكد على أن لطفي جمعة كان جادا وشرسا وينوي الانتقام من كل من سلبوه حقه الأدبي. ذلك الحق الذي جعل له لطفي جمعة لسانا يصرخ بصرخات عالية من بين سطور الرسالة! ومن الغريب أن لطفي جمعة لم يتحدث عن أية حقوق مادية له ... فكل ما يهمه حقوقه الأدبية، وعدم اغتيال عقله وأفكاره.
ويظن القارئ أن لطفي جمعة بعد ذلك أقام الدنيا وأقعدها في سبيل استرجاع حقه الأدبي، وعدم الاستسلام لاغتيال عقله وفكره ومجهوده ... إلخ ما عبر عنه في خطابه لمطران، ولكن بكل أسف فقد انتهت المشكلة بصورة لا تنم عن عمق المشكلة ... وجاءت النهاية من خلال أسطر قليلة في مذكرات لطفي جمعة، قال فيها: «يقظة الضمير تمثيلية مصرية في خمسة فصول اشترتها الفرقة القومية في أكتوبر سنة 1940، وكانت أمانة عند خليل مطران وسرق المدعو أدمون تويما الموضوع وجعله باسم «نشيد الأمل» ومثلته أم كلثوم سنة 1938، ولكنني أخذت ثمن روايتي بعد ذلك بسنتين.»
33
وهكذا كانت النهاية، فقد أعطت الفرقة القومية مبلغا من المال إلى لطفي جمعة، نظير هذه السرقة ولكي يسكت، فرضي لطفي جمعة بهذا المال وسكت ... وتنازل عن كافة حقوقه الأدبية والمعنوية، وقبرت مسرحيته «يقظة الضمير»، ولكن يشاء القدر أن تظهر للنور وباسمه في هذا الكتاب!
الاحتكاك بالحياة المسرحية
إذا كنا قد تحدثنا - فيما سبق - عن ظروف وملابسات جميع مسرحيات لطفي جمعة المخطوطة، والمنشورة في هذا الكتاب، فيجب أن ننبه على أن لطفي جمعة بجانب ما ورد، كان محتكا بالحياة المسرحية، احتكاكا كبيرا؛ فمثلا في عام 1915 نجد حسين فتوح - سكرتير جمعية أنصار التمثيل - يرسل له خطابا من أجل اختياره ليكون من مؤبني محمد عبد الرحيم، رئيس الجمعية، وذلك في الاحتفال الخاص بهذا التأبين.
وفي عام 1916 كان لطفي جمعة أحد أعضاء «جمعية الكتاب التمثيلية»، التي تألفت لتعمل على خدمة الفن المسرحي تأليفا وترجمة. وهذه الجمعية تألفت من: فؤاد سليم، عبد الحليم دلاور، إبراهيم رمزي، صالح جودت، إسماعيل وهبي، ميخائيل بشارة داود، أحمد رأفت، محمد لطفي جمعة، أمين صدقي.
34
وفي عام 1933 تم اختيار لطفي جمعة ليكون ضمن أعضاء لجنة المؤتمر المسرحي العام، الذي سينظر في علاج ناجح للحالة المسرحية المتردية، التي وصل إليها المسرح المصري. وقد أرسل سكرتير اللجنة محمد توفيق المردنلي، خطابا إلى لطفي جمعة بهذا الشأن.
ومن الجدير بالذكر أن احتكاك لطفي جمعة بالمسرح المصري، لم يقتصر على التأليف أو الاشتراك في اللجان المختلفة، بل كان أيضا احتكاكا عمليا، من خلال عمله في المحاماة. ففي عام 1923 أثيرت ضجة كبيرة حول الممثلة دولت أبيض، التي أنجبت طفلة من جورج أبيض، دون الاقتران به بصورة رسمية.
35
ووصل هذا الأمر إلى القضاء، فحاول جورج إصلاح الموقف، ولكن أسرته وقفت أمامه وأمام دولت بالمرصاد. فلم يجد جورج أبيض غير لطفي جمعة كمحام للوقوف بجانب دولت، فأرسل له خطابا بهذا الشأن.
وفي عام 1926، رفع الكاتب والناقد المسرحي محمد أسعد لطفي، قضية ضد فاطمة رشدي، فلجأت إلى لطفي جمعة كمحام لها للدفاع عنها في هذه القضية. وبالفعل حصل لها على البراءة. تلك البراءة التي باركتها واحتفلت بها مجلة «روز اليوسف».
36
والآن نترك القارئ ليستمتع بقراءة مخطوطات مسرحيات محمد لطفي جمعة، الأديب الموسوعي ... تلك المخطوطات التي تنشر لأول مرة وبصورة كاملة ... تلك المخطوطات التي بدأ لطفي جمعة في كتابتها منذ عام 1909، وحتى عام 1945، ولم تر النور في مجملها إلا على يد حارس الثقافة في مصر «المجلس الأعلى للثقافة».
دكتور
سيد علي إسماعيل
القاهرة في: 30 / 12 / 2000
هرماكيس
رواية تمثيلية مصرية قديمة في فصل واحد
سنة 1909
المنظر الأول (المنظر: حديقة القصر فيها شجر الصفصاف وبعض النخيل. وبحيرة صغيرة ينمو على شاطئها زهر البردي (بشنين) وهي مزدانة بتماثيل أبي الهول، وفيها تمثال الملك وبعض مقاعد من الحجر ومن الخشب المحفور. وفي أحد الأركان القريبة من حافة الملعب شبه منزل إلى سجن أرضي، وقف حوله أربعة جنود وأمامهم رئيس الحرس «حوتب». وفي آخر الملعب ترى ردهة القصر مضاءة بأنوار ضئيلة، والملك جالس مع حاشيته وهو يسمع أنغاما موسيقية. وحول مجلس الملك جوار وعبيد يحملون جميعا مظلات كبيرة. القمر يشرق من جهة القصر محاطا بهالة. وفي أحد أركان الحديقة على مقربة من المنزل تجلس امرأة من الشعب عليها ثياب رثة وعليها آثار الكآبة والألم.)
حوتب :
إنكم ترون اهتمام الملك صاحب مصر العليا والسفلى وسيد الهياكل وابن الشمس بهذا السجين، فلا تتأثروا بدموع هذه المرأة ولا تسمحوا له بالصعود طرفة عين. وها أنا ذاهب لأتلقى أوامر من رئيس الحاشية فكونوا جميعا عيونا وآذانا، وإياكم أن يفلت من بينكم، فقد سمعت في طفولتي أنه سيأتي رجل حقير ليس له إلا أمه، ولكنه سيقهر فرعون مصر وسيفعل المعجزات. وإني أسأل الآلهة أن لا يكون هو هذا الذي وكلت إلينا حراسته (يخرج) .
جندي 1 :
إن القمر يصعد السماء كأنه امرأة صفراء تتسلق جبلا عاليا.
جندي 2 :
كلا يا أبله، يظهر لي أنك لم تقرأ قصائد بنتاءوريوس شاعر الملك، فإن القمر كأنه امرأة دفينة تبعث من قبرها.
جندي 3 :
لا تقل هذا القول، فإنه يقبض صدري ويخيل لي أنني أرى شبح امرأة تبعث من قبرها.
جندي 2 :
طبعا فإنك نشأت في طيبة، مدينة العز والرفاهية والجبن، ولم تسافر مثلنا إلى أقصى الجنوب في معية سيد الهياكل وملك مصر عندما كان وزيرا للملك السابق.
جندي 4 :
صه أيها الأخوة، ولا تذكروا ذلك في حديقة الملك، فإنه قد بث العيون والأرصاد ليلقي القبض على كل من يتكلم عن تاريخه.
جندي 1 :
ولماذا؟ هل في تاريخ الملك ما يزعجه ذكره؟
جندي 4 :
نعم، إنه كان وزيرا لدى الملك السابق وتفصيل ذلك أنه ...
جندي 3 :
إنني كثير الانقباض أيها الأخوة، ولست أدري بماذا تحدثني نفسي بما يقع في هذه الليلة. (صوت ضحك وموسيقى من ردهة القصر.)
جندي 2 :
أنا أذكر لك ما يحدث في هذه الليلة، فإن الملك يشرب وكذلك من معه من الندامى، وسترقص له ساتيني ثم ينفض المجلس ثم يصيح الديك، فيأتي غيرنا من الجند وتنصرف أنت إلى بيتك فتجد فراش زوجك دافئا ينتظرك، أما أنا فسأذهب إلى الثكنة المجاورة للقصر لأقضي ساعات الراحة القليلة ثم تشرق الشمس وهكذا.
نيتوكيس (بصوت تخنقه العبرات) :
أيها الجنود الشجعان أليس فيكم ولد يحن إلى رؤية أمه؟ أليس فيكم ولد رأي دموع والدة تتدفق من عينها وقت فراقه؟ أليس فيكم ولد يشفق على أم معذبة ويرق لحال امرأة مسكينة؟
جندي 1 (إلى إخوانه) :
إن كلام هذه المرأة وصوتها يؤثران في نفسي كثيرا (إلى نيتوكيس)
ماذا تريدين أهرماكيس هرماكيس إنني أحبكيتها المرأة؟
نيتوكيس :
أريد يا سيدي الجندي أن أرى ابني هرماكيس طرفة عين. أريد أن أسمع صوته مرة واحدة ثم أموت، أريد أن أضمه إلى صدري ضمة الوداع، وأضع على جبينه قبلة حارة. أريد أن أجفف دموعه بطرف ثوبي. أريد أن أرى ولدي.
جندي 4 :
اصمتي أيتها المرأة، وإلا نضطر إلى ضربك وطردك. ألا تعرفين أننا لا نسمع إلا أمر رئيسنا ولا نطيع إلا إرادة الملك.
نيتوكيس :
كنت أظن فيكم شهما يسمع صوت امرأة ويطيع إرادة الآلهة.
جندي 4 :
لا تتكلمي فإن هذا الإغراء سيئ العاقبة.
جندي 1 :
ما خبر هذا السجين؟
جندي 3 :
أنا ما رأيته وما سمعت صوته .
جندي 4 :
ما هي قصة ولدك؟ (تدنو الأم قليلا لتحدث الجند لتسترق النظر إلى المنزل) ، مكانك وتكلمي لئلا يدخل رئيس الحرس فجأة فيراك فيحرمنا من طعام اليوم وغد، ويأمر بجلدنا.
نيتوكيس :
إن ابني ولد يتيم؛ لأن زوجي مات منذ أمد طويل. فعنيت بتربيته على قدر ما كنت أستطيع. غير أنه كان منذ صباه ضعيفا كثير السكوت قليل الطعام. ولما شب أخذ يتردد على جار له مشهور بكثرة القراءة وملازمته لغرفته. وكان الولد يدخل علي في كل يوم حاملا ملفات من البردي فيغرق في القراءة إلى أن يذهب نور الشمس، فإن كان نور القمر صعد إلى أعلى المنزل وأخذ يقرأ، وإن كان الليل مظلما قضى معظم الليل في نور المصباح، ثم أخذ يقول لي أشياء؛ كأن يقول ليس هناك إلا إله واحد وليس الملك هو ابن الشمس.
جندي 2 :
اخفتي صوتك أيتها الأم الحزينة.
نيتوكيس :
وأخيرا أخذ ولدي يخرج في الطريق، ويجمع حوله الفتيان والشبان ويقول لهم ما ذكرت لساعتي. وقد سمعه يوما أحد الجنود فوشى به إلى الملك، وبعد ذلك بقليل أخذوه مني، وعلمت أن رئيس الكهنة ناقم عليه أيضا، وهو يطلب من الملك قتله والملك لا يريد ذلك. وقد أودعوه أمدا بسجن المدينة، ولكن رئيس الكهنة أمر بنقله خوفا من أن يؤثر جنونه في غيره من المسجونين.
جندي 4 :
حقيقة إنه مجنون، ولكن ...
جندي 3 :
ولكن ماذا؟
جندي 4 :
إذا كان مجنونا فلماذا يخشون أمره؟!
جندي 2 :
وهل هذا من شأننا؟ (يسمع وقع أقدام) .
جندي 4 :
نعم إذا كان القمر يشرق من الشمال أو من الجنوب ليس هذا من شأننا على الإطلاق. ابتعدي أيتها المرأة لأننا غير مسئولين عن سير الكواكب.
رئيس الحرس (يدخل رئيس الحرس.) :
لم يصدر لنا أمر جديد أيها الجند (ينظر نحو أم هرماكيس)
وأنت أيتها المرأة ألا تزالين هنا؟!
نيتوكيس (ببكاء) :
نعم يا سيدي، وهل يسوءك بقاء أم بجانب سجن ابنها؟!
رئيس الحرس :
وماذا تطلبين من سجن ابنك؟
نيتوكيس :
أريد أن أراه.
رئيس الحرس (ضاحكا) :
أتريدين أن تري قبر ولدك؟ إنك إذا رأيته فلن تعرفيه فقد غيره السجن.
نيتوكيس :
قل لي يا سيدي، كيف هو وكيف سجنه؟
رئيس الحرس :
إن سجنه عبارة عن سرداب تحتاني لا تصل إليه الشمس مطلقا، وهو يرقد على فراش من القش وتحت رأسه قطعة من الحجر، ولا يأكل إلا الخبز الجاف بلا أدام. وقد ابيض شعر رأسه من طول السجن، وهو أصفر كلون الشمس عند غيابها.
نيتوكيس :
كفى كفى يا سيدي، ولماذا تعذبونه هكذا؟
رئيس الحرس :
إن من يعيب في حق الآلهة وينكر علاقتهم بالملك لا يستحق أقل من ذلك. أتظنينني جاهلا بحقيقة حال ولدك؟
نيتوكيس :
إنه مجنون يا سيدي، فردوه إلي أعالجه وأشفيه. ردوه إلى صدر أمه الحنون. (وقع أقدام وأصوات موسيقى دينية.)
رئيس الحرس :
صه وابتعدي من هذا المكان، فهذا رئيس الكهنة جاء يلقى الملك في أمر ذي شأن (يدخل موكب رئيس الكهنة يتقدمه خدام الهيكل، وأمامه ووراءه بعض الكهنة، ويمرون من اليمين ويخرجون من الشمال. وفي أثناء مرور الموكب ينظر رئيس الكهنة نحو الجند فيحيونه ثم نحو السجن) .
نيتوكيس (رافعة يديها) :
يا رئيس كهنة فتاح، وخادم الأرباب كلها، ارحم أما حزينة، ورد إليها ولدها (ينظر إليها رئيس الكهنة باحتقار ويسير إلى طريقه) .
رئيس الحرس :
إنك أيتها المجنونة ستسببين شقاءنا، إذا نطقت بعد هذه المرة بكلمة واحدة سأطردك من هنا، أسامعة أنت.
نيتوكيس (جالسة باكية) :
نعم سمعت يا سيدي.
المنظر الثاني
جندي 2 :
انظر يا سيدي الرئيس، إن الأميرة ساتيني عشيقة الملك تدنو من هنا فهل نحييها؟
رئيس الحرس :
نعم، وكيف تسأل هذا السؤال؟ ألا تعلم أنها سببت إعدام أربعة من الجند لأنهم لم يحييوها تحية الأمراء (تدنو ساتيني من البحيرة وعلى رأسها إكليل من الذهب بشكل الشمس وحول عنقها حلي من الذهب، وثيابها عبارة عن قميص كبير من الحرير الأبيض، وفي صدرها زهور زرقاء، وبمعصمها أساور من الذهب بأعلاهما وأسفلهما، وفي يدها مروحة من ريش النعام محلاة بجواهر ثمينة وليس في معيتها أحد)
إنها إذا دنت ارفعوا الرماح ثم اخفضوها، ولا ينبس أحدكم ببنت شفة (تدنو ساتيني ويحييها الجند) .
ساتيني (ناظرة حولها وإلى الجند باحتقار ثم إلى رئيس الحرس) :
عم مساء يا حوتب، إن الملك راض عنك لأنك مخلص وأمين، ألا ترى الجو جميلا في هذه الليلة. إني وقفت قليلا بجانب البحيرة أرقب انعكاس ضوء القمر في مرآتها. أتدري لماذا منع الملك وجود السمك الأحمر في البحيرة؟ أنا أعلم ذلك، إن رئيس الكهنة الذي يخترع في كل يوم شيئا جديدا، أوحى إليه أن إيزيس تحب السمك الأحمر ولا تريد تعذيبه بعرضه على أنظار البشر. ما لك ساكت لا تتكلم؟ (يؤثر هذا القول في المخاطب كأنه سحر.)
حوتب :
إنني يا مولاتي الأميرة صامت أمامك لأن جمالك الفتان وحلاوة كلامك ورقة صوتك، تجعلني عاجزا عن الكلام، إن من لا يبهت أمام حسنك إذن فهو جماد.
ساتيني (عليها علامات الرضى) :
كنت أحسن الظن بك من قبل يا حوتب، ولكنني تحققت اليوم أنك كغيرك ممن يملقونني. إنني تركت مجلس الملك لأنه يفتأ يمدح عيني تارة وجبيني طورا كذلك، فينوس نديمه الثقيل يضايقني بأشعاره التي ينظمها لأن ريح الخمر تفوح منها.
حوتب :
حاشا يا مولاتي أن أملقك أو أذكر لك ما لست عليه من الحسن الباهر. إن الملوك لا يحسدون أمنحتب على تاج مصر وعرشها أكثر مما يحسدونه على جمالك الساحر.
نيتوكيس (تنهض بحزن وتدنو من ساتيني ثم تجثو أمامها) :
إذا كنت يا مولاتي الأميرة ابنه الملك وتحبين أمك كما تحبك فردي علي ولدي الوحيد. إنه يكاد يموت في البرد والوحدة، هناك في ذلك السرداب المخيف. إنه تحت أقدامك، فارحمي أما جاثية ترحمك الآلهة وتضئ إيزيس طريقك.
ساتيني (مندهشة بغير اكتراث تنظر إلى أم هرماكيس باحتقار) :
من أنت وماذا تريدين؟ إنني لست ابنة الملك، من هو ابنك، وماذا جرى له؟
رئيس الحرس (حانقا) :
أيها الجند، أخرجوا هذه المرأة لساعتها، فإنها تريد أن تعكر صفو الأميرة بدموعها (يدنو جنديان ويحاولان أن ينتزعاها بقسوة، فتستلقي على أقدام ساتيني مستغيثة بها) .
ساتيني (مشيرة بمروحتها إلى الجند) :
اتركوها فإنها لا تكدر صفوي ودعوها تتكلم .
رئيس الحرس :
إنك يا مولاتي تضيفين إلى جمالك فضيلة الآلهة. ابتعدا أيها الجنديان، ودعا تلك المرأة تحادث الأميرة (يتقهقر الجنديان) .
ساتيني :
تكلمي، ما هو خبر ابنك وأين هو؟ (تجلس على مقعد قريب) .
نيتوكيس (منتحبة) :
إن ولدي هرماكيس ليس لدي سواه، وليس له في الدنيا أحد. أصابه مس من الجن، فأخذ يهذي ويطعن في الملك والآلهة، فأخذوه مني ووضعوه هنا في هذا السجن السحيق. أنقذيه يا مولاتي، ورديه إلي أطعمه وأدفئه وأضمه إلى صدري في بيتنا على ضفة النهر.
ساتيني :
أرني إياه لأنظر هل هو مجنون كما تقول أمه.
حوتب :
إن الأميرة إذا طلبت حياتي وهبتها إياها لأنها ملكي. أما السجين فلا أستطيع إخراجه لأنه رهين أمر الملك.
ساتيني :
لن يعود عليك ضرر ما دمت أنا التي أمرتك. إنني أريد أن أراه طرفة عين.
حوتب :
لا أستطيع يا مولاتي الأميرة؛ لأنني لا أريد أن أخون جلالة الملك الذي وكل إلي حراسة هذا السجين، وهددني بالقتل لو أخرجته بدون إذنه.
ساتيني (تنهض واقفة وتدنو من المنزل ثم تعود إلى حيث كانت) :
إنني آمرك باسم الملك أن تخرج هذا السجين.
نيتوكيس :
حبذا يا مولاتي لو رأيته مرة واحدة قبل موتي.
رئيس الحرس :
صه أيتها المرأة، فقد سببت مخالفتي لأمر الأميرة، وليس هذا علي بهين.
نيتوكيس :
يا مولاتي، إنني لا أريد أن تثكلك أمك؛ ولذا أتوسل إليك أن تجيبي صوت أم حزينة باكية.
ساتيني (تدنو من رئيس الحرس وتحدق به النظر، ثم تضربه بمروحتها على خده) :
إنك لا تريد أن تعصي أمر الملك. ولكن إذا وعدتك بابتسامة من فمي فهل تطيع أمري؟
حوتب (مترددا) :
مولاتي إنني ... أكون طوع أمرك ... لكن إذا جاء الملك!
ساتيني (تدنو منه أكثر) :
أقول له إنني طلبت منك إخراج السجين باسمه، وإذا أراد عقابك شفعت لديه فيعفو عنك (تسقط المروحة عمدا فيسرع رئيس الحرس إلى التقاطها، فتشير إليه بأن يقبلها فيقبل المروحة ويعطيها إياها) .
حوتب :
اذهبا أنتما أيها الجنديان، وليقف كل منكما في وسط الطريق، فإذا سمعتما وقع أقدام أو رأيتما أحدا قادما فارفعا رمحيكما في الريح، وأنت أيها الجندي الثالث، افتح باب المنزل وادع السجين، فإن كان نائما فأيقظه ومره أن يصعد إلى هنا (ينصرف الجنديان إلى وسط الطريق كما أمرهما رئيسهما وينزل الجندي الثالث. تدنو ساتيني ونيتوكيس من المنزل) .
جندي 3 (يعود مسرعا ذعرا) :
مولاي.
رئيس الحرس :
ما بالك ماذا جرى؟
جندي 3 :
إنني رأيته وحول رأسه هالة من نور، فقال لي من أنت أيها القادم؟ أأنت نذير الموت أم رسول الملك؟ فإن كنت نذير الموت فمرحبا، وإن كنت رسول الملك فخذني إليه أقل له الحق في وجهه.
رئيس الحرس :
وكيف يخيفك هذا القول أيها الجبان؟
جندي 3 :
إن صوته كصوت الوحي المقدس، وعيناه مشتعلتان بنار الآلهة.
رئيس الحرس :
إنك تهذي. كيف تحمي الآلهة من يذمها؟! ابتعد عن المنزل واعلم أنك منذ الساعة سجين إلى أن يفصل في أمرك (إلى ساتيني)
ألا تزالين مصممة على رؤية السجين يا مولاتي؟
ساتيني (متظاهرة بالغضب مع الخلاعة) :
وأنت ألا تزال مصرا على حبي؟
رئيس الحرس :
انزل أيها الجندي الرابع، فإنك أشجع من هؤلاء الأحداث وأقل هلعا. (جندي 4 يدنو من المنزل ثم يصعد ووراءه هرماكيس شاب طويل القامة يلبس قميصا بسيطا له شعر منسدل وله لحية كثة، قميصه قصير الأكمام وهو حافي القدمين.)
المنظر الثالث (يتقدم هرماكيس برأسه مرفوعا، وقدم ثابتة إلى وسط الحديقة، ثم ينظر إلى من حوله. تظهر على رئيس الحرس علامات الوجل مع التجلد. تدنو الأم من ابنها. تنظر ساتيني إليه بإعجاب شديد وتطيل التحديق به.)
هرماكيس (مبصرا أمه يدنو منها بسكوت، ويقبل رأسها ويكفكف دمعها، ثم ينظر إلى رئيس الحرس) :
أين الملك أيها الحارس لأقول له الحق؟ وأين رئيس الكهنة لأهديه وأعظه؟ أين الشعب كله يسمع صوتي ليلبي نداء إله واحد وليرمي عن كاهله استبداد ملك متأله؟
رئيس الحرس :
إنك يا هرماكيس هنا في حضرة الأميرة ساتيني، وحذار أن تتفوه بما ينقل عنك إلى جلالة الملك، فيزيد في عقابك (إلى ساتيني)
هل اكتفيت أيتها الأميرة فنعيده إلى سجنه؟
ساتيني :
كلا كلا ، لا تعده الآن ودعني أكلمه (تدنو منه) .
نيتوكيس :
أرأيت يا مولاتي، إن ولدي مجنون وهو لا يعي ما يقول، فلا تنقلي قوله استحلفك بحب أمك إلى جلالة الملك، بل توسلي إليه كما أتوسل إليك أن يرده لي. هرماكيس ولدي لا تقل هذا القول وعد إلى رشدك.
هرماكيس (إلى ساتيني باحتقار ثم إلى أمه) :
لا تجزعي يا أماه، فإنني لست بمجنون، إني أنطق بصوت ستردده الأرض والسماء، وسيرن صداه في سائر الأجيال، إن الهواء يحمل قولي إلى الشمال وإلى الجنوب، والشمس تنشر الحق مع ضيائها في الشرق والغرب.
ساتيني :
هدئ روعك أيها الشاب، إنني قادرة على إطلاق سراحك إذا وعدتني بأنك تكون طوع إشارتي، إنني أشفق على أمك الحزينة، وأريد أن أردك إليها، فهل تسمع ما أقول؟
هرماكيس :
إنني لا أريد أن يطلق سراحي من سجن الملك لأقع في أسر امرأة، فمن أنت حتى أطيع أمرك؟
ساتيني :
أنا ساتيني معشوقة الملك أمنمحتب، ومالكة قياد نفسه، أنا حبة قلبه وسلطانة فؤاده.
هرماكيس (مبتعدا عنها) :
إذن ابتعدي عني ولا تحاولي إغوائي. فليهدك الرب وليتب عليك.
ساتيني :
أتبتعد عني والملك يتمنى قربي، ويقبل في كل ليلة قدمي مائة مرة؟!
هرماكيس :
خفضي أيتها المرأة من كبريائك، فإن الملك لا يعادل بسلطانه وقدرته مقدار حبة من قدرة الإله الواحد المحرك لهذا الوجود، فكيف تفتخرين بحبه؟! وإن ملكا يقبل قدم معشوقته لا يعد إلا لعبة في يد الشيطان.
ساتيني :
إنني لا أفتخر بحبه يا هرماكيس إلا لأريك مقداري؛ لأنني أحببتك انظر إلي وأنا أقبل قدميك ألف مرة.
هرماكيس :
إنني شخص زائل، لا قدر لي، فحبي الله والحق فستضيء حياتك، وأوعزي إلى مليكك أن يستقدمني لأقول له الحق في وجهه.
ساتيني :
انظر إلي يا هرماكيس ولا تطل تعذيبي، انظر إلى شعري الأسود المضفر باللؤلؤ، إنني إذا حللته سترى جسدي بأسره، انظر إلى جبيني المضيء وعيني الفاتنتين. انظر إلى شفتي اللتين ختمتها فينوس بخاتمها السحري. انظر إلى نحري وحوله تلك الجواهر المضيئة. إن خمسة من ندماء الملك قتلوا أنفسهم ؛ لأنهم طلبوا مني قبلة فلم أسمح، ولو أردت أن يقتل الملك نفسه لفعلت؛ إنني انتزعت من قلبه حب أمي التي كان يحبها من قبل، فإنني إذا رقصت فتنت عشاقي، انظر إلى معصمي فقد وهب الملك لي خراج ولاية مقابل تقبيلهما. إنني بجمالي وثروتي وحشمي أكون ملكا لك. إنني أجعلك نديم الملك أو وزيرا. انظر إلي يا هرماكيس.
هرماكيس :
عجبا لك أيتها المرأة! كم في المقابر من شعر أجمل من شعرك، وشفاه أشد احمرارا من شفتيك، وخصور أرق من خصرك. إنني لا أريد أن أكون نديم الملك ولا وزيره، ولكنني أريد أن أكون معلمه ومرشده. أين الملك سليه أن يسمع قولي وأنا أدعو الله أن يهديك ويصلح حالك. وإلا فاذهبي عني بجمالك وحاولي أن تفتني سواي. إنني لا أفتن بحب امرأة، لا يشغل قلبي إلا حب الله والحق.
ساتيني :
هرماكيس لا تردني عنك تندم، إنك تقول هذا القول لأنك لا تعرف حب النساء، إنك لم تشرب كأس الغرام، لو علمت أنني سأعطيك روحي وجسمي، لو علمت أنني سألقي بنفسي على صدرك، وأبثك لواعج حبي، لو علمت أنني سأذرف دموع العشق لأطفئ لهيب شوقي. لو علمت أننا نصير روحا في جسمين، لو علمت مقدار حبي ما رددتني (تدنو منه وتضع ذراعيها حول عنقه، وتقبض بيديها على رأسه وتهم بتقبيله على غرة منه) .
هرماكيس (يدفعها) :
ابتعدي عني أيتها الحية المطيبة. إنك كالدودة في قلب الفاكهة الناضجة، كذلك حبك في قلب الملك لو سلاك لأسمعته قولي.
ساتيني (باكية إلى أمه نيتوكيس) :
قولي لابنك يعشقني، إنني أرده لك على شرط أن أقاسمك إياه، إنني أضيف حبي إلى حبك.
نيتوكيس :
لست أستطيع أن أغريه بحبك. إنه يقول قولا حقا ألا تسمعين.
حوتب (إلى ساتيني) :
يا مولاتي، هل تعلقت بحب هذا السجين ونسيت وعدك لي؟
ساتيني :
إليك عني أيها الجندي الثقيل، فإنني لا أحبك.
حوتب :
ساتيني، ساتيني ... إنني أحببتك منذ ثلاث سنين، وكنت لا أحلم بقربك فهل وعدت عبدك ولا تفين بوعدك؟
ساتيني (غير مكترثة بحوتب إلى هرماكيس) :
انظر إلي، إن الشمس ستشرق عليك من طلعتي، وستتجلى أمامك فينوس بجمالها الفتان (ترمي مروحتها وترفع حليها عن رأسها وتترك شعرها ينسدل)
إلي يا هرماكيس، واختبئ في هذا الليل الحالك، إلي إلي أحميك في ثنايا ضفائري من مخالب أعدائك، إلي إلي ومتع نفسك بعطري.
هرماكيس (إلى أمه) :
ويلي يا أماه إذا لم يسمع الملك قولي (إلى ساتيني)
إنه لا يختبئ في شعرك إلا عشاق جسمك. أما أنا فلا أرى أمامي إلا روحك. إن روحك مسكينة ضعيفة وقلبك مريض، إن جسمك قد يقدر في نظر الملك بقناطير الذهب والجوهر، ولكن روحك لا تقدر في نظري بأكثر من روح امرأة أسيرة شهواتها. ليتب عليك الله، ويشف تلك الروح العليلة. وليقلل من آلام نفسك المعذبة.
ساتيني :
ألا تكفيك رؤية شعري؟ ها أنا أسفر لك عن سائر بدني (تحاول ذلك وتقف واضعة رأسها بين يديها) .
هرماكيس (يدير وجهه نحو حوتب) :
هل لك أيها الحارس أن تعيدني إلى سجني، ما دامت هذه المرأة لا تريد أن تعود إلى رشدها؟
حوتب :
أيها الجند، أعيدوا هرماكيس إلى سجنه.
ساتيني :
إياكم أن تمسوا شعرة من قدمه. حوتب أيها الحارس العاشق، كيف لك أن تخالف أمري؟! إنك إذا أعدته إلى سجنه قتلت نفسي ووقع دمي على رأسك؛ فيقتلك الملك شر قتلة (يسمع صوت نداء الحرس) .
حوتب :
مولاتي لا يمكن أن تدوم تلك الحال، فإن الليل كاد ينتصف وها نحن نسمع صوت حرس القصر ينادون لنداء الحرس بألفاظ خاصة.
ساتيني (باكية وتدنو من هرماكيس حيث ذهب) :
ارحم شبابي، رق لجمالي، اعطف على قلب امرأة كما عطفت على قلب أمك (تجثو أمامه)
إنني جاثية أمامك عارية البدن، محلولة الشعر، خالعة حلي كما أجثو أمام الآلهة.
هرماكيس :
لا تسجدي أمامي، فإنني لست معبودك، إنما أنا مثلك عبد إله واحد.
ساتيني :
بلى أنت معبودي، أنت إلهي (يزداد بكاؤها)
إنني أغسل قدميك بدموعي (تقبض بيديها على قدميه)
وأمرغ عليها خدي كما يمرغ الملك وجهه على أقدامي (تمرغ خدها على قدميه) .
هرماكيس (يحاول منعها ) :
ما ظننت أنني أخرج من سجن إلى سجن أشد ضيقا وأكثر ظلمة. أستودعك الله يا أماه. إنني أريد أن أعود إلى سجني، اذهبي إلى بيتك وانشري قولي بين صواحبك يبلغنه أولادهن ويرضعنهم إياه مع اللبن. قولي لهن إن هناك إلها واحدا، وإن الملك ليس ابن الآلهة، إنما هو مخلوق مثلهم، ولكن نفسه أقل من نفوسهم في نظر هذا الإله؛ لأنه فاسد القلب (إلى أمه)
ادني مني أقبل جبينك وأضم رأسك؛ لأن نفسي تحدثني بأنني لن أراك بعد هذه الساعة.
نيتوكيس (تدنو إلى ولدها وتضمه إلى صدرها) :
ولداه هلا تعود إلى أمك، إن فراشك الصغير ينتظرك، وأوراق البردي لا تزال في ركن الغرفة. إنني أزيل عنها التراب في كل يوم، وأقول لها سيأتي هرماكيس يقلبك كعادته. كنت أشعل المصباح في غرفتك لأخدع نفسي بأنك لا تزال فيها، فلما أنفقت ما كان معي أصبحت لا أملك إلا ما يشعل مصباحا واحدا، فأهملت مصباح غرفتي وأشعل كل ليلة مصباحك وأرقد في غرفتك.
ساتيني :
خذي يا أم هرماكيس كل هذا الذهب وتلك الحلي إنني أملأ بيتك مالا. إنني أشيد لك قصرا. إنني أهبك ضياعا. وأسير السفائن في النيل تحمل خراجها باسمك.
نيتوكيس :
احفظي يا سيدتي عليك ذهبك وتمتعي بخيرك، إنني وولدي في أفقر بقاع الأرض وعلى أفقر حال في غنى عن ملك أمنمحتب وثروة قارون.
ساتيني :
إنني لن آخذ منك ولدك، ولكنني سأقاسمك حبه.
هرماكيس :
الوداع يا أماه.
حوتب :
سر أمامي يا هرماكيس.
نيتوكيس (باكية) :
الوداع يا ولدي (ترتمي على ولدها فيقبلها وتقبله) .
ساتيني (قابضة على أقدام هرماكيس وباكية بصوت عال) :
إلى أين تأخذونه ... هرماكيس ... ابق لي ... رد إلي قلبي وصبري.
هرماكيس (إلى حوتب) :
مر الجند يخلصوني من أنياب هذه الأفعى.
حوتب (يدنو منها) :
يا مولاتي خففي عنك، إن هذا ليس جديرا بك (يخلص يديها من حول أقدام هرماكيس) .
ساتيني (بغضب وبكاء) :
هرماكيس، هرماكيس ... إنك لي وستكون لي ... إنك ملكي ولن ينتزعك مني أحد.
هرماكيس :
الوداع يا أماه (ينزل إلى السجن وساتيني تتعلق بقميصه ثم يخلص منها) .
ساتيني (تدنو من المنزل وتطل عليه) :
ها هو قد نزل، إنني أسمع وقع أقدامه وأشعر بها، كأنه يسير على قلبي ... كيف يعيش في تلك الظلمة؟!
حوتب :
خففي عنك يا مولاتي، وكفى هذا البكاء، إن مجنونا كهذا لا يستحق تلك الدموع الغالية (يدنو منها ويتناول يدها) .
ساتيني :
إليك عني وإلا ذكرت للملك أنك تدعوني إلى خيانته.
حوتب :
ساتيني هل نسيت عهدك؟ ساتيني ألا تجيبين صوت حبي.
ساتيني (في حلق المنزل) :
هرماكيس، ألا تسمع صوتي، ألا تسمع دقات قلبي، ألا تصلك نار تنهدي وزفير صدري. هرماكيس يا ربي ومحبوبي، أجب ندائي ألا تعي قولي.
حوتب :
ساتيني ألا تجيبين، توسلي بنظرة ... ها أنا أقتل نفسي.
ساتيني :
هرماكيس يا حياتي ويا وجودي إنني أقبل آثار أقدامك (تقبل آثار أقدامه)
إنني أقبل رأس أمك إنني ألمس ملمس فمك (تقبل رأس أم هرماكيس بعنف) .
حوتب (يقتل نفسه) :
ساتيني انظري إلي نظرة قبل موتي.
ساتيني :
هرماكيس هل تسمع صوتي؟
جندي 4 :
مولاتي إن رئيس الحرس يقتل نفسه.
ساتيني (تنظر إلى حوتب باحتقار) :
ويحه! كيف يقتل نفسه؟! هرماكيس إنني أقبلك عن بعد وأعطيك نفسي. إن أعضاء بدني ترتجف إذا سمعت أنفاسك تتردد، وحياتي تعود إلي لو نظرت إلي هرماكيس ...
جندي 4 :
مولاتي أسرعي وانهضي، إني أرى شبحا قادما في الظلام وقد رفع الجنديان رمحيهما.
ساتيني :
فليأت من يأتي ... هرماكيس هل تسمع صوتي.
يوما (تنظر إلى ابنتها باندهاش ثم تنظر إلى من حولها) :
ساتيني، ويحك ماذا جرى؟! انهضي يا بنيتي إن الملك يسأل عنك.
ساتيني :
ها أنت يا أمي، إن هرماكيس لا يسمع صوتي ...
يوما :
أي هرماكيس؟ هل أنت مجنونة أقول لك إن الملك يطلبك (تنهضها وتعيد إليها حليها، وترى ثوبها الممزق فتعطيها ثوبا من ثيابها، وساتيني تجلس على مقعد قريب من السجن وتظهر عليها علامات الغضب والذهول) . انظري في شأنك إن الملك يطلبك (صوت موسيقى ووقع أقدام من بعيد وقدوم جندي) .
جندي :
الملك قادم (يقف الجند موقف التحية) .
المنظر الرابع (يدخل الملك وحوله الحاشية والندامى ووراءه عبيد يحملون المراوح وعبيد آخرون مدرعون.)
نديم :
انظر يا جلالة الملك إلى هذه الحديقة، فكأنها ملتقى العاشقين وتلك البحيرة دمعة من عين إلهة الغرام.
نديم ثاني :
هذه هي الأميرة ساتيني كأنها غارقة في بحر عميق من الأفكار، إن من يراها هكذا يظن أن الملك يهجرها.
الملك :
ساتيني ماذا أتى بك إلى هنا؟ ولماذا قضيت معظم ليلك بجوار الجند في مكان قصي ونحن نطلبك؟ (يرى السجن فيرتعد)
هيا بنا إلى مجلسنا، فإن كئوس النبيذ تنتظرنا وهبكيس النديم نائم على مقعده من شدة سكره، كأنه وحش البقر قبل ذبحه.
فينوس :
لا يقدر على الشراب قدرته على الحرب وقهر الأعداء، سوى ملك عظيم اصطفته الآلهة.
تاو :
إن مديحك لجلالة الملك يقلل من سخافة شعرك.
الملك (ضاحكا) :
لقد سكرتما وكان ينبغي أن تتركا مع هبكيس في فراش واحد (يسمع صياح ديك ونداء جندي من شرفات القصر)
ها هي الديكة تصيح منذرة بقدوم الشمس بنورها الوضاء. ولسنا نود أن نعود إلى ردهة القصر فلنجلس هنا قليلا ... يا غلمان علينا بالكئوس (تدور الكئوس مرة) . اقربي يا ساتيني واشربي أمامي كأسك (تدنو ساتيني بانكسار وضجر وتشرب) .
ساتيني :
لله ما أحلى الخمر في هذه الليلة! إنني أستوعب فيها طعما ما ذقته من قبل.
نديم :
هذا يا مولاتي لأن جلالة الملك أدناك ونظر إليك وأنت تشربين، فذابت نظرة من نظراته الملكية في كأسك.
فينوس :
لا بأس بهذا يا تاو، هذه أول مرة أسمعك تقول شيئا حسنا.
تاو :
إذا صمت الأغبياء نطق ذوو الفطنة، ولو كنت تكلمت قبلي ما أوحت إلي الآلهة تلك الدراري.
الملك :
ساتيني دعينا من هذين المهذارين، واشربي معي كأسك الثانية.
ساتيني (تشرب) :
إنها يا مولاتي ألذ من الكأس الأولى. لقد عرفت الليلة سر الخمر (ثم تشرب كأسا ثالثة وتظهر عليها علامات السرور) .
الملك :
ارقصي يا ساتيني، وانشديني الأغنية التي أنشدتنيها ليلة قربك الأولى ونحن في السفينة.
ساتيني :
إنني سعيدة ومجنونة، ولكنني لا أريد أن أرقص ولا أغني.
يوما :
كيف لك أيتها البنية أن تخالفي إرادة الملك.
تاو :
دعوها تتدلل، تدللي ما شئت فأنت واثقة بحب الملك، والدلال مباح لمن يثق بالحب.
ساتيني :
لست أتدلل
الملك :
ارقصي يا ساتيني وانشدي.
ساتيني :
لست أستطيع يا مولاي.
الملك :
عجبا! هل ينقصك شيء حتى ترفضي طلبي؟
فينوس :
لا أظن في مطالب الأميرة ساتيني نقصا، ولطالما حسدتها على نعمة التمتع بقرب جلالة الملك، طالما وددت أنا أن أكون فتاة جميلة.
الملك (ضاحكا) :
صه أيها المهذار، إنك لو كنت فتاة لوهبتك لأحد العبيد أو قدمتك ضحية لأبيس.
تاو :
إنه إن لم يصلح الآن لأحد العبيد، فإنه لا يزال يصلح ضحية لأبيس.
الملك :
ساتيني أمرتك أن ترقصي.
ساتيني :
يا مولاي إن الرقص والغناء كسرور النفس ليس لأمر الملك عليها نفوذ. مر بقتلي ولا تأمرني بالرقص في هذه الليلة (تشرب كأسا) .
الملك :
اطلبي مني ما تشائين أهبك إياه.
ساتيني (كمن يفيق من غشيته) :
أتعدني يا جلالة الملك بذلك؟
الملك :
نعم أعدك.
ساتيني (إلى جارية) :
اذهبي واحضري ثياب الرقص وقوارير العطر.
تاو :
لعلها تطلب ذبح فينوس فقد شكت لي مرارا من ثقله.
الملك (ضاحكا) :
لعلها تطلب ذبحكما جميعا (تعود الجارية بثياب الرقص وقوارير العطر. تلبس ساتيني ثياب الرقص، ويعد لها مكان فسيح أمام الملك. تبتدئ تغني وترقص رقصا مصريا قديما (الأغنية: غابت الشمس من السماء وخيم الليل على النهر أسمع في قلبي أنغاما محزنة ولكن هبوب النسيم يخفف همي يغار النسيم من شعري فهو يخترقه ليقبل نحري. يا حبيبي لماذا تنظر إلي وتهمس في أذني كلمات حلوة أتظن أننا في مأمن من العذال كأنك نسيت عيون الكواكب. إننا نسير في النهر كما تسير الشموس والأقمار في قبة الفلك، حبنا لا يعرف زمانا ولا مكانا وقلبي لا يعرف إلا قلبك، إننا نسبح في نهر الحياة بين شاطئ الفناء. السماء بعيدة ولا يسمع سكانها صوتي. النهر عميق وهو يكتم سري. قبلني يا حبيبي قبلة القرب. دع سفينتنا تسير على غير هدى وادن مني أقبلك في هذا الظلام الذي لا ينم على العاشقين. لقد ملأ حبك قلبي ولكنني حزينة لأن المحب كثير الشكوك. إلي يا حياتي وسعادة نفسي واملأ فؤادي الحزين بخمر حبك) ... تظهر آثار الطرب على الحاضرين. تجلس ساتيني متعبة تحت أقدام الملك، فيأخذ وجهها بين يديه ويقبلها)
أحسنت يا ساتيني، قولي إذن ماذا تطلبين؟
ساتيني :
لقد وعدتني أيها الملك وإنك لا تخلف وعدك.
الملك :
اطلبي يكن لك ما شئت.
ساتيني (بوجل وتردد) :
إني أطلب ...
تاو :
قرب الملك.
ساتيني :
إن قرب الملك هو أعظم ما أتمنى، ولكنني أطلب ...
الملك :
ماذا؟
ساتيني (بهمة وقوة) :
رأس هرماكيس (تظهر البغتة على الجميع) .
نيتوكيس :
ويلاه (يغشى عليها) .
الملك (ببغتة) :
لا تمزحي يا ساتيني، قولي ماذا تطلبين.
ساتيني :
أنت وعدتني، ولا أظنك تعود في وعدك، إني لا أطلب إلا رأس هرماكيس.
الملك :
ويحك يا ساتيني، اطلبي ضياعا أهبك، اطلبي مالا أمنحك، اطلبي بلدا بأسرها أجب رغبتك، اطلبي خراج هيكل يكن لك، ولكن لا تطلبي رأس هذا الرجل.
ساتيني :
لا أريد إلا ما طلبت أريد رأس هرماكيس.
الملك :
يوما انصحي لابنتك أن تعدل عن طلبها؛ لأنه لا بد لأحد منا أن يرجع في قوله؛ أما أنا فلا، أما بنتك فتقدر على العدول.
يوما :
لست أدري بماذا تنفعها رأس هذا الشقي. تخلي يا ابنتي عنها واطلبي حليا ومالا، اطلبي قصرا على ضفة النيل أو اطلبي ضيعة تستثمرينها.
ساتيني (إلى الملك) :
أنت طلبت مني الرقص والغناء ففعلت رغم إرادتي ووعدتني أن تجيبني ... إني أريد رأس هرماكيس.
الملك (باضطراب) :
إذن فليكن لك ما طلبت. ادعوا الجلاد يقطع رأس السجين (يسود السكون وفي وسط السكون يسمع عويل أم هرماكيس)
من تكون هذه المرأة؟
أحدهم :
أم السجين (يدخل جلاد ومعه تابع وفي يده سيف مجرد. تنشد الموسيقى لحنا محزنا. ينزل الجلاد إلى السجن وتظهر علامات التأثر على الجميع) .
هرماكيس (من أسفل السجن) :
هل أنت نذير الموت أم رسول الملك؟ إن كنت نذير الموت فمرحبا، وإن كنت رسول الملك فخذني إليه أقل له الحق في وجهه.
الجلاد :
أنا نذير الموت (جلبة وصرخة «الله والحق» تظهر البغتة على الجميع ويزداد نحيب الأم. الجلاد صاعد وهو أصفر يرتجف وقابض بيده على سيف يقطر دما)
لقد تمت إرادة الملك.
الأم (تدنو رغم مجهود الحرس) :
أيها الملك العظيم، لقد أبيت قتل ولدي عقابا على طعنه في الآلهة، وأمرت بقتله إطاعة لرغبة امرأة فاسقة. مر الجند يسلموني جثته أحفظها وأدفنها في جنب أبيه.
الملك :
لك ذلك أيتها المرأة. سلموا إليها جثة ولدها (تستخرج الجثة فعندما تراها ساتيني ترتمي عليها) .
ساتيني :
هرماكيس، هرماكيس ... ها أنت بين يدي فتكلم يا حبيبي أطفئ شعلة حبي بقبلة من فمك الصامت، وهدئ قلبي المروع بنظرة من عينيك الناعستين. هرماكيس لقد تمنعت عني حيا فها أنا أضمك إلى صدري ميتا (وتضم الجثة إلى صدرها) . هرماكيس يا أملي كيف قطع السيف عنقك الذي كنت أريد أن أقطعه تقبيلا؟! هذا شعرك المجعد وتلك لحيتك الجميلة. هرماكيس، أجب صوت عاشقتك، أجب ندائي فإنني لا أزال أحبك ستبقى جثتك معي إلى أن أموت (وتقبل وجهه بشغف)
إني أشرب دمك ليطفئ ظمأ قلبي. هرماكيس تنفس أنفاسك الأخيرة بين نهدي ولطخ صدري بدمك. إني أسمع صوتك وأشعر بأنفاسك مترددة. هرماكيس أريد الموت لأدفن معك فيلمس جسدك جسدي، لا أريد أن يحنطوني لئلا تحول اللفائف بين صدري وصدرك. هرماكيس هرماكيس إنني أحبك (تقبله وتبكي) . (نيتوكيس تدنو من ساتيني فترى رأس ولدها، فتمزق ثوبها وترفع يديها إلى السماء وتصرخ ووالداه. تسقط ميتة.)
الملك (مضطربا) :
ماذا أصاب تلك الوالدة الحزينة.
أحد الجنود :
أدامت الآلهة حياة الملك.
الملك :
لا بد من العناية بدفن جثتها، علي برئيس الحرس.
الجندي :
إنه ليس هنا.
الملك :
أين هو؟
الجندي :
قتل نفسه.
الملك :
متى؟ ولماذا؟
الجندي :
منذ ساعة لأن الأميرة ساتيني لم تنظر إليه نظرة الرضى.
ساتيني :
هرماكيس أجبني، إنني لا أسمع إلا صوتك ولا أرى إلا وجهك.
الملك (ناهضا مستفظعا. إلى الجند) :
لقد أهرقت تلك المرأة دماء كثيرة، فليمتزج دمها بتلك الدماء الطاهرة. أيها الجند اقتلوها (تطعنها الجند بالحراب والخناجر) .
ساتيني (تسقط صارخة) :
هرماكيس أنت تدعوني إليك فها أنا. (تمت الرواية بحمد الله وحسن توفيقه .) (ليون 14 شارع رامبارديني صباح الثلاثاء 2 / 11 / 1909
محمد لطفي جمعة)
قلب المرأة
قصة تمثيلية في خمسة فصول
القاهرة سنة 1915
الفصل الأول
المشهد الأول (هورتنس - جودياس)
هورتنس :
أمرتني السيدة أن أطلب منكما التفضل بانتظارها، فإنها على وشك أن تعود.
جودياس :
سننتظر ربع ساعة فإن لم ترجع عدنا للقائها في وقت آخر.
هورتنس :
لكما الرأي (تخرج) .
المشهد الثاني (جودياس - لورنزو)
جودياس :
إنها ألحت علي أن أستقدمك، فهي لا تلقاني إلا ذاكرة لك طالبة مني أن أمهد لها سبيل لقائك، وما زلت أمنيها وألطف بها وأعدها وأخلق الأعذار؛ ذلك لما أعلمه من رغبتك عن النساء وحذرك عشرتهن أيها الفيلسوف، وحدثتني نفسي أن أغازلها لا شغفا بها، وإن كانت ذات محيا باهر الوسامة ساحر القسامة، ولكن لأنجو من لجاجها في طلب فلاينتها في الحديث فلم أفلح، وكنت أتقي مواجهتها حتى كان أول أمس، فاعترضتني وكادت تأخذ بتلابيبي ولم تطلقني حتى أقسمت لها أن لا ألقاها بدونك، وها نحن جئنا لهذا الغرض، فإذا هي مشغولة بسوانا وغائبة عن دارها.
لورنزو :
وما شأن تلك المرأة؟ كدت تشغلني بها على الرغم من عقيدتي في النساء ونفرتي منهن، بل ماذا تريد مني؟
جودياس :
ما يطلب النساء من الرجال.
لورنزو :
دع المزح جانبا، هل ذكرت لك أنها عرفتني أو رأتني قبل اليوم؟
جودياس :
كيف لا تذكرها؟ وهي تؤكد لقاءكما وقد وصفتك لي وصفا صادقا، وحرصت على مكان اللقاء وزمانه فأمسكت ذكرهما.
لورنزو :
وهذا الحرص أدعى للريب، ولكن قل لي ما سيماها؟ وما صفتها؟ وهل لها ما تفضل به غيرها من النساء؟
جودياس :
إن لها جمالا يشوبه الوهن والرقة، وكأن وجهها صفحة من سحر القدماء. وكأن لها في كل بنان لسانا ناطقا. أما صوتها فيسارع إلى القلب ويبقى به. وهي عدا ذلك ذكية الفؤاد فصيحة القول خلابة الحديث رقيقة الشعر. وهي تهمك فيما تشاء من عبث ولهو.
لورنزو :
أراك تصفها بلسان عاشق، ومن يسمعك تحكي عنها ما حكيت لا يرتاب في أنك ستلقى حتفك في حبها.
جودياس :
لو كنت عاشقا ما جلبت مزاحما. لعلك أنت ملاق حتفك في هذا السبيل.
لورنزو :
لقد أغلظت عليك وأرغمتك. ولعلك تجمعنا لتريها معائبي فتزهد في ويخلو لك الجو.
جودياس :
أنت إذن سيئ الظن بي. إنني أعلم بغضك النساء. وقد ذكرت لها أنك رجل لا تستخفك البيض الحسان، وأن في أغوار نفسك ينفجر ينبوع من الطهر والتقوى، بل أنت القديس أنطوان.
لورنزو :
لقد أتيت الدار من غير بابها يا صاح، وقلت لها ما يزيد تعلق المرأة بالرجل، ولو عرفت قلوبهن لذكرت لها أني زير نساء.
جودياس :
كانت تكذبني المشاهدة؛ أي زير نساء يطلق لحية كثة كلحيتك؟! ويجهل فنون التجمل والتظرف مثلك؟
لورنزو :
وهل لها زوج أو مطلقة وما مصدر رزقها؟
جودياس :
لم أسألها عن زوجها، ولم أر رجلا يصحبها سوى ابنها وهو هذا الطفل النائم.
لورنزو (عند سرير الطفل) :
ما أجمله! أيشبه أمه؟ هل أقبله؟ ما رأيت أدعى إلى الحنان والحب من طفل نائم. طاب نومك أيها الصغير.
جودياس :
إذن اخفض من صوتك لئلا تقطع عليه أحلامه ... هل هذا حنان زوج الأم؟
لورنزو :
دع عنك المزح. أتعرف مصدر رزق أم هذا الطفل؟
جودياس :
أراها في ميسرة ولنفسها كرامة تحرص عليها. وعلمت عرضا أن لها من يمدها بالمال ولعله زوجها.
لورنزو :
إذن بينها وبينه قطيعة. إن ما سمعته عنها يحبب إلي لقاءها، ولكن لا بد لأمرها من سر.
جودياس (على مقربة من البلكونة) :
ما قصدك؟ وماذا حل بك؟ ولم تغيرت؟
لورنزو :
إنني لا أتطير، ولكنني أشعر على رغم إرادتي أن حادثا جليلا يدهمني.
جودياس :
ما تعني بذلك يا لورنزو؟
لورنزو :
لعل الأقدار هيأت لي أمرا واقعا.
جودياس :
لا تجعل للأوهام تأثيرا في نفسك.
لورنزو :
إن للنفس إشرافا على المستقبل ورجوعا إلى الماضي.
جودياس :
ما هذا القول الذي لم أتعود مثله منك؟
لورنزو :
قال لي أبي حين وداعنا إذا شعرت بأن أمرا خطيرا سيقع لك ففر منه فلربما اتقيت بالإدبار سهام القضاء، ونجوت بالفرار من الوقوع في حبائل القدر. فهيا بنا يا جودياس، بل ابق وحدك فإن ظفرت بلقاء تلك السيدة فلاطفها وتودد إليها ولا تجعل لها من اليوم سبيلا إلى سؤالك عني، وقل لها إني سافرت.
جودياس :
سأفعل.
لورنزو (عند سرير الطفل) :
وهنيئا لك حب الساحرة، ولكن قبل انصرافي سأقبل هذا الطفل.
جودياس :
حذار أن توقظه (تدخل مويلف) .
المشهد الثالث (مويلف - جودياس - لورنزو)
مويلف :
طابت ليلتك يا سيدي، إن من يداعب الطفل بشماله يمسك قلب الأم بيمينه. شكرا لك يا سيد جودياس لقد بررت في قسمك. تفضلا بالجلوس واعذراني عن طول غيبتي وانتظاركما، طالما سعيت للقائك. لا تدهشك رغبتي في لقائك، فقد اجتمعنا قبل اليوم ... ألا تذكرني؟ إنني لا أنسى لقاءنا الأول حول خوان دي نافا ثم التقينا ثانية على باخرة البحيرة بين أوشي وفيفيان وفي هذه المرة أنعمت في نظرك وكنت حاسر الرأس، ونسيم البحر يعبث بشعرك، وكنت تلقي بنظراتك إلى أقصى الأفق، وكأنك تبصر سراب حلم لم يحقق أو ترقب أمنية تداعب خيالك.
لورنزو (عند سرير الطفل) :
لا أذكر هذا اللقاء يا سيدتي، وددت لو ذكرته.
مويلف :
وللمرة الثالثة التقينا في متنزه مونبون عند مدخل جسر شودرون، فثبت في نظرك وكأني بك كنت تسائل نفسك: أين رأيت تلك السحنة؟
لورنزو :
عفوا ...
جودياس :
إذن تعارفكما قديم.
لورنزو :
ما أوهن ذاكرتي! بيد أنه يخيل إلي أنني أذكر لقاء مونبون كرؤية طال عليها القدم.
جودياس :
حديثكما طلي ومجلسكما لا يمل، ولكن لا يخدع دقات ساعتي.
لورنزو :
سرني تعارفنا يا سيدتي، فشكرا لك ولصديقي.
مويلف :
وأنت أيضا تتركني! ربما كان السيد جودياس نئوما. أرى في عينك أنه لم يحن وقت انصرافك. فابق قليلا. ارجه يا سيد جودياس أن يبقى معي هنيهة. ما سلمت حتى ودعت!
جودياس :
ابق يا صديقي. أما أنا فعرضت عذري.
لورنزو :
لا بأس إلى الملتقى.
جودياس :
إلى الملتقى إلى الملتقى. لا تترك السوداء تتسلل إلى قلبك (يخرج جودياس) .
المشهد الرابع (مويلف - لورنزو)
مويلف :
نستطيع الآن أن نتحادث بلا رقيب. ما لك سكت؟ هل ألمك انصراف صاحبك؟
لورنزو :
كلا! قد يظهر بي بعض انفعال وهو نتيجة حوادث الليلة .
مويلف :
وأنا أشد انفعالا وتأثرا، وأوشك أبكي وكنت أنتظر هذا عند لقائك.
لورنزو :
لماذا؟ هل أحزنك حضوري؟
مويلف :
كلا! من الناس من يحقق لقاؤهم أعظم الآمال أو يكذبها.
لورنزو :
وما هو أعظم آمالك؟
مويلف :
أقصى آمالي ظفري بنفس تكون شقيقة نفسي، ألتمسها منذ شعرت بوجودي.
لورنزو :
وكيف تسعين لتحقيق أمنيتك؟
مويلف :
ليت تحقيقها طوع إرادتي، ولكنني عاهدت نفسي أننا إذا التقينا لا نفترق!
لورنزو :
رغم عقبات الحياة ومتاعبها؟!
مويلف :
الإرادة الصادقة فوق كل شيء، وليس للإرادة مظهر أعظم من تطلع النفس للسعادة، وليس للسعادة من وسيلة سوى الحب.
لورنزو :
أراك تلتمسين السعادة والحب وغيرك يراه مصدر الشقاء.
مويلف :
الحب حبان؛ حب رشد وحب ضلالة.
لورنزو :
كيف تمييزهما؟
مويلف :
قلبك يقودك ولا يخدعك.
لورنزو :
ألا ترين الصداقة إذا توثقت عراها بين نفسين شقيقتين قامت مقام الحب؟
مويلف :
إن الصداقة بين رجل وامرأة وسيلة لا غاية. أتؤمن بحب ينقض على شخصين انقضاض الصاعقة؟
لورنزو :
وما هذا الحب الرائع؟
مويلف :
ليس رائعا إنما هو حب قوي لا يعرف النفاق ولا الحيلة، ولا يطيق الصبر، فلا يخدع ولا يخدع، بل يدفع بالنفسين كما يدفع مولد الكهرباء بتيارين قويين.
لورنزو :
إنما أعرف أن شخصين يلتقيان للمرة الأولى فيشعر أحدهما بأن صلته بالآخر ترجع للأزل، وأن صوته صاعد من أعماق قلب الزمان لشدة اطمئنان السمع وسكون القلب إليه.
مويلف :
أيطول مقامك بهذا البلد؟
لورنزو :
ربما طال أسبوعا لأنني سأشتو بباريس.
مويلف :
وأنا أشتو بها ولكن لن أبرح لوزان قبل شهر.
لورنزو :
أي شيء يحملك على طول الإقامة؟
مويلف :
إن حياتي مرتبطة بأمور شتى منذ انفصلت عن زوجي.
لورنزو :
إذن أنت وحيدة؟
مويلف :
منذ ثلاث سنين ولا رجاء في العودة إلى حياة العيلة.
لورنزو :
ألم يكن الصلح خيرا لأجل هذا الطفل؟
مويلف :
لقد حدث بعد الزواج خلاف شديد بيني وبين زوجي؛ وكان سببه الفرق البعيد في المزاج والطبع وخلق الزوجين.
لورنزو :
ألا تؤلمك الوحدة؟
مويلف :
إن الوحدة ذاتها لا تؤلم، ولكن المؤلم الموجع حقا هو أن بعض الرجال يعتقدون باطلا أن امرأة في عنفوان شبابها ما دامت بغير رجل يحميها تمسي ملكا مشاعا ومتاعا مباحا لكل الرجال.
لورنزو :
خففي عنك إنه لا يظن هذا الظن إلا الأنذال.
مويلف :
إذن كان أنذالا معظم من لقيت من الرجال، ويحدث أن الرجل الذي لا نشتهيه يلقي بنفسه على أقدامنا والرجل الذي نميل إليه لا يشعر بهذا الميل ولا يدركه إلا بعد فرار الفرصة، وحينئذ يندم! (يسمع صفير قطار.)
لورنزو :
آن يا سيدتي أن أودعك فقد طال مقامي.
مويلف :
بل ابق. لماذا اخترت الفراق بعد صفير القطار؟ إنه رمز القطيعة والبعد فلا تفارقني عقيبه. حدثني عن نفسك شيئا فقد حدثتك عن نفسي كل شيء.
لورنزو :
كل ما أستطيع أن أقول إنني طالب طب، وإن مدينة فيزنرة وطني، وأسرتي وسط بين الأسر، وأبي كهل ضعيف الحول والحيلة، وأمي تدبر شئون أسرة كبيرة، وقد فضل أبي أن أرضع لبان العلم مع ما في هذا من الغضاضة عليه على أن أبقى بجانبه يشد بي أزره في تجارته وإسعاد أخواتي (يبدو عليها التأثر)
لماذا تتأثرين من هذا الكلام الهين؟ (تبكي)
أتبكين أيضا إذن فرغت من قصتي.
مويلف :
كلا ... بل استمر. إنك لا تدري مقدار السرور الذي تدخله على نفسي بهذا الحديث.
لورنزو :
وقد قضيت عامين في درس الطب، وبقي لي عامان أقضيهما في غربتي.
مويلف :
ولماذا كان يظهر عليك الحزن حين التقينا ببيت دي نافا؟
لورنزو :
منذ أن أفقت من غشية الطفولة وتنبهت إلى جد الحياة، شعرت باليأس والحزن فزهدت في الدنيا وتبرمت بالناس.
مويلف :
نعم لما بصرت بك قيل لي إن وراء جبينك المكفهر عقلا متقدا وقلبا قلقا ونفسا لا يقر لها قرار. وقد رأيت فيك من روح الحزن والقلق ما حرك كامن دائي. فقلت في نفسي هذا رجل ينقصه الحب! ... أريد أن أبلغك رسالة.
لورنزو :
أية رسالة تقصدين؟
مويلف :
رسالة الربيع إلى القلوب. إن الربيع حدث نفسي ... ونفسي حدثتني أننا التقينا لأن كلانا يحمل للآخر وديعة غالية.
لورنزو :
إن قلبي يجسم هذه الوديعة .
مويلف :
لورنزو! ألا تشعر في قلبك بحياة جديدة؟ ألا تشعر بحرارة في دمك؟ ألا تشعر بحاجة إلى ما يسمونه الحب؟
لورنزو :
أشعر بالحب وأمجده، ولكن أريد أن أحيا بالعقل لا بالوجدان.
مويلف :
إن حاربت الوجدان وازدريته قضيت على نصف الحياة.
لورنزو :
إن حياة الفكر والعقل دائمة لا يسبقها ضعف ولا يلحقها ندم، وما عداها مصحوب بالحسرات قصير الأجل.
مويلف :
إن حياة العقل جليلة جميلة، وأي رجل يدعي العلم وهو لم يذق سعادة الحب؟
لورنزو :
لم يعقني عن الحب إلا خوفي من الحب!
مويلف :
أنت تخدع نفسك. كل عاطفة فيك تطالب بالحب.
لورنزو :
إنني أنتظر الحب ولا أستقدمه.
مويلف :
أيها الفتى لا حاجة بك إلى انتظار الحب فهو قريب منك ... إنه بين جوانحك وجوانح إنسان آخر كالنار الكامنة في تيار الكهرباء اسأل تجب، واطلب تمنح. كسر قيود قلبك الأسير يقم له الحب أفراحا خالدة!
لورنزو :
واغوثاه! لقد تحول قلبي، ليتني سمعت نصيحة أبي. كانت نفسي قبل لقائك هادئة قارة كأنها المحيط العظيم في سكونه، أما الآن فقد أمست تلك النفس كالبحر ... ذهبت بهدوئه الأنواء ومضت بصفوه الرياح، وخلفته العاصفة هائجا مضطربا.
مويلف :
اسمع نصيحة قلبك ماذا يقول لك؟
لورنزو :
يقول لي قلبي إنني ... أحببتك!
مويلف :
إذن ابق بجانبي ... وأنا ما وقعت عيني لأول مرة عليك حتى عشقتك، وكنت قبل ذلك لا أعرف ما الهوى، وكنت أحسب الحب لعبة وملهاة، فأصبحت في حباله أسيرة.
لورنزو :
ما اسمك؟
مويلف :
اسمي كاترين.
لورنزو :
اسمعي يا كاترين، إنني قاس في حبي ... شديد الغيرة مستأثر لأنني أحب في العمر مرة واحدة.
مويلف :
هذا ما يتطلبه قلبي ... أريد حبا قاهرا قاتلا!
لورنزو :
قد آن أن أذهب. دعيني أفكر ليلتي. إنني أخشى أن يستيقظ الطفل أو يفاجئنا أحد.
مويلف :
دع التفكير للغد ولا بد من خلوتي بك الليلة. هيا بنا من هذا المكان الذي لا يطمأن إليه.
لورنزو :
أين ألقاك؟
مويلف :
المحطة موعدنا بعد لحظة.
لورنزو :
إلى الملتقى (يخرج) .
المشهد الخامس (مويلف - الخادم هورتنس) (تدق مويلف الجرس لاستدعاء الخادم. تدخل هورتنس.)
هورتنس :
سيدتي!
مويلف :
إن أمرا ذا بال يقتضي غيبتي. سأترك كوستا في حراستك.
هورتنس :
لك الأمر يا سيدتي.
مويلف :
أين قفازي؟ ... إذا استيقظ فأخبريه أني بجواره، وحذار أن يبكي أو ينكشف عنه الغطاء. إلى الملتقى يا هورتنس. اسمعي، إذا جاء أحد فانقلي كوستا في الغرفة المجاورة.
هورتنس :
إلى الملتقى يا سيدتي (لنفسها)
ما بالها ملهوفة تتعثر بأذيالها وتترك ولدها في هذه الساعة من الليل؟! (يطرق الباب.)
هورتنس :
من بالباب؟ ادخل (يدخل الطاهي جوزيف بثياب الفراغ) .
المشهد السادس (هورتنس - جوزيف)
جوزيف :
عزيزتي هورتنس أنت وحدك هنا.
هورتنس :
ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ هل وصل بك إقدامك الأعمى إلى اقتفاء آثاري في غرف السكان؟ اخرج.
جوزيف :
ارحميني لم يقدني إليك إقدامي الأعمى، بل قادني حبي البصير.
هورتنس :
خير أن تخرج يا جوزيف، فقد تيقظ الطفل بضوضائك وثرثرتك.
جوزيف :
إذا رضيت عني فلا أكترث لشيء.
هورتنس :
ثق أنني لا أرضى عنك ما دمت تسلك هذا الطريق.
جوزيف :
أي طريق تقصدين؟
هورتنس :
معاكسة امرأة ذات بعل وطفل مثلي ...
جوزيف :
بعلك شيخ قليل الكسب سيئ الخلق.
هورتنس :
لا أطيق سماع شتم زوجي، وأعد الرجل الذي يغتاب زوجا في حضرة امرأته نذلا يستحق العقاب.
جوزيف :
هورتنس، ما بالك تشتدين في معاملتي؟ إنني أكفل لك حياة طيبة وأصون جسمك عن تعب العمل، وأنقذ نفسك من ذل الخدمة.
هورتنس :
وأنا أختار الفقر مع الشرف وأوثره على الغني مع الابتذال؛ لأن لي طفلا صغيرا هو اليوم حدث لا يملك لنفسه خيرا ولا شرا، ولكنه سيكون غدا فتى ثم شابا ثم رجلا، فلا أريد أن أفعل ما يدنس شرفه ولا أريد أن يعيش بين الناس متعثرا في أذيال الخجل والعار، فإن عشت نهرني وإن مت لعنني في قبري.
جوزيف :
إن سيداتي وسيداتك لا تبلغ بصائرهن مرمى بصيرتك، فما أبعد نظرك!
هورتنس :
لا تسخر مني لأنني فقيرة. إن لسيداتي وسيداتك من وفرة المال وبعد الحسب وسعة الجاه ما يغنيهن عن الشرف.
جوزيف :
إنني لا ألتمس منك إلا ...
هورتنس (مقاطعة) :
خير لك أن تخرج.
جوزيف :
إذن إلى الملتقى (يمد لها يده) .
هورتنس :
إلى الملتقى.
جوزيف :
حتى يدك تضنين بها؟ لا أريد أطراف البنان، ولكن أريد كفك الناعمة.
هورتنس :
أرسل يدي وإلا استغثت.
جوزيف :
الوداع يا هورتنس (يخرج بظهره) .
هورتنس :
اذهب بسلام (يخرج) ... (لنفسها)
مسكين يا جوزيف.
جوزيف :
هل دعوتني؟
هورتنس :
كلا، لم أدعك.
جوزيف :
يخيل إلي أنني سمعتك تذكرين اسمي.
هورتنس :
كيف أطردك وأدعوك في آن؟
جوزيف :
قد يحدث هذا لأنني أرجو وأنت قد ترحمين.
هورتنس :
لا تعد إلى هزئك وهذرك. احبس آمالك على ما هو أنفع لك وأقرب منالا، ودع رحمتي فإن زوجي وطفلي أولى بها منك.
جوزيف (يخرج بظهره) :
الوداع يا هورتنس العزيزة، يا هورتنس الجميلة، يا هورتنس الشريفة، وسأعاود الكرة فلربما ... وقد جاء في المثل السائر إن أشد الحصون مناعة ... قد ناله ... (يدخل كراشوف فيصدم بطنه بظهر جوزيف فيبهت الأخير ويهرول معتذرا) .
المشهد السابع (كراشوف - هورتنس)
كراشوف :
هذا مسكن سيدة روسية اسمها مدام مويلف؟
هورتنس :
نعم يا سيدي؟
كراشوف :
وأين هي؟
هورتنس :
خرجت ولا تلبث أن تعود.
كراشوف :
هذا ولدها ... أود لو أقبله وأخشى أن يستيقظ. هل تطول غيبتها؟
هورتنس :
خرجت قبيل الساعة التاسعة.
كراشوف :
سأبقى في انتظارها، ولكن إلى أين تأخذين هذا الصغير؟
هورتنس :
أمرتني السيدة أن أنقله إذا طرق زائر.
كراشوف :
حتى ولو كان الزائر أباه؟
هورتنس :
سيدي.
كراشوف :
حسن. افعلي ما أمرت به.
هورتنس :
الطاعة أولى (تخرج وتدخل مويلف) .
المشهد الثامن (كراشوف - مويلف)
كراشوف :
لا شك يدهشك قدومي بغير علم سابق، فقد مضى على فراقنا ثلاث سنين. إنما جئت لأرى الطفل فإذا هو ينقل بأمرك من بين يدي. ولكن أرجو أن يكون الزمن قد ضمد الجراح القديمة. أنت طيبة القلب سريعة النسيان على أن خطأك كان أعظم من خطئي.
مويلف :
لم أدهش مطلقا، وحق لك أن ترغب في مشاهدة الطفل. غير أن بعض الجراح لا تلتئم.
كراشوف :
ألا تزالين تذكرين صداقك ومصوغك؟
مويلف :
لا تذكر هذه السفاسف. إن أكثر الأزواج طامعون في مال أزواجهن ليبددوه في تجارة أو قمار، وكثيرون يفعلون مثلك يبددون أموال أزواجهم وأبنائهم في الإنفاق على معشوقاتهم، وهذه جريمة لا تقوى المرأة على غفرانها. على أنني نسيت وعفوت وحاولت أن أعيش في جنبك عيشة راضية، ووقفت قلبي وحياتي على إسعادك وتربية ولدي.
كراشوف :
وإذن ...!
مويلف :
كنت تعود إلي ثملا كريه الرائحة بشع المنظر ... وكنت حينا تعود مهتاجا فتزعج الخدم والطفل، وتطرق بابي طرقا مرذولا. وكم مرة حاولت اغتصابي قبيل الفجر.
كراشوف :
اغتصابك! كيف يجري هذا اللفظ على لسانك؟
مويلف :
إن المرأة وإن كانت زوجا ليست لعبة للرجل، إنما هي إنسان كالرجل؛ عليها حقوق ولها حقوق وأعز وأغلى حقوقها أن تعامل معاملة الإنسان الحر.
كراشوف :
وهل لديك تهمة أخرى؟
مويلف :
أتطلب مني أن أذكر لك ما هو أعظم؟
كراشوف :
إنك قاسية القلب تذكرين أمورا تدعين أنها ذنوبي وتعرضين عن ذنوبك وهي بالذكر أحرى.
مويلف :
وما ذنوبي إليك؟
كراشوف :
تزوجت منك وقد ضممتك إلى صدري ليلة زفافنا، ومنيت نفسي بالاستئثار بك والتمتع معك بسعادة الحياة العائلية ... فصدقت آمالي عاما واحدا حتى دهمنا ذلك الشرير الخائن هاكيبوش.
مويلف :
أتوسل إليك أن لا تذكر الماضي.
كراشوف :
لم أقاطعك فدعيني أتمم حديثي وأندب حياتي التي أوديت بها وشيخوختي التي سودت صحيفتها. لقد دخل الشرير هاكيبوش بيننا فصحبته البغضاء والشقاق لأنه تمكن من التغرير بك فتمكن من قلبك.
مويلف :
لا ترفع صوتك إنك تزعج الطفل في الغرفة المجاورة.
كراشوف :
إن حديثنا هذا لا يقطع عليه أحلامه. اشربي كأس الملام حتى آخر عكرها. إنك منذ عرفت هاكيبوش جهلتني وساء خلقك؛ فأهملت بيتك وهان عليك هجره، وكنت إذا جرؤت على سؤالك أقمت مأتما، ونهرتني حتى كدت أتهم نفسي، وما زلت بي حتى أذللتني وأرغمت أنفي فصرت أخافك وجعلت مني مخلوقا جبانا واهن الإرادة، وقضيت على شهامتي وإبائي وحاولت أن تقضي على شرفي.
مويلف :
كفى ... كفى! لو علمت أنك ستقيم سوق العتاب والشكوى ...
كراشوف (مقاطعا) :
دعيني أشرح لك علة استرسالي في المعاقرة والمقامرة ... إنني بعد أن رأيت نفسي ضعيف الحول والحيلة ... بدأت أشرب وأطرق أبوابا غير بابي، وكنت أشرب لأغرق همومي في كئوس الخمر المترعة؛ لأنني إذا عدت إليك مبكرا تحولت عني وادعيت أنك منهوكة القوى، وإذا عاودتك متأخرا أقمت مناحة؛ فأمست شيخوختي جحيما لا يطاق.
مويلف :
بوريس كراشوف خفض من صوتك. أخشى أن يستيقظ الطفل فينكرك.
كراشوف :
دعيني أتكلم كما تكلمت. أتذكرين ماذا حل بك بعد أن قاطعك هاكيبوش؟ لقد فقدت بفقد حبه راحتك وهدوء نفسك، وحاولت الرجوع إلى طبيعتك الأولى فلم تقنعي بحب شيخ مثلي، فبماذا تطفئين نار هذا الفراق المحرقة؟ اختلقت بدعة السفر إلى باريس في طلب العلم، فلم أصدق عزيمتك وحاولت منعك فتهددتني بالطلاق وطالبتني بالصداق؛ فأطعتك مرغما وأعددت معدات السفر.
مويلف :
إنك تشوه أعظم الأشياء وأجملها.
كراشوف :
دعيني أشوه ما شئت ... لقد أقمت بباريس نصف عام ولم تكتبي إلي إلا طالبة مالا أو مستبطئة ردا.
مويلف :
ويلاه من بهتانك واختلاقك!
كراشوف :
ويلاه من مكابرتك!
مويلف :
أعندك بعد هذا شيء؟ ... حسبي باعثا على كراهيتي إياك أن كنت لي زوجا!
كراشوف :
حسبي سببا لكراهيتي الحياة أن كنت لي أهلا. لقد عدت ولم يمض على عودتك أسبوع حتى وضعت.
مويلف :
كراشوف! أتوسل إليك لا تزد. إن الطفل نائم وأنت تذكر أية إهانة ألصقت بي وبه (تبكي)
إنك لا تأمن عاقبة تحمسك ولربما خانك طبعك.
كراشوف :
ليس بين الجرائم أفظع من جرمك. إن المرأة التي تحمل من غير ...
مويلف (مقاطعة) :
كراشوف! لا أسمح لك أن تزيد.
كراشوف :
لا تقدرين لي على مكروه.
مويلف :
احترم بيتي!
كراشوف :
لم تراعي لمنزلي حرمة، ولم تقيمي لشرفي وعرضي وزنا. إن من تحمل وهي بلا زوج مغفورة الذنب، ولكن الزوجة التي تحمل جنينا من الطريق، وقد يكون ابن مجرم أو مجنون وتدسه على زوجها الغافل ينشأ في حجره ويمرح في نعمته ثم يحمل اسمه ويرث ثروته ...
مويلف :
كراشوف! إنك تجاوزت الحد.
كراشوف :
إن هذه المرأة (يشير إليها)
يقصر في عقابها حبل المشنقة، وكرسي الكهرباء، وسكين دبلر!
مويلف :
كراشوف ماذا جاء بك هذه الليلة؟ (لنفسها)
في صفو الليالي يحدث الكدر!
كراشوف :
لقد صبرت واحتملت كثيرا وأشفقت عليك وعلى طفلك، فلم تقنع نفسك بهذا الصبر وهذا الرضى، وعلمت الطفل بغضي واحتقاري، وأرضعته مع اللبن كراهتي، واغتررت بصبري، وأردت أن تجعلي خدرك لكل الناس مضجعا، حينئذ ثارت العواطف الكامنة في نفسي وبعثت شهامتي من مرقدها، وصغرت أعظم الجرائم في نظري، وحاولت قتلك ولم ينقذك من يدي إلا الخدم ورجال الشرطة.
مويلف :
وبعد يا بوريس كراشوف!
كراشوف :
وبعد جئتك ناسيا أو متناسيا غافرا بعد ثلاث سنين من فراقنا أطلب إليك أن تعودي إلى خدرك، فما قولك؟
مويلف :
هذا لا يكون أبدا. أتظنني فقدت صوابي حتى تدعوني إلى عشرتك؟
كراشوف :
أتقضين حياتك متنقلة تتعثرين في أذيال الحاجة، وتجرين وراءك هذا الطفل الشقي يتخبط في ظل الجهل والفساد؟
مويلف :
هذا خير من عشرتك. اصنع لنفسك من الجميل ما تريد صنعه لنا.
كراشوف :
إذن لماذا كنت تبكين الساعة؟
مويلف :
بكيت على الذكرى التي أحييتها في قلبي لا شفقة عليك ولا حنينا إلى عشرتك.
كراشوف :
احذري عاقبة تهورك، لقد جرحتني جرحا لا يندمل فلا تهرقي دما جديدا.
مويلف :
وما شأني بجروحك الدامية والمندملة؟
كراشوف :
أيتها المرأة كاترين كراشوف ...
مويلف :
لا تدعني بهذا الاسم الذي دفنته، ولا تبعثه من قبره.
كراشوف :
هل ذهبت فظاعة ذنوبك بصوابك؟
مويلف :
ألقاني حظي بين براثنك ثم أنقذني.
كراشوف :
لا تزيدي أيتها الكاذبة الخائنة.
مويلف :
ماذا تريد من امرأة لا تحبك؟
كراشوف :
أإلى هذا الحد وصلت بك المجازفة؟
مويلف :
قلب المرأة لا يباع ولا يشترى، ولا قيمة للعقد الشرعي إذا لم يربط الحب قلب الزوجين، وقد أحببتك في بداية زواجنا إذ قيل لي إنك زوجي وفي حل من جسمي، فلما فقهت معنى الحياة ضننت عليك بحبي.
كراشوف :
ما هذا الخلط أيتها المرأة؟ لقد اغتلت ثلاث سنين من شبابي! ... أعزيك عن عقلك.
مويلف :
إن شباب المرأة حياتها وثروتها.
كراشوف :
سأقطع نفقتك لعل الفاقة ترد عليك عقلك (يهم بالخروج فيطرق الباب) .
مويلف :
ادخل ... ادخل ... ادخلوا ... ادخلن!
المشهد التاسع (لورنزو - مويلف)
لورنزو :
عفوا إني منصرف.
مويلف :
بل ابق، هذا زوجي القديم. ها هو قد انصرف. إنه لا يتلفت ... حبيبي لورنزو، ما الذي جاء بك في هذه الساعة فقد أنقذتني. إنك ملاكي الحارس. منذ عودتي من خلوتنا الأولى أخذت أسائل نفسي أوقد مضى؟
لورنزو :
وددت لو لم أره ... جئت لأن قلبي دفع بي إليك، فشئت أن أطمئن عليك قبل رقادي.
مويلف :
وأين تذهب؟ أتتركني؟
لورنزو :
نعم وسألقاك غداة غد.
مويلف :
هل تركت رؤية هذا الشيخ المجنون في نفسك أثرا؟
لورنزو :
لا تصفيه بالجنون فقد رثيت لحاله!
مويلف :
أترثي لشيخ أسير شهواته ولا ترثي لامرأة تحبك؟! هذا الشيخ فان وقعت له فتاة تمتع بها أمدا، فلما تفهمت معنى الحياة حاولت إطلاق نفسها من ربقة هذا الأسر الشرعي؛ ففرت من سجنها وما زالت تائه حتى ساقت لها الأقدار رجلها المخلوق لها، ولم توشك أن تسعد بلقائه حتى ظهر هذا الشبح المخيف ... فهل من الرحمة أن يتحول قلبك؟ (تبكي.)
لورنزو :
ولكن لا تبكي.
مويلف :
أتلومني لأنني أفلت من هذا الأسر؟
لورنزو :
خففي عليك.
مويلف :
كيف تهجرني؟ إن جسمي لا يزال كليلا من أثر ذراعيك، وقد جمعت رعشة الحب بيننا، فجعلتنا روحا في جسمين، وهذا القلب المسكين الذي لم يخفق قبل الليلة إلا حزنا ورعبا ذاق للمرة الأولى لذة السعادة التي لا تدرك ولا تنسى. لقد فتحت لي بيدك الباب الذي لا تعبره المرأة في حياتها إلا مرة واحدة، فلم أكن عروسا لغيرك.
لورنزو :
لا تزيدي.
مويلف :
دعني أتكلم. دعني أبح بالسر الأعظم، وأصبح أمام الطبيعة الهادئة المتجلية في الجبال والبحيرة وضوء القمر. دعني أغرد بذكر حبك كما تغرد البلابل بليالي وصالها الأولى (تبكي) ... أتحبني؟
لورنزو :
نعم.
مويلف :
وتبقى معي؟
لورنزو :
وسأبقى معك.
مويلف :
إلى الأبد؟
لورنزو :
إلى الأبد.
مويلف :
أقسم.
لورنزو :
أقسم بالطبيعة والحب ... بكل عزيز مقدس لدي أنني أبقي على حبك طول حياتي.
مويلف :
أقسم أنا أيضا؟
لورنزو :
أقسمي أو لا تقسمي.
مويلف :
أقسم بقبر والدي وبرأس ولدي وأشهد الله ونفسي أنني لن أعرف سواك رجلا لي ما دام في نفس يتردد. وأقسم أنني أحبك على البعد والقرب على الفقر والغنى في السراء والضراء (تركع)
أقسم أنني أحبك (تبكي) .
لورنزو :
إنك قرينتي مدى الدهر وحليفتي على الأيام، تؤلف بيني وبينك الحياة ولا يفرق ذات بيننا الموت، وهذه يمين قد ربطتنا معا، ولكن لا تبوحي بما أوثقنا من ذلك الحلف واجعلي أمره سرا مكتما. انهضي (يقبلها باكيا ويتعانقان. يسمع صفير القطار ثلاث مرات، وتسمع حركة قطار يتحرك) . (ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول (فندق راسين في جنيف - لورنزو - راسين - مدام راسين)
لورنزو :
هل تقضون أصيل الأحد بغير لهو وسمر؟ كنت أحسب البيوت في سويسرا شتاء حافلة بأنواع المسرات.
راسين :
لدينا يا سيدي أسباب شتى للهو واللعب، وقد ظهر منذ عشر سنين سبعة وخمسون كتابا في هذا المبحث الجليل.
مدام راسين :
بدأ راسين يحصي ويعد!
راسين (مستمرا) :
إنها أربعة وثلاثون تأليفا وثلاثة وعشرون نقلا من اللغات الأجنبية عدا سبع رسالات صغيرة؛ واحدة منها عن اللغة الصينية وتسع مقالات في المجلات العلمية ومقالتان في جريدة يومية.
لورنزو :
وهل تذكر يا سيدي بعض الألعاب الموصوفة في تلك الكتب؟
راسين :
أجل يا سيدي، وأستطيع شرح مائتي لعبة على الأقل.
لورنزو :
وكم الساعة الآن يا موسيو راسين؟
راسين :
بقي على الساعة الثالثة أربع وعشرون دقيقة وثلاث ثوان فتكون الساعة في باريس الحادية عشرة وربعا وخمس ثوان، وفي جرينوش التاسعة وخمسا وعشرين دقيقة وفي نيويورك السابعة قبل الزوال وفي سان فرانسيسكو الرابعة بعد الزوال وفي يوكاهاما منتصف الثانية بعد الزوال وفي تمبكتو الثامنة بعد الزوال.
مدام راسين :
عزيزي شارل، إن السيد لورنزو يسألك عن الساعة هنا في جنيف، فلا معنى لتحديد الساعات وتوقيع الأوقات في هوكولوما أو هونولولو اللتين ذكرتهما.
راسين :
جان! إن لكل ذرة من العلم قيمة، والعلم بالشيء خير من الجهل به، والشيء يذكر بالشيء. أليس كذلك يا سيدي لورنزو؟
لورنزو :
ولكل ما يقوله السيد راسين شأن في نظري.
راسين :
وفضلا عن ذلك فإنني حر في أقوالي وأفعالي، أي معنى للعلوم الرياضية والفلكية إذا لم نتمتع بها؟ ما قيمة الحياة بدون دقة؟ وكيف الوصول إلى الدقة بدون إحصاء وقياس؟ وكيف الإحصاء والقياس بدون أرقام وأعداد ومقارنات ومقابلات؟
مدام راسين :
إنك تضايق الناس باسترسالك في العد والحصر إلى ما لا نهاية.
لورنزو :
ألا تنتهين يا جان؟ إنك تخرجين عن حدودك وتخرجينني عن حلمي.
مدام راسين :
إن خروجي عن حدودي ينبهك إلى أمر ذي بال.
لورنزو :
هل يلام أحد على الاهتمام بالعلوم والمعارف؟
راسين :
إنني أحفظ عن ظهر قلب كل إحصاء نافع للإنسانية والتاريخ؛ ذلك أنني عضو في جمعية الإحصاء الدولية ومشترك في مجلتها، وحضرت كل مؤتمراتها التي عقدت في سويسرا، وأستطيع أن أعد لساعتي جميع من تولوا من باباوات رومة وأباطرة الصين ورؤساء وقبائل الهنود الحمر وأصنام شعوب أفريقيا الوثنية وملوك المصريين القدماء ومحطات السكك الحديدية في سائر بقاع الأرض، وأعلم قدرا وافرا من شئون الأمم المعاصرة بفضل الإحصاء. فليحي الإحصاء!
لورنزو :
ما شاء الله! مرحى! مرحى! ... إذا كنتم عدلتم عن قضاء الوقت بالسمر فاسمحوا لي أن أقطعه بالمطالعة في غرفتي.
راسين :
هل لديك كتب كثيرة يا سيدي؟
لورنزو :
أحمل معي دائما مكتبة متنقلة مؤلفة من أعز كتبي.
راسين :
حسنا تفعل، ولو أنك قصدت دار الكتب البلدية وجدت بها مائتي ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين كتابا بين مخطوط ومطبوع منها مائة وثلاثة وخمسون ألفا.
جانيت :
سيدي، بعضهم يسأل عنك بالتليفون.
راسين :
ها أنا ذاهب ... وثلاثمائة وأربعون بلغات شتى منها اليونانية والعربية والصينية (يخرج مستطردا)
حقا إن موسيو ديبوا يطلبني (يصافح الجميع)
أصافح في كل يوم من أيام السنة أربعين شخصا ماعدا أيام الأحد فإنني أصافح أربعة فقط، فمجموع من أصافح ثلاثة عشر ألفا وخمسمائة شخص؛ موسيو بانجيون عشرين مرة، وقد فقد أصبعه في مصادمة فأصبحت يمينه ذات أربع أصابع فقط على أن هذه المصادمة لم تكن من المصادمات ...
مدام راسين :
أسرع يا عزيزي شارل، فإن الوقت أزف.
راسين :
ها أنا ذاهب وسأقطع من هنا بواسطة الترام طريقا طولها مائة وخمسون مترا في الساعة، فيقطع المسافة ما بين سان جورج وشارع الكوارتري في سبع عشرة دقيقة وثانيتين، فأصل لتسع وعشرين دقيقة وثلاث ثوان خلون من الساعة الرابعة ... والآن أستودعكم الله جميعا (يخرج) .
الجميع :
مع السلامة ... مع السلامة!
مدام راسين :
أف من زوجي ... اسمحوا لي قليلا أن أتفرغ لتدبير نزلي ... أسعد الله مساءكم (تخرج) .
المشهد الثاني (مويلف - لورنزو)
مويلف :
أف لراسين ... دعني يا عزيزي لورنزو أقبلك أربع قبلات، الأولى في جبينك ... والثانية والثالثة في خديك ... والرابعة في فمك ... ثم اثنتان في عينيك (تقبله) .
لورنزو :
كفى تقبيلا.
مويلف :
لو أحصينا القبل التي تبادلناها منذ تعارفنا كان الإحصاء هكذا ... عرفتك منذ تسعة شهور فلو كان متوسط القبل التي نتبادلها كل يوم خمسين قبلة. وفي التسعة الشهور سبعون ومائتا يوم ...
لورنزو :
يجب أن تطرحي أيام الخصام.
مويلف :
دعني أحسب أولا، سبعون ومائتان في خمسين يحصل خمسمائة قبلة وثلاثة عشر ألف قبلة. وإذا طرحنا أيام الخصام يكون ما فاتنا من القبل خمسمائة وقد عوضناها عقيب الصلح.
لورنزو (يضمها) :
عزيزتي كاترين ما أعظم سعادتي بقربك! وما ألطف روحك وأرق شمائلك! (توقع على البيانو بعض ألحان شوبان)، (مستطردا)
لشد ما يعروني الحزن كلما أذكر الرجل الذي كان يحبك وأنت لا تحبينه!
مويلف :
أتوسل إليك أن لا تذكره.
لورنزو :
أين هو الآن؟
مويلف :
إنه بعيد عنا، وقد رأته زينا في بطرسبرج قبيل سفرها، وهو بلا ريب ينفق مرتبه في ملاذه.
لورنزو :
ومن هي زينا التي ذكرت لساعتك؟
مويلف :
فتاة استقدمتها لتتعهد كوستا، وهي من طالبات العلم اللائي قعد بهن الدهر فلم تتمم دروسها. دع عنا هذا كله ولنعد إلى حديثنا الأول ... كيف وقع حبي في قلبك؟
لورنزو :
رأيتك فأحببتك؛ لأن نفسك شقيقة نفسي وقد تعارفنا منذ الأزل، وعاقتهما من اللقاء حوادث الأجيال ثم اجتمعتا!
مويلف :
كيف يدوم حبنا؟
لورنزو :
كيف تصونين نور المصباح في ليلة ذات ريح عاصفة.
مويلف :
أحوط الشعلة بيدي فلا يطفئها الهواء.
لورنزو :
كذلك الإخلاص والوفاء يحفظان الود. فحوطي بهما حبنا المقدس.
مويلف :
أعاهدك وأقسم لك إنني سأحوط حبنا بالإخلاص والوفاء ما دمت حية (تدخل جانيت تحمل خوان الشاي) .
مويلف :
شكرا لك يا جانيت ... اتركي الشاي فسأتولى الخدمة بنفسي (تطعم لورنزو وتسقيه الشاي)
يا طفلي المعزز.
لورنزو :
شكرا لك يا حبيبتي (تدق الساعة الخامسة) .
مويلف :
الساعة الخامسة، آن عودة كوستا من نزهة الجبل، سأذهب للقائه.
لورنزو :
هل أصحبك؟
مويلف :
كلا، أفضل أن أعود لألقاك؛ لأنني أشعر عقيب كل فراق ولقاء بلذة لا توصف إلى الملتقى.
لورنزو :
سأبقى.
المشهد الثالث (تدخل أنطونيا)
أنطونيا :
جئت أبحث عن مدام راسين لأمر ذي شأن.
لورنزو :
تفضلي فاجلسي.
أنطونيا :
ليس هذا وقت السمر.
لورنزو :
وهل للسمر وقت معين؟ إننا في الحياة كالسفن الماخرة عباب المحيط، لا توشك سفينة أن تلتقي بأخرى حتى تفرق بينهما عاليات الأمواج وعاصفات الرياح.
أنطونيا :
كلامك عذب ولكنه يترك في نفسي حسرة لا تزول.
لورنزو :
لم يفتني أنني في حضرة آنسة من أرق الأوانس وأعرقهن تهذيبا.
أنطونيا :
شكرا لك. لست على شيء مما وصفت إنما أنا فتاة ساذجة، لا أعرف شيئا من ألغاز الحياة، غير أنني سمعت إحدى رفيقاتي تقول لا يخرج الإنسان من دائرة الجهل الضيقة ويريه الأمور على حقيقتها إلا شيء واحد.
لورنزو :
ما هذا الشيء العجيب؟
أنطونيا :
قالت تلك الرفيقة لي إنه الحب.
لورنزو :
أمر عجيب وهل صدقت هذا القول؟
أنطونيا :
كلا.
لورنزو :
ولم ذلك؟
أنطونيا :
منذ نعومة أظافري أعرف الحب وأعيش فيه، فأنا أحب أبي وأمي وجدي وبنت عمي، وكنت في طفولتي أحب عرائسي التي تهدى إلي حبا جما، ومع هذا كله فلا أزال ساذجة لا أعرف شيئا من أسرار الحياة.
لورنزو :
أيتها الآنسة الجميلة، اعلمي أن صاحبتك لم تكذبك قط، بل وقفتك على الحقيقة بعينها ولم تخدعك، بل أرشدتك إلى مصدر العلم والسعادة في هذه الحياة.
أنطونيا :
كيف ذلك؟
لورنزو :
إن الحب أيتها الآنسة ... (يدنو منها. تدخل مويلف) .
مويلف :
موسيو لورنزو أريد أن أقول لك كلمة.
لورنزو :
إيذني لي أيتها الآنسة.
مويلف :
أظنك تستطيع أن تسارع إلي فيما أريده، فلعل بي حاجة إليك.
أنطونيا :
عفوا يا سيدتي، عفوا يا سيدي (تخرج) .
مويلف :
آن لك أن تخبر خلقي، وترعى وجداني، وعار على مثلك أن يكون له قلبان.
لورنزو :
ماذا تقولين يا كاترين؟!
مويلف :
كيف تجرؤ على مغازلة تلك البنت في غيبة المرأة التي أحبتك وبذلت حياتها وسعادتها في سبيل رضاك؟
لورنزو :
لم أكن أغازل تلك الآنسة؛ لأنني لا ألتمس حبي من غير المرأة التي اختارها قلبي، فضلا عن أنها لا تدرك الغزل وما هي إلا فتاة حسنة الظن بالدنيا، آخذة بأوفر نصيب من حرية الفكر والقول.
مويلف :
بدأت تدافع عنها! إنني لا أريد أن أراك في صحبة غيري.
لورنزو :
إنك تخطئين لو ظننت الحب حجرا على حرية العاشقين ... متى كان الحب - وهو أشرف العواطف وأسماها - قفصا تسجن فيه الإرادة والوجدان؟ بل متى كان الحب كمامة توضع على أفواه المحبين تمنع عنهم الهواء الذي يستنشقونه؟ متى كان الحب غشاوة تلقى على أبصار أهل الغرام تعوقهم عن التمتع بالنور الذي به يبصرون؟
مويلف :
ألم تقل إنك ملكي؟
لورنزو :
نعم ملكك بقلبي وإرادتي لا على الرغم منهما.
مويلف :
إذن تريد أن أكون لك وحدك وأنت تكون لكل النساء!
لورنزو :
إن الحب قوة من قوى الطبيعة لا يظهر جماله وجلاله إلا إذا كان حرا طليقا.
مويلف :
إنك تكاد تقتلني غيظا. إنني لا أدرك الحب بدون استئثار متبادل.
لورنزو :
وأنا لا أدرك الحب بدون حرية. وإذا كان حبك يحرمني أعظم نعم الحياة وهي الحرية، فأنا أفضل الحرية على الحب بل على الحياة (يعرض عنها) .
مويلف :
لورنزو، لورنزو أنت تعرض عني!
لورنزو :
حينئذ أستودعك الله (يهم بالخروج) .
مويلف :
موسيو لورنزو ... لورنزو ألا تجيبني؟
لورنزو :
تريدين أمرا يا سيدتي؟
مويلف :
ما هذا الجنون؟ أغضبان أنت؟
لورنزو :
كلا، ولكنني مبهوت.
مويلف :
من أي شيء؟
لورنزو :
مما نعانيه في سبيل الحب.
مويلف :
أتريدني أن أحبك وأحتمل خلوتك بامرأة أخرى.
لورنزو :
وأي شر في ذلك؟
مويلف :
وإذا أدت الخلوة إلى الصداقة؟
لورنزو :
لا بأس!
مويلف :
وإذا أدت الصداقة إلى الحب؟ ألم تكن خلوتنا منشأ صداقتنا بداية الحب؟
لورنزو :
نعم، ولكن ليس كل حب ناشئا عن صداقة، ولا كل صداقة ناشئة عن خلوة.
مويلف :
اعلم يا لورنزو أن الحب الصادق حقود وغيور، إن كنت تحبني حبا عريقا فلا تستطيع أن تصادق امرأة غيري؛ لأن الصداقة المجردة خيانة للحب الصادق.
لورنزو :
إن للرجل وحده حق التمسك بهذا المبدأ.
مويلف :
لماذا؟
لورنزو :
لأنه حي بعقله ثم بقلبه، أما المرأة فحية بقلبها ثم بقلبها.
مويلف :
وعقلها؟
لورنزو :
لا دخل له في الموضوع، فإن خلوت بألف امرأة فلا أتهم بحبهن، ولكنك إن خلوت برجل واحد فإن الشك ينفذ إلى قلبي.
مويلف :
الحق معك. اعف عني ولكن لي إليك أمنية.
لورنزو :
ما هي؟
مويلف :
إن شئت أن تحادث النساء فلا تحادثهن على مرأى ومسمع مني.
لورنزو :
لك ذلك.
مويلف :
إذن لا تزال تنوي محادثة النساء؟
لورنزو :
أنا مازح، إن حديثي مع تلك الآنسة لم يتعد التحية.
مويلف :
شكرا لك فقد هدأت روعي.
لورنزو :
ليتك سألتني قبل الحدة في رفق ولطف (يهم بالخروج) .
مويلف :
إلى أين؟
لورنزو :
لحظة ريثما أحضر رباعيات الخيام.
مويلف :
حسن سأنتظرك وسأعد لحنا أوقعه لك عند عودتك (يخرج وتوقع مويلف بعض الألحان. تدخل جانيت) .
جانيت :
هذا كتاب للسيد لورنزو. ظننته هنا.
مويلف :
كلا إنه في غرفته.
جانيت :
إذن أصعد إليه.
مويلف :
لا بأس، وإن شئت أعطني الخطاب فيتسلمه عند عودته.
جانيت :
هو كذلك يا سيدتي.
مويلف (تنعم النظر في الخطاب وتشمه وتقول لنفسها) :
هذا الكتاب إلى لورنزو. إن ورقه مطيب وهذا الخط خط امرأة. أيخفي عني أمرا يتعلق بامرأة سواي؟ إذن لأقرأنه (تهم بفض الغلاف) ... كلا فلربما أغضبه ذلك، ولا ينبغي إغضاب رجل في نهار واحد مرتين. سأصعد إليه وأفاجئه لأقف على الحقيقة ... كلا إن الرصانة في هذا الموقف أولى (تمزق منديلها غيظا) . أين أنت يا آشعة روتنجن الخارقة؟ بئست الاختراعات والاكتشافات إذا لم تستطع المرأة أن تقف على أسرار الرجال (يدخل لورنزو وبيده كتاب) .
لورنزو :
هل أعددت اللحن؟
مويلف (تخفي الكتاب) :
نعم ووقعته.
لورنزو (يلحظ عليها أنها ساهمة) :
ما لك؟ هل طال عنك غيابي؟
مويلف :
كلا، اسمع.
لورنزو :
ماذا؟
مويلف :
إن لك عندي كتابا.
لورنزو :
أين هو؟
مويلف (تظهره وتقلبه) :
هاكه، ولعله من امرأة تعرفك لأنه مطيب، وقد تسلمته من جانيت في غيبتك.
لورنزو :
مستحيل أن يكون باسمي، وأن يكون من امرأة كما تزعمين. أريني.
مويلف (تتردد) :
ها هو، ولكن ما بيننا يسمح لي أن أقرأ رسائلك.
لورنزو :
وهل استبحت لنفسي هذا الحق فيما يتعلق برسائلك؟
مويلف :
وما الذي يمنعك؟
لورنزو :
لا أريد أن أكون رقيبا عليك لأن التضييق يقتل الحب.
مويلف :
ولكن هذا الخطاب من امرأة.
لورنزو :
من أين لك ذلك؟
مويلف :
من خط العنوان.
لورنزو :
إن بعض خط النساء يشبه خط الرجال والضد صحيح. هاتي الكتاب أنبئك بما فيه.
مويلف :
لا أريد أن أعلم ما تكتبه إليك امرأة أخرى. إن نفسي تحدثني أن يومي سينتهي بحزن شديد.
لورنزو :
إذا كنت تتطيرين منه فها هو بين يديك فأحرقيه.
مويلف :
ألا تحقد علي إذا أحرقته؟
لورنزو :
كلا! ليس في الأمر ما يدعو إلى الحقد.
مويلف :
سأفعل (تشعل عود ثقاب وتدنيه من الغلاف) .
لورنزو :
ولكن مهلا.
مويلف :
هل تقرع سنك ندما؟
لورنزو :
لعل امرأة تطلب المعونة والنجدة.
مويلف :
ولعلها تطلب ميعاد غرام!
لورنزو :
احرقي ... احرقي فأنت الساعة أدعى إلى الشفقة من أية امرأة سواك.
مويلف :
كلا ... خذ كتابك وافعل به ما تشاء. اقرأه واحتفظ به أو احرقه أو مزقه وغض الطرف عن تعرضي لشئونك.
لورنزو :
هذا كلام الغضب وغضب العاشقين غيرة، ولكن لا بأس (ينعم النظر في الكتاب)
حقا خط أنثوي (يفض الغلاف ويقرأ) .
مويلف :
هلا قرأت لي كما وعدت؟
لورنزو :
كلا.
مويلف :
لماذا؟
لورنزو :
لأنه من امرأة.
مويلف :
وهل تحبك؟
لورنزو :
نعم.
مويلف :
وهل تحبها؟ (تدخل زينا بلهفة.)
زينا :
طاب يومك يا سيدي.
لورنزو :
لك المثل أيتها الآنسة.
مويلف :
هذه هي الآنسة زينا أندريوفسكي مربية كوستا. السيد لورنزو صديقنا (يطرقان تحية) ... ما وراءك يا زينا؟
زينا :
أسرعي فقد أرسلتني مدام جاي.
مويلف :
هل لحق ولدي سوء؟
زينا :
إنه لم يعد، وتحسبه ضل الطريق، وقد غابت الشمس أو كادت، والذي أقلقها أنه يعبر غابة باسي بين الأوف والرون.
مويلف :
إذن هيا بنا.
لورنزو :
ألا أصحبك لأكون في خدمتك؟
مويلف :
الأمر لك، ولكن ابق فإذا احتجت إليك - لا قدر الله - أرسلت زينا في طلبك (تخرجان. تدخل أنطونيا) .
المشهد الرابع (أنطونيا - لورنزو)
أنطونيا :
هل تسلمت كتابي؟
لورنزو :
أي كتاب تقصدين؟
أنطونيا :
بعثت إليك بكتاب أولم تتناوله؟
لورنزو :
وماذا أودعته؟ إن لم يكن وصل إلي الساعة فعما قليل يصل.
أنطونيا :
لا أستطيع أن أقول أكثر مما كتبت. إنني أخجل لدى الكلام ولكن جرأتي تعاوني عند الكتابة. ظننتك قرأته.
لورنزو :
وهل تجعلين لهذا الكتاب شأنا؟
أنطونيا :
نعم إنما أنت تريد تعذيبي ومماطلتي، وأنت تعلم قصدي.
لورنزو :
أي قصد؟ (لنفسه):
قد يعتري الرجال من الحمق والخرق ما لا يصدقونه إذا عاودهم رشدهم.
أنطونيا :
اسمع يا سيد لورنزو، إنني لم أقل هذا لأحد سواك لأنني فتاة ساذجة، وأقسم لك أنني طاهرة لم تدنس حياتي ولم يضل قلبي.
لورنزو :
لم أرتب في ذلك لحظة عين أيتها الآنسة.
أنطونيا :
لا تقل أيتها الآنسة، بل ادعني باسمي إذا شئت.
لورنزو :
عفوا كيف أستبيح لنفسي حرية القول مع آنسة كاملة الخلق لا يربطني بها إلا التعارف المحض؟
أنطونيا :
ولكنني لبلاهتي أظن أن بيننا ما هو أشد من رابطة التعارف المحض. فهل أنت أيضا تشعر بذلك؟
لورنزو :
أيتها الآنسة العزيزة، إنني أجلك وأحب لقاءك.
أنطونيا :
إنك تجلني وتحب لقائي ... إنك تحرجني وتؤلمني بهذه الألفاظ المتكلفة. أنا منذ عرفتك وحادثتك أشعر بأن أمرا جديدا عظيما حدث لي، وأن نورا ساطعا يضيء ظلمات قلبي، وإنني أخشى أن يكون هذا التغير نتيجة الأمر الذي تحادثنا بشأنه منذ هنيهة.
لورنزو :
تقصدين الحب؟
أنطونيا :
نعم. يكاد قلبي يتمزق من الانفعال والقنوط.
لورنزو :
لا قدر الله.
أنطونيا :
قل لي كلمة واحدة تعد الحياة والأمل إلي.
لورنزو :
أيتها الآنسة، لقد أحرجت موقفي وأنت لا تدركين معنى ما تقولين وتفعلين، وليس لي معك حيلة . أين أمك وأختك مدام كاميل؟
أنطونيا :
خرجتا منذ الصباح. لا تدخل بيننا أحدا. ألست عاقلة حرة أتصرف في حياتي وقلبي كيف أشاء. إنني فتاة ساذجة القلب ولكنني أعلم أن لي حقوقا قبل الحياة والسعادة. غير أنني لا أعرف الطريق ويخيل إلي أنني وجدتها منذ لقيتك.
لورنزو :
أي طريق أيتها الآنسة؟
أنطونيا :
ألم تحادثني عن الحب! ألم تكن تقول لي أشياء عذبة لا أنساها؟
لورنزو :
اعلمي يا أنطونيا أنني لا أستطيع أن أقابل حبك بمثله.
أنطونيا :
لماذا؟
لورنزو :
لأنني أحب امرأة سواك، فقد كنت أحبك لو لقيتك قبلها أما الآن فلا أستطيع أن أدخل قلبي عليها أحدا.
أنطونيا (تركع وتبكي) :
أنت تحب امرأة أخرى، ومن هي قل لي من هي وارحمني؟
لورنزو (يحاول إنهاضها) :
ولكن لماذا تركعين وتبكين؟ انهضي.
أنطونيا :
لورنزو! إذن لا وسيلة إلى حبك أكاد أجن، أعطني قبلة واحدة.
لورنزو (يبتعد وهي تتعلق بأهدابه) :
وماذا يبقى بعد القبلة يا أنطونيا؟
أنطونيا :
لا تريد أن تقبلني قبلة عشق فقبلني قبلة إخاء.
لورنزو :
عدي أن تعتصمي بالحكمة، وأن تخففي عن قلبك سورة الاندفاع والانفعال.
أنطونيا :
أعدك (يقبلها في جبينها ويحاول إنهاضها)
ولكنني لا أنهض حتى تخبرني من هي المرأة التي تحب.
لورنزو :
هي مدام مويلف.
أنطونيا (تنهض) :
أنت تحب تلك المرأة؟!
لورنزو :
صه ... لا تقولي امرأة. إنها سيدة شريفة.
أنطونيا :
لا أمل لي فيك فلا تحجر على حريتي.
لورنزو :
ليس هذا مبررا لاغتيابها في حضرتي وأنت لا تعرفينها.
أنطونيا :
أعرفها أتم معرفة، ولا ينبئك مثل خبير. فإنني أرى خلقها في زيها، أرى خبثها ومكرها في تدللها حتى على النساء وهن من جنسها.
لورنزو :
ولكنني لا أرى شيئا لما تذكرين من المساوئ، ولا أريد أن تنبهيني إليها.
أنطونيا :
أنت لا ترى لأن العاشق أعمى.
لورنزو :
ما عهدتك حادة المزاج شديدة الانفعال إلى هذه الغاية، ولم أحسبك قادرة على إدراك ما ظهر لي منك.
أنطونيا :
إنني تعلمت في يوم واحد ما لم أعلم طول حياتي، وستبقى ذكرى هذه الواقعة في نفسي إلى آخر يوم من عمري ... وها أنا أخرج من تلك الغرفة وقد بلغت نفسي أشدها. أودعك الآن الوداع الأخير لأنني سأرحل عن جنيف الليلة، وكأنني حظيت فيها بالسعادة (تبصر فجأة بقصاصة الغلاف فتلتقطها)
لقد كذبتني أيضا، ها هو أثر من كتابي، أين هو؟ هل أعطيته مدام مويلف تقربا إليها؟ هل أهرقت ماء وجهي لتغسل به قدميها؟
لورنزو :
حسن ظنك بي أفضل.
أنطونيا :
أتوسل إليك أن ترد كتابي إلي.
لورنزو :
كلا! إن المكتوب ملك من يتسلمه، اعلمي أنه بين يدي ولم يره أحد سواي.
أنطونيا :
أتوسل إليك أن لا تطلعها عليه.
لورنزو :
أعدك. عديني أن تغفري لي إساءتي إليك، وأن تنسي ما أصابك في سبيلي.
أنطونيا :
غفر الله لك! ... الوداع يا لورنزو.
لورنزو :
الوداع.
المشهد الخامس (تدخل مويلف)
لورنزو :
لقد أسرعت بالعودة فلم أتمكن من اللحاق بك.
مويلف (لاحظت أنطونيا تنصرف) :
ماذا كانت تفعل هنا هذه المرأة؟
لورنزو :
هذه الآنسة كانت تسألني عن أمر يعنيها.
مويلف :
وهل تخفي علي هذا الأمر كما أخفيت اسم مرسلة الكتاب؟ إنك خائن.
لورنزو :
ما تقولين؟
مويلف :
إنك خائن تعبث بحبي وتظهر لي الوفاء، وأنت على موعد من امرأة.
لورنزو :
أنت مخطئة ولا أبيحك أن تصميني بالخيانة.
مويلف :
أينا مخطئ مذنب؟ ... أنا التي بذلت في سبيل حبك حب زوجي وأسرتي، أم أنت الذي تنتهز فرصة غيابي لتغازل النساء، وتحمل بين جوانحك كتب الغرام التي يبعثن بها إليك، وأنت تعلم أن بجوارك امرأة ترى الدنيا هينة في جنب رضاك.
لورنزو :
هل تسيئين الظن بي؟
مويلف :
وأي مجال للشك في حبك ووفائك أرحب من هذا المجال؟ وأي دليل على خيانتك أظهر من هذا الدليل؟
لورنزو :
لا تذكري الخيانة كأنك لا تعرفين قدر الألفاظ (يلمس زر الكهرباء)
إن دوام هذه الحال محال ... أنت تعلمين أني أشد الرجال عنادا وأكثرهم تصميما، فكلما زدتني إنكارا زدت نفورا وإصرارا (تدخل جانيت) .
جانيت :
سيدي.
لورنزو :
أعدي حقائبي واحملي إلي جريدة الحساب.
جانيت :
هل يسافر سيدي؟
لورنزو :
هذا لا يعنيك.
جانيت :
هذا يوم مشئوم على مدام راسين، فإن مدام كاميل وأختها الآنسة أنطونيا وأمها يسافران اليوم أيضا، وقد اعترت الآنسة نوبة فلا تنفك عن البكاء تطلب الرحيل.
مويلف (لنفسها) :
إذن هما على ميعاد (إلى لورنزو)
لورنزو لماذا طلبت حقائبك؟
لورنزو :
هذا أمر يعنيني.
مويلف :
أمسافر أنت؟
لورنزو :
هذا شأني.
مويلف :
إنني أقتل نفسي ... انظر (تبرز قارورة ذات سائل أزرق) .
لورنزو :
أنت حرة كل له حق التصرف في حياته (تفض فدام القارورة وتهم بالشراب فينهض ويخطف منها القارورة ويقبض على يدها) .
مويلف :
أنت لا تريد موتي ... أنت إذن تحبني.
لورنزو :
يشق على الرجل أن يرى امرأة تنتحر!
مويلف :
اعف عني، اعف عمن تحب؛ لأنني لم أستطع أن أخفي عنك الآلام التي تحركها الغيرة في قلبي ... لقد قضى حبك على كل أمل فلا أستطيع أن أحيا بدونك ولا أن أحب سواك.
لورنزو :
ما أعجب قولك يكاد من لا يعرفك يصدقك.
مويلف :
إن نفسي تحدثني بأنك تشتهي امرأة أصبى وأجمل مني، ولكن سوف يؤنبك ضميرك لأنني وهبتك نفسي بلا شروط ولا قيد، فأنت لا ترى وسيلة للخلاص مني إلا بأن تتهمني بشدة الغيرة عليك تارة وطورا بأنني أوقظ الغيرة في قلبك لأستولي عليه.
لورنزو :
ما أعظم الفرق بينك و... بينها. فإنني وجدت لديها دونك كل ما أتمنى من حاشية لينة وجانب رقيق وفؤاد رحيم وقلب رقيق وشمائل في عذوبة الماء ورقة النسيم.
مويلف :
إنك تكاد تقتلني بما تسقيني من كئوس الملام وعسى أن أموت قريبا (تبكي)
اعلم أنني لن أستطيع - ما حييت - أن أسعد بقرب رجل سواك، ولن ألقى هناء في عشرة غيرك ... إنك إن تركتني أو هجرتني خفت أن أجن لساعتي أو أنتحر ... فتمهل وتأمل! (تبكي.)
لورنزو :
كفى بكاء (يدخل راسين) .
راسين :
أسعد الله وقتك يا سيدي وسيدتي (يطرق تحية) .
لورنزو :
لك المثل يا موسيو راسين.
راسين :
السيد أمر بإعداد حقائبه، أتنوي السفر؟ أظنك تقصد مدينة ليون الزاهرة لتقضي فيها ليلتك. ستعجب بها كثيرا لأنها مدينة قديمة يرجع عهد تأسيسها إلى الرومان وكانوا يسمونها جدونوم.
مويلف :
موسيو لورنزو لا يسافر اليوم، إنما أعد حقائبه لينتقل إلى غرفة أخرى (تنظر إليه) .
لورنزو :
الأمر ما ذكرت السيدة يا موسيو راسين.
راسين :
إذا كان الأمر كذلك فسأبعث إليك فورا بزوجتي تعرض عليك الغرف الخالية، لتختار منها ما يلائم ذوقك، فقط مسافة المسيرة بين قاعة الجلوس والمطبخ دقيقتان وأربع وثلاثون ثانية (يخرج) .
مويلف :
أكنت تنوي السفر حقا؟
لورنزو :
كنت عقدت النية على الرحيل.
مويلف :
لماذا تتمادي في تعذيبي؟
لورنزو :
أنت التي تتمادين في تعذيبنا معا بهذا الشقاق.
مويلف :
هل يغضبك الشقاق؟ أتظن في العالم عشقا بغير شحناء؟ إن الحب القوي كالريح العاصفة.
لورنزو :
إن هذا الحب الهائج يقتل السعادة.
مويلف :
إذن أنت لا تحبني.
لورنزو :
وكيف ذلك؟
مويلف :
لو أحببتني لاحتملت غيرتي واغتبطت بها.
لورنزو :
عجبا! أتعودين إلى أوهامك؟
مويلف :
هل عدلت عن السفر؟
لورنزو :
نعم رحمة بك وتخفيفا عنك.
مويلف :
إذن أنا مسافرة.
لورنزو :
يا لك من شقية! ارحلي إن شئت أما أنا فباق.
مويلف :
لا تغضب. الوداع يا لورنزو (تخرج) .
لورنزو (لنفسه) :
ما أعجب سلوك هذه المرأة! (يلهو بالقراءة حينا. تدخل زينا.)
زينا :
هل رأيت مدام مويلف؟
لورنزو :
نعم منذ هنيهة.
زينا :
أتعلم ما حدث لها؟
لورنزو :
ماذا جرى لها؟
زينا :
تقتل نفسها.
لورنزو :
كيف؟
زينا :
حزنا.
لورنزو :
عفا الله عنها وخفف آلامها.
زينا :
لقد ملكها اليأس، وهي تنوي الانتحار؛ لأنك أعرضت عنها وقلت لها ارحلي إلى حيث ألقت، وأرسلتني أعتذر لك عما فرط منها وأطلب إليك أن تجاملها.
لورنزو :
قبلت اعتذارك، وها أنا أذهب إليها.
زينا :
بل ابق، فأنت لا تعرف مقرها وسأعود بها فورا (تخرج ثم تعود بها) .
مويلف :
عزيزي لورنزو.
لورنزو :
حبيبتي كاترين.
مويلف :
ما أشد حماقتنا!
لورنزو :
لا عيب فيك إلا غيرتك.
زينا :
والآن أستودعكما الله (تخرج) . (ستار)
الفصل الثالث
المشهد الأول (غرفة الطعام في بيت راسين.)
مويلف :
ما أشد ضجري في غيبته (تتمشى ذهابا وإيابا ثم تلمس زر الكهرباء. تدخل جانيت) .
جانيت :
هل للسيدة حاجة أقضيها؟
مويلف :
السيد لورنزو أين هو؟
جانيت :
خرج منذ ساعة .
مويلف :
هل خرج منفردا؟
جانيت :
رأيته وحيدا.
مويلف :
ألم يترك لي خبرا؟ وهلا علمت متى يعود؟
جانيت :
كلا، ولم أسأله.
مويلف :
أخبريه حين عودته أنني أنتظره (تقصد الخروج) .
جانيت :
لك ذلك يا سيدتي (تخرج جانيت ثم تعود فورا فتدرك مويلف قبل خروجها)
سيدتي ها هو السيد لورنزو.
مويلف :
لا تخبريه بشيء (يدخل لورنزو) .
المشهد الثاني
لورنزو :
ألم تفاوضك زينا في أمر معيشتنا في هذا النزل؟
مويلف :
فاوضتني، ولكن رأيك لم يرقني.
لورنزو :
لماذا؟
مويلف :
لأننا إذا عشنا في بيت على حدة لا نستطيع تدبيره بما تحتاج إليه المنازل من الخدم والنفقات.
لورنزو :
إن الطير يبني عشه سالكا سبيل الترقي بالتدريج، وأحرى بالإنسان أن يكون قدوة الطير لا الطير قدوة الإنسان.
مويلف :
أفهم ما تريد ولكنني لا أستطيع مطلقا.
لورنزو :
ما هو المنزل يا عزيزتي؟ أهو الجدران الشاهقة والأركان المشيدة، أم تلك البسط الفاخرة والوسائد المبثوثة والحوائط المزخرفة والمقاعد الوثيرة المصففة. إن المنزل هو القلوب المتحدة والنفوس المتآلفة والأرواح المتفقة والأفئدة الخافقة والأعين القريرة والأيدي المتصافحة. إنما المنزل يا عزيزتي بناء؛ دعائمه الحب، وأساسه الإخلاص، وأثاثه المودة المتبادلة، وها نحن لا ينقصنا الحب ولا يعوزنا الوفاء.
مويلف :
ولكن ينقصنا المال والوقت.
لورنزو :
إن ما ننفقه في تلك الحياة المفلوكة كثير، وهو مضيع ويربو على ما نحتاج لو حاولنا القرار في بيت صغير.
مويلف :
إنني لا أستطيع أن أعود إلى النظام القديم ولا أقدر أن أحمل وقر الحياة المنزلية (تدخل زينا) .
لورنزو :
زينا ... قولي لمدام مويلف أن تصغي إلي في الشأن الذي فاوضتك فيه.
مويلف :
ما رأيك يا زينا؟
زينا :
رأي السيد لورنزو.
لورنزو :
إننا نبكر كل يوم إلى السوق فنحمل إلى منزلنا العزيز الثمار الشهية والأزهار الغضة ذات الألوان البهيجة وننتقي صنوف الطعام بأنفسنا.
زينا (تتحمس) :
وأنا أبقى في البيت أغسل الصحون والأطباق وأنظف السمك وأملح اللحم وأغلي الماء للحساء.
لورنزو :
وأنا أكتب ألوان الغداء في جريدة بتصاوير البط والأوز.
زينا :
وأنا أعد المائدة وأصفف الأواني والقناني وأضع الأزهار في مزهرياتها ونأكل كل يوم الأحد حساء بورش ونذبح دجاجة ونفلفل أرزا ونشرب كأسا من الفودكا.
لورنزو :
وأنا أصف لكما كيف تصنع الشعرية والباذنجان المحشو على الطريقة الإيطالية.
زينا :
ثم نشرب الشاي في بيتنا ونضع في الطاس ما نشاء من قطع السكر دون أن نخشى مراقبة صاحبة المنزل أو خادمتها التي تتجسس على الأضياف، وتزن بعينها كل ما يخرج من الأطباق.
لورنزو :
وأنا ...
مويلف (مقاطعة) :
كل هذا جميل في الخيال، ولكن إذا شرعنا في تحقيق هذا الحلم عرضت لنا مصاعب وعقبات شتى؛ من ذلك أننا إذا عشنا في بيت خاص بنا لفتنا أنظار الناس فتتناولنا ألسنتهم بالسؤال، ومنها أننا إذا انفردنا في عيشتنا انقطعنا لتدبيره وتخلينا عن كل ما عداه. أما في المنزل فحملنا على كاهل غيرنا.
لورنزو :
لقد كنت أحب جنيف قبل عشرتنا لقلة الصحب والصديق قفرا بلقعا، والآن أجدها بيتا بغير أثاث وروضا بغير زهر.
مويلف :
هل فاتكم أننا من الأقدار على كف عفريت؟ فمن يضمن لنا أن يقر في جنيف قرارنا؟
لورنزو :
كل شيء جائز وممكن الوقوع.
مويلف :
إذا كان هذا رأيك فاعلم أنه من السهل علينا إذا دهمنا أمر أو حلت بنا مشكلة ونحن في نزل أن نشد رحلنا غير آسفين. وقد فاتكما أيضا أمر ذو شأن وهو أن حياة النزل مملوءة بأسباب المسرات ووسائل اللهو وتفريج الهم، ففي كل يوم صادرات وواردات جديدة عدا ما نشاهد من أخلاق الأضياف القادمين والجيران الراحلين.
لورنزو :
فصل في الغيبة والنميمة!
مويلف :
أنا لا أغتاب ولكنني أعد لك أصناف بني آدم من هؤلاء النزلاء.
زينا (إلى لورنزو) :
لعلها تضم ابنها إلى الأصناف التي عددتها.
المشهد الثالث (يدخل كوستيا)
مويلف (بغضب) :
كوستيا! كوستيا يا ولد (يسمع صوت صفير ودبدبة ثم يدخل الصبي ممزق الثياب وبعنقه محفظة كتب معلقة وبيديه طوق وعصا) .
كوستيا :
ماما ماما ماموسيا.
مويلف (تنظر في الساعة) :
كيف خرجت من المدرسة قبل ميعاد الانصراف؟
كوستيا :
المعلم ضربني.
مويلف :
لماذا؟
كوستيا :
لأنني لم أحفظ جدول الضرب، وقال لي إنه وثق بأني لا أحفظ الضرب إلا بمثله.
مويلف (مبتسمة) :
يا لك من طفل محبب! لماذا لم تحفظ ما أمر الأستاذ بحفظه؟
كوستيا (إلى لورنزو) :
موسيو لورنزو كيف تكون تسعة في تسعة بواحد وثمانين؟ وكيف تضع تسعة في تسعة؟
لورنزو :
يا عزيزي كوستيا إذا أكلت في كل يوم تسع تفاحات أثناء تسعة أيام متوالية.
كوستيا (مقاطعا) :
إن أمي لا تعطيني أكثر من تفاحتين في اليوم الواحد. اسألها.
مويلف :
اسمع يا ولدي، اسمع كلام موسيو لورنزو إلى النهاية.
كوستيا :
ألا تريدين يا أماه أن أقول الحقيقة؟
مويلف (تنهض) :
هيا بنا يا زينا نسأل ناظر المدرسة عن سبب خروج هذا الشقي، فإنني أراه مضطربا وأخاف أن يكون فعل سوءا يخشى التصريح به.
كوستيا :
ماما ... ماما ثقي أنني لم أفعل شيئا سوى أنني كسرت قلم بوريس أنيكين، وقطعت مطاط دراجة حضرة الناظر، ورششت الحبر على ثياب أستاذ الجغرافيا؛ لأنه أعطاني صفرا في الامتحان، فأردت أن أرسم على ثوبه صورة المحيط وبعض الجزائر، أما تمزيق قبعة لوسيان الفراش، فإن لي فيه شركاء وهم ...
مويلف :
أيها التعس الشقي، أتفعل كل ذلك في يوم واحد وتنتظر أن تبقي عليك المدرسة، تعال معي حتى أنظر في أمرك.
كوستيا :
موسيو لورنزو، أتوسل إليك أنقذني من أمي، في عرضك إنها تريد أن تضربني (إلى أمه ولكن بهيئة المتحفز للتعدي)
ولكن إذا ضربتني فإنني أضربك وأرفسك أيضا وأكسر الزجاج كما كان يفعل أبي.
لورنزو :
كوستيا ما هذا القول؟ أهذا ما وصيناك به من احترام أمك؟
مويلف (إلى لورنزو) :
إن هذا الولد هو سبب شقائي.
لورنزو :
اتركيه في حراستي ولا تثيري هياجه (تخرج مسرعة ومعها زينا)
كوستيا لماذا هذا الجفاء وأنت غلام ذكي؟
كوستيا :
لأغيظ أمي.
لورنزو :
وهل جزاء أمك على حبها إياك أن تغيظها؟
كوستيا :
كما كان يفعل أبي.
لورنزو :
وهل تحب أباك حتى تقلده؟
كوستيا :
كلا لأن أمي تقول لي دائما أبغض أباك؛ لأنه ليس أباك وأنا أمك وأبوك.
لورنزو :
فهل أحببت أمك؟
كوستيا :
نعم أحبها لأنني قرأت في الإنجيل أحبوا أعداءكم !
لورنزو (ضاحكا ومندهشا) :
كوستيا ما هذا القول أيها الأحمق؟! هل أمك عدوة لك؟
كوستيا :
نعم، ألست تريد الحق؟
لورنزو :
وما وجه عدائها لك؟
كوستيا :
أولا لأنها تمنعني زيارة مارتا بنت الفلاحين المجاورين لمنزل مدام جاي، وقد ذهبت إلى أم مارتا وأخبرتها بحقيقة اسمي، وكنت ذكرت للبنت وأمها أمورا ذات شأن؛ منها أن عندي حصانا وأن أبي غني جدا، وأن عندنا نقودا كثيرة، وأستطيع أن أحضر لمارتا كثيرا من الفواكه المسكرة.
لورنزو :
تعني أن أمك أضرت بسمعتك عند الفتاة المختارة؟ ولكن ما قيمة السمعة المبنية على الأكاذيب؟
كوستيا :
ثم إن أمي ترغمني على الذهاب إلى المدرسة، مع أن هذا أمر غير ضروري لأنك أنت مثلا لا تذهب إلى المدرسة، وكذلك مدام جاي لا تذهب إلى المدرسة.
لورنزو :
لا تخلط يا كوستيا، إنني لا أذهب إلى المدرسة لأنني رجل، وقد ذهبت إلى المدرسة لما كنت صبيا مثلك، كذلك كانت تفعل مدام جاي إلى أن صارت امرأة ولها بيت وأولاد فلا معنى لذهابها إلى المدرسة.
كوستيا :
لنفرض صحة ذلك كما يقول معلم الجغرافيا في إثبات دوران الأرض فأي فائدة في المدرسة؟ هل استفدت أنت شيئا (لورنزو يبتسم)
إنني أريد أن أعرف هل أهل الإسكيمو قصار أم طوال؟ وهل أهل أمريكا سود أم بيض؟ ولماذا لا تطلع الشمس في الليل؟ وأهم من هذا كله ما هي فائدة جدول الضرب؟ ولماذا ناظر المدرسة طرد تلميذين لأنهما لم يدفعا أجور التعليم؟ ولماذا لوسيان فراش مع أنه أصغر سنا من الموسيو لاروش معلم التاريخ ووجهه أصبح من وجهه؟ ولم والد مارتا يعلف فرسه في كل يوم مع أن لوسيان لا يعلف دراجته مطلقا (يسمع من الخارج صوت نداء مصطلح عليه بين الأولاد فيجري كوستيا في الغرفة كالمجنون ويقلب في طريقه الكراسي والأدوات المختلفة وتقع منه الكتب ويغني)
ماربيت مابتتيت مابنيت مارييت (يخرج) .
المشهد الرابع (مويلف وجانيت ثم مويلف ولورنزو)
مويلف (إلى جانيت) :
وأحضري أيضا قليلا من أعواد البسكويت في غرفتي.
جانيت :
ماذا فعلت في المدرسة إن كوستيا لم يلبث بعد خروجك أن لحق بأقران له دعوه للعب واللهو؟
مويلف :
وجدت المدرسة على وشك الانصراف وأبقيت الأمر إلى غداة غد.
لورنزو :
حسن. ولمن تعدين هذه الوليمة؟
مويلف :
ستزورني آنسة بولونية غريبة الأطوار ... تستطيع قراءة الطوالع وتعرف علم الكف وتستقرئ الورق.
لورنزو :
وهل أحضرتها لتقرأ لك طالعك؟
مويلف :
كنت عرفتها منذ عدة أعوام في براج ولقيتها أمس مصادفة فدعوتها لزيارتي ... هل تريد أن تقرأ طالعك؟
لورنزو :
إنني كثير الخوف من المستقبل؛ لذلك لا أحب أن أكشف بيدي ما يستره الدهر.
مويلف :
ليس لدي شيء أشهى من معرفة المستقبل!
لورنزو :
ما ينفعنا علمنا بالنبوءات إن كانت بلا ريب واقعة، وما يضرنا جهلنا بها إن كانت غير واقعة؟ على أنني ... (تدخل جانيت) .
جانيت (إلى مويلف) :
الآنسة فراير تريد لقاء السيدة.
مويلف (إلى جانيت) :
فلتتفضل بالدخول واحضري الشاي فورا (تخرج جانيت وتدخل فراير فينهض لورنزو لاستقبالها) .
فراير :
أسعد الله وقتك يا سيدتي.
مويلف (تنهض وتصافحها) :
أقدم لك موسيو لورنزو صديقنا (يتقدم إليها لورنزو بالتحية) .
فراير (في حياء) :
سعدت بلقائك يا سيدي (تدخل جانيت بالشاي. يشرب الشاي بين حديث مهموس وإشارات ترحيب) .
مويلف :
ألا تزالين متعلقة بعلوم الغيب؟
فراير :
قليلا.
مويلف :
انظري في كف موسيو لورنزو ونبئينا بما يدلك عليه علم الطوالع.
لورنزو :
أراك تستعجلين الحوادث وتحرجين صدر الأقدار.
فراير :
هل تأذن يا سيدي أن ترى المنجمة صحيفة سعدك؟
لورنزو :
لم أتعود تصديق التنجيم ولا أستطيع أن أردك. فهاك يدي.
فراير (بعد تأمل طويل في كفه ثم تفتح كتابها وتقرأ) :
يظهر لنا من علم النجوم أن السائل ناري المزاج، ذو طبيعة قلقة لا تثبت ولا تستقر، فهو أبدا متحول متقلب متعدد الرغبات غريب الأطوار أسير الخيال.
لورنزو :
شكرا لك هذا التنجيم يسر.
فراير (مستطردة) :
وفي خلقه عيوب شتى.
لورنزو :
الآن نسمع جد الحديث.
فراير :
السائل محب للشجار وقد يبحث عنه ثم يلوم خصمه ... وهو مقتصد إلى درجة الشح في بعض الأحيان ... وهو مخلص وفي في صداقته.
مويلف (إلى لورنزو بابتسام) :
إن شاء الله ، إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن.
فراير (مستطردة) :
ويقضي النصيب الأوفر من عمره مغتربا.
لورنزو (بابتسام) :
أولو الفضل في أوطانهم غرباء! ... نبئينا عن تأثير الحب في قلب موسيو لورنزو.
لورنزو :
دعي عنك هذه السفاسف.
مويلف :
قولي أيتها الآنسة.
فراير (بتردد) :
ليس للنساء في قلب السائل مكان عظيم، وهو يحب بعقله وخياله أكثر مما يحب بقلبه، وإن ما فطرت عليه نفس السائل من الضجر من كل قديم وسرعة التعلق بكل جديد يجعله يمل عشرتهن ويأبى التفرغ لهن.
مويلف (إلى لورنزو) :
ألم أقل لك؟ أليس الحق بيدي؟ صدق المنجمون ولو كذبوا!
فراير :
ولكنه يحب امرأة واحدة حبا شديدا قاسيا محفوفا بالأكدار والمخاوف، منفرا للسعادة والاطمئنان، وسيكون هذا الحب قصير الأجل.
مويلف (باضطراب) :
كفى! كفى أيتها الآنسة، كذب المنجمون ولو صدقوا!
لورنزو :
استمري أيتها الآنسة.
فراير (بهدوء بسكون) :
وستترك هذه المرأة الوحيدة في حياة السائل أثرا عميقا وفي قلبه جرحا لا يندمل، وسيكون هذا الحب آخر حب يدخل قلب هذا الرجل.
مويلف (تنهض باضطراب) :
القدر خير من فألك أيتها الآنسة. كفى فإنني شديدة التطير!
فراير (بسكون) :
لقد فرغت من قراءة طالعك.
لورنزو (بسكون) :
شكرا لك أيتها الآنسة ... هل تستقرئين الورق؟
فراير :
أجل، ولكن هذا مطلب النساء لأنه يدل على الحوادث القريبة (تشرع في استقراء الورق)، (فراير إلى مويلف)
أرى حبا شديدا بينك وبين شاب، وأنكما في فراش واحد وتدخلان من باب واحد، ولكنكما ستفترقان قريبا لأن شيخا مريضا يرغب في لقاء الشاب قبل سفر طويل، وهيهات أن يدركه ... وأرى امرأة شقراء تبكي ثم تفرح وامرأة عاشقة تفرح ثم تبكي!
مويلف :
لم أفهم شيئا مما تقولين.
فراير :
إن المرأة الشقراء تبكي رجلها وحولها أطفال يبكون، وقلب الحبيب قد تحول بعد طول الفراق، وما هو كائن سوف يكون، أما قلب المحبوب فحائر كأن بعقله مسا من الجنون.
لورنزو :
أنا لا أفهم شيئا.
مويلف :
وأنا أيضا.
فراير (تلم شعث الورق وتربطه وتضعه في كيسها وتنهض وتنظر في الساعة) :
الآن أستودعكم الله.
مويلف :
مع السلامة (تخرج) .
المشهد الخامس (مويلف - لورنزو)
لورنزو :
ألم أقل لك إننا في غنى عن التنجيم والمنجمين، هل يسعى المرء إلى نبش الماضي ويكشف النقاب عن الغيب؟
مويلف :
هذه أحلام.
لورنزو :
ربما صحت الأحلام. ماذا أنت فاعلة إذا نزعتني يد النوى منك ونفسي لديك رهينة فهل تحفظين ودي؟
مويلف :
صه، صه ... ما هذا القول (تضع يدها على فمه)
إن قلبي يتمزق من قولك.
لورنزو :
إنني أخاف أن تقطعيني، وأن تنسي في شهر ما قضى الحب في نقشه على صفحات قلبك أعواما وأشهرا.
مويلف :
كن بي واثقا، واعلم أنني إذا سلاك جسمي لا تسلوك نفسي وقلبي.
لورنزو :
إن الأقدار أرحم من أن تضرب بيني وبينك بالفراق.
مويلف :
لورنزو! لقد عدلت عن رأيي.
لورنزو :
فيم؟
مويلف :
فيما يتعلق بحياتنا، وقد أقنعتني حجتك وحجة زينا، وها أنا ذاهبة أنظر فيما يعرض علي الوسطاء من البيوت الصغيرة بشامبل ولانسي.
لورنزو :
عزيزتي كاترين، إنك تفرحينني بهذا العزم.
مويلف :
شئت أن أفاجئك بهذا الخبر السار بعد إعداد الدار وتنسيقها، ولكنني بادرت بإخبارك لأذهب عنا نحس المنجمة ... أتحسب يا لورنزو أنني أطيق بعدا عنك أو أني أقسم مهجتي بينك وبين غيرك أو أشرك في محبتي إياك سواك. لا كان وقت يفرق فيه بيني وبينك.
لورنزو (يخرج من جيبه محفظة يخرج منها أوراقا) :
هاك يا عزيزتي ما تشائين من المال لإتمام ما عزمت عليه.
مويلف (تأخذ الأوراق بنظرات تدلل وسرور تشبه نظرات الأطفال إذا عرضت عليهم الدراهم والحلوى) :
شكرا لك قد لا أحتاج إلى هذا القدر كله. سأحضر لدى عودتي بنفسجا ووردا أحمر وزنبقا (تقبله وتخرج) .
لورنزو :
كاترين.
مويلف (تعود) :
عزيزي المحبب!
لورنزو :
لا تنسي الخزامى والنرجس.
مويلف :
لن أنساها (تعود منفعلة ثم تخرج) .
المشهد السادس (تدخل جانيت)
جانيت :
لك كتاب مؤمن عليه يا سيدي.
لورنزو :
أين هو؟
جانيت :
مع ساعي البريد وينبغي توقيع الإيصال.
لورنزو :
احضري الإيصال أوقعه هنا.
جانيت :
فورا يا سيدي (تخرج ثم تعود ومعها دفتر كبير والكتاب)
وقع هنا يا سيدي.
لورنزو (يخطف الكتاب خطفا وينظر إلى غلافه) :
إنه من إيطاليا.
جانيت :
وقع أولا يا سيدي، إن الساعي ينتظر (لورنزو يوقع) .
لورنزو : ... شكرا لك. أعطه هذا الدرهم (يخرج من جيبه قطعة فضية صغيرة)
وإذا سأل عني أحد فلا تخبريه بمكاني ريثما أفرغ من قراءة هذا الكتاب.
جانيت :
الأمر لك يا سيدي (تخرج) .
لورنزو (لنفسه) :
ترى ما في هذا الكتاب؟ إنه بخط والدتي، وقد عودني أبي أن يكتب لي بيده. هل أفضه أو لا أفضه؟ هل أقرؤه أو ألقيه ساعة؟ لا ... بل أفضه فورا فإن كان خيرا زادت ساعات فرحي به وإن كان شرا كسبت وقتا لتدبير أمري وصنت نفسي من آلام الشك القاتلة (يفض الغلاف بأناة واحتراس، ويقرأ لنفسه ويدنو من النور ويضطرب ويضع يده على رأسه ويترك القراءة، ثم يعود إليها ويبقى على هذه الحال نحو عشر دقائق، ثم يجلس في ركن ويسند جبينه إلى يده. تدخل زينا فجأة وهو في حالة اضطراب) .
لورنزو (متنبها من تفكيره) :
ها أنت يا زينا ... أريد محادثتك فورا في أمر ذي بال ... اسمعي يا زينا، إنني منذ أيام شعرت بانقباض شديد واستولت علي الكآبة وأحاط بي الحزن من كل جانب، وقد كان ما خفت أن يكون!
زينا :
ماذا جرى يا سيدي لورنزو؟
لورنزو :
نبأ سيئ! لقد وقع في أسرتي حادث أليم.
زينا :
كيف علمت به؟ هل تأتمنني فأشاركك؟
لورنزو :
جاءني كتاب أن أبي، وهو رأس أسرتنا وعمادها وملجؤها، قد قضى نحبه بعيدا عن بيته، وأمي وحيدة وليس حولها إلا أخواتي وإخوتي وكلهم صغير ضعيف، وحالنا مرتبكة، وها هو الكتاب بخط أمي، على أنها لا تقول فيه شيئا من ذلك خوفا علي وإشفاقا بي.
زينا :
إذن كيف علمت بتلك الأخبار المؤلمة المزعجة؟
لورنزو :
قرأتها يا ابنتي بين السطور. أقرؤه دائما بين السطور، فإن ما فيها أبلغ وأصدق مما تخطه الأقلام وتجري به الأنامل (يظهر الكتاب لها)
وأمي تستقدمني وهي المسكينة لا تعلم أنني أنجزت عملي هنا من زمن، وأنني أطيل إقامتي لأكون معكم. هذا عقاب من يعيش بين أسرتين؛ أسرة يقيده بها الواجب، وأخرى يربطه بها القلب.
زينا :
إذن أنت مسافر؟
لورنزو :
أخشى أن يكون وقت الرحيل قد دنا.
زينا :
إذن أعزيك مقدما عن مدام مويلف لأن سفرك سيقتلها حتما.
لورنزو :
اصمتي يا زينا.
زينا :
مسكينة هذه المرأة؛ إنها وأنت بقربها تكاد تجن لو غبت عنها طرفة عين وهي تعلم أين أنت، فما حالها لو علمت بهذا الفراق المفاجئ الذي لم تتعوده ولم تعد إليه نفسها!
لورنزو :
إذن ما الحيلة؟
زينا :
الحيلة أن لا حيلة. فأخبرها بما وقع.
لورنزو :
قلبي لا يساعدني.
زينا :
إذن اترك الأمر للمصادفات.
لورنزو :
ويحك! كيف أترك الأمر للحوادث؟ أيفعل ذلك غير المجانين والحمقى؟ وهل لي من الوقت فسحة تسمح بترقب الظروف المناسبة وانتهاز الفرص السانحة؟ إن الأمر شديد سريع والخطب جليل. إن أمي وإخوتي وأخواتي ينتظرونني ويتقلبون على أحر من الجمر، وقد يكونون الساعة في حاجة إلي، وأنا هنا في بحبوحة السعادة والحب! ... أترضين هذا يا زينا؟ ألا تعدين الانتظار نذالة والصبر خيانة لأبي وأمي ونقضا لعهد أسرتي؟ إن الحب يجذبني والواجب يدعوني (متحمسا)
فالنذل الأخرق يطمئن للحب ويكمن تحت جناحه النائم كما ينزوي الكسلان تحت الغطاء في يوم الجليد، ولكن الرجل الشريف يودع الحب ويلبي نداء الواجب.
زينا :
الحق بيدك.
لورنزو :
ألم تكن مويلف تعلم أنه لا بد لنا من الفراق، وأنه إن لم يكن اليوم فغدا.
زينا :
إن الفراق هو موت المحبين يظنونه بعيدا وهو منهم قاب قوسين أو أدنى. إنه سهم من سهام القدر يرشق به من ظن سعادة الحب خالدة لا تفنى.
لورنزو :
ليس في الوقت متسع للحكم والمواعظ. اذهبي إليها لساعتك.
زينا :
سأفعل ولكن كيف أبدأ بالقول؟ ادع لي بالنجاح.
لورنزو :
اذهبي موفقة (تخرج زينا. لنفسه)
ماذا أقول؟ وكيف يكون جوابها لي؟ (يعبث بشعره قليلا ويحل أزرار غلالته، ويظهر بمظهر اضطراب وقلق شديد، والكتاب في يده ثم يجلس بظهره نحو الباب بحيث لا يرى الداخل إلا ظهره ولا يلمح وجهه وشعره المضطرب، ويبقى هكذا عشر دقائق وعندئذ تدخل مويلف بثياب جميلة زاهية الألوان تحمل أزهارا جميلة مقطوفة لساعتها، فلما تلمح لورنزو تبدو على وجهها علامات الفرح ثم تخفف الوطأ بحيث لا يسمع وقع أقدامها ثم تلقي الأزهار بسرعة على مقعد، ثم تدنو منه وتضع يديها على عينيه ليتفرس من هي فتطول قعدة لورنزو ولا ينهض بسرعة إلى يديها فيقبلها؛ فتنقبض فينهض بقوة ويقف أمامها.)
مويلف :
لورنزو هذا أنت ماذا جرى؟!
لورنزو :
لا شيء ... تجلدي.
مويلف :
كيف؟ ماذا جرى؟ ... أخبرني.
لورنزو :
لقد تمت نبوءة الساحرة عذاب وفراق وضياع وفناء.
مويلف :
واحسرتاه! (يغشى عليها.) (ستار)
الفصل الرابع
المشهد الأول (بهو فيلا سيلفيا.)
كراشوف :
هل لديكم مبيت لي؟
جرترود :
لا أدري يا سيدي إن شئت سألت ربة الدار.
كراشوف :
أسرعي أيتها الصغيرة (تخرج وتدخل جيرمون) .
جيرمون :
هل للسيد حاجة نقضيها؟
كراشوف :
أريد مبيتا.
جيرمون :
ليس لدي الليلة غرفة تليق بطول المقام، ولكن إذا رضيت المبيت حيثما اتفق نقلتك غدا إلى غرفة حسنة.
كراشوف :
لا بأس أريد طعاما قليلا.
جيرمون :
سأبعث إليك بوجبة خفيفة في غرفتك بالحديقة ... تفضل بذكر اسمك ولقبك وصنعتك وموطنك وتاريخ وصولك (تكتب البيانات) .
كراشوف :
بوريس كراشوف طبيب روسي من بطرسبرج، وصلت من شهرين وقادم من جنيف.
جيرمون :
شكرا لك يا سيدي. تفضل أرشدك إلى غرفتك (يخرجان ثم تعود جيرمون وحدها وتلمس زرا) .
جرترود :
سيدتي.
جيرمون :
لا تنامي لساعتك يا جرترود، فلعل هذا الضيف الجديد يحتاج إلى شيء بعد العشاء.
جرترود :
هو لك يا سيدتي (تخرج جيرمون ويسمع دق فتخرج جرترود ثم تعود يصحبها لورنزو) .
جرترود :
هنا يا سيدي، تفضل بالانتظار ريثما أدعو لك مدام جيرمون فهي تجيبك عن كل شيء (تخرج) .
لورنزو (لنفسه) :
لست أدري علة هذا الاضطراب، ولم أتعود من قلبي مثل هذا الخفقان ... لعلها على ما كانت عليه من العافية والجمال ... إن سبعة أشهر لا تغير سيما الإنسان. كيف يكون لقاؤها. ماذا تخبئ لي من المسرات وملاذ النفس؟ لشد ما تطول أحاديثنا عن كل ما قاسيته في بعدها بعد سفري ... لعلها الآن في غرفتها أو على مائدة الطعام ... كيف يكون وقع خبر قدومي على نفسها؟ ... لقد كان الأفضل أن ألقاها على انفراد لا في هذا المكان. أظن هزة الجزع التي أصابتني على ظهر باخرة البحيرة وجلبت إلي الأفكار السوداء والمخاوف نتيجة المتاعب ... أما الآن فأنا أستعيد قوتي. عزيزتي كاترين ها أنا عدت إليك بعد طول الانتظار ... كيف يكون فرحها بالهدايا والتحف التي أحملها إليها؟ (تسمع أصوات وضحك واصطكاك كئوس وأوان ثم تدخل مدام جيرمون.)
المشهد الثاني
جيرمون :
طاب ليلك يا سيدي.
لورنزو :
أريد لقاء مدام مويلف المقيمة هنا ... إنني قادم من بلاد بعيدة فتفضلي بإخبارها فورا بمقدمي.
جيرمون :
إنها كانت مقيمة في داري ولكنها سافرت.
لورنزو :
كيف؟ متى؟ إلى أين؟
جيرمون :
سافرت منذ أسبوع.
لورنزو :
هل سافرت منفردة أم بصحبة أحد؟ أمريضة هي أم معافاة؟
جيرمون :
سافرت منفردة لا تشكو داء ولا ضيقا، ولكن شعورها بالضجر حسن لديها تبديل المكان.
لورنزو :
هل خلفت وراءها عنوانها؟ تفضلي بإملائه علي.
جيرمون :
لا أعلم مقرها بالدقة ولكن أحسبها مقيمة على مقربة من مونتريه، ويمكنك أن تستعلم عنها من مكتب البريد.
لورنزو :
حسن. لقد خارت قواي من شقة السفر، وزادني هذا الخبر ضعفا، فهل عندك غرفة أستريح فيها من وعثاء رحلتي ريثما أتمكن من الوقوف على ما أريد؟
جيرمون :
ما أشد أسفي يا سيدي! إن البيت آهل بالأضياف، وكنت أود أن أضيفك لأنني أراك في حاجة للراحة ... على أنني أنصح إليك أن تقصد ساحة المحطة ففيها ما تشاء من الفنادق.
لورنزو :
حسن. أستودعك الله يا سيدتي (يحييها ويهم بالانصراف) .
جيرمون :
سيدي!
لورنزو :
سيدتي.
جيرمون :
إن شئت أن ترى مدام مويلف حتما ...
لورنزو (يعود مهرولا) :
نعم حتما يا سيدتي، ألم تدركي قصدي؟
جيرمون :
أظنها تحضر إلينا غدا في الضحى لتتسلم ما يحمله إليها بريد الصباح.
لورنزو :
لماذا لم تبادريني بهذا النبأ من قبل؟
جيرمون :
تذكرته الآن فقط.
لورنزو :
لقد عاودتني شهية الطعام فهل تتفضلين علي بلقمة أتبلع بها؟
جيرمون :
ستحضر لك الخادم فورا ما تشتهي (تخرج جيرمون ويجلس لورنزو ) .
المشهد الثالث (تدخل أنطونيا وتلهو قليلا بأوراق الموسيقى على البيانو غير ملتفتة إلى لورنزو.)
لورنزو (لنفسه) :
حقا إن العالم صغير مهما عظمت مساحته، ولا بد للأحياء من اللقاء. رب مصادفة خير من ميعاد! (ينهض لورنزو للقاء أنطونيا) .
أنطونيا (تنظر إليه بتأمل ودهشة) :
موسيو لورنزو! إنك تغيرت كثيرا ... إن تقاسيم الوجه لا تتغير ولكنها تتطور (تدنو منه وتصافحه وهي تنعم النظر في وجهه وتستطرد قائلة)
هل اعترضت سبيلك هموم كثيرة؟
لورنزو :
نعم. وهل أنت سعيدة؟
أنطونيا :
جد السعادة.
لورنزو :
هل ...
أنطونيا :
للساعة لم يتم الأمر ولكنه يوشك.
لورنزو :
ومن ...
أنطونيا :
لعلك رأيته من قبل أن كنت من نزلاء هذه الدار هو الموسيو برنار دي كالفادوس ... كان الأمر هينا وليس في القصة طبل ولا زمر ... التقينا في الشتاء الماضي في سان رفائيل على شاطئ البحر وأبصرته فملت إليه وهو كذلك ... ثم تحادثنا ثم تصادقنا ... مجمل القول أنني شعرت بعد عشرته طبعا بأنني لا أستطيع الحياة بدونه.
لورنزو :
ما أسعدكما!
أنطونيا :
لعل هذه السعادة تدوم ... يظهر لي أنك في شغل، هل أنت مقيم هنا؟ (يشير برأسه إشارة إيجاب)
سأنتهز الفرصة لأجمع بينكما ... إلى الملتقى.
لورنزو :
إلى الملتقى (تدخل جرترود وتحمل طعاما أمام لورنزو. تدخل جابي وتلهو بورق الموسيقى على البيانو ثم تدخل جيرمون) .
المشهد الرابع
جيرمون :
البارونة جابي تلهو وغيرها ينتحب.
جابي :
ألا تعلمين أنني أعزف منتحبة وأن عزفي صدى لصوت أحزاني؟
جيرمون :
لقد حضر ذلك السيد الأجنبي عاشق مدام مويلف.
جابي :
متى حضر؟ وأين هو؟ وبماذا أجبته؟
جيرمون :
حزنت لرؤيته ولكنني لم أستطع أن أوقفه على حقيقة الأمر؛ فقلت له ما طلب إلي أن أقول ثم رأيت تلهفه فأشفقت عليه وطلبت إليه أن يعود إلي غداة غد ... إنه هنا وسيعود إلى تلك القاعة.
جابي :
هل تنوين إخبارها الليلة بقدومه؟
جيرمون :
إذا صرفت عني الحديث معها في هذا الشأن أضفت هذه الحسنة إلى حسناتك الجمة.
جابي (بتأمل) :
حسن. ابعثي في طلبها واتركينا على انفراد.
جيرمون :
سأفعل، ولا أكتمك أنني بدأت أنفر منها مذ رأيت هذا الشاب ومذ رأيتني مضطرة أن أقفل في وجهه باب بيتي بلا علة.
جابي :
ولو وقفت على حقيقة أمرها معه كما وقفت لكان نفورك منها أشد.
جيرمون :
سأدعوه للطعام في غرفتي ليخلو لكما الجو (تخرج جيرمون وبعد قليل تدخل مويلف) .
المشهد الخامس (جابي - مويلف)
مويلف :
طاب ليلك يا جابي. لماذا أرسلت في طلبي؟ هل حدث أمر ذو بال؟ لقد أزعجتني الخادم لما طرقت الباب.
جابي :
لماذا؟ ومتى كان طرق الباب يدعو إلى انزعاجك؟
مويلف :
إنني طول يومي في قلق، ولم يهدأ بالي طرفة عين وأحسب لدبيب النمل حسابا.
جابي :
وما سبب هذا الانزعاج يا ترى؟
مويلف :
لعل ذاك الرجل يصل قريبا.
جابي :
أي رجل؟
مويلف :
الذي حدثتك عنه طويلا ... ولست أدري ماذا يحل بي وبه إذا التقينا، ليته يحضر غدا.
جابي :
اعلمي أنه حضر الليلة وسيحضر للقائك غدا!
مويلف (بجزع) :
آه ... كيف حضر؟ وأين هو الآن؟ وهل كتمت مدام جيرمون سري (تدخل مدام جيرمون) .
مويلف (تفاجئ جابي وجيرمون) :
لقد علمت بحضوره! (إلى جيرمون)
فماذا قلت له؟
جيرمون (بتؤدة) :
لم أنفذ ما كلفتني به، ثم رثيت لحاله فطلبت إليه أن يحضر للقائك قبيل الظهر غدا.
مويلف :
لقد حاولت رده عن عزمه قبل وصوله؛ فأرسلت إليه بكتاب لأثني عزمه على الحضور، ولكنه حضر رغم ما قلت له في هذا الكتاب (بفرح)
ما أشد تعلقه بي!
جيرمون (بتؤدة) :
وهل تستبيحين اللعب بحياة هذا الشاب؟
مويلف (ضاحكة) :
ليس وراء هذا التعذيب لذة.
جابي :
لا تقولي هذا القول بحضرة مدام جيرمون فهي تخشى أن يقع ولدها في يد معشوقة مثلك (باحتقار)
والآن طاب ليلك.
مويلف :
طاب ليلك يا عزيزتي (تخرج جابي وكذلك مدام جيرمون بعد أن تنحني تحية لمويلف) .
مويلف (لنفسها) :
هاتان المرأتان لا تدركان شيئا ولا تفقهان معنى الحياة، فواحدة معذبة بحب زوج لا يهواها وأخرى مولعة بحب ابن بعيد عنها تخشى عليه الوقوع في حبائل الشيطان (تضحك)
ولا تدري واحدة منهما مقدار تعذيبي وحسرتي (تجلس إلى البيانو وتعزف نغمة صاخبة ثم تقوم وتخرج) .
المشهد السادس (يدخل كراشوف وجرترود.)
جرترود :
هنا يا سيدي، هل أرضاك العشاء؟
كراشوف :
لا سيما النبيذ.
جرترود :
هل تريد شيئا؟
كراشوف :
شكرا لك أريد أن أنهض مبكرا.
جرترود :
طاب ليلك يا سيدي.
كراشوف :
ولك المثل (تخرج ويجلس كراشوف مستعدا للكتابة فيخرج من جيبه محفظة فيها ورق، ويقرأ بعض الرسائل بصوت خافت، ثم يأخذ في تحرير كتابة رسالة، ويتلوها على نفسه بصوت مرتفع) «عزيزي نوفيكوف، بلغت الليلة مدينة فيفي ونزلت بأحد فنادقها، ولما كنت بجنيف قابلت رجلا اسمه كارنفسكي وامرأة اسمها بوزنييف، وأخبراني أن الملعونة تطوف أنحاء سويسرا ولا يقر لها قرار بمكان واحد، وأنها تتخلى عن الولد حينا بعد حين وتتركه لنسوة مأجورات، وأن حاله أشد ما يكون سوءا وفسادا، وأنها تعيش عيشة البذخ والإسراف لا تبقي على درهم مما يصل إليها مني ومن أهلها، وتارة تعيش في فاقة شديدة يطاردها الدائنون والغرماء وينكلون بها، وكان لها أكثر من عشيق، وقد عولت على اقتفاء أثرها إلى أن ألقاها فأحاول إنقاذها من نفسها، فإن أفلحت ظفرت، وإلا أنقذت الغلام من شرها وكان لي معها شأن، ولا تنس أن تقابل آزيف وتطلب إليه أن يحول باسمي على المصرف الوطني بلوزان صكا بالخمسمائة ألف روبل، وأن يكون ذلك قبل آخر الشهر. وابق لأخيك بوريس كراشوف ...» حسن جدا العبارة جليلة والخط مقروء (يغلف الكتاب ويضعه في المحفظة ويشعل سيجارة ثم ينظر في ساعته)
قد آن أن أنهض وأطفئ النور أيضا (ينهض، ويدخل لورنزو وقد أشعل سيجارة صغيرة بيده ويحيي كراشوف بلا اكتراث، ويعمد إلى قبعة ليأخذها ويهم بالخروج فيستوقفه كراشوف) .
كراشوف :
السيد قادم من بعيد؟
لورنزو :
أجل يا سيدي.
كراشوف :
وأنا أيضا قادم من بعيد.
لورنزو :
لكل سفر غاية يصل المسافر إليها.
كراشوف :
لذة المسير خير من حسرة الوصول ... إن الحياة ذاتها سفرة بعيدة الشقة شديدة المشقة لا سيما إذا كان المسافر ينوء بعبء كعبئي.
لورنزو (مندهشا ويستدير ليرى وجهه جيدا) :
خفف الله عبء الأحمال عن حامليها.
كراشوف :
إلا حملي فإنه لن يخف مهما تمنيت لنفسي ومهما دعي لي.
لورنزو :
إذن حطه عن كاهلك.
كراشوف :
إن الحمل على قلبي وليس على كاهلي، وأحمال القلوب لا تحط (يبتسم لورنزو)
تبسط في الحديث ما شئت. إنني أريد الكلام لأخفف عن نفسي ويلات الصمت والانتظار.
لورنزو :
هل سيدي ... عاشق؟
كراشوف (واضعا يده على شفتيه) :
صه، صه ... عاشق؟ كلا! كلا! إنما أنا مقتف أريد الانتقام. لقد ماتت كل عاطفة في قلبي إلا عاطفة الثأر.
لورنزو (منزعجا) :
تريد الانتقام ممن يا سيدي؟
كراشوف :
من امرأة ضالة مضلة خربت حياة زوجها ... امرأة قضت على سعادة أسرة بجملتها ... جعلت من رجل مقدام على كبار الأمور صبور على الشدائد، كتلة من اللحم والدم بلا إرادة ولا قوة، وجعلت من طفل ذكي الفؤاد بهي الطلعة باسم الثغر قوي البنية حاد الذهن، كائنا أحمق مصروعا كئيبا تنتابه الأمراض وتتقاسم العلل جسده الضئيل، ومن بيت عامر آهل طللا باليا وأثرا خاويا، وجعلت من نفسها بضاعة تكاد تباع وتشترى، وجعلت قلبها مجرد عضلات لا تعرف اللذة والألم إلا من حيث توحي إليها مطالب البدن.
لورنزو :
وهل كانت تلك المرأة التي تصف زوجا لك؟
كراشوف :
نعم يا سيدي (يحقن نفسه بالمورفين في يده، ويطرق لورنزو كأنه أدرك أمرا ذا شأن فجأة) .
لورنزو (واجما لنفسه) :
واغوثاه لو كان هو ... إنه يحقن ذاته بالمورفين! (إلى كراشوف)
والآن أنت تقتفي أثرها لأنك لم تهتد إليها.
كراشوف :
لم أهتد يا سيدي، وسأغدو إلى سان جان جولف فقد هداني بعض من رأوها إلى تلك القرية.
لورنزو :
أنت من بطرسبرج يا سيدي كما يلوح لي من هيأتك ولهجتك.
كراشوف :
نعم ... وكان الطب صنعتي.
لورنزو :
وتريد الانتقام يا سيدي (لنفسه)
أوه ... أوه.
كراشوف :
إن الانتقام يدعوني (ينظر إلى لورنزو بدهشة)
إنك تنظر إلى بطني ... تنظر إلى ضخامة جسمي ... إن الشحم يكاد يخنقني والآن أريد الانتقام ولكن بطني تعوقني ... تخمد إرادتي وتشل يميني (يخرج المورفين ويحقن نفسه)
وهذا عدو آخر أشد وطأة من البطن! ... هذا عدو عزيز المطالب لأنه يطلب العقل والروح فينقض عليهما .
لورنزو :
ولماذا تمكن هذه السموم القاتلة من نفسك؟
كراشوف :
لقد أسلمتني المرأة لليالي والأيام، وهذه أسلمتني للمورفين والخمر، وهما في جسمي كالنار والماء، لا النار تحرق الماء ولا الماء يطفئ النار!
لورنزو :
هذا أمر شنيع (لنفسه)
كيف الخلاص من هذا الوحش المعذب (إليه)
وماذا أعددت يا سيدي لعدوتك من أدوات الهلاك؟
كراشوف :
حقنة سباين البوتاس أحقنها بها على غرة منها في أي جزء من بدنها؛ فتموت بعد برهة، ثم هذا (يخرج مسدسا)
فإن كانت تستعصي وتستغيث فهذا (يخرج خنجرا)
أغمده في جسدها إن فاجأتها مع معشوقها.
لورنزو :
آه!
كراشوف :
ما لك تدمدم هكذا؟
لورنزو :
ألا يقشعر الإنسان من سماع كل تلك المهالك؟
كراشوف :
لو رأيت تلك المرأة لاقشعر بدنك بحق أكثر من قشعريرتك ألف مرة.
لورنزو (بقوة) :
وإن اعترضك عاشقها ووقف لك وقفة الند للند، وكان مثلك متأهبا للدفاع عن محبوبته ولو بالقتل.
كراشوف :
أمر به مر الكرام ولا أحرك عليه ساكنا ... على أن العاشق الذي أنت تذكره لا يعترضني إلا إذا كان من البلاهة والحمق بمكان عظيم.
لورنزو (بحدة) :
لماذا؟
كراشوف :
لأنه حليف يكيد لحليفه ... ما أشد جهالة الرجل الذي ينتقم من زوجته أو معشوقته في شخص معشوقها! إنه منتقم من الوحش في شخص فريسته ... هل المعشوق الآخر إلا فريسة المرأة التي تلعب به ريثما تزهد فيه فتتركه إلى فريسة أخرى ... آه لو رأيت عشيق امرأتي.
لورنزو :
ماذا كنت تفعل به؟
كراشوف :
كنت أضمه إلى صدري وأقول له انظر ... انظر أيها الأعمى إلي ... انظر ما فعلته بي تلك الأفعى المطيبة الملتفة حول ساقيك وخصرك وصدرك وعنقك تمتص دمك وترتوي بماء حياتك ... بل كنت أرفع إليه إحدى آلات الهلاك تلك وأوعز إليه باستعمالها حتى يدرك جلال الانتقام من المرأة قبل أن تخلعه كما تخلع إحدى نعليها، وحينئذ يأتيها الموت من جهتين ... آه لو كنت أرى هذا المعشوق الشقي الحظ!
لورنزو :
ما اسم تلك السيدة؟
كراشوف :
كانت تحمل اسمي ثم صار اسمها ثقيلا عليها، فبحثت في سجل الموتى حتى عثرت باسم جد من جدودها فدعت نفسها مدام مويلف يا سيدي! (يمتقع وجه لورنزو ويضطرب ولكنه يتجلد)
أما الولد فاسمه كوستيا وهو تصغير قسطنطين اسم والدي.
لورنزو :
وهل عزمت على الذهاب إلى سان جان جولف؟
كراشوف :
نعم نعم إنها هناك.
لورنزو :
إن الباخرة التي تقصد سان جان جولف تبحر الساعة السادسة يا سيدي ... والآن أستودعك الله (يخرج منزعجا) .
كراشوف :
أحسنت (يدنو من زر الكهربا فتنطفئ بعض المصابيح ثم يسمع وقع أقدام فيعيد النور)
أظن نور هذه القاعة يبقى مضيئا طول الليل (يخرج وتدخل أنطونيا وخلفها مويلف ولا تدركان كراشوف فيختفي وراء ستار) .
المشهد السابع (مويلف - أنطونيا)
مويلف :
مهلا أيتها الآنسة. ألم نلتق قبل اليوم في جنيف؟
أنطونيا (معرضة عنها) :
ربما.
مويلف :
ما لك؟ لا أجد سببا لهذا الإعراض.
أنطونيا (بتصنع) :
لست معرضة أيتها السيدة، ولكن خطيبي الموسيو برنار ينتظرني.
مويلف (بانزعاج وغيظ مكظوم) :
أأنت خطيبة موسيو برنار؟
أنطونيا :
نعم أنا خطيبة موسيو دي كالفادوس، هل تعودت دعوة الرجال بأسمائهم دون الألقاب؟
مويلف :
امزجي نبيذك بالماء وهدئي روعك.
أنطونيا :
لست في حاجة إلى أمثالك ووعظك.
مويلف :
مهلا أيتها الآنسة، إن لي معك شأنا أعظم مما يصل إليه ظنك (تنظر إليها أنطونيا باحتقار ثم تخرج. مويلف لنفسها)
هذا وقع أقدام (تسير إلى نافذة مطلة على الحديقة فتلمح موسيو برنار)
موسيو برنار عم مساء تفضل بالدخول إلى قاعة الاستقبال، لحظة من فضلك، كلمة واحدة.
برنار :
لا أستطيع أن أسهر أكثر مما سهرت.
مويلف :
أريد محادثتك في أمر ذي بال.
برنار :
أخشى أن يسمعك أحد وكما يقولون خير قليل وفضحت نفسك!
مويلف :
لا شأن لك. ادخل فالقوم نيام وليس لأحد علينا رقابة.
برنار :
ولكن يهمني أن لا يراني أحد معك.
مويلف :
أتوسل إليك أن لا تكسر قلبي، وأن لا تنزل بي إلى ما دون ذلك من درك المذلة.
برنار :
لقد أجبتك إلى طلبك مرارا وخلونا وتحادثنا وأنت تعلمين أن في هذا من الشبهات ما فيه.
مويلف :
أقول لك قولا أخيرا لا تطاوعني غير هذه المرة. إنني أنتظرك منذ الساعة التاسعة ولم أحفل بالنوم، وقد أخذ بمعاقد أجفاني بل لم أحفل بما هو أعظم شأنا من النوم لأجلك.
برنار :
سأدخل وأبقى معك لحظة.
مويلف :
شكرا لك (يدخل) .
برنار :
ما هو الأمر الذي تريدين محادثتي فيه ... لا تطيلي فإنني الآن غيري بالأمس؛ لأن خطيبتي بالبيت وأخشى أن تفاجئنا فتتهمني بغير ذنب.
مويلف :
ألا تجلس قليلا؟ ما هذا التعنت؟
برنار :
ليس في الأمر تعنت.
مويلف :
إذن ما هذا الدلال؟
برنار :
ولا دلال وليس بيننا ما يقتضي أحد الأمرين.
مويلف :
ولكن بيني وبينك ما يبيح لي كل شيء (تدنو منه فيبتعد)
أتبتعد عني؟ أيلذ لك تعذيبي إلى هذا الحد؟
برنار :
سيدتي إنه لم يخطر ببالي قط أن ...
مويلف (مقاطعة) :
لا تزد كلمة واحدة ... واحدة ... إنك تعبث بقلبي، أتريد أن أقتل نفسي؟
برنار :
أنت حرة ولكن انتظري ريثما أبلغ غرفتي (ينهض) .
مويلف (تتعلق به) :
كلا انتظر. إنني أمازحك ... لا أريد الموت ما دمت أتمتع برؤيتك ولو عن جفاء. جرب حب امرأة تظن أنك تبغضها.
برنار :
سيدتي إن كل هذا لا ينفع.
مويلف :
إذن أغير مجرى الحديث ... ما أخبارك يا موسيو برنار؟
برنار :
لا تسألي عن أشياء إن تبد لك تسؤك. فقد تناولت من بريد اليوم كتابا يبشرني بقدوم أهل خطيبتي وسنقضي معا بضعة أيام متنقلين في الغابات والجبال، ثم نعود إلى ليون فأزف إلى عروسي.
مويلف (تنهض) :
أهذا آخر قولك لي؟ إنك إن لم تسمع صوت قلبي المعذب فلن تكون سعيدا في زواجك ... إنني بعد أن عرفت خطيبتك سأقتفي أثرك بسخطي وحقدي ... سأنفث لك في العقد، وسأستنجد بأرواح الشر الكامنة والظاهرة ... إنني امرأة شيطانية؟
برنار (باستهزاء) :
ها ها ها أنت لا شك مجنونة. لقد أخطأت إذ أغثت لهفتك وخلوت بامرأة مثلك دقيقة من وقتي ... إن مجرد النظر إلى وجهك وسماع صوتك بعد ما رأيت منك خيانة لعروسي الطاهرة (تبكي ممسكة به فيحاول التخلص دون أن يمسها)
إنك إن أطلت هذا الموقف فضحتك بالمناداة على الخدم وأيقظت كل من في المنزل.
مويلف (باكية) :
سامحني! اعف عني! لقد جننت بحبك وأفقدني إعراضك صوابي ... اعف عن تهوري ... كن سعيدا أنت وعروسك ... إنني لا أعرفها ولم يقع عليها بصري قط، إنما قلت لك ذلك لأزعجك ... أتوسل إليك أن تنسى كل ما سمعت مني.
برنار :
حسن. سأحاول نسيان ما سمعت ... ليلتك سعيدة.
مويلف :
أسعد الله ليلك ... اسمع قبل أن تخرج.
برنار :
ماذا تقولين هذه المرة؟
مويلف :
لا تصدق كلمة واحدة مما قلت. كنت أمازحك. أتحسبني جادة فيما ذكرت لك.
برنار :
ها ها ... وبعد؟
مويلف :
لقد حضر الليلة الرجل الذي كنت أنتظره من زمن ... قدم من بلاد قصية، ولكنني لم أتمكن من لقائه وسألقاه غدا قبل شروق الشمس، فأحظى بقربه ثم نرحل إلى حيث المنى تبعث المنى، وهو فتى كريم ومجنون بحبي وأنا كذلك أحبه كثيرا، وهو شديد الغيرة علي، ولم يرد انتظاري خوفا علي من دهشة السرور بلقائه ... انظر إلى أية درجة من الهيام وصل حبه إياي!
برنار :
هنيئا لكل منكما بصاحبه.
مويلف :
إنه جميل جدا وغني وكريم.
برنار (باسما) :
إن كان كما وصفت فهو لا يصلح إلا لك.
مويلف :
سافر من أجلي سبعة أيام!
برنار :
اعلمي يا سيدتي أنك تخطئين المرمى إذا أردت أن تثيري غيرتي عليك؛ لأن الغيرة تقتضي الحب وليس بيننا شيء من ذلك، طاب ليلك (يهم بالخروج) .
مويلف :
إنك لم تفطن إلى قصدي. لم أرد قط أن أثير غيرتك، إنك لن تراني بعد الليلة. إنك تترك فرصة عظيمة تفلت من يدك وأنت قادر على انتهازها.
برنار :
وما هي تلك الفرصة؟
مويلف (بتردد) :
امرأة في الثلاثين من عمرها ذات جسم لا نظير له، تهب لك قلبها وروحها وأنت تردها وهي عاشقة مولهة بحبك، تريد أن تذيقك لذة لن تذوقها من عروسك الساذجة وأنت ترفض تلك اللذة.
برنار (خارجا) :
طاب ليلك يا سيدتي.
مويلف :
برنار قف (تجري خلفه)
موسيو كالفادوس سامحني (يقف برنار) .
برنار :
ماذا تريدين؟
مويلف :
أريد أن أقول إن الآنسة أنطونيا ...
برنار (مقاطعا) :
خطيبتي! من أين لك معرفة اسمها؟ أي شأن لك معها؟ هل تعرفينها؟ وأي علاقة بينكما؟
مويلف :
أعرفها ولا أعرفها.
برنار :
هذا لغز جديد!
مويلف :
كلا! أريد أن أقول لك إنني أعرف شخصا يعرفها جيدا، وهي أيضا تعرفه معرفة تامة.
برنار :
من هو هذا الشخص؟
مويلف :
هذا سري لا أبوح به.
برنار :
بلى، بوحي به لي وحدي فأنا لا أخونك إذا ائتمنتني.
مويلف :
كلا، كلا ... إني مخطئة وأعود أرجع في قولي.
برنار :
هذا لا يكون. هذا لا يليق. لا تذهبي قبل أن تقولي.
مويلف :
إنك تشغل نفسك على غير جدوى.
برنار :
أنت التي شغلتني.
مويلف :
انس ما قلت لك، ولنغير مجرى الحديث.
برنار :
لقد تركت بحديثك هذا ما يشغل بالي، إن الشكوك تستبد بي، وسوف تكبر حتى تنهش قلبي وتنغص حياتي.
مويلف :
قلت لك تغيير الحديث أولى. أتعرف موسيو لورنزو؟
برنار :
من لورنزو هذا؟
مويلف :
ذلك الرجل الحزين اللابس الحداد الكثير الصمت الذي نزل بالدار الليلة.
برنار :
كلا لا أعرفه ولم أره.
مويلف :
إن شخصا آخر تعرفه جيدا يعرف هذا الرجل.
برنار :
من الذي تعنين؟
مويلف :
أعني شخصا آخر يعرف لورنزو جيدا، ولا يريد أن يعرف أحد عنه ذلك.
برنار :
من هو يا ترى؟ كأنك تطرحين علي لغزا.
مويلف :
ألم تفهم بعد؟ الأمر مع ذلك سهل لا يحتاج إلى كد قريحتك.
برنار :
أيتها المرأة، ماذا أنت قائلة؟
مويلف :
هدئ روعك، الأمر كما فهمت، وأنا لا أرسل القول جزافا، بل لدي ما يثبت ذلك مما لا شك وراءه.
برنار :
أكتب غرام من خطيبتي لهذا الرجل أم ماذا؟
مويلف :
نعم. كتب غرام أوقعتها في يدي المصادفات.
برنار :
وأين هي؟
مويلف :
لا أستطيع إبرازها إلا إذا وعدتني.
برنار :
بماذا أي وعد تريدين؟ وهل تحاولين الانتفاع بهذه الكارثة؟
مويلف :
لا نفع لي ولكن عدني بالكتمان.
برنار :
أعدك ... أعطني تلك الرسائل.
مويلف (تخرج من جيبها خطابا واحدا وصورة) :
ها هو.
برنار (يخطفه بسرعة عظيمة) :
هذا خطها! (يقرأ بتلهف)
يا ويلي وويلها ... اغربي عني أيتها المرأة ... كنت أبغضك مرة واحدة فأمسيت بعد هذا الاكتشاف أبغضك ألف مرة.
مويلف :
كنت تزدريني وتقبحني وتنفر مني وتتيه علي حسابا أنك ظفرت بأكرم العذارى وفضلاهن، والآن رأيت بعينك أننا في الهوى أشباه، وأنني كما أحبك كانت فتاتك الصغيرة تحب سواك.
برنار :
اصمتي ولا تقولي فيها كلمة.
مويلف :
إلاهة هي لا تذكر ولا تمس؟ أم ربة الصون والعفاف يخشى عليها من اللمس؟!
برنار :
كفى ... كفى اتركيني وشأني، ولكن أي ثمن تطلبين لتلك الأوراق.
مويلف :
بلغني الثمن وزيادة.
برنار :
وما هو؟
مويلف :
أن بصرك وقع عليها وأنك علمت ما كنت تجهل من شأنها ... إلى الملتقى يا مسيو برنار (عند خروجها تضع إبهام يمينها على طرف أنفها وتفرد كفها علامة الازدراء. يخرج كل منهما من باب) .
المشهد الثامن (يدخل كراشوف قابضا على قلبه وهو يلهث من التهيج.)
كراشوف :
آه! هي هنا هي هنا لقد ظفرت بها بعد طول الاقتفاء (الساعة تدق الثالثة) ... (ستار)
الفصل الخامس
المشهد الأول (بهو فيلا سيليفيا. يدخل لورنزو.)
لورنزو :
طاب يومك يا سيدتي.
جيرمون :
طاب يومك. تفضل بالانتظار ريثما تحضر مدام مويلف إيذن لي أن انصرف إلى شئون منزلي (مويلف تتقدم إلى لورنزو ماشية الهوينى مضطربة وتصافحه) .
مويلف :
متى حضرت إلى فيفي؟
لورنزو :
وصلت ليلة أمس (لنفسه)
إنها تغيرت كثيرا وكدت لا أعرفها للوهلة الأولى.
مويلف :
خير أن نجلس بجوار الشرفة، فإنني أكاد أختنق من شدة الحر (يجلسان بجوار الشرفة وتشرق مويلف بريقها ثم تختنق بما يشبه البكاء ولكنها لا تبكي) .
لورنزو :
ألم يصل إليك كتابي الذي أرسلت منذ أسبوع؟
مويلف :
بلى وصل إلي.
لورنزو :
انتظرت أن ألقاك في مرسيليا أو جنيف على الأقل، فحين لم أجدك بإحداهما ظننتك مريضة أو في حاجة أو أن مانعا قهريا عاقك عن لقائي ... لعل كوستيا بخير ولعل أخبار أسرتك سارة.
مويلف :
دعنا من كوستيا ومن أسرتي. ألم يصل إليك مني كتاب.
لورنزو :
كلا.
مويلف :
هذا مستحيل لا بد أنك تسلمته.
لورنزو :
وماذا جاء به؟
مويلف :
لو كنت قرأته ما كلفت نفسك مشقة الحضور ولا حسرة العودة.
لورنزو :
ماذا تقولين؟
مويلف :
إنني أقول لك خلاصته في كلمتين؛ ارحل لساعتك فإن الحب الذي كان بيننا قد انقضى، والقلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!
لورنزو :
أتمزحين أم تقولين حقا؟
مويلف :
ليس في الأمر مزح. إنك طلبت إلي يوما أن أصدقك إذا نزع حبك من قلبي فوعدتك.
لورنزو :
إنني إذا عثرت بالكتاب ما عدلت عن الحضور، بل إذن تقدمت لأنقذ نفسي من ندم ربما عراني إذا عدلت عن لقائك تصديقا لما جاء في كتابك.
مويلف :
وما يكون معنى حضورك؟
لورنزو :
كنت أصل إلى فيفي هادئ الروع مطمئن القلب ضعيف الرجاء في حبك، وتكون سياحتي إليك تضحية في سبيل الإخلاص والوفاء (تنهض فينهض) .
مويلف :
يكاد من يسمع قولك يحسبك موطدا نفسك على الانفصال والقطيعة، فأنت قادم لتريح ضميرك.
لورنزو :
كنت أرجو لقاءك لأشبع نفسي بحبك، ولأفرغ لك في ليلة ما وسعه فؤادي من آلام الوحدة والفراق خلال سبعة أشهر لم تمر منها لحظة دون أن تمر صورتك بعيني وصوتك بأذني؛ لأن نفسي لم تكن تحدثني أنه بينما كانت النار تضيء بين جوانحي كنت تخونين عهودي، وتحنثين في أيمانك الوثيقة، وتهدمين بمعول الأثرة والشهوات هيكل الحب المقدس!
مويلف :
هون عليك. لم أحسب أن لهذا الخبر هذا الوقع.
لورنزو :
كاترين! أتمزحين أم تقولين حقا. كفى مزحا. حدثيني عن حالك ودعي المزح جانبا.
مويلف :
عجيب جدا أنك لا تصدقني ولا تريد أن تقبل أمرا وقع، أما قلت لك إنك تفقدني بهذا البعد الطويل.
لورنزو :
أي بعد تقصدين؟ هل مضى على فراقنا أكثر من ستة أشهر، ما أقصر الوفاء عندكن! ألم تذكري لي أنك عرفت امرأة حفظت ود حبيبها خمسين سنة؟ فكيف لم تستطيعي البقاء على ودي نصف سنة؟!
مويلف :
يظهر لي أنك سابح في بحر الأوهام أو طائر في جو الخيال!
لورنزو :
هل كانت عهودك وأيمانك لأجل مسمى. هل عجز قلبك عن الوفاء بوعودك أم فقدت العقل والقلب معا؟
مويلف :
لقد أقسمت لك حقا، على أن القسم قد يصدر عن نزعة من نزعات النفس ولا يحاسب المرء عليه إلا نفسه.
لورنزو :
إذا كان ما بيننا قد انتهى فكيف تطلبين إلي أن أرحل، وأي حق لك في ذلك؟
مويلف :
نصحت لك بالرحيل حفظا لكرامتك.
لورنزو :
أتحسبين في مجيء رجل يبحث عن امرأة كانت له، ما يدعو إلى احتقاره؟
مويلف :
الأمر لك (تهم بالخروج) .
لورنزو :
اسمعي.
مويلف :
تريد أمرا يا سيدي؟
لورنزو :
قبل أن تذهبي اقبلي الهدايا التي أحضرتها باسمك.
مويلف :
ماذا أحضرت لي؟
لورنزو :
أحضرت لك حريرا هنديا ودمقسا شاميا وعطرا شرقيا ومصوغا مصريا وأشياء أخرى لا تعد.
مويلف :
لا أستطيع قبول هداياك ما دمت أرد حبك.
لورنزو :
اقبليها لا عربونا لحب مقبل ولكن تذكارا للود القديم.
مويلف :
كذلك أقبل.
لورنزو :
هذا خاتم ذهبي نقشت عليه اسمك.
مويلف (تتختم) :
إنه جميل.
لورنزو :
وهذا عقد من اللؤلؤ وهذه العلبة المدلاة فيها صورتك.
مويلف (تتقلد العقد فيحاول لورنزو ربطه من خلف العنق فترده بيدها) :
شكرا لك فإنني أعرف كيف ألبس الحلي.
لورنزو :
وهذان هما القرطان اللذان اشتهيتهما يوم كنا معا في فلورنسا. أتذكرين عهد فيزوليه؟
مويلف (تتحلى بالقرطين) :
شكرا لك ودعنا من العهود والآن ثق يا موسيو لورنزو أن هذه الهدايا لم تحدث في الأمر شيئا، وأنني لم أقبلها إلا إرضاء لك (تهم بالخروج) .
لورنزو (كالمجنون) :
إلى أين؟
مويلف :
هذا شأني ... ليس لك نهي علي ولا أمر.
لورنزو (يتبعها) :
عجبا لضجرك وإعراضك!
مويلف :
إن الماضي لا يعود.
لورنزو :
ألا أصحبك إلى حيث تشائين؟
مويلف (تقف فجأة) :
أتريد أن تقتفي أثري وتعذبني كما كان يفعل زوجي.
لورنزو :
أقتفي أثرك وأعذبك كما كان يفعل زوجك؟! هل وصلت بي الحال إلى هذا الحد. كفى ... كفى ... اذهبي أنى شئت ... كاترين ... كاترين ...
مويلف :
ماذا تريد مني؟
لورنزو :
عودي وابقي قليلا، فإن لي كلمة أريد أن تصغي إليها.
مويلف (تعود بضجر) :
هات ما عندك.
لورنزو (لنفسه) :
أأخبرها بمقدم زوجها كراشوف؟ إنني أخشى أن تنزعج الأولى أن أغريها بالرحيل ثم أفاوضها في أمره (إلى مويلف)
لو علمت أنني لم تغمض لي عين إلا خلسة خلال سبعة أيام بلياليها، وأن حمى الانتظار والأمل كادت تطحن عظامي وتبدد أعصاب قلبي، ولو علمت مقدار حبي وانشغال نفسي عليك، وكيف كنت أبعد مخاوف الوحدة والوحشة عن قلبي بأمل لقائك. لو علمت كيف كان خفقان قلبي واضطرابي حين بلوغ فيلا سيلفيا، وخور قواي وانحلال أوصالي عندما سمعت خبر سفرك، ويأسي حينما قالت لي صاحبة الفندق إن ساحة المحطة ملأى بالفنادق لفضلت الموت على أن تجني علي هذه الجناية.
مويلف :
ما الفائدة من هذا النواح والشكوى؟
لورنزو :
طالما ذكرت لي أن حبك إياي إنما هو الحب الأعظم.
مويلف :
إن الحب الأعظم هو حب الساعة التي أنت فيها.
لورنزو :
لقد قضيت على حياتي وتزيدينني غيظا!
مويلف :
لم أقض على حياتك إن أمامك عمرا مديدا وعيشا سعيدا. أما أنا فليس أمامي إلا الوحدة والألم.
لورنزو :
إذن ما يدعوك للإعراض عن حبي ما دمت لن تحظي بالسعادة من اليوم؟
مويلف :
تريد أن أعود إليك فتملكني، وتشعل من جديد في قلبي نار حبك بعد أن خبت وهي نار تلتهم الأحشاء وتفني الروح والجسد، ثم تتركني أتضور من ألم فراقك سبعة أشهر أخرى أو سبع سنين وربما تركتني إلى الأبد بعد الذي رأيته مني ... كلا! ... كلا! لن يكون ذلك لك.
لورنزو :
أعاهدك أن لا أفارقك بل أعيش معك طول حياتي ... لقد جئت لأجل هذا ... جئت لأزف إليك بشرى لقاء لا فراق بعده ... (يبكي.)
مويلف (تبكي) :
أنت تبكي يا لورنزو ... إن وقع دموعك على نفسي الشقية كسقوط قطر الندى على الأزهار قبل الذبول. إن دموعك أثمن من هداياك النفيسة الغالية، ولكن إليك الآن عني يا لورنزو وعد إلى حياتك السعيدة ... اعف عني واتركني فقد خنت حبك!
لورنزو :
كيف خنت حبي؟
مويلف :
نعم خنت حبك وسقطت بين ذراعي رجل غيرك ... لقد يئست من حبك بعد أن يئست من لقائك!
لورنزو :
آه! يا لك من شقية. لقد كنت أعمى غبيا ... ما أشد حماقة من يضع قلبه في كف امرأة مثلك! إذن كنت تكذبين وأنت تبكين وتستعطفين؟ هل ألقى الحب على بصيرتي غشاوة، فلم أستطع التمييز بين الصدق والكذب؟ هل أعمتني كلماتك العذبة ووعودك الوهمية (تبكي)
ابكي الآن أيتها البائسة؟
مويلف :
هل كان حبي عظيما لديك بهذا المقدار حتى تأسف عليه أسفا يكاد يقتلك؟
لورنزو :
إنني لا آسف على حبك أيتها المرأة، ولكنني آسف على الأيام التي قضيتها مخدوعا بحبك الكاذب! ... ألا تذكرين تلك الليلة التي قضيتها بجانبك في رابالو أصارع الموت عليك وأنت بين مخالب الحمى ... لقد حاربت الردى بالعلاج والسهر، ودرأت بجهادي المتواصل ريح الفناء العاصفة التي هبت عليك وأنت غارقة في ذهول الداء ... وانتشلتك من أظفار المنية بعد أن أوشكت أن تنشبها في روحك ... واأسفاه! على أن نفسي لم تشرف على المستقبل لأرى ما تفعلين بي (يجهش بالبكاء ويقع مغشيا عليه، فتنتهز مويلف هذه الفرصة وتهرب، ثم يصلح لورنزو من شأنه ويدخل جودياس) .
المشهد الثاني (جودياس - لورنزو)
جودياس :
هذا أنت يا لورنزو؟
لورنزو :
جودياس! جودياس ... عزيزي جودياس (يهم بضمه)
لقد صادف لقاؤنا غاية في فؤادي.
جودياس (مبتعدا) :
هذه عادة قديمة أزالتها آداب اللياقة الحديثة بين الرجال وتكفي المصافحة على الطريقة الأمريكية دون الضم والتقبيل، لا سيما وأنك ذو لحية كثة وأنا لا أطيق شعر الذكور.
لورنزو :
عفوا إذا أزعجك اندفاعي ... حسبتك جودياس صديقي القديم.
جودياس :
أنا هو إنما الدنيا والأخلاق تغيرت ودوام الأمور على حالها محال، ولا يبقى على حال واحدة إلا الحمار.
لورنزو :
هل تقيم منذ عهد طويل بفيفي؟
جودياس :
منذ بضعة أشهر ليس إلا ...
لورنزو :
وهل طاب لك المقام؟
جودياس :
على قدر المستطاع، فإنني أعيش عيشة الفراغ والشباب، وأقطف ما أستطيع من أزهار السعادة وأذوق ما تجود به الحياة من فواكهها.
لورنزو :
وهل عشقت أو بقيت بلا عشق يا جودياس؟
جودياس :
هل حسبتني في عداد المجانين فتسألني عن العشق ... أي عاقل يعشق؟
لورنزو :
وهل لا يعشق غير المجانين.
جودياس :
بلا ريب، إن العشق غذاء نفوس الجهال والحمقى.
لورنزو :
وماذا يصنع العقلاء الراشدون إذن؟
جودياس :
يعيشون مثلي حسب الطلب وعند مقتضى الحال ... ألا كارت يا مون شير!
لورنزو :
ماذا تقصد بهذا التعبير؟
جودياس :
إن الطبيعة لم تخلق أوفر عددا من النساء، فأنا أختار مما ألقى في طريقي من تلائم حاجتي لساعتي.
لورنزو :
بحب أم بدون حب؟
جودياس :
حب الضرورة وأتخلى عنها قبل أن تتخلى عني، وأزهد فيها قبل أن تزهدني.
لورنزو :
ولو لقيت منهن امرأة تحبك؟
جودياس :
إن النساء يبدين غير ما يخفين؛ فلو ادعت امرأة حبي أشكرها ثم أودعها ... خذ لك مثلا امرأة روسية أظهرت لي حبا يكاد يكون جنونا ... أوه أظنك تعرفها جيدا لأننا التقينا بها معا.
لورنزو :
أعرفها جيدا! من تكون تلك المرأة؟
جودياس :
هي مدام مويلف التي كان لك معها حديث طويل بلوزان.
لورنزو :
آه الآن ذكرتها. ماذا تقول؟ هل أحبتك تلك المرأة حبا يقرب من الجنون؟
جودياس :
نعم فإنني لقيتها هنا لدى وصولي.
لورنزو :
تقول إنها أحبتك؟
جودياس :
نعم.
لورنزو :
كفى يا هذا فإن حديثك يمل.
جودياس :
وهل تطفلت به عليك. على أنه لم يخطر ببالي أنك منهم.
لورنزو :
ممن تحسبني؟
جودياس :
من عشاق تلك المرأة.
لورنزو :
كنا فيما مضى أصدقاء ثم فرقنا الدهر، وما كدت أحسب أننا نلتقي على ما نحن عليه.
جودياس :
كل هذه الجلبة وهذا الخصام لأجل امرأة أنت تعرفها، ما أقل خبرتك بالحياة! لقد فطنت لحقيقة أمرك فاسمع نصيحتي ... إذا خانتك فاتركها وخذ سواها ولا تملأ الدنيا نواحا عليها، ولا تأسف عليها وتندب حظك العاثر.
لورنزو :
هذه غريزة الوحوش الذين لم تنعم عليهم الطبيعة بنعمة الوجدان الشريف، فهم فريسة شهوات أبدانهم، على أنني لم أطلب منك نصيحة ولا درسا.
جودياس :
لقد أخلصت لك النصح. هل أنت أول من تصيدته تلك المرأة بحبائلها؟ ... إنك لا تستطيع الجواب لئلا تنال منها ... ألا تذكر لقاءكما الأول في لوزان؟
لورنزو :
لا تزد أيها الرجل!
جودياس :
لعلك تعرف بعض من سبقك إليها، وإن كنت لا تعلم عدد من ورد بعدك ومن سيرد.
لورنزو :
ويل لك!
جودياس :
اشرب كأس الحقيقة حتى آخر عكرها، إن معشوقتك التي خانتك كما خانت سواك من قبل سوف تخون غيرك من بعد.
لورنزو :
أيها الوغد! (يخرج مسدسا)
لأخرقن جبينك ولأخرقن رأسك بنار مسدسي هذا (يفر جودياس ويتبعه لورنزو) .
المشهد الثالث (برنار - أنطونيا - لورنزو)
أنطونيا :
طاب يومك (يعرض برنار عنها)
طاب يومك (يزيد برنار إعراضا وتغيرا)
ما هذا؟ أنت معرض عني؟ ماذا جرى؟!
برنار :
اسمعي أيتها الآنسة.
أنطونيا :
أيتها الآنسة! لماذا تدعوني هكذا؟ ماذا جرى يا برنار؟ لا تطل تعذيبي.
برنار :
إن لي معك حديثا ذا شأن.
أنطونيا :
ما هذا الحديث؟ وما عسى أن يكون حتى تباغتني معرضا.
برنار :
إن على هذا الحديث يتوقف هناء حياتنا المستقبلة.
أنطونيا :
ما تقصد؟
برنار :
لا يعنيك قصدي ... يعنيني أن تخبريني عن الماضي.
أنطونيا :
بأي ماض أخبرك؟
برنار :
ماضيك أيتها الآنسة.
أنطونيا :
ليس في سجل حياتي صحيفة لم أطلعك عليها.
برنار :
تذكري جيدا ... ألم تحبي شخصا قبل تعارفنا حبا يقرب من الجنون؟!
أنطونيا :
لا أذكر.
برنار :
ألم تكاتبي هذا المحبوب؟
أنطونيا :
كلا.
برنار :
تصرين على الإنكار حتى لو رأيت رسالة الغرام التي خطتها يدك. سأعود إليك بالمكتوب لأرى إلى أي حد تبلغ مكابرة المرأة، واعلمي أن كل ما كان بيننا قد انتهى، وأنك منذ اليوم حرة لا تربطك بي رابطة الخطبة! (يهم بالخروج) .
أنطونيا :
برنار إلى أين تذهب؟
برنار :
سأعود إليك بالأوراق التي تقنعك إقناعا قاطعا (يخرج لاستحضار المكتوب) .
أنطونيا :
واغوثاه ... ذلك الرجل الحقود الغيور انتقم لنفسه يا لدناءة الرجل! (يدخل لورنزو.)
لورنزو (لنفسه بعد أن يعود من مطاردة جودياس) :
يا للجبان! لم أتمكن من اللحاق به ... (يلمح أنطونيا)
طاب يومك أيتها الآنسة.
أنطونيا :
أتجرؤ أن تحييني أيها الرجل ... إن قلبك لا يعرف الرحمة وضميرك لا يخشى تأنيبا.
لورنزو :
أيتها الآنسة! ماذا أصابك؟ هل فقدت رشدك؟
أنطونيا :
نعم فقدت رشدي إذ سخرت يدي فيما دونته لك فبعت كتابي بأبخس الأثمان وهو انتقامك من سعادتي.
لورنزو :
أنت تتهمينني ظلما بإظهار كتابك لخطيبك.
أنطونيا :
إلى متى تعبث بسذاجة قلبي؟
لورنزو :
يا للهول! الآن أدركت ما حدث ... هوني عليك أيتها الآنسة ... إنني لم أدفع كتابك إلى خطيبك ... إنما عرفت الآن من خانني وغدر بك ... ولكن اعلمي أنني أذنبت بنية خالصة.
أنطونيا :
أخبرني إذن أسرع بإخباري، إن برنار لا يلبث أن يعود حاملا تلك الورقة ولا أدري ما أقوله له.
لورنزو :
أتذكرين تلك المرأة مويلف التي آثرتها على سواك؟
أنطونيا :
نعم أذكرها ورأيتها أمس.
لورنزو :
هي التي خانت أمانتي وأظهرت كتابك لخطيبك ... لقد جاء يوم ملكت علي فيه هذه المرأة قلبي ونفسي ... ثم جاء يوم طلبت فيه كتابك وغيره من الرسائل لتحرقها لتسدل بيني وبين الماضي حجابا لا تنفذ منه الذكرى ... فأذعنت ودفعت إليها الأوراق!
أنطونيا :
الآن فهمت ولكن ما التدبير الآن؟ إن خطيبي قال لي ما كان بيننا قد زال وإن رابطة الخطبة قد حلت. وإذا صدق في قوله فلا حياة لي بعد اليوم (تبكي) .
لورنزو :
خففي عنك أيتها الآنسة وابرحي الآن هذا المكان، وأنا الكفيل بعودة المياه إلى مجاريها بينك وبين خطيبك فتعودي إليه رافلة في حبه ورضاه.
أنطونيا :
شكرا لك وغفرانا (تخرج) .
المشهد الرابع (برنار - لورنزو) (يدخل برنار وينظر متلفتا.)
لورنزو :
عفوا يا سيدي هل أنت السيد برنار دي كالفادوس؟
برنار :
هو أنا. ألك حاجة أقضيها؟ (يضع الأوراق في جيبه.)
لورنزو :
اسمي لورنزو لودفيجو ... سيكون بيننا صداقة دائمة ... هل أنت موضع حب امرأة اسمها مويلف؟
برنار :
حقا إن في هذا المنزل امرأة تدعي حبي.
لورنزو :
سأفتح لك قلبي. كنت مولها بتلك المرأة فاستولت على رسائل كتبتها إلي فتيات طاهرات شريفات في سويعات جنون الصبى وطيش الشباب، وكنت أحرص عليها لأردها لصواحبها، وأذكر بين اللواتي كتبن إلي فتاة اسمها أنطونيا ... الآنسة أنطونيا بيلادونا ... رأيتها مرة واحدة لا أكثر مع أسرتها ولم تتجاوز علاقتي بها ذلك الحد.
برنار :
أتقسم أن علاقتكما لم تتعد ما ذكرت؟
لورنزو :
أقسم أنه لم يتمش السوء بيني وبين أنطونيا بيلادونا، وأنني لا أحفظ لها إلا ذكرى حب عذري شريف.
برنار :
شكرا لك يا سيدي ... لقد أنقذت سعادتنا ... إن أنطونيا بيلادونا هي خطيبتي وكانت تلك الصحيفة من ماضيها غامضة علي، والآن جلوت غامضها، وأزلت الشك عن قلبي.
لورنزو :
هنيئا لك حبها فإنها خير من عرفت من النساء. والآن ضمني إلى صدرك يا برنار (يتعانقان) .
برنار :
هيا بنا إلى خطيبتي، فإنها تنتظر عودتي على أحر من الجمر.
لورنزو :
بل اذهب إليها منفردا ولعلنا نلتقي بعد اليوم.
برنار :
الأمر لك ... إلى الملتقى وشكرا لك على ما صنعت من الجميل (يخرج برنار) .
المشهد الخامس (لورنزو منفردا)
لورنزو (لنفسه) :
أرى تلك المرأة توقظ الشياطين في أعماق نفسي إنها تستفزني ... أأقتلها وأشفي غليلي بالقضاء عليها؟ أأسلبها نعمة الحياة كما سلبتني نعمة السعادة والأمل؟ لقد فعلت بي تلك المرأة كل ما لم تكن تحدثني به نفسي، فصدعت قلبي وأشعلت في فؤادي نار الغيرة، وقالت لي في وجهي إنها لم تحفظ لي عهدا ... لقد آن لي أن أصحو، وقد بدأت أبل من علتي، الحب الحب الحب ... قاتل الله الحب! لورنزو لورنزو أفق لنفسك ... لماذا يا رباه لا تزول من نفسي آفة الحب ولا يبرأ قلبي من محنة الهوى ... إن كل شيء في الكون يخلق ثم يتجدد وكل كائن في الطبيعة يبعث بعد أن يهلك فالبعث يا رباه! أريد قيامة نفسي ... أريد بعث روحي البعث البعث يا رباه ...
المشهد السادس (جودياس - مويلف)
جودياس :
هل كانت لك بلورنزو دي لودفيجو صلة عشق؟ إن الأمر ذو بال.
مويلف :
كلا. من افترى علي هذه الفرية؟ لم تكن بيني وبينه صلة كالتي بيني وبينك.
جودياس :
إن عزيمتي قد صحت على الرحيل عن هذا البلد وهذه الديار بأسرها.
مويلف :
وأنا أيضا سأرحل فخذني معك.
جودياس :
كلا! لم تصل بنا المودة إلى هذا الحد.
مويلف :
أنا لا أطلب إليك أن تعاشرني.
جودياس :
إذن ماذا تطلبين؟ اعلمي قبل كل شيء أنني لا أستطيع عشرة النساء أكثر من السويعات الضرورية.
مويلف :
أسألك أن تصحبني إلى ما وراء هذا البلد، ثم يأخذ كل منا طريقه إلى غايته التي يقصد إليها.
جودياس :
هذا مستحيل يا عزيزتي. أستودعك الله.
مويلف :
يا لك من نذل خسيس. ما أعظم الفرق بينك وبينه. إذن أسافر منفردة (تلمس زر الكهرباء. تدخل جرترود) .
جرترود :
سيدتي.
مويلف :
أخبري مدام جيرمون أنني تلقيت برقية من ولدي تنبئني باشتداد مرضه، وأنني مضطرة إلى الرحيل فورا ثم عودي إلي تجديني في غرفتي فتساعديني في إعداد حقائبي.
جرترود :
سأفعل يا سيدتي (تخرجان كل من باب) .
المشهد السابع (كراشوف ولورنزو يدخلان من بابين متقابلين.)
كراشوف :
هذا أنت أيها السيد. ألا من وسيلة للعثور بهذه الخادم؟ فقد دققت لها سائر أجراس المنزل ولم يبق علي إلا دق نواقيس المدينة!
لورنزو :
وأنا أيضا أبحث عنها ولعلها تقضي بعض الشئون ثم تعود. هل ظفرت ببغيتك التي كنت تنشدها في سان جان جولف؟
كراشوف :
ظفرت، ولكن في غير سان جان جولف.
لورانزو (لنفسه) :
ترى ماذا يضمر لها من السوء؟ ... لعل لي من ضغن هذا الزوج الموتور انتقاما يريح نفسي (إلى كراشوف)
وهل تقيم في فيفي طويلا؟
كراشوف :
قد يطول مقامي وقد لا يطول ... وأنت؟
لورنزو :
إنني أبرح المدينة قبل نصف الليل بساعة.
كراشوف :
أتمنى لك سفرا سعيدا وإن عثرت بالخادم بعثتها إليك.
لورنزو :
شكرا وأدعو لك بالتوفيق (يتصافحان ويخرج لورنزو وتدخل جرترود تحمل حقائب مويلف وهي تلهث من شدة التعب ثم تضعها في وسط القاعة) .
جرترود :
أف! ما أثقل هذه الحقائب كأن بها رصاصا أو نحاسا، لست أدري ماذا يضع الأغنياء في حقائبهم، ولماذا يحتاجون إلى أمتعة لا تعد ولا تحصى؟! (تبصر كراشوف)
عفوا يا سيدي.
كراشوف :
جرترود أين أنت؟
جرترود :
عفوا يا سيدي، إنني نسيت الشاي وما أنسانيه إلا سفر الأضياف في ليلة واحدة أو بقطار واحد. إنني أشكو ثقل هذه الحقائب وكثرتها، على أنني لم أنقل إلا متاع مدام مويلف وسأنقل فورا ...
كراشوف (لنفسه) :
إذن هي مسافرة، فهل علمت بحضوري أم لم تعلم؟ (إلى جرترود)
مسكينة أيتها الصغيرة (يسمع دق الجرس. تخرج جرترود وتدخل مويلف بثياب السفر وعلى وجهها قناع وهي مشغولة بلبس قفاز ثم تنحني على إحدى حقائبها فتتناول منها شيئا ثم تنهض فتلقى كراشوف وجها لوجه فتضطرب أولا ثم تعود إليها قوتها) .
مويلف :
ها أنت يا موسيو كراشوف، أي ريح أتت بك؟
كراشوف (بغضب) :
ريح السموم ... إلى أين تذهبين؟
مويلف :
وهلا تزال تستبيح لنفسك مثل هذا السؤال؟
كراشوف :
ربما يطول حديثنا الليلة.
مويلف :
أستودعك الله.
كراشوف (يقف أمام باب الدخول ويحاول إخراج مسدسه) :
إني أمنعك الخروج من هنا إلا إلى دار الشرطة حيث ترغمين على مقاسمتي الحياة بحق عقد الزواج الشرعي الذي لا يزال قائما بيننا (تدخل جرترود) .
جرترود :
رسالة برقية إلى مدام مويلف (تمد يدها بالرسالة) .
مويلف :
من أين يا جرترود (تقرأ بلهفة)
من آبلس أيضا (تقرأ) «احضري حالا كوستيا مريض جدا. لا تجزعي.»
كراشوف :
إذن هيا بنا إلى ولدك فلعل قدومك يعيد إليه العافية.
مويلف :
أفضل أن أموت أنا وولدي على أن أسايرك في طريق (تعيد قراءة الرسالة)
لا تجزعي ما معنى هذه الكلمة؟ إن هذه الرسالة أدعى إلى إسراعي بالسفر فتخل عن طريقي (تدخل جرترود بلهفة) .
جرترود :
مدام مويلف ...
مويلف :
ما وراءك أيتها الصبية؟
جرترود :
رسالة أخرى.
مويلف (تخطف الرسالة وتفضها باضطراب وتقرأ) :
أعزيك عن ولدك. ديلا كويزن ... آه! واولداه! (يدخل لورنزو من باب وبيده أمتعته ومن باب آخر أنطونيا وأختها مدام كاميل وبرنار وينظرون جميعا إلى مويلف وهي تتضور من الألم ثم تنظر إلى وجوه الواقفين وكلما تعرفت واحدا منها وجمت واضطربت. لنفسها)
ويلاه! هل تآمرت الأقدار علي في ساعة واحدة؟! أي أمل لي في الحياة؟ إن اليأس قتال لساعته. لخير للمرء أن يموت بغتة تحت صدمة العاصفة من أن يبلى فوق الصخرة المقفرة على مهل (تخرج من سلتها قنينة صغيرة وتدنيها من فمها. تدنو منها مدام كاميل) .
مدام كاميل :
أيتها السيدة هل لك حاجة أقضيها؟
برنار :
كاترين هيا بنا (يمر جودياس بالغرفة وينظر بلا اكتراث إلى مويلف. تتناول مويلف بفمها ما بالزجاجة) .
برنار :
ما هذا؟
لورنزو :
لقد انتحرت (إلى كراشوف الذي يبقى مبهوتا)
أغث زوجك يا سيدي! ... أدركها بالإسعاف قبل أن تسلم الروح.
مويلف (إلى لورنزو) :
آه! آه! ها أنت تشهد مصرعي يا لورنزو (يسرع الجميع إليها نساء ورجالا ) .
كراشوف (يلتقط القنينة الفارغة ويشمها ويقرأ ما هو منقوش عليها) :
هذا سيانور البوتاس! لا أمل لنا في حياتها ... إنه سم لا ترياق له (لنفسه)
لقد فعلت بنفسها ما كنت أضمر لها وكذلك مات الصبي ... لقد حلت لي الأقدار ما كنت عاجزا عن حله.
مويلف :
آه! (تضرب وتنبش في الغرفة بيديها ورجليها وتشهق طويلا ثم تهمد.)
لورنزو (يدنو منها ويضع قبلة قبل الجميع) :
أعدوا لها فراشا وثيرا، من يرغب منكم في اللحاق بالقطار فليدركه. أما أنا فباق حتى الصباح ... (تنزل الستار)
كانت لقية مقندلة
مضحكة تمثيلية في فصل واحد
اقتباس من أوكتاف ميربو الفرنسي
بقلم: محمد لطفي جمعة
القاهرة في 1917
المنظر الأول
الكوميسير :
أما حتة طأس ابن دين كلب ما علينا فيش حوادث جديدة يا مسيو جاك؟
جاك :
حوادث يوك يا جناب الكوميسير.
الكوميسير :
بأه ما حدش عتب الضبطية الليلة دي.
جاك :
شوية مخبرين جرانيل جم ياخدوا أخبار.
الكوميسير :
أظن علشان قضية فرانشار إن شاء الله تكون لأيتهم كويس.
جاك :
آبلتهم على كيف جنابك ورأ وألام رصاص والذي منه.
الكوميسير :
غيره.
جاك :
شوية ولاد زلنطحية وخنأتين تلاتة وعيلين حرامية.
الكوميسير :
عال.
جاك :
وعلى العموم الحركة نايمة.
الكوميسير :
مش بطال.
جاك :
اليومين دول البلد هادية.
الكوميسير :
مين عارف يا جاك يمكن تكون هادية في الظاهر والباطن يعلمه الله، أنت ماأرتش في الجرانيل مسألة هيجان بركان نابولي ... بلاد وعزب وجناين وخضرة من فوق ونار وزيت حار من تحت، ما علينا حدش جالي شخصيا؟
جاك :
ما حدش.
صول :
كانت كويسة (يخلع الكوميسير بلطوه وكوفيته وعصايته) .
الكوميسير :
إيه دي يا سيدي؟
جاك :
رواية الفودفيل اللي جنابك حضرتها الليلة.
الكوميسير :
كان التياترو مشحون فوق مستواه على كيفك، هما هم ما بيتغيروش، وواحد من أصحاب الجلالة ملك باتاجونيا.
جاك :
آه من التياترو (يقلع البالطو) .
الكوميسير :
التياترو غشاش زي المرة الماشية اللي عتأت من اللي بالك فيهم، تأفلك كل ليلة أدام المراية، وتتحمر وتتبيض وتتكحل وتخطط حواجبها ... لكن على مين على بابا، هي هي كذلك التياترو كلمتين فارغين بينقالوا وينعادوا، وكل مرة ما فيش يا مونشير رواية مكن في موضوع اجتماعي والا حيوي والا عمراني الحاجات اللي بالك فيها.
جاك :
إذا كنا احنا بتوع البوليس نألف روايات كانت تبأه حاجة عظيمة، إحنا اللي عايشين في وسط المعمعة.
الكوميسير :
إنت بالك (يقعد ويقلب في أوراقه على المكتب)
بدال حوادث الحب البايخة وقضايا الزنا والأفش اللي بالك منه على المرسح ... خذني بين ذراعيك حياتي لأجلك ... سأحبك إلى الأبد ... أعطيني شفتيك المرجانيتين ... يا دم تياترو بالهم والبلا لاحؤه، ما فيش مبادئ ولا أفكار إصلاح يا مونشير.
جاك :
ما فيش حاجة في التياترو تخلي المتفرج يفكر حبتين.
الكوميسير :
حق يحؤلك، لا يا سيدي فيه حاجة تخلي الشيخ يرجع لصباه برده في القافية، والله يا سيدي لولا سحن المتفرجين وكبشة النسوان الحلوة ما كان التمثيل يبآله بهجة. نعمل إيه يا جاك أهو ما فيش تمثيل كويس بزيادة الكتاكيت والأطائيط ... إن فاتك اللحم يا جاك اشبع بالمرأ.
جاك :
دا طبعا.
الكوميسير (يبص في الساعة) :
واحدة إلا ربع لحأنا، إنت عارف أنا مش عوزك الليلة يا مسيو جاك، حاشتغل لي شوية ... مع السلامة يا سيدي تصبح على خير.
جاك :
أسعد الله مساك (يخرج ثم يرجع)
من حق يا جناب الكوميسير.
الكوميسير (يرفع رأسه) :
خيرا؟
جاك :
المآلة.
الكوميسير :
مآلتك ... آه من حأ أنا آبلت لك مدير البهلول.
جاك :
وبعدين؟
الكوميسير :
وبعدين يظهر إن مقالتك مش تمام مش مليانة مش (يعمل حركة تدل على فكرة)
بدي أقولك، مش حقيقة لازم المقالة تكون ذي السمكة في الميه بتلعب وبتتلوى كده وتفتح النفس. مآلة يعني بنت باريز.
جاك :
لكن يا جناب ال... دي مقالة جد دا بحث اجتماعي دا مسألة عمرانية ... دنا عنيا طلعت لما جمعت المعلومات الهايلة، دي عن نظام البوليس والإدارة في مملكة بطالونيا، إزاي يبقى مدير الجرنال عاوز مقالة بنت باريز من واحد بيكتب له مقالة عن مملكة أجنبية؟!
الكوميسير :
وأنا اعمل لك إيه أنا؟ إنت تعرف.
جاك :
يا اخي على كل حال أنا أشكر جنابك ... وآل بنشتكي من انحطاط الصحافة!
الكوميسير :
صحافة ... صحافة إيه يا شيخ دا كل شيء عندنا منحط؛ الصحافة والتمثيل وذوء الجمهور والبوليس والدنيا كلها منحطة، داحنا عايشين في زمن يعلم ربنا، ولكن ينفع بإيه كتر الكلام، سيبك أهي ماشية ... تصبح على خير (يخرج جاك) . (بعد قليل يشتغل الكوميسير وهو يصفر ثم تسمع غوغاء خارج الأوده؛ صوت رجاله وبينهم مره بتستغيث وتصرخ، يتصنت الكوميسير ويبرم شنباته ويصلح هيأته زي اللي عاوز النسوان تبصبص له، وبعد ذلك يدخل العسكر ساحبين فلورا طانبور) .
فلورا :
وحوش مجرمين ماتختشوش على عرضكم لما تبهدلوا واحدة حرمة ... ماتعتئوني بأه يا غيلان.
الكوميسير :
جرى إيه؟ إيه المسألة؟ هو انت كمان المرة دي؟!
عسكري :
أيوه يا حضرة الكوميسير هي بعينها، ضبطناها الليلة بتعاكس الخلأ أدامنا على رصيف الضبطية.
فلورا :
كدابين ... إنتو متوحشين.
الكوميسير :
إخرسي ... إنت جنسك إيه؟ في ليلة ذي دي، في البرد ده، والبرنيطة دي، دا يمكن ضبطوك عشرين مرة قبل المرة دي.
عسكري 1 :
أوأفي ساكتة.
عسكري 2 :
أكتر من عشرين مرة يا جناب الكوميسير، يمكن تلاتين مرة بالميت.
فلورا :
صحيح.
الكوميسير :
دا جزاء طيبان ألبي وحنيتي عليك إكمنك مرة غلبانة؟!
فلورا :
بس سيبوني أذرعتي بتوجعني مش ناقصة إلا تفأعوني علأة بوليس.
عسكري 1 :
ياللا يا مره يا أرشانة.
عسكري 2 :
هس.
فلورا :
يا جناب الكوميسير الحأ مش علي الحأ على الوحوش دول.
الكوميسير :
اخرسي (إلى العسكر)
سيبولي المتهمة أنا ما أخافش من العينة دي، والله لأشوف لي معاك سكة وأخلص عليك. أدام الضبطية ماتختشيش وكمان في بيت الوالي وتسكري.
فلورا :
أما كده ولا بلاش.
الكوميسير :
بتتعدى علي أثناء تأدية وظيفتي. حضرتك عاصية ومزبلحة. دا اسمه انتهاك لحرمة الآداب يا حرمة.
فلورا :
الله ... الله.
الكوميسير (للعسكري) :
دستور إنت وهو وانت (لفلورا)
يا مره إياك تهيجي علي وأنا لوحدي.
فلورا :
يا حضرة الضابط بس اسمع لي كلمتين.
الكوميسير :
بس هس اسمك إيه؟ (تسمع أصوات جزم العسكر وهم خارجين)
انطقي (الاثنين يتصنتوا كويس وأخيرا يضحكوا وتيجي فلورا تقعد على حجر الكوميسير ويحضنوا بعضهم) .
المنظر الثاني
فلورا :
آه يا كتكوتي ... يا كتكوتي ... يا كتكوتي ... إنت كتكوت مين؟
الكوميسير :
كتكوت فلورا الحلوة الغندورة (يضحك)
وانت أطأوطة مين إئلعي برنيطتك.
فلورا (تقلع برنيطتها وتوضعها على المكتب وتقلد الكوميسير) :
هس بس اسمك إيه ... دانت تخوف اللي ما يخافش (يمرجحها الكوميسير على ركبته ذي ما يعملوا للأطفال)
بس يا هيكتور بزيادة وحياة أبوك.
الكوميسير :
حج حجيج بيت الله ... حج حجيج بيت الله.
فلورا :
تعرف إنهم فصصوني الليلة.
الكوميسير :
يا ألبي يا أطأوطة، يا كرنبتي يا بدنجانتي، يا أرعتي.
فلورا :
تعرف دي جتتي مبأعة زي أرض الملايكة.
الكوميسير :
دي لوقت نشوف المسألة دي (يجي يمسكها مسكة من اللي بالك فيها فتمانعه وتتخلص منه)
الله مالك؟!
فلورا :
لأ يا اخويا بزيادة الملعوب دا بأه، دول الليلة ستفوني تستيفة طيبة (تقوم تدعك في دراعها)
بكرة تشوف واحد منهم يكسر لي حتة من جسمي، وانت تقولي إنك بتحبني.
الكوميسير (ينهض ويقرب منها ويحاول تدليعها) :
أمال ده إيه ده لما هواش حب، ده حب بتاع أهل زمان. حب محفوف بالأخطار والحوادث زي حب روميو وجوليت بلكونات في نور القمر وسلم التسليم اللي يطلع عليه الحبيب لحبيبته، حب اليوم ذي الخرشوف ألبو فاضي حاجة ماتلذش، أنا عاوز حاجة تمام زي شغل شكسبير.
فلورا :
بتئول إيه؟
الكوميسير :
بئول زي شكسبير.
فلورا :
شكسبير ده إيه؟ واحد ضابط بوليس زيك؟
الكوميسير :
يا عيوني على جهلك المطبق يا ألبي على مخك الفاضي (تظهر علامات الكآبة على فلورا)
مالك؟
فلورا :
ما ... ماليش.
الكوميسير :
لأ مالك؟ لازم فيه حاجة.
فلورا :
أئول لك الحأ الحال ده مش عاجبني.
الكوميسير :
آمال عاوزة إيه؟
فلورا :
يجرجروني كده في السكة زي البنات البطالين. دا كان يمكن شيء يضحك في الأول، لكن دلوأت دا شيء بيتعبني ولا أأدرش عليه.
الكوميسير :
وبعدها لك.
فلورا :
دا شيء يذلني وألبي حاسس إنك حتبأه تجيني أقابلك في عربية المحابيس، علشان ده يبأه زي حب أهل زمان بالأوي.
الكوميسير :
ما تزوديهاش.
فلورا :
نهايته إنه ما بآش في للحاجات دي ...
الكوميسير :
وده كله علشان خيالك ما يساعدكيش على فهم لذتها، ما تستوعبيش طعمها ما انتش شاعرة بالفطرة، ما عندكيش كيف للعواطف القوية ما انتش مرة حساسة.
فلورا :
أنا (تحسس له في شعره وتبص له في عينه)
برده مانيش مرة حساسة ... نسيت بالعجل يا هيكتور ... خلي بالك للي بتئوله.
الكوميسير :
فاهم برده قصدك لكن بدي أئول لك إنك ما انتش حساسة في الحاجات العقلية، أما المسألة الثانية أنا برده واخد بالي، إنت كويسة علشان حب السرير، أما أنا عاوز الحب الثاني اللي مانيش أأدر أفهمه لك، الحب المحفوف بالمهالك الحب الخطر.
فلورا :
أعمل إيه أهي خلقتي كده ... إنت ... إنت مايعجبكش العجب ولا الصيام في رجب.
الكوميسير :
تعالي أومي بنا (يسحبها على الكنبة) .
فلورا (تمانع مبدئيا وبعدين تأعد على حجره) :
عندهم حأ برضه يا كتكوتي، لكن أما أقول لك شوف لنا حاجة تانية بأه، لازم تكون تعرف طريقة ثانية ... يبأه عيب وانت من رجال الأمن العام ولا تعرفش طريقة لمقابلة أرنبتك.
الكوميسير :
والله ما عندي فكرة ثانية، ما فيش غير ده يلذني وكمان لازم أحافظ على مركزي ... واحد زي حالتي ما تهموش نفسه أد ما تهمه وظيفته، وكمان مراتي ابتدت تغير وبتبصبص علي. وحتى الليلة لأيتها وأنا جي آعدة في عربية ومتبرأعة ووأفة متربصة لي مع سبق الإصرار؛ علشان تشوفني حارجع على الضبطية ولا حبات بره، لأ ودي مرة جهنمية تئدر على الكبيرة.
فلورا :
مراتك. مراتك (تبص له)
لكن من حأ قل لي إنت جي منين كده الليلة هيأه أوي وإيافه.
الكوميسير :
من التياترو.
فلورا :
من التياترو. مراتك (كأنها بتعيط)
إنت مابتحبنيش.
الكوميسير :
أنا ازاي ماباحبكيش.
فلورا :
والله فرغ حبي من ألبك.
الكوميسير :
مابحبكيش دنا أعبدك. إديني حنكك.
فلورا (تسيب نفسها له) :
حأه الحاجات دي ما تتأخرش عنها.
الكوميسير (بهيئة مضحكة) :
إديني شفايفك، أنا ما أحبكيش، هو أنا لو كنت ما أحبكيش كنت أخليكي تستنيني طول الليل على رصيف الضبطية في المطر والوحل والبرد والتلج ده، وكنت أخليكي تنضربي وأسيبك للعسكر دول ولاد الكلب ، وأعرضك للنزلة الشعبية والسل الرئوي ... بس خلي بالك حبتين يا بنتي ... التضحية دي كلها اللي ترقي العقل وترفع الروح ... الإنسان مايطلبش الحاجات دي إلا من الناس اللي يحبهم بكل جوارحه.
فلورا :
أهو كلام.
الكوميسير :
أنا بئول كده علشان دا شيء طبيعي أنا حاسس به. ما أرتيش روايات بورجيه ثملان بخمر التضحية، متمتع بآلام الوجع، متألم بنعيم الهناء.
فلورا :
ده كلام فاضي.
الكوميسير :
إزاي كلام فاضي يا بت؟ دي الحقايق البسيكولوجية الطبيعية النفسانية ... اللي بيضايئني منك اللي بيفلأني فيك إنك بتحوجيني أئول الحاجات دي، ولكن نسوان غيرك من اللي اطلعوا على مؤلفات المسيو بورجيه الواحد ما يحتاجش يقول لهم حاجة من دي.
فلورا :
يمكن بتحبني شوية لكن ما بتخدمنيش (يظهر مخالفته لهذا الرأي)
وبرضه مهما كانت حالتي لازم تحترمني شوية.
الكوميسير :
إلا كده، دي المسألة زادت باين عليك مجنونة. آدي ظلم النسوان وذبذبتهم.
فلورا :
لا لا (يحاول مداعبتها)
سيبني أنا باجي هنا في ميعاد وصال، وكأنهم جايبني على سجن سانلا ذار.
الكوميسير :
أهو ده اللي يعجبني.
فلورا :
صحيح ولا بتضحك؟
الكوميسير :
لا والله بأقول جد أهو ده على موضة شكسبير ... كوني أخليكي تعدي على عساكري كأنك بنت من بتوع الليل، والحقيقة إنك انت رفيقتي العزيزة ... رفيقتي المعبودة بقا ده كله حب ولا هوش عاجبك هندزي كلامك.
فلورا :
هيكتور.
الكوميسير :
لا لا دي حالة تكسر القلب وتجرح الخاطر (بتهيج)
مين احترمك يا بنت انت أكتر مني يعني؟ واحترمتك كمان من كل ناحية، تقدريش تقولي على يوم إني دفعتلك فلوس أجرة مقابلتنا.
فلورا :
حقا إلا دي.
الكوميسير :
إدتكيش يوم صلدي؟
فلورا :
أبدا.
الكوميسير :
طيب أديكي شايفة.
فلورا :
لكن ده مش موضوعنا.
الكوميسير :
إزاي هو فيه موضوع غير كده؟
فلورا :
قول اللي يعجبك أنا بيدايئني المجي هنا، وبرده مهما كانت الأحوال باختشي شوية، وأنا أأكد لك إن مجيئي هنا بيقطع على لذتي. إلا من حأ ليه ما بتجيش انت عندنا؟
الكوميسير :
مستحيل.
فلورا :
دا بيتي لطيف وكويس، وكله حرير أخضر وأحمر، وما فيش ريحة دخان ولا عسكري زي الضبطية بتعتك دي، وهو البيت هنا قريب فركة كعب ياللا بينا يا هيكتور.
الكوميسير :
مش ممكن.
فلورا :
دي أمي تطبخ لك على كيفك.
الكوميسير :
لأ ... لأ.
فلورا :
ده هنا ما فيش حاجة أبدا ... طاوعني وتعالى عندي والا يوم كده ويوم كده عندي ويوم عندك.
الكوميسير :
ومراتي يا اختي ماهش خاطرالك على بال؟! وإذا كانت مراتي بقا تقفشنا واحنا الاثنين كده طيب، وتقول لي من فضلك يا حضرة الكوميسير افتح محضر زنا لحضرتك.
فلورا :
وماله ماهو يبقى شيء يضحك، ما انتش بتقول لي دلوأت إنك تحب الإحساسات النادرة والحوادث المهيجة.
الكوميسير :
طق طق سيبك من الكلام الفارغ ده، إحنا هنا على كيفنا (يمسكها من خصرها)
هنا كل شيء على كيفنا.
فلورا (تبعد إيده عنها) :
سيبني سيبني إنت ما تستهلش تمسكني من خصري.
الكوميسير :
أنا واحد عندي مزاج وعندي خيال بيشتغل وإحساساتي كلها مخيخي ... أنا راجل على كيفك متوحش ... أما تخشي علي كده وشعرك محلول وهدومك مقطعة زي اللي عاملين فيك حاجة، وترفصي بإيديك ورجليك زي العصفور المجروح، وحواليك العسكر المهمين بتوعي دول، حالا بأه كل حتة في تتنبه، آهو منظر مبهج منعش مفرح منبه للأعصاب في الحال، آهو أنا كده والسلام (يحاول حضنها) .
فلورا :
تقوم انت بتزهأني في عيشتي وفيك ... راجل محب لنفسك، وخباص عجوز، وحلوف كبير ولا بتقوليش إلا كلام فارغ ... ومراتك وانا مالي ومالها يا سيدي على الجزمة ... وانت حتى محجوز وانا أقدر أعرف وانت حد يوصل بحرك على أرار (ينهض)
دا التياترو يا سيدي ... حضرتك رايح فين رايح التياترو، وجي منين جي من التياترو.
الكوميسير :
دي أشغال وظيفتي النهارده.
فلورا :
أيوه يا اخويه وظيفتك ... وطظ على وظيفتك دي.
الكوميسير :
فلورا.
فلورا :
اعتقني حل عن كتافي.
الكوميسير :
اسمعي يا بت بزيادة بأه فلقتيني ... تعرفي يا فلورا إنني ما حبش الخناق، ولو كنت أحب الخناق والردح، كنت أقعد في بيتنا جنب مراتي تأدر تردح وتديني لما تلطيني وتزيد كمان.
فلورا :
طيب ما تقعد في بيتكم ومين ألك تسيبها.
الكوميسير :
فلورا (يجري وراها) .
فلورا :
طظ.
الكوميسير :
اسمعي ...
فلورا :
طظ.
الكوميسير :
أنا بأقولك إنك غلطانة.
فلورا :
طظ ... طظ.
الكوميسير (بتهيج) :
إنت يا بنت متعرفيش الغضب والعند يعملوا إيه في واحد ضابط بوليس زيي.
فلورا :
ها ... ها ... ها (يسمع أصوات ووقع أقدام في الفسحة فالكوميسير وفلورا يقفوا ويصنطوا) .
الكوميسير :
وبعدها لك فيه أيه كمان؟
فلورا :
مين عارف يا سيدي، يمكن واحدة رقيقة ثانية جيبنها لك.
الكوميسير :
هس أحسن جايين هنا (يجري يقعد على مكتبه)
أقفي مترح ما كنتي واقفة، والبسي برنيطك بالمقلوب بالعجل، زعقي لي أشخطي فيه اشتميني حتى، ولا تخافيش بهدليني احرقي لي الأخضرين اتعدي علي أثناء تأدية وظيفتي.
فلورا (بتلبس برنيطتها) :
صحيح عاوز أعمل فيك كده؟
الكوميسير :
أمال أنا بقولك إيه من الصبح! ياله شدي حيلك إلعني لي أرمة أبو جدي (يفتح الباب ويدخل عسكريان ومعهما رجل شحات)
اخرسي اخرسي بقولك إنت مرة مزبلحة.
فلورا :
مش صحيح الكلام ده ... دول كذابين ... دول وحوش ... دول أتالين أتله، دول أطاع طريق، وانت متوحش وعكروت وخشني.
الكوميسير :
كويس كتير مرسي اسمك إيه؟
فلورا :
هلفوت (العسكر يسيبوا الشحات وعاوزين يهجموا على فلورا ويشاوروا لها بإيديهم وينظروا لها نظرات وحشة قوي) .
المنظر الثالث
عسكري 1 :
يا لطيف!
عسكري 2 :
على الحجز.
الكوميسير :
سيبوا لي المرة دي لسه ما انتهتش منها، دي باين عليها مشاغبة، دي الوقت اتنبه لها (يشاور على جوني)
ده إيه ده؟ (إلى جوني نفسه)
إيه المسألة؟ (يبص له كويس)
هه هه سحنة مزروتة، بتعمل إيه في الشوارع في الوقت ده؟
جون (يرفع برنيطته ويدعك في دراعه ويبص لفلورا بانعطاف ويتكلم بلطف) :
واأسفاه يا حضرة الكوميسير! الفقرة أمثالي مالهمش وقت يروحوا فيه بيوتهم.
الكوميسير :
مالهمش وقت مالهمش وقت، بتقول إيه يعني من فضلك؟ متهزأنيش أثناء تأدية وظيفتي (يلتفت للعسكر)
وانتم ليه يعني محطتهش في الحجز من غير كاني ولا ماني؟
عسكري 1 :
ده دخل الضبطية لوحده يا حضرة الكوميسير.
الكوميسير :
وماله يا سيدي دخول السجن مش زي خروجه، يخش بكيفه ويخرج بكيفنا احنا .
عسكري 1 :
ده طلب مقابلة حضرتك حالا (جوني يظهر علامات الموافقة) .
الكوميسير :
مقابلتي حالا أما شيء غريب! بقى إذا كان يجي كل مجرمين باريز ... ويطلبوا مقابلتي حالا في الساعة 1:30 بعد نصف الليل وأنا بشوف أشغالي في المكتب تدخلوهم علي.
عسكري 1 :
لكن يا حضرة الكوميسير ...
الكوميسير :
امشي اطلع بره (يشك العسكري مقلب ويخاطب جوني)
وانت إيه مسألتك حيث إنك دخلت علي ...
جوني (ببطء) :
الأمر وما فيه يا حضرة الكوميسير (يبتسم)
أنا جايب لحضرتك حاجة لقيتها من قيمة عشر دقائق على الرصيف.
الكوميسير :
على الرصيف كمان (يبص لفلورا)
ده شيء يخوف، الحاجات اللي تلقيها الليه على الرصيف في باريز.
فلورا :
وبعدها لك يا سي ...
عسكري 1 :
اخرسي يا مرة.
الكوميسير :
سيبها سيبها أنا برده واخد بالي، وبكتب لها مذكرة (للشحات)
قولي لقيت إيه يا سيدي على الرصيف؟
جوني :
اتفضل يا حضرة الكوميسير (يطلع من جيبه محفظة جلد عال) .
الكوميسير :
إيه ده؟
جوني :
محفظة يا جناب الكوميسير، محفظة جلد وحروفها مفضفضة ...
الكوميسير :
محفظة (هأ هأ)
شغل البقجة وطبعا المحفظة فاضية؟
جوني (بانكسار) :
اتفضل حضرتك افتحها وشوف.
الكوميسير :
تزعجني أنا الساعة 1:30 بعد نصف الليل علشان محفظة (يفتحها)
إذا كان ما فيهاش حاجة اعرف كويس (يطلع منها كبشة بنك نوت ويعدهم)
يا سلام ده مش ممكن دهده إيه ده؟! إيه يا راجل ده؟! دي حوادث زي كتاب ألف ليلة وليلة، دي لقية، ده كنز، عشرة آلاف فرنك حتة واحدة!
جوني :
عشر تلاف فرنك يا جناب الكوميسير أمال.
الكوميسير :
يا دي الداهية! ده مبلغ وقدره، دي ثروة، ده بيت ملك في محفظة! يا نهارك مقندل.
جوني :
لما الواحد يلاقي في جيبهم عشر تلاف فرنك، وماشين يتمخطروا بهم في الشوارع، واحنا مش لاقين لقمة نأكلها! حاجة تغم وتكسر الخاطر.
الكوميسير :
وانت لاقيت الأمانة دي؟
جوني :
أمال مين يا فندم، أنا نفسي.
الكوميسير :
لكن ده شيء غريب، وازاي لقيت العبارة دي؟
جوني :
مسألة بسيطة، أديني ححكي لحضرتك بالتفصيل، آه الساعة كانت تيجي كده 12:15، وكنت ماشي أمام تياترو الفودفيل وقت خروج المتفرجين.
الكوميسير :
وانت حضرتك كمان من اللي بيحضر الروايات أول ليلة؟
جوني :
أعمل إيه يا جناب الكوميسير، العيش عاوز الحركة، ولكن المزاحمة بقت شديدة، وكنت تعبان طول النهار، ولا أكلتش حاجة ولا كسبتش إلا اثنين صلدي، إداهم لي واحد خواجة أيافا زي حضرتك؛ محلفط كرافته بيضاء وزرار قميص ألماظ وعصاية ذهب، فتحت له باب العربية، فآم رمى لي الاثنين صلدي براني، قليل البخت يلاقي العظم في الكرشة، واحد مليونير زي ده يلقح لي اثنين صلدي مش حرام؟!
الكوميسير :
شيء محزن، لكن حيلاقي مين أفقر منك يدهمله، أوعك تكلم في حق الأغنية أحسن احنا من غيرهم منساويش بصلة، ولو ما كنش في الدنيا أغنيا كان واحد زيك كهنة يلاقي محفظة فيها عشرة آلاف فرنك على الرصيف في الليل.
جوني :
نهايته، لما شفت الصلدين دول البراني، قلت نهار زي بعضه مشفتش يوم زي ده من قيمة ثلاث أسابيع، الدنيا أزمة والتجارة واقفة والأحوال ملخبطة.
الكوميسير :
خليك في الموضوع وسبنا من كده.
جوني (بصوت واطي) :
وأنا كمان عيان.
الكوميسير :
سبنا من عياك دلوقت خلص كلامك.
جوني :
الخلاصة إني أنا ساكن في ميدان انفرس جهة بعيدة شوية، فصممت إني أروح، وقلت يمكن ربنا يرزقني برجل طيب والا بنت حلال؛ لأنهم دول هم اللي بالك منهم إن كانوا رجالة والا نسوان، هم اللي بيحنوا علينا.
فلورا :
مؤكد.
جوني :
قلت يمكن تعطيني اثنين صلدي جواني المرة دي مش براني، أجيب بيهم رغيف أفطر به الصبح، وبعد ما مشيت يجي بنصف ساعة من غير مقابل حد، بصيت لقيت حاجة طرية، قلت يمكن حتة زبالة، وبعدين قلت يمكن دي حاجة تتاكل، حاكم بخت الفقرة زي بعضه، والحظ ما بيخبلهمش حاجة كويسة، ومع ذلك أنا مرة رأيت في شارع بلنش فخدة أوزي، حقة كانت أكلة، أمت افتكرت فيها الليلة، ووطيت ومسكتها ما لقتهاش حاجة تتاكل، ولقيت المحفظة دي، ختها في النور وفتحتها لقيت فيها البنك نوت ده، ولا فيش حد في الشارع ولا سريخ ابن يومين، وحسيت في ساعتها بالوحدة، والفقر أرصني حتة أرصة، بصيت في المحفظة ما لقتش لا صورة ولا كرت ولا أقل حاجة تدل على شخصية صاحبها، قلت في نفسي دلوقتي أنا ملزوم أروح على التمن أسلمهم المحفظة دي وأنا تعبان، أما ليلة زي بعضها، وديني جيت أهه، وكنت بدور على اثنين صلدي وجدت عشرة آلاف فرنك يا خسارة.
فلورا :
أما حتة دين مغفل!
جوني :
ودلوقت يا حضرة الكوميسير الوقت راح وأعصابي مكسرة، ولسه بيني وبين البيت مسافة، فاسمح لي حضرتك بالانصراف.
الكوميسير :
طيب استنه شوية، ما تقدرش تروح كده، دي حدوته إيه اللي حكتها لي دي، ومين يصدقها؟!
جوني :
وحياة رأسك ده اللي جرى.
الكوميسير :
مصدأك، برده باين عليك بتقول الحق، ده انت راجل أمين، ده انت بطل.
جوني :
العفو يا فندم العفو.
الكوميسير :
إنت بطل ما فيش شك، وانت راجل جدع.
جوني :
ألا يا حضرة الكوميسير، على فرض إن حضرة الشويشيه دول اللي لقوا المحفظة.
عسكري 1 :
أف!
عسكري 2 :
الله أكبر.
جوني :
والا الميدموزيل اللطيفة دي.
فلورا :
أول للا!
جوني :
ولا جنابك.
الكوميسير :
أنا كنت ابقى راخر بطل ... عشرة آلاف فرنك في شارع ضلمة بعد نص الليل، إنت كنت تقدر تتصرف لكن الحقيقة إنك بطل.
جوني :
ونفعاني بقه البطولة دي؟ أهو أنا برده هو أنا، والعيا بيشتد علي والأمور هي هي.
الكوميسير :
ما تقلش كده ما تقللش قيمة نفسك، ده عمل شريف، ده عمل يستاهل الإعجاب، دا انت تستاهل جايزة الخواجة موتون، ده انت تستحق جايزة نوبل. ألا بالحق اسمك إيه؟
جوني :
اسمي جان جوني يا مسيو الكوميسير.
الكوميسير :
وكمان اسمك جان جوني، دي حاجة زي اللي بنسمع عنها في الكتب، وصنعتك بقي؟
جوني :
من فضلك.
الكوميسير :
بتشتغل في إيه؟ بتعيش من إيه؟
جوني :
للأسف يا حضرة الكوميسير.
الكوميسير :
بس تلاقي محافظ جلد ومليانة بنك نوت ده مش صنعة.
جوني :
ماليش صنعة غيرها.
الكوميسير :
إزاي ملكش صنعة؟! مالكش حرفة تعيش منها؟
جوني :
العين بصيرة وجنابك أدرى.
الكوميسير :
حضرتك من ذوي الأملاك؟
جوني :
ولا من ذوي الأربع، أنا بعيش من الإحسان.
الكوميسير (يهرش لنفسه) :
المسألة خسرت ... دي عبارة تزعل، وأنا كنت دلوقت باحترمك ومعجب بيك بقي خلينا نتكلم بحرية ... حضرتك شحات؟
جوني :
المسألة متقتضيش الافتخار، حقول إيه بس أنا كنت أفضل صنعة ثانية.
الكوميسير :
كسلان وما تحبش الشغل، مقصر في واجبات الوطن، وانت ساكن فين؟
جوني :
ميدان انفرس زي ما قلت لحضرتك.
الكوميسير :
عدد كام وفي بيت مين؟
جوني :
لأ ده أنا مش ساكن في بيت، ده أنا بنام على دكة في الشارع.
الكوميسير :
على دكة ...؟
جوني :
أيوه على دكة تحت الشجر.
الكوميسير :
إنت بتضحك علي.
جوني :
لا والله يا حضرة الكوميسير.
الكوميسير :
تبقى كمان خالي الصناعة وخالي السكن.
جوني :
آه كده.
الكوميسير :
المسألة خدت شكل تاني، ده انت لازم يكون لك سكن بأمر القانون.
جوني :
أمر القانون شيء والفقر شيء آخر.
الكوميسير :
راجل من غير سكن! تعرف ده يبقى إيه؟
جوني :
يبقى غلبان.
الكوميسير :
لا لا، ده يبقى واحد مخالف، واحد هربان من وجه العدالة، واحد مجرم، واحد متشرد، إنت متشرد، دانت مجرم يا جوني.
جوني :
أنا مش متشرد ومش مجرم، بس المسألة ماليش شغلة، وماليش ثروة، ولما أمد إيدي ما يدونيش إلا صلدي براني.
الكوميسير :
معلوم لأنك خطر على الأمن العام يا مسيو.
جوني :
أنا خطر على الأمن العام يا جناب الكوميسير، بص في خلقتي حبتين، بص في إيدي ورجلي المكسرة، دا أنا عجوز ومضحضح، وأنا عيان وحالتي عبرة.
الكوميسير :
العيا دي مسألة ثانية، صحيح عندك مرض ولكن معندكش بيت، وبناء عليه تدخل في عداد المتشردين، إنت صحيح بطل لكن بطل متشرد، ما فيش قوانين تكافئ بطولتك، لكن فيه قوانين تعاقب تشردك، أظن انت مفتكرتش حاجة من دي وانت بتوطي على المحفظة، وقلت لنفسك دي مسألة بسيطة كونك تلاقي محفظة وتخدها، شفت المسألة وصلت لحد فين.
جوني :
أي والله، لو كنت عرفت القانون ما كنتش خدتها المحفظة المشئومة، كنت سبتها للأغنياء يلقوها.
الكوميسير :
كنت تعمل طيب، الفلوس بتاعت الأغنياء والأغنياء ياخدوا فلوسهم مترح ما يلقوها.
جوني :
صحيح الأغنياء ماهمش زي الفقراء.
الكوميسير :
عندك حق، دلوأت بتقول كلام تمام لكن الوقت راح.
جوني :
يعني الواحد يتندم على الأمانة؟!
الكوميسير :
ما حدش قالك كن أمين، المسألة مسألة احترام القانون؛ يا تحترم القانون يا تشوف له حيلة وتلعب عليه النطة.
جوني :
طبعا لكن لازم الواحد يبقى غني عشان يعمل كده.
الكوميسير :
آه العبارة كده، من المؤكد إنه ناس كثير في مركزك ما كنوش يبينوا المحفظة دي إذا كانوا يلقوها، ولا تقلكش إنك إنت مغفل اللي جبتها هنا، بالعكس إنت عملك من جهة الأخلاق عمل كويس، وتستاهل عليها مكافأة خمسة فرنك بعد ما تلاقي صاحب المحفظة، ولكن من جهة القانون إنت حطيت نفسك في حتة دين حفرة، النهاية يعني قعدت على خازوق.
جوني :
فاهم فاهم.
الكوميسير :
اسمع مني كويس نصيحة تنفعك في المستقبل، ما فيش في القانون مادة تلزمك بوجود محفظة ماليانة بنك نوت في الشارع ليلا (يأخذ في يده نسخة من القانون)
خد اتفضل فتش لي على المادة.
جوني :
فاهم يا فندم فاهم.
الكوميسير :
ولكن فيه مادة تلزمك بوجود بيت ومحل سكن، وكان أحسن لك تلاقي بيت ولا تلاقيش المحفظة دي.
جوني :
فاهم كويس، وبعدين؟
الكوميسير :
أنا حاوجد لك سكن على كيفك يا بطل.
جوني :
صحيح؟
الكوميسير :
بالشرف.
جوني :
كتر خيرك يا سيدي.
الكوميسير :
أديك الليلة حتآنس على الأسفلت عندنا، حتكوع في بيت خالتك.
جوني :
طيب الأمر لله.
الكوميسير :
وبكره الصبح يا بطل من الفجر على السجن العمومي.
جوني :
على السجن العمومي.
الكوميسير :
أيوه أمال.
فلورا :
أما بس بقي دي مكافآته؟! ده ثمن الأمانة عندكم؟!
جوني :
ده إيه ده؟!
الكوميسير :
طلعوا الراجل ده بره حطوه في الحجز، ما تضربهش كثيرا أحسن ده بطل.
فلورا :
يا نهار أبيض!
العسكر :
ياله على بره يا بن ال... (يجرجروا الراجل على وشه) .
جوني :
أما مصيبة!
عسكري 1 :
ياله يا بطل.
المنظر الرابع
فلورا :
إنت بتهزر ولا بتقول جد.
الكوميسير :
بهزر في إيه؟
فلورا :
صحيح حتودي الراجل العجوز المسكين في السجن العمومي؟
الكوميسير :
مؤكد.
فلورا :
بالشرف؟
الكوميسير :
والله صحيح.
فلورا :
إخص عليك.
الكوميسير :
متزعقيش العسكر مهماش هنا.
فلورا :
لأ المرادي أنا بزعق من قلبي، وبشتمك على حسابي، يا نطع داهية تخيبك، أنا مش عوزاك تقرب لي، جتك الغم في خلقتك.
الكوميسير :
إنت فلقتيني.
فلورا :
أنا فلقتك ولسه انت شفت مني إيه؟
الكوميسير :
طيب اتفضلي اطلعي بره، امشي من هنا.
فلورا :
لا مش طالعة.
الكوميسير :
مش عاوزة تخرجي.
فلورا :
لأ مش عاوزة أخرج.
الكوميسير :
طيب وهو كذلك.
فلورا :
طيبين وهو كذلكين.
الكوميسير :
على راحتك (يدق جرس كهربائي) .
فلورا :
بتعمل إيه؟
الكوميسير :
دلوقت أوريك (يدخلوا العسكر) ... خدوا المرة دي.
فلورا :
الله صحيح ولا بتضحك؟!
الكوميسير :
خدوها على الحجز.
فلورا :
الله!
الكوميسير :
بكره أشوف مسألتها.
عسكري 1 :
دحنا مستنين من الصبح.
عسكري 2 :
أديكي وقعتي (يجرجروها على وشها) .
فلورا :
لأ ما روحش الحجز.
عسكري 1 :
ياله يا مرة.
عسكري 2 :
اخرجي.
فلورا :
سيبوني يا اولاد الكلب، يا متوحشين يا قطاع الطريق.
عسكري 1 :
اخرسي (يضربها) .
الكوميسير :
ما تضربوهاش أوي أحسن دي بطلة.
عسكري 2 :
لكن دي متهيجة (يسمع صراخ وبكاء وخلافه. يدخل جاك) .
الكوميسير (يقلب في المحفظة) :
أما مغفل. النسوان دول الواحد ما يقدرش يقعد معاهم أسبوع مستريح (ينهض للخروج) .
جاك :
من فضلك يا حضرة الكوميسير.
الكوميسير :
هو انت لسه هنا؟ إنت ما روحتش؟
جاك :
يا حضرة الكوميسير.
الكوميسير :
اتفضل روح.
جاك :
يا حضرة الكوميسير، أنا صلحت المقالة، خلتها زي السمكة اللي بتلعب في الميه.
الكوميسير :
ياله روأ إديني عرض اكتافك ولا أحطك انت راخر في الحجز؟ (يديله شك مقلب) ... (ستار)
حبيب القلب وحبيب الجيب
تمثيلية مضحكة في فصل واحد (قاعة جاوس حديثة باب في مقابلة المشاهدين وبابين على الشمال واليمين وكنبة وكراسي ومائدة والحوادث في القاهرة.)
المشهد الأول (فردوس - حسني) (جالسين على الكنبة يلعبان ورق كوتشينة. فردوس تعد ورقها.)
فردوس :
الدوه بواحد والعشرة الطيبة بواحد والسبعة الإسباتي يبأه أربعة و12 ستاشر سامع ستاشر العشرة أربت! إئطع الورأ، ما تقطع أمال والا أوم أسهل.
حسني (يرمي الورق) :
الحق بيدك يا فردوس أديني قايم (ينهض ويأخذ عصايته وطربوشه وتنهض فردوس فيجيء بجانبها)
فردوس.
فردوس (تتركه وتتجه نحو باب الشمال) :
مع السلامة يا عنيا.
حسني :
على فين؟ إيه؟
فردوس :
زي ما انت شايف، داخلة أودة النوم أستريح لي شوية.
حسني :
طيب استني أقلوه لما انزل، يعني هو النوم وعد.
فردوس (تقف) :
اتفضل وريني عرض اكتافك.
حسني (يتضايق ثم يرمي طربوشه وعصايته على الترابيزة) :
أنا مانيش عارف لك حال يا فردوس، ساعة ما جيت قابلتيني بموشح، ولما شوفتيني زعلت لاعبتيني كوتشينة، ولما زهقت من الكتشينة طردتيني.
فردوس :
الحق عليك، ليه جيت متأخر بعد ما فات ميعادك؟
حسني :
أنا كنت فاكر إني أأدر آجي زي ما أحب.
فردوس :
تجي زي ما تحب محفض بالصالحين هو حضرتك اشتريتني وسجلت حجتي يالدلعدي. كل إنسان حر نفسه.
حسني :
شايفة بأه طبعك، وانا لسه دافع أجرة خمس فساتين لمارية الخياطة، والفلوس ملحأتش تبرد، مش على الأقل تفرحيني، وتخليني تملي أدفع لك اللي عليك حتى كمان ما فيش كتر خيرك.
فردوس :
على الشبشب أجرة الخياطة. أجرة الخياطة دي إيه كمان بأه اللي بتعايرني بها يا راجل.
حسني :
ما تنسيش إني ما كنتش ملزوم أدفعها دا لطف مني، وانت عارفة.
فردوس :
ده لطف في عقلك. عارف إيه فلأتني باللي عارفاه، دانت زهأتني في عيشتي بأحوالك، البيه يصحى من النوم وخائف وسعادته يتغدى في اللوكاندة مع إخوانه، ويفضل يفنجر في قهوة الشيشة ياخد نفسين وبعدها يتفسح في الجزيرة، وحلني على ما يدور ويجي لي يدندن وأنا مربوطة لك هنا؛ لا جواز نعرفه ولا حب بنشوفه، ولا فيه يوم تهتم بمصلحتي وتدبر لي حاجة لمستقبلي.
حسني :
مصلحتك ومستقبلك دول إيه كمان؟!
فردوس :
مش كنت قلت لي إنك حتكتب لي نص بيت في سوق السلاح؟
حسني :
أنا والله مشغول اليومين دول وأديني كنت عند الخياطة.
فردوس :
بأه الخياطة عطلتك عن كل شيء كده، اتفضل بأه.
حسني :
أما شيء غريب لا مانيش نازل.
فردوس :
اتفضل أؤعد زي ما انت عاوز (تتركه وتدخل) .
المشهد الثاني
حسني :
أما أنا حتة دين مغفل، الحق علي أستاهل ضرب البراطيش، زمان كنت هايص مع بنت الكلب دي كان واحد عجوز وغني عايزها وكان مدايقها في عيشتنا حبتين، ولكن كانت مبسوطة والسلام، أمت حضرتي بسلامتي أردت إني أكون أنا الرفيق الرسمي بعد ما كنت حبيب القلب بقيت حبيب الجيب، ليه يعني يا سي حسني ما كنت في نعيم، وكنت آعد مستريح على قفا غيرك، آل يعني مسألة عواطف ورقة إحساس، معلوم شيء يزهأ ثلاث أشخاص في بيت واحد، راجلين يحبوا مرة واحدة وواحد منهم يستخبا على الثاني، لازم بأه المرة تكون بنت حنت ومضربة، ولازم يكون الواد حبيب القلب راضع من لبن أمه، نهايته زهقت شيء لما يطول يدايق، وغير كده طلعت في دماغي إني أحسن مركز فردوس وأرقيها وأخليها بني آدم، مثلا المضروبة كانت ما شافتش أمها بقالها خمس سنين؛ لأن الاثنين زي الضراير ما يقعدوش مع بعض خمس دقائق من غير ما ياكلوا وش بعض، قمت صالحتهم وخليت المرة الكبيرة تبقى تجي هنا علشان تونس بسلامتها، والبنت برده فهمت قيمة حبي لها، ولكن مسألة النقدية مش على كيفها، وحاكم هي زي البلاعة ما تبطلش طلبات كل يوم حاجة جنس، لكن الواحد يقول الحق البنت مش بدها تأشطني لا، لكن بدها تنتفني وأنا ما حبش النتف ده، لكن برده هي معذورة لأنها سابت العجوز الغني علشان خاطري، وهي لسه صغار وحلوة وأمينة على عرضها أمينة تمام؛ لأنها قالت لي إمبارح لما كنا بنتكلم على أيام زمان لو كانوا يعملوا لي البحر طحينة ما بقتش أرجع زي زمان، يعني تجمع بين راجلين، أما كونها كانت بتخون العجوز علشاني دي مسألة نشأت لأن جمالي فتنها. أهي دي التسلية الوحيدة (تخرج فردوس وخلفها فهمي ماسك خصرها، ولكن حسني لا يراه فتتخلص منه وتقفل عليه باب أودة النوم) .
المشهد الثالث
فردوس :
الله هو انت لسه ماتسهلتش؟
حسني :
أظن ما يصحش إني أمشي من غير ما أسلم عليك، بالله تقولي لي يا فردوس ليه يعني كده مشددة في خروجي؟ هو انت خارجة؟
فردوس :
أبدا.
حسني :
بأه مستنية حد؟
فردوس :
ولا مستنية حد ولا سبت، حأه ما فاضلش إلا كده، اعمل لي بأه موشح وغير علي من غير مناسبة وخانقني. خذ طربوشك يا حبيبي وسلم علي واسهل، ولا بعدين حتخليها خل ما فيش لزوم بأه اللي جره يكفي.
حسني :
طيب أمرك إمتى أشوفك؟
فردوس :
زي ما تحب (يمشي نحو باب الخروج توصله يتردد ثم يخرج)
أف أهو انكشح. كنت زمان أموت فيه ودلوأت ما أطيقش أشوف سحنته زي اللي وشه اتقلب (تروح عند باب الشمال)
فهمي فهمي.
المشهد الرابع (فهمي - فردوس)
فهمي (تعبان أوي ويتمطع ويتثاءب) :
لا لا بزيادة بأه، ما بقتش أقدر على دي الحال.
فردوس :
خليك لطيف يا فهمي، مالك مبوز ليه؟ ياله يا بابا صلح الترابيزة دي، لم ورق الكوتشينة وخبيه من قدام عيني أحسن بيفكرني بالثقيل اللي نزل حطه في الدرج.
فهمي :
خدام على آخر الزمن، أرتب اللي نكشه حضرته نمرة واحد (يوضب كما أمر) .
فردوس :
تعالى جنبي بأه، بتفكر في إيه؟
فهمي :
بفكر في حالتنا. حالتنا احنا التلاتة.
فردوس :
ده موضوع ما يسليش، ما تفكرش في حاجة زي دي.
فهمي :
وأنا كمان رأيي كده إذا كان كده ذوقك في القعاد مع بعضنا طول النهار؛ أنا جوه الخزنة دي وانت وصاحبنا في الصالة.
فردوس :
صاحبنا. احمد ربنا أحسن لك.
فهمي :
يعني إيه؟
فردوس :
ما بقتش تأرب هنا يا مضروب، والله ما تستاهل كل تعب القلب ده، لسه مبوز اضحك حالا، افرد بوزك كمان، أيوه كده.
فهمي :
إنت تحبيني يا فردوس.
فردوس :
أيوه أحبك وإذا كنت ما أحبكش ليه أحوشك وأتعلق فيك، يعني من كبر كيسك ولا من كتر فلوسك.
فهمي :
أدي اللي كنت خايف منه.
فردوس :
خايف من إيه؟ حد يخاف من الحق؟ إذا كنت مفلس الحق مش عليك الحق على اللي خلفوك.
فهمي :
مفلس.
فردوس :
طبعا الشبان اللي زيك كلهم على الحديدة يا حظ، ولكن ما شفتش حد باطه والنجمة زيك.
فهمي :
أنا باطي والنجمة. أنا ما أحبش أسمع الكلام ده، ولا أحب إن الحالة تستمر على كده يا ستي.
فردوس :
يا واد!
فهمي :
مين عارف يا فردوس، يمكن أصبح بكره ألاقي نفسي من أرباب الأطيان.
فردوس :
ربنا يسمع منك، مين عارف يمكن تصبح بنكير.
فهمي :
كفاية على الواحد تركة تطب له من السما.
فردوس :
الواحد روحه تطلع على ما يموت اللي حيورثه.
فهمي :
لكن برده بيموتوا الكبار والصغار بيورثوا مهما طال الزمن، إيه رأيك يا أمورة إذا ورثت لك حتة دين تركة تكفينا احنا الاثنين، نعمل بها إيه؟
فردوس :
المسألة في إيدك أنت.
فهمي :
في إيدي أنا لوحدي.
فردوس :
أمال عاوزني أقول لك إيه؟ معلوم إذا كنت تغتني وتقدر على مصروفي أسيب الدنيا كلها علشانك.
فهمي :
صحيح تسيبي صاحبنا ده نمرة واحد وتبقي لي أنا لوحدي؟
فردوس :
ده طبعا وفي ساعتها.
فهمي :
كلام شرف؟
فردوس :
ونص وربع أنا باتمنى اليوم اللي أأدر أعيش فيه وياك بكل حرية، ونفرد ألوعنا ونتخلص من البأف ده اللي لازق لي، ولكن راخر معذور لأن ده بيته وأنا بتاعته، وأنا وإن كنت ما أطيقوش إلا إني ملزومة أحترمه وبيصعب علي في بعض الأحيان. كنت النهارده حتخانق أنا وياه وننفصل، ولكن رجعت صالحته علشان خاطرك، قلت في نفسي فهمي مش غني لكن باين عليه ابن عز، ولازم أفرفشه شوية في بيتي، أظن إنك منتش فاهم قصدي. الرجالة ما يفهموش الكلام ده. ده شيء نفهمه احنا يا نسوان.
فهمي :
الحال مش عاجبني والسلام، ولازم نعرف أخرتها.
فردوس :
حنفضل اللي نعيده نزيده.
فهمي :
قلبي حاسس يا فردوس إنك مانتش متهنية. وأنا كمان مانيش مبسوط بالكلية.
فردوس :
وبعدها؟
فهمي :
مش آدر أغمض عيني للدرجة دي.
فردوس :
تغمض على إيه؟
فهمي :
بأه مانتش عارفة، هو اللي يحب مرة يطيق واحد تاني يأعد وياها جنب منه؟
فردوس :
وإيه يعني، ما تقدرش تحبس روحك علشاني ساعتين تلاتة هنا، مش أحسن من الشارع، مين عارف كنت تقضيهم فين الساعتين دول.
فهمي :
مش مسألة الوقت يا ستي، لازم الواحد يقول لك بالمفتوح، دي مسألة غيرة وعواطف، مسألة كرامة وشرف.
فردوس :
غيرة وعواطف! هو انت من اللي يهتموا بشرفهم؟
فهمي :
حاسبي ما تزوديش أنا شرفي مش لعبة في إيدك إكمني باحبك. إنت بتحبيني صحيح ولكن يظهر إني ماليش في عينك أقل اعتبار.
فردوس :
بلا كلام يا أهبل.
فهمي :
لا لا إنت ما تعتبرنيش أبدا وتعتبري دكها.
فردوس :
لا بد أحب واحد واعتبر الثاني، إنت عاوزة يطلع باطه.
فهمي :
طيب أقعدي بالعافية.
فردوس :
الله يعافيك يالدلعدي.
فهمي :
انتهينا ما بأليش طأطان على دي الحال.
فردوس :
اشمعنى يعني؟
فهمي :
لإنك أولا متدايقة.
فردوس :
مين قال لك؟
فهمي :
ثانيا أنا ما أطيقش الذل.
فردوس :
وقت الكلام ده فات.
فهمي :
يا انا يا هو.
فردوس :
عاوز تضعيني علشان سواد عينيك؟
فهمي :
أيوه ولا. أقعدي بالعافية يا فردوس.
فردوس :
على كيفك الله يعافيك يا عنيا.
فهمي :
يا انا يا هو في البيت ده (يخرج) .
المشهد الخامس
فردوس :
مشي سابني من غير سبب، وانا لسه باحبه ليه؟ يا عني هو الحال اللي احنا فيه من إمته، ده من زمان واحنا على كده، لازم فيه حاجة مخبيها علي، آه يا فهمي. حرام عليك تعمل فيه كده من غير ذنب. ما هكذا تورد الإبل يا فهمي، إن كنت غلطت سامحني أول مرة، وإن غلطت تاني مرة اضربني، لكن ما تسبنيش كده أبدا، ولد حليوة لسه صغار خفيف الدم ما تزهقش الواحدة من عشرته، يا خسارته يا ميت ندامة عليك يا فهمي.
عيوشة :
الراجل بتاع البوستة جاب جواب لحضرتك، وواحد حمار جايب جواب تاني.
فردوس :
شليهم عندك في المطبخ واديهم لي الجمعة الجاية.
عيوشة :
الواد الحمار واقف على الباب ومستني الرد، وقال إنه من طرف سي فهمي.
فردوس :
من طرف فهمي هاتي (تقرأ الجواب)
حضرة الست فردوس هانم، من بعد مزيد السلام والتحية والإكرام، أخبر حضرتك إن عمي المرحوم توفي إلى رحمة الله؛ ولذا لزم تعريفك هذا الخبر السار، والمهم في المسألة أن تركة المرحوم - الله يحسن إليه - تكفي أني أعيش مبسوط مع واحدة ست، فإذا كنت تحبيني زي ما أحبك، فأحسن شيء نتفاهم في المسألة دي، وزي ما كان ماشي صاحبنا أمشي أنا تمام لا زيادة ولا نقصان ... يا حبيبي يا نور عيني، عيوشة، قولي للحمار يبوس لي البيه من بين عينيه ويشيعه حالا.
عيوشة :
حاضر يا ستي (لنفسها)
أنا برده حاحط جواب التاني على الترابيزة علشان لما تشوفه تبأه تفتحه (تخرج) .
فردوس :
أما حتة عبارة، أنا برده كان قلبي حاسس، وكنت أقول في نفسي لازم الواد ده عنده حاجة؛ لأنه كان باين عليه جد ومتدايق من حالته هنا، لكن يعني عملها رسمي وكتب لي جواب ليه؟ ما كلمنيش بلسانه هو فيه مرة تزعل من راجل يعرض عليها حبه وكيسه؟ لسه الواد أهبل لكن أنا سامحته بكره يدردح (تقصد الترابيزة)
أدحنا انتهينا من صاحبنا الأولاني لما يجي فهمي يلائيني حرة نفسي، أما أكتب لصاحبنا الأولاني جواب الرفت. رفته بسيط بطريق الاستغناء (تكتب على الترابيزة)
يا حضرة النطع البايخ، يا كريم على روحك وبخيل على الناس، يا ابو لسان طويل ويد قصيرة، يا إسكندر الأكبر، اكتبها يتفلق في كسحه يا إسكندر ذو القرنين بزيادة ما بستهلش النطع ده أكثر من كده الظرف بأه (تنظر تجد الجواب التاني)
الله وده فيه جواب تاني دلوقت، اقرأه على انفراد (تكتب العنوان)
حضرة حسني أفندي الشربتلي خصوصي ومستعجل، نهايته لما أشوف الجواب التاني ده (تتناوله)
الله فاتنتي الجميلة ونور عيني فردوس هانم، اسمحي لعاشق متيم أن يعبد جمالك. إنني أضع غرامي وشبابي تحت قدميك. إن لي فيك مزاحمين ولكن الحب الحقيقي لا يعرف العقبات كمال البرعي. أما كلام لطيف ومفهوم وحلو كمان. كمال إيه البرعي ... البرعي لازم عليه غني من الأرياف.
عيوشة (تدخل) :
حضرة فهمي بك حضر يا ست هانم.
فردوس :
خليه يخش (تأخذ الجواب اللي كتبته للأولاني)
خدي ده إرميه في البوستة، ولا تخليش حد يخش علينا.
المشهد السادس
فردوس :
أهلا يا نور عيني.
فهمي :
أهلا بك يا حتة من قلبي.
فردوس :
يا مانا متعلقة بك يا اخويا.
فهمي :
حقه اسكتي وأنت آسية قوي ... عجبك مشروعي؟
فردوس :
إلا عجبني!
فهمي :
أيوه كده فرحيني بإنك قبلتي.
فردوس :
البركة فيك كتر خيرك.
فهمي :
أنا ما استاهلش شكر على كده، يله نعاشر بعضنا بإخلاص وأدب ولطف، وأنا ما اتأسفش على فلوسي.
فردوس :
فلوسك معناها إيه يعني؟ أصدك تقول فلوس المرحوم عمك. إذا كنت تحبه ياله بنا نطلع عليه الأرافة بشوية قرص وفواكه وريحان، أهو طلعت رجب أربت. كان اسمه إيه المرحوم؟
فهمي :
حنطور بيه.
فردوس :
الله يرحمه عم حنطور بك.
فهمي :
بأه يعني صحيح بتحبيني وحتطلعي الأرافة على عمي؟ ولا انتيش متأسفة على صحبك القديم؟
فردوس :
متجيبليش سيرة حد، إن شا الله يجيني خبره، أنا ماليش إلا اللي قدام عيني.
فهمي :
خلاص يعني قلبك مايل لي؟
فردوس :
قلبي مايل لك؟ دانه وأعه.
فهمي :
وهنا بأه زي بيتنا.
فردوس :
وأكثر من بيتكم كمان يا حبيب ألبي (تبوسه) .
فهمي (ياخدها على الكنبة) :
فردوس تعالي جنبي واقعدي نتكلم حبتين، ياله نتكلم زي الحبايب ومن غير تكليف، ولاتجيبيش سيرة الفلوس، ولا كأني أحبك ولا كأنك بتأبضي، ولكن لا بد إنك تفهمي إني وإن كنت مش عايز أجرح إحساسك إلا إنه في مقابل المبالغ اللي حاكعها من الآن فصاعد، لا بد يكون لي امتيازات وحقوق زي اللي كانت لنمرة واحد.
فردوس :
ده طبعا دي عاوزة كلام (تبص له) .
فهمي :
الله بتبحلئي فيه كده ليه؟
فردوس :
هو النظر في خلقتك بأه ممنوع والا إيه؟
فهمي :
يعني إذا كنت أنا باجيب سيرة الفلوس، ده مش معناه إني زعلان والا ندمان.
فردوس :
يمكن بكره تندم مين عارف.
فهمي :
خليني أكمل كلامي. بس يعني إن شاء الله الفلوس اللي حاكعها تكون بفايدة ولا يكونش نصيبي منك زي نصيب صاحبك الأولاني؛ لأنه أقولك الحق إن سلوكك معه كان شيء مخزي شيء بارد، أنا كنت مبسوط لأني كنت المحبوب الحقيقي، ولكن أقول لك الحق لو إنه خطر ببالك إنك توضعيني مطرحه، أنا ما اعرفش تبقه حالتي ازاي.
فردوس :
هم اقف شوية، دور ظهرك، إيه ده الهندام ده؟
فهمي :
مش على كيفك؟ هندام حشمة وذوق ولايق لي تمام.
فردوس :
لكن البدلة متخناك حبتين، في ظني إنك كنت أنحف وأرق من كده.
فهمي :
اسمعي قبله اللي بقول لك عليه.
فردوس :
سامعة.
فهمي :
إن شاء الله من هنا ورايح بدنا نستفتح بأه بعشرة جديدة ونظام جديد.
فردوس :
قرب وطي راسك يا حلاوة شعرة بيضا (تطلعها) .
فهمي :
بدنا نستفتح بأه بعشرة جديدة.
فردوس :
شعرة بيضا في سنك ده، يا رحمة الله على الشباب! ياله حسن الختام يالدلعدي.
فهمي :
بدنا نستفتح بأه بعشرة جديدة.
فردوس :
حأه المرحوم عمك الله يرحمه مات في الوقت المناسب، ما دام راسك فيها شعر شايب.
فهمي :
وبعدين يا فردوس، مش عاوزة تسمعي لي؟
فردوس :
أديني سامعه يا أخي بس دردش.
فهمي :
من هنا ورايح إن شاء الله منتش حتعرفيني لشدتي؛ لأني حاحرج عليك ما تقابليش حد من غير إذني، وأرتب معيشتك وأخرج معاك رجلي على رجلك، وما أحبش كمان إنك تقري كتب ساقطة مثل كتاب «أما شيء بارد يا أستاذ»، و«اتقل البت تحبك»، و«عزبه وادخل عليها المسا ولمبتها مدغمسة»، وما فيش بأه روايات من اللي بالك فيها، بزيادة علينا سينما باتيه وإذا كان يهفك الشوق نروح نسمع الشيخ سلامة في رواية حشمة، والا ناخد لنا لوج عند أبيض.
فردوس :
عال عال كل ده كويس، أنا في ديك النهار، ولكن إنت يا هل ترى نفسك تهاودك على الحاجات الجد والعيشة الراقية دي؟
فهمي :
بتقولي إيه؟
فردوس :
بقول يعني نفسك تهاودك؟ إنت جدع هليهلي وتحب الضحك، ويمكن تفهم جرنال السيف، لكن بأه نفسك مش طويل في الحاجات التانية؛ تياترو الشيخ سلامة وروايات جورج أبيض دهده العز ده.
فهمي :
سيبيني اتكلم.
فردوس :
اتفضل دانا شايفة إنك منتش حتقدر تنفذ مشروعاتك دي كلها.
فهمي :
وعاوز تديني كشف بأسامي الستات أصحابك ومحلات سكنهم وأسامي صحابهم إن كان لهم أصحاب؛ لأن معارفك ستات لطاف ولكن سلوكهم مين عارف.
فردوس :
إنت عاوزني أعرف برنسسات بأه والا إيه؟ اتفضل عرفني بنيتك.
فهمي :
بس هدي أخلاقك، أنا بافتكر إنك لو كنت تمشي كويس هيمكنك تتعرفي بشوية ناس طيبين، يعني ستات حشمة أصلهم متجوزين وطلقوا لأسباب مقبولة، برده فيه من العينة دي كثير، مش عزاب خبط لزق.
فردوس :
طبعا فيه كثير من الصنف ده اللي يدور يلاقي.
فهمي :
دول أكثر من الهم على القلب، وادحنا حصلنا مسألة دقيقة جدا مسألة دليكات حبتين مسألة الست نينتك.
فردوس :
ما لها الست نينتي؟
فهمي :
ما بتقابلوش بعض ليه؟
فردوس :
مش شغلك يا عزيزي، كده أحسن لنا احنا الجوز.
فهمي :
طيب علشان خاطري يا فردوس تبدري بكره وتشأري على الولية الكبيرة وتصالحيها؛ لأنه مفيش عشرة أصلح لك من عشرة والدتك.
فردوس (تتثاءب) :
خلاص.
فهمي :
أيوه بزيادة كده النهارده، لما يهف على بالي حاجة تانية أبأه أقولها لك (تجي تقوم يحوشها)
فهمت كلامي كله؟ يا فردوس المسألة بسيطة في كلمة أنا عاوز إني أدي لعشرتنا صبغة شريفة، وعاوز كمان إنك تتعلمي الأدب والرقة والترتيب.
فردوس (تنهض) :
أطيعه ده حمى وافدة ماهوش خالص في نهاره (تقعد جنب الترابيزة)
ألا من حق قول لي انت سبق جبت لي سيرة أهلك، ولكن ما عمركش جبت لي سيرة المرحوم عمك، هو مات أمته؟
فهمي :
من زمان، لا مش من زمان أوي خمس ست اشهر.
فردوس :
آه فكرتني، كنت جيت لي متأخر يوم وقلت إنك كنت في معزة حضرة عمك. هو ده؟
فهمي :
أيوه، الله يرحمه.
فردوس :
طيب ليه ما قلتش نهاريها إنك ورثته؟
فهمي :
إنت عاوزة الحق، أنا كنت متردد في عشرتك وخفت إذا حكيت لك مسألة التركة يمكن تشبطي فيها، وهو كل شيء له أوان.
فردوس :
أشبط.
فهمي :
إنت بتزعلي من الحق ليه؟
فردوس :
حد يزعل من الحق ألا أشبط (تضحك)
والمرحوم ترك لك أد إيه؟
فهمي :
ترك أد أيه؟!
فردوس :
أيوه ترك لك كام فدان ولا كام ألف جنيه؟
فهمي :
يجي سبعين ثمانين فدان في المنوفية.
فردوس :
يعني ثمانين فدان.
فهمي :
ثمانين فدان.
فردوس :
ثمانين فدان دي عزبة عال.
فهمي :
طبعا عزبة عال، لو كنا ما نرهنش ولا نبعش ونحوش من الإيراد، والا بعدين تروح من إيدينا.
فردوس :
طيب من فضلك سقف لي على عيوشة تجهز لي تربيزتي.
فهمي :
إنت خارجة والا إيه؟
فردوس :
خارجين سوى نوصي فرن حسن أبو زيد علشان القرص، وأشوف لي بدلتين وملاية من عند الجمال (تنهض) .
فهمي (لنفسه) :
بدلتين وملاية من عند الجمال حتة واحدة كده!
فردوس :
واحنا راجعين نفوت على الخواجة مشيل أحسن خاوتني على القرشين اللي علي له.
فهمي :
حقا إلا دي. أنا ما ادفعش ديون قديمة.
فردوس :
هو أنا قلت لك ادفع لي حاجة. ماتخفش على فلوسك أنا واحدة قنوعة ولانيش طماعة، المال ده إن كتر والا قل مالوش في نظري قيمة، وأظنك لحد امبارح تعرف إن إيدي سايبة ولا أحاسبش.
فهمي :
دينك بتاع مشيل ده كثير.
فردوس :
كثير إيه يعني (تقوم تبعد) .
فهمي (يرجع) :
مفيش في نفسك حاجة تكون بسيطة ولا تخربش بيتي وانا أجيبها لك، عاوزة إيه؟
فردوس :
عاوزة سلامتك.
فهمي :
مش عاوزة حاجة.
فردوس :
لا ... لقدام شوية لما تحوش لك قرشين.
فهمي :
طيب يبقى فيها فرج.
فردوس :
تعرفش حد عنده بيت صغير في سوق السلاح، تشتريه وتكتبه على إسمي؟
فهمي :
أشتري كده بيت أول ما يشطح ينطح.
فردوس :
بس ماتزعلش أنا رزقي على الله، هو أنا قلت يعني إنك لا سمح الله بعد عمر طويل، إذا ربنا خد وديعته، متبقاش روحك قلقانة علي، وتكون تركت لي حاجة تستحق عليها الرحمة، ياما الرجالة بيعملوا لنسوانهم، إنت لسه ما سقفتش على الخدامة؟ (يسقف) .
فهمي :
عيوشة دي تقيلة، ابقي قولي لها إنها تغير خطتها معاي وتكلمني جد، بقيت دلوقت سيدها، ياما سمعتها تقول سي فهمي واللا فهمي وقف بزيادة بأه مهزأة من الخدامين، خليها تقول البيه من الآن فصاعد.
فردوس :
من عينيه يا حبيبي (تسقف) .
عيوشة :
سي فهمي بتسقف؟
فردوس :
يو جتك إيه يا عيوشة، ابقي قولي البيه من هنا ورايح.
عيوشة :
حاضر، سعادة البيه عاوز حاجة؟
فردوس :
أيوه طلعي الترابيزة والجزمة الجديدة القطيفة وشنطة اليد.
فهمي :
حتاخدي وياك مفتاح الشقة؟
فردوس :
لا ما فيش لزوم (تخرج عيوشة)
إنت مش معاك المفتاح الثاني؟
فهمي :
أيوه.
فردوس :
سلمه لي بقا يا حظ.
فهمي :
لا ده بعدك.
فردوس :
ماتعملش زي العيال ... مدام بقه البيت بيتك، ومفتوح لك رسمي، في أي وقت مفيش لزوم للمفتاح اللي معاك.
فهمي :
صحيح مالوش لزوم عندي.
فردوس (لعيوشة اللي دخلت) :
بصي له كده، مش سحنته انقلبت؟ (تلبس ملابسها) .
عيوشة :
سلامة نظرك، ده صحيح سحنته بقت شكل كده.
فردوس (لعيوشة بصوت واطي) :
منين الجواب ده اللي كان على الترابيزة؟
عيوشة :
جدع صغير جابه، وترجاني إني ما قولش عليه لحد.
فردوس :
أنا قريته وعرفت اسم الكاتب (تضحك)
قولي لسي كامل ده إن جوابه رقة وذوق وعجبني أوي.
عيوشة :
تحبي يقابلك؟ آهو آعد عندي في المطبخ.
فردوس :
وليه ساكته لحد دلوأت؟ أهو إنت تمللي كده.
فهمي :
يا تره بيوشوشوا بعض بيقولوا إيه؟ (يدنو منها)
فردوس بتقولي إيه للبت الخدامة دي؟
فردوس :
كنت باوصيها على البيت، وأقول لها فتحي عينيك.
فهمي :
أنا عشمي فيك إنك ما تهزأنيش أدام الناس.
فردوس :
مايصحش يا سي فهمي بلا كلام (تفتح درج الترابيزة)
خد فاتورة الخواجة مشيل حطها في جيبك، وابقي اديها لي لما تحصل دكانه.
فهمي :
خلاص.
فردوس :
أنا جاهزة (يخرجان) .
المشهد السابع
عيوشة :
لازم فيه حاجة، لازم فيه حاجة، الظاهر إن الست غيرت الهيأه، أما أفتح للجدع الشقة أوريهاله (تنادي جهة المطبخ)
اتفضل يا أفندي.
أدهم :
الست فين أمال؟
عيوشة :
خرجت.
أدهم :
خرجت!
عيوشة :
ماعليهش استناها، فرغ الكتير ما بقي إلا القليل، دي ما قرت جوابك وانبسطت منه.
أدهم :
ده طبعا، دنا أعدت أسود وابيض في الجواب ده مدة، ونقلت نصه من تزيين الأسواق.
عيوشة :
وانت عمرك أد إيه يا كتكوت؟
أدهم :
تمنتاشر سنة.
عيوشة :
وما ليكش يا قلبي شغلة غير الجري ورا الستات؟
أدهم :
لا أنا صنعتي كاتب محامي مختلط.
عيوشة :
الحق علي اللي عرفتك بستي، ما كنتش أعرف إنك صغير في السن كده، وماشي في الهلس وتضيع فلوسك.
أدهم :
أضيع فلوس! اللي حيلته حاجة يضيعها، ومع ذلك الله يرحم خالي اللي قالها يوم لما كنت في سنك ما كنتش أحط إيدي في جيبي أبدا.
عيوشة :
وطي حسك أحسن سمعت الباب بينفتح (تبص من الباب)
الله دي الست رجعت تاني استخبا ورايه (يقفوا على الشمال في آخر الغرفة) .
المشهد الثامن
فردوس :
أما حتة دين بأف، نطع منوفي والا بلاش، يعمل لي موشح على عتبة الباب إكمن واحد معرفة شاور لي بيده (تقلع ملايتها) .
عيوشة :
مين اللي زعلك يا ست؟
فردوس :
مين سعادة البيه اللي بيغير علي، ولا يطيقش الهوى يفوت على خدي. (عيوشة تشاور لأدهم يخرج.)
المشهد التاسع
فردوس :
مين انت؟
أدهم :
يا نور عيني وحياة قلبي.
فردوس :
إنت اللي كتبت الجواب طيب معلهش كونك تشيع لي جوابات حب لكن كونك تجي عندي بالشكل ده.
أدهم :
أول زيارة تدهش والثانية تبسط والثالثة تفرفشك، وتبقي بعدها تستنيني على نار.
فردوس :
ده واد عينه قوية! إنت طالب إيه يا جدع؟!
أدهم :
طالب رضاك.
فردوس :
ده شيء بعيد.
أدهم :
لكل مجتهد نصيب.
فردوس :
وإيه في مقدورك تعمله؟
أدهم :
أحبك.
فردوس :
آدي أحسن كلمة قلتها، لكن آبله إنت واد هليهلي والا حزايني؟
أدهم :
فرايحي على كيفك.
فردوس :
ورفيق.
أدهم :
بكره تشوفي.
فردوس :
وتغير علي.
أدهم :
على إيه الدور على نمرة 1 في الغيرة (تضحك)
تسمحي لي أقعد؟
فردوس :
لا ماتقعدش أحسن نمرة واحد جي حالا.
أدهم :
إبقي خبيني في الزؤر.
فردوس :
إنت ولد مجنون! إش عرفك بالحاجات دي، لكن معلهش الشباب معذور اللي في عمرك.
أدهم :
وفي عمرك يا فردوس.
فردوس :
كده فردوس وقف اتأدب والا أطردك.
أدهم :
إنت بتستغربي من ميلي لك مع إن حبي قديم وقلبي متولع من مدة؟
فردوس :
من إمته إحكي لي؟ (تقعد.)
أدهم :
فاكراش نهار ما كنتي خارجة في الشتا اللي فات من حمام الدهب؟
فردوس :
حمام الدهب اللي في الحبانية ؟
أدهم :
أيوه كان يوم جمعة بعد الظهر، وكانت الدنيا برد، وحتة الحبانية موحلة بعد المطر اللي نزل الضحى، وشوية وانت خارجة من الحمام ووراك خدامتك شايلة البقجة، وانت كنت لابسه ملاية لف وبرقع كريشة ممزق وعروسة ذهب وقامطة بمنديل حرير زهر العتر. ووشك أحمر زي صحبة الورد، وإديك زي حتة القشطة ومنغزين، والملاية اللف محبوكة عليك تمام ومبينه كل حاجة، ولما شفت الوحلة قلت لعيوشة يارتنا ندهنا عربية، ورجلك ازحلقت قمت قلت لك اسم الله يا أرض احفظي ما عليك، قمت إنت ضحكت وقلت يا دم كده إيه ده اللي لسه ما طلعش من الأرض وبيفتح عينه، وبقه قمت أنا قلت ده زرع بدري ومشيت وراك نهاريها لحد البيت، وكنت من حين لآخر تضربيني نظرة تدوبيني بها، فقلت في نفسي دي قلبها طيب وماشية على مهلها، واتعرف بها ولو أبيع هدومي ولازم أوصل لها.
فردوس (تضحك) :
أنا مش فاكرة قصتك دي، لكن إذا كان الكلام ده صدق تكون الصحبة قديمة قديمة ونص.
أدهم :
دنا شفت الغلب لما وصلت لك.
فردوس :
بس بقه بزيادة النهارده قوم انزل.
أدهم :
الساعة بقت سبعة وأنا مارحتش الشغل، والواجب على الناس الطيبة إنه إذا أمسى المسا على ضيوفكم يحوشوهم على العشا، فياهل ترى أنا معزوم الليلة؟ الأكل من عندك والشرب والحظ من عندي والا إيه؟ (يسمع كلام) .
فردوس (تتسمع) :
بس بقه إنت مش سامع الكلام اللي في الفسحة؟
أدهم :
أنا عارف، مين؟
فردوس :
مين؟
أدهم :
نمرة واحد؟ الكافية اللي ربنا بيحدفها على العشاق في وقت غير مناسب.
فردوس (تبصر) :
فهمي رجع يا دهوتي (لأدهم)
خش يا أدهم استخبا هنا، أنا برده قلت الواد واقع ولازم أدوخه.
المشهد العاشر
فهمي :
مسا الخير على عيونك يا دوسه.
فردوس :
مسا الخير على عيونك يا قلبي، إنت جي ليه بعد اللي جرى؟
فهمي :
إنت لسه زعلانة وخلاص عشرتنا. هو العيش والملح مالوش عندك خاطر؟
فردوس :
العيش والملح يظهر في أولاد الحلال، أنا لا بطردك ولا بحوشك.
فهمي :
يعني باطه .
فردوس :
وحياة راس المرحوم عمك ماتدايقنيش، وريني عرض كتافك.
فهمي :
أشوفك إمته؟
فردوس :
لما يهفك الشوق.
فهمي :
إنت عاوزانا ننفصل؟
فردوس :
زي بعضه عندي.
فهمي :
طيب ياله نصطلح ولاتبقيش تزعلي، والحق علي في مسألة الصبح.
فردوس :
ما فيش داعي للصلح. سيبني دلوقت أنا حزينة ومكرنكة، ولا أحبش حد يضايقني لما أكون كده، يمكن أروق لوحدي.
فهمي :
طيب خدي أدي وصل الخواجة مشيل، دفعت له القرشين اللي كانوا عليك.
فردوس :
بقي إن شا الله في المستقبل ماتدفعش اللي علي إلا بزيطة وزنبليطة والا إيه، إن شاء الله تكون قعدت تقطع في فروتي عند مشيل.
فهمي :
أأقطع في فروتك! هو أنا متعود على الحاجات دي.
فردوس :
بقى ماتسليتوش انتو الاثنين على حسابي؟!
فهمي :
أنا كنت والله مهتم بحسابه، وكان ظني إن عملة زي دي تبسطك.
فردوس :
أنبسط من إيه حبيبي علشان قرشين لا هم طالعين فوق ولا نزلين تحت، علشان دين بتاع الكلفة والركامة، ده فيه كثير بيحبوا يدفعوا لي خمسين دين مش دين واحد.
فهمي (لنفسه) :
دهيا تشيلها وتشيل دينها، مبقاش إلا دينها وحسابها وفاتورتها وحصة في بيت المسألة، بقت كلها فلوس في فلوس.
فردوس :
إن كنت عاوز تعاشرني يا حبيبي، إعرف أخلاقي أحسن لك وأحسن لي، مش حيفيدك غيرتك ورزالتك دي، أنا عملت كل اللي طلبته؛ طردت واحد بيه تمام كان شايف كيفي بمعنى واحد ولا في الدنيا ماكانش مخليني عايزة حاجة، حتى لبن العصفور إن طلبته يجيبه، وكان واثق مني ولا عمره يخونني ولا عمريش خنته.
فهمي :
فردوس.
فردوس :
ما عمريش خنته. إنت سامع، فإما تمشي على خطته والا يجرى لك عكس اللي جرى له؛ يعني أخونك بالعربي.
فهمي :
أنا عاوز يجرى لي عكس اللي جره له، أنا مش عاوز أبأه زيه إنت نسيت؟
فردوس :
أنا مش ناسية حاجة، أنا عارفة إنت طلبت مني إيه وأنا وعدتك بإيه، أنا ماعمريش وعدتك بحبي، الحب ده شيء ماتفهموش وانا ماعمريش قلت لك إني من الملايكة. كل إنسان واللي انكتب له ولا حدش خالي من العيوب. وإذا كان حضرتك ناوي إنك تعمل لي موشح كل ما واحد معرفة يسلم علي، والا واحدة ست تزورني، والا واحد قريبي يشيع لي جواب، دي مسألة ماتهمنيش.
فهمي :
دي المسألة وسعت، دي مش واحد بس اللي حيزاحمني دول كل الناس قرايب وحبايب ومعارف!
فردوس :
نهايته، خلصنا أهي مرة وعدت، يالا اتفضل وريني عرض اكتافك.
فهمي :
إزاي؟!
فردوس :
إنت ناوي تقعد يا حبيبي؟
فهمي :
طبعا.
فردوس :
اتفضل يا ميت مرحب (تصلح الترابيزة اللي عليها الكوتشينة) .
فهمي :
رجعنا للكوتشينة زي ما كنت بتعملي للأولاني فردوستي دوسه.
فردوس :
مش عايزة أسمع حسك.
فهمي :
بس كلمة واحدة.
فردوس :
ما فيش فايدة مش حرد عليك، اقطع.
فهمي (بعد ما قعد) :
أنا عملت غلطة.
فردوس :
وهي؟
فهمي :
كنت قبله مبسوط أكثر من دلوقت.
فردوس :
قبله إمتى؟
فهمي :
لما ما كنتش لوحدي.
فردوس :
خلصنا، وانا عملت اللي طلبته مني وطردت الراجل العدل (إلى عيوشة التي تدخل):
خبر إيه يا عيوشة؟
عيوشة :
البيه الأولاني هنا، حسني بيه، وبيقول إن حضرتك كتبت له جواب صعب وعاوز يصطلح.
فردوس :
سامع يا سي فهمي، تقدر تزوغ لو كنت عاوز. إيه رأيك؟ اتكلم، صممت على إيه؟
فهمي :
آدي اللي صممت عليه (يقوم يستخبا)
ترجع ريمة لعادتها القديمة.
فردوس :
لا مش من هنا (تقرب من الباب الذي فيه أدهم)
اخرج يا جدع من هنا وأوعك تتكلم (يخرج أدهم من اليمين) .
فهمي (من الشمال) :
الله هو لحقنا جبت لي واحد خلف.
فردوس (لعيوشة) :
خلي البيه يخش (يدخل حسني. تفتح الورق)
أهلا يا عيني، كنت بافتح الورق علشان أشوف إنت جي لي إمته.
فهمي :
ربنا يديم حبنا.
حسني (من الداخل) :
آه يا مغفل ... (ستار) (تمت الرواية بحمد الله وحسن توفيقه.)
الوالد والولد
رواية تمثيلية في أربعة فصول
الفصل الأول
المشهد الأول (السيد «بارنت» - خادمة «جوليا»)
السيد (داخلا) :
هل عادت مولاتك؟
الخادمة (باشمئزاز وسخرية) :
هل عودتنا د في منتصف السابعة.
السيد (بضجر) :
إن سيدتك حرة فيما تفعل فلا تعترضي ... على أنني أستطيع في غيبتها أن أبدل ملابسي لأنني عرقت من شدة الحر.
الخادمة (مشفقة كاظمة غيظها) :
أراك تتصبب عرقا، ولا ريب في أنك كنت تجري حاملا الصغير قتلا للوقت في انتظار عودة السيدة للعشاء، أما أنا فقد تعلمت وتعودت؛ سأرجئ من الآن فصاعدا إعداد المائدة لما بعد الساعة الثامنة، والأفضل أن ينتظر الجائع نضج الطعام ... إن التأخير عن ميعاد الأكل بطر مذموم.
السيد (متصاما) :
حسن حسن عاوني الصغير على غسيل كفيه لأنه كان يلعب بالرمل، أما أنا فسأبدل ثيابي كما قلت. أوصي الخادم بتنظيف راحتي الصغير جيدا (يخرج) .
المشهد الثاني
الخادمة (متحسرة) :
لو كنت رجلا ما سمحت لزوجتي أن تسحبني من أنفي كما تفعل بك السيدة زوجك ... لكل إنسان طبع لا يفارقه (تخرج) .
المشهد الثالث
السيد (لنفسه) :
بدأت هذه الخادمة تكون خطرا جديدا في الدار، إن بغضها زوجتي ظاهر، وهي كذلك لا تخفي بغضها لبول ليموزان صديق الأسرة الوحيد وصديقي منذ الصبا، وإني أحبه لأنه نعم الوسيط بيني وبين زوجتي والمانع لصواعق غضبها، ولطالما رأيته يعنفها كلما رآها تشاجرني بلا سبب، بل هو الذي يخفف عني وطأة مصائب الحياة التي تدهم أرباب البيوت في كل يوم ... إن مربيتي جوليا قد خرجت عن حدها حتى إن زوجي أنذرتني بطردها إذا ساء أدبها بعد الحادثة الأخيرة، ولكنها ترعى جانبها وتجاملها في معظم الأحيان لعلمها أنها قريبتي ولكن يلوح لي أن دوام هذه الحال محال، فما العمل؟ ... أأطرد جوليا؟ ... مستحيل ... أأنصرها على زوجتي؟ ... مستحيل أيضا ... بيد أن عيشي بين هاتين المرأتين أصبح أمر على نفسي من أحد الحلين ... أأستشير صديقي في حل هذه المعضلة ... ولكن ربما يشير علي بطردها حقدا عليها وانتقاما لكرامتها.
المشهد الرابع (تدق الساعة السابعة، يحاول قراءة جريدة، ثم يدخل الولد وقد تنظف، فيأخذ في تدليله والولد يضحك فرحا ويهز يديه ورجليه ويصرخ من السرور، والوالد يقبله بحرارة عدة مرات ويضمه إلى صدره.)
المشهد الخامس
الخادمة :
الساعة السابعة يا سيدي.
السيد (ينظر إلى الساعة) :
الساعة السابعة ... هذا صحيح.
الخادمة :
ها هي المائدة قد مدت.
السيد :
ألم تخبريني لدى حضوري أنك تعدينها الساعة الثامنة؟
الخادمة :
الساعة الثامنة؟! أترضى أنت بذلك؟ ... لو رضيت أنا، أتقبل أن يمتلئ الصغير في الساعة الثامنة؟ ومتى ينام؟ أتريد به الأذى ... إذا لم يكن لهذا الصغير غير أمه ساءت لا شك حاله ... ما أغرب أطوار أمهات هذا الزمان! ... إن أعمالها لا تشرفها ... إنها ...
السيد (بتهديد) :
جوليا لا أبيح لك اغتياب سيدتك. اسمعي ولا تنسي هذا في المستقبل (تخرج الخادمة بوقاحة ويعود السيد لمداعبة الصغير) .
المشهد السادس
السيد (لنفسه ناظرا إلى الساعة) :
ليت دقاتها تقف أو تعود امرأتي. لا أريد أن تتأخر كذلك لا أتطلع لعودتها خشية لسان هذه الخادمة، قد يحدث ما لم يكن في الحسبان من الشر بيني وبين امرأتي إذا تأخرت ربع ساعة ... ما أشد بغضي للأصوات المرتفعة والشتائم المتطايرة! (يعود لمداعبة ابنه ويحكي له أقاصيص خرافية.)
المشهد السابع (تدق الساعة الثامنة، تدخل جوليا.)
جوليا (بهدوء الشخص الذي ينوي الشر) :
مولاي، إنني خدمت المغفور لها والدتك إلى آخر نسمة من حياتها، وتعهدتك بالتربية والعناية منذ ولادتك إلى الآن، فأستطيع أن أقول عن ذاتي إنني مخلصة لأسرتك.
السيد :
هذا صحيح يا عزيزتي جوليا.
جوليا :
وتعلم جيدا أنني لم أفضل طول حياتي شيئا على مصلحتكم، وتعلم أنني لم أخن ولم أكذب ولم أستحق ملاما، فقد وكلتم إلي تدبير هذه الدار.
السيد :
كل هذا صحيح يا جوليا.
جوليا :
والآن أقول يا سيدي إن دوام هذه الحال محال ... سأفاتحك بشيء لم أفاتحك به حتى الساعة احتفاظا بصداقتك وودك، فتركتك تمرح في نعيم الجهل، ولكن الأزمة اشتدت وأخذ الناس يضحكون منك، في سائر الحي. افعل ما بدا لك فهذا لا يمنع الناس من التحدث بالحقيقة، وينبغي لي أن أقول الحق وإن كانت نفسي تأبى النميمة والغيبة، ولكن اعلم أن امرأتك تتأخر في العودة إلى منزلها لأنها تفعل ما لا يليق بامرأة طاهرة.
السيد (باضطراب) :
صه ... لقد حرمت عليك منذ هنيهة ...
الخادمة :
كلا يا سيدي يجب علي الآن أن أقول لك كل شيء ... إن امرأتك منذ عهد طويل تخونك مع المسيو ليموزان، وقد رأيته بعيني أكثر من عشرين مرة يقبلها خلف الأبواب وفي أركان الغرف ... وقد علمت أنه لم يعقهما عن الزواج إلا الفقر ... تذكر كيف تم زواجكما تدرك حقيقة الأمر من بدايته.
السيد (ناهضا وقد ازداد اضطرابه) :
اصمتي ... اصمتي وإلا ...
جوليا :
كلا، سأقول لك كل شيء، إن امرأتك اقترنت بك لثروتك وخانتك مع صديقك في أول يوم، وكان هذا الأمر متفقا عليه بينهما. يكفي أن تتأمل قليلا فتدرك كل شيء. إنها تزوجت منك بالرغم عنها ولم تكن تحبك؛ لذا سودت عيشتك وكدرت صفو أيامك حتى انفطر قلبي عليك ... أنا التي ربيتك صغيرا ورأيت مذلتك وشقاءك كبيرا.
السيد (يدنو منها ليضربها) :
اصمتي ... اصمتي (جوليا تتقهقر وتضطرب ولكن الولد يأخذ يصرخ ويبكي ويختفي وراء أبيه، فازداد اضطراب الرجل وأخذ يهجم على الخادمة ليضربها)
واها لك أيتها الشقية! سيجن الصغير من سوء فعلك (يكاد يلمسها) .
جوليا :
تستطيع أن تضربني أنا التي ربيتك، ولكن هذا لا يصون زوجك ولا يعيد هذا الصغير إلى صلبك وهو لم يخرج منه (يؤخذ الرجل وتسقط يداه) ... ستكفيك نظرة في وجه الصغير فتتعرف على أبيه فورا ... ويل للأعمى! أليست هذه صورة مصغرة من سحنة صديقك ورفيق صباك الموسيو ليموزان؟ ... انظر إلى عينيه وجبينه ... إن الأعمى الذي لا يبصر يتبين شبه أبيه في وجهه (السيد يدنو منها ويقبص عليها ويهزها بشدة) .
السيد :
أيتها الأفعى السامة القاتلة! اخرجي من هنا وإلا قضيت عليك ... اخرجي ... اخرجي (تسقط المرأة على الأرض ثم تنهض) .
جوليا :
ما عليك إلا أن تخرج هذا المساء بعد العشاء ثم تعود مباشرة فترى بعينك ما لا تصدق روايته (تأخذ تجري وهو يقتفي أثرها حول الغرفة) .
السيد :
غادري هذا المنزل لساعتك.
جوليا :
لست في حاجة لأمرك (تخرج) .
المشهد الثامن
السيد (يعود محطما مكسور القلب حيث يجد ولده يبكي، فيصير كالمجنون من شدة غيظه واضطرابه فيقول لنفسه) :
لقد تكلمت هذه المرأة بوضوح وقوة وإخلاص بحيث لا أستطيع أن أشك في نيتها، ولكنني أرتاب في صدق نظرها، فلعلها مخطئة وقد دفعها إخلاصها لي وبغضها لزوجتي إلى هذا الخطأ الشنيع (يهمل الصغير أثناء الاضطراب فيبكي الولد فيأخذه بين ذراعيه ويملأ وجهه بالقبل) ... جورج ولدي! جورج عزيزي ... جورج ... ولكن ماذا قالت تلك العجوز المشئومة؟ قالت إنه ابن ليموزان ... هذا مستحيل ولا أستطيع تصديق هذا القول، إن هي إلا وشاية حقيرة ينبتها الحقد في قلوب الأوفياء ... (يداعب الولد فيكف عن البكاء) ... ولكن إذا كان يشبه ليموزان حقيقة كما قالت (ينظر في وجه الصغير ويلمس أنفه وجبينه وأنف نفسه وجبين نفسه)
تلك العجوز الشقية، إن الأعمى يرى الشبه بين الاثنين، إذن لا بد من وجود شبه شديد ... لعل في ملامح الاثنين ما يلفت الأنظار ... إذن يا رباه ماذا يكون هذا الشيء ... ينبغي أن أتبينه في الصباح ... إنني الآن لا أرى شيئا لأنني مضطرب ولا أستطيع أن أتعرف على شيء، وينبغي أن أنتظر حتى الصباح، فإن كان الصغير يشبهني فقد نجونا معا أنا وولدي، أنا وهذا الصغير ... آه ها هي المرآة ... كنت عميا عنها (يسرع إلى المرآة ويبقى واقفا وولده على ذراعه ويدني وجهه من وجه الصغير)
نعم إن أنفه تشبه أنفي، قد يصح هذا ولكن ليس بالتأكيد ... نظرته تشبه نظرتي ... كلا ... كلا ... لأن عينيه زرقاوان يا رباه! أكاد أجن (يجري من أمام المرآة، يجلس على كرسي في طرف القاعة منهوك القوى يبكي ويبكي الصغير) . (ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول (يدق جرس باب الدخول - السيد - الزوجة - ليموزان)
السيد :
ها هي امرأتي قد عادت. ماذا أنا فاعل؟ سأفر إلى غرفتي لأتدبر أمري (يخرج ثم يعود) ... لا بد من الشجاعة والثبات في هذا الموقف الرهيب مهما يكن الرجل جبانا أو طائشا في سواه. لا بد لي من معرفة الحقيقة (يرتجف)
ولكن لماذا أرتجف؟ (يدق الجرس بشدة)
هذا أثر الخوف في نفسي. أأخشاها؟ كلا (يخرج ثم يعود وخلفه امرأته وصديقه) .
المشهد الثاني
الزوجة :
تؤدي الآن وظيفة فتح الباب! أين جوليا إذن؟ (يحاول أن يجاوب فلا يستطيع) ... هل رماك الله بالبكم؟ أسألك أين جوليا ؟
السيد (باضطراب وتلجلج) :
إنها ... إنها خرجت.
الزوجة (ببداية غضب) :
كيف خرجت وإلى أين ولماذا؟
السيد (يستعيد شهامته شيئا فشيئا) :
إنها خرجت نهائيا ولن تعود ... لقد طردتها.
الزوجة :
أنت طردتها؟ طردت جوليا ... إنك مجنون!
السيد :
نعم طردتها لأنها أظهرت وقاحة وأساءت معاملة الصغير.
الزوجة :
جوليا؟
السيد :
نعم جوليا.
الزوجة :
وكيف ظهرت وقاحتها؟
السيد :
بشأنك.
الزوجة :
بشأني؟
السيد :
نعم لأن النار أحرقت الطهي ولما تعودي.
الزوجة :
فما قالت إذن؟
السيد :
قالت إن من سوء حظ رجل مثلي أن يتزوج من امرأة مثلك، تخلف الميعاد وتزدري بنظافة الأسرة ولا تعنى بشئون ولدها الصغير وتسيئ إدارة منزلها، وهي عدا ذلك زوج سيئة السلوك.
الزوجة (تخلع قباءها بسرعة وغضب، وتلقي به على كرسي، وتقصد زوجها مدمدمة) :
تقول ... تقول إنني ...
السيد (بهدوء) :
أنا لا أقول شيئا يا عزيزتي إنما أعيد على سمعك ما قالت جوليا كما طلبت، وأقول إنني طردتها لهذا.
الزوجة (بغيظ شديد مكظوم) :
هل تعشيت؟
السيد :
كلا لأنني كنت منتظرا.
الزوجة (ترفع كتفيها بدون مبالاة واستهزاء) :
من البلادة والغباوة أن تنتظر بعد منتصف الثامنة، وكان ينبغي لك أن تفهم أنه حدث عائق منعني عن العودة في الميعاد أو أنني كنت مشغولة، على أنني كنت أشتري أشياء لا غنى لي عنها من السوق الكبرى بشارع رين، ولدى عودتي لقيت ليموزان بعد الساعة السابعة في بولفار سان جيرمان، فطلبت إليه أن يصحبني إلى مطعم أتزود فيه بما يتيسر لعدم إمكاني دخول المطاعم بمفردي مهما بلغ بي الجوع، بما لا يسمى عشاء لأنني اقتصرت على الحساء وصدر دجاجة رغبة مني في سرعة العود.
السيد :
لقد أحسنت ... إنني لا أوجه نحوك أقل لوم.
ليموزان (الذي كان صامتا ومختفيا تقريبا وراء الزوجة يظهر بوجل ويمد يده إلى السيد) :
كيف حالك؟ لعلك بخير.
السيد (يصافحه بفتور) :
إنني بخير.
الزوجة (كمن تتذكر قولا مضى) :
لوم؟ لماذا تذكر اللوم؟ ... يظهر أنك سيئ النية.
السيد (معتذرا) :
كلا إنما أردت أن أقول إنني لم أنزعج لغيابك، ولم أعد هذا التأخير خطأ.
الزوجة (كمن يبحث عن سبب للشجار) :
تأخير؟ من يسمعك يحسب أنا في الساعة الأولى من الصباح وأنني قضيت الليل في غير بيتي.
السيد :
كلا ثم كلا يا عزيزتي، أقول تأخير لأنه ليس لدي كلمة أخرى أقولها لأن عودتك كانت منتظرة في منتصف السابعة، فعدت في منتصف التاسعة، وهذا يسمى تأخر وليس له في اللغة اسم آخر، وقد علمت السبب ولم يبهتني تفسيرك، ولكنني لا أستطيع أن أستعمل كلمة أخرى سوى كلمة تأخر.
الزوجة :
ولكنك تنطقها بحيث يظن السامع أنني قضيت الليل في غير بيتي. كلا ... كلا ... (تحاول دخول غرفتها ثم تقف) ... مالي أرى هذا الصغير كئيبا؟
السيد :
قلت إن جوليا أساءت إليه قليلا.
الزوجة :
ماذا فعلت له هذه الفاجرة؟
السيد :
لا شيء تقريبا ... إنها دفعته فوقع.
الزوجة :
هذا عجيب جدا ... جوليا تغتابني ثم تضرب ولدي وأنت زوجي ووالده تجد الأمر طبيعيا.
السيد :
كلا ... كيف ذلك؟! لقد طردتها.
الزوجة :
حقا إنك طردتها ... مرحى! مرحى! ... كان يجب عليك أن تقتلها ... كان ينبغي أن تستغيث برجال الشرطة.
السيد :
لم أجد يا عزيزتي سببا قويا يؤدي إلى هذه الشدة.
الزوجة :
ستبقى طول حياتك كالخرقة البالية ... كائن مسكين بدون إرادة عاجز يستحق الشفقة ... بلا قوة ولا عزم ... أظنها قلبت لك ظهر المجن ولم تبق لك كرامة وإلا ما استجمعت شجاعتك لطردها ... كان بودي أن أكون هنا ولو لحظة لأشهد هذا المنظر (تسرع إلى ولدها وتحمله) ... جورجي العزيز! ماذا حل بك يا قطي المحبب يا ملاكي ... يا فرخي الصغير؟ ماذا جرى لك يا قطي في غيبتي؟
الولد :
زوليا ضلبت بابا.
الزوجة (تلتفت إلى زوجها في دهشة أولا ثم تصيبها نوبة ضحك كالجنون فتقهقه) :
آه آه آه آه ... جوليا ضر ... ضر ... ضربتك؟ ما أضحك هذا؟! ما أضحك هذا؟! ... أسمعت يا ليموزان ... جوليا ضربته ... ضربت زوجي ... ما أضحك هذا!
السيد (بتلجلج) :
كلا ... هذا ليس صحيحا إنما أنا ألقيت بها إلى الأرض ... أنا ضربتها ولكن نظر الطفل أخطأ.
الزوجة (إلى ولدها) :
أعد يا فرخي الصغير ما قلته ... أصحيح جوليا ضربت بابا ؟
الولد :
نعم زوليا ضلبت بابا.
الزوجة :
ولكن الطفل لم يتناول شيئا ... إنك لم تتعش يا عزيزي.
الولد :
لا يا أماه.
الزوجة (نحو زوجها بغضب شديد) :
ما أشد جنونك! الساعة التاسعة ولما يأكل الصغير؟!
السيد :
كنا يا عزيزتي ننتظرك ولم أشأ أن أتعشى بدونك، وحيث إنك تعودت التأخير فكنت أنتظرك اللحظة بعد اللحظة.
هي (تضع قبعتها على كرسي) :
حقا ليس محتملا أن نعاشر أشخاصا لا يفهمون ولا يفطنون ويعجزون عن أداء أبسط الأعمال ... أكان الطفل يبقى بلا عشاء إلى نصف الليل لو أنني تأخرت حتى تلك الساعة؟ كأنك لم تفهم بعد الساعة السابعة أنه استجد ما يعوقني عن العود في الميعاد (يبدو الغضب على وجه السيد، فيتداخل ليموزان ليمنع هبوب العاصفة) .
ليموزان :
أنت ظالمة يا عزيزتي ... إن زوجك لم يكن يعلم أنك ستتأخرين إلى هذه الساعة لأنه لم يتعود هذا منك ... وكيف تنتظرين منه أن يقوم بكل شيء بمفرده بعد أن خرجت جوليا وهو غضبان منزعج؟
هي :
ومع ذلك يجب عليه أن يقوم بمفرده بما أهمل من أعمال (تخرج وينهض ليموزان ويأخذ في مساعدة بارنت في رفع الأواني ويصلح المائدة ويجلس الطفل في مجلسه المعتاد، ويخرج بارنت لإحضار الخادمة الأخرى لتخدم على المائدة، فتعود بالطعام ويجلس بارنت بجوار ابنه وعليه علامات الحزن، ويبدأ بإطعام الصغير ويجتهد في أن يأكل ولكنه لا يستطيع. يأخذ في النظر إلى وجه ليموزان ووجه ابنه وكأنه يقارن بينهما، ثم يمتنع عن الأكل وتظهر عليه علامات التألم والانزعاج وكظم الغيظ الشديد، ثم يظهر عليه كأنه في حلم ثم ينتبه فجأة، وتدخل الزوجة) .
الزوجة (إلى ليموزان) :
إنني جائعة وأنت يا ليموزان (تعود بروب دي شامبر) .
ليموزان :
وأنا أيضا أظنني جائعا (يجلسان ويبدأان الأكل بشهية وتظهر عليهما علامات السرور، ويراقبهما بارنت خفية وأخيرا يبدو عليه أثر من صحت عزيمته على شيء) .
بارنت :
يا عزيزتي حيث إنني طردت جوليا فينبغي لي أن أهتم بالبحث عن خادم تحل محلها، وسأخرج حالا لهذا الغرض لتباشر الخادم الجديدة العمل من غداة غد، وقد أعود متأخرا.
هي :
اذهب إلى حيث شئت، أما أنا فباقية وسيؤنسني ليموزان في غيبتك وسنبقى في انتظارك ... (إلى الخادمة التي لا تزال أمام المائدة)
اذهبي وأنيمي الصغير ثم عودي فارفعي أدوات المائدة ثم اذهبي إلى غرفتك.
بارنت (ناهضا) :
إلى اللقاء عما قليل (يخرج مستندا إلى الحائط كمن به دوار) .
المشهد الثالث (العشيق ليموزان - هنريت الزوجة)
ليموزان :
الله الله! إنك إذن لمجنونة إلى هذا الحد تتحرشين بالرجل؟
هي (ملتفتة إليه) :
اعلم أنني أزدري فكرتك التي أدت بك أخيرا إلى اعتبار زوجي شهيدا أو فريسة نضحي بها على هيكل حبنا.
ليموزان (يجلس في فوتيل ويعلي رجلا على أخرى بجوار المدفأة) :
إنني لا أعتبره ضحية، ولكن يضحكني أن شخصين في مركزنا يزدريان بهذا الرجل في الصباح إلى المساء بغير ذنب جناه.
هي (تأخذ لفيفة من الطباق وتشعلها) :
ولكننا لا نزدري به، بل إنه يهيج غضبي بغباوته وبلادته فأعامله بما يستحق.
ليموزان :
ما أسخف خطتك! ... على أنك كغيرك من النساء، هاك رجلا طيبا بليدا شديد الثقة بنا لا يضايقنا في شيء، ولا يشك في حقيقتنا طرفة عين، وقد تركنا أحرارا هادئي البال، وها أنت لا تدخرين وسعا في تهييجه لتفسدي علينا حياتنا.
هي :
أف لك من جبان كغيرك من الرجال تخشى هذا النذل!
ليموزان (ينهض بغضب) :
لقد زدت الطين بلة، أريد فقط أن أعلم ما فعل بك حتى تبغضيه إلى هذا الحد. هل أشقاك؟ هل ضربك؟ هل خانك؟ ... من الشناعة أن تؤلمي هذا المسكين إلى هذه الدرجة، وأن تسيئي معاملته لمجرد كونه رجلا طيبا وأن تبغضيه لأنك ...
هي (تدنو منه وتنظر إليه) :
أأنت الذي تأخذ علي خيانتي له؟ أنت! أنت! إنك إذن لذو نية سيئة وغدر عظيم.
ليموزان (بخجل) :
لا أعيب عليك شيئا ولا ألومك يا حبيبتي العزيزة، ولكن أطلب إليك أن تحسني معاملة زوجك، والأجدر بك أن تدركي هذا الأمر من تلقاء نفسك.
هي (تدنو منه كثيرا) :
إذن أنت لا تدرك يا أبله أنني أبغضه لكونه زوجي ولأنه اشتراني بماله ... اعلم أن كل ما يقول ويفعل وكل خاطر يمر بنفسه يهيج أعصابي، واعلم أن غباوته التي تسميها طيبة تغيظني، وثقله الذي تسميه ثقة يقتلني ... كل هذا لأنني تزوجت منه بدلا منك ... إنني أشعر على الرغم من بعده أنه بيننا وإن كان لا يضايقنا ... إن عدم ارتيابه في علاقتنا التي يدركها أبله الناس دليل على أنه بلغ من الغباوة مبلغا لا يحسن السكوت عليه ... أريد أن يغار علي كغيره من الأزواج وقد أتت علي لحظات شعرت فيها برغبة شديدة في أن أصرخ في وجه «ألا ترى يا أكبر الحمير ويا أخس الرجال وأبلههم أنني أعشق بول؟!»
ليموزان (يضحك) :
الأفضل لنا أن تصمتي ريثما تسنح لك فرصة لتنفيذ هذه الفكرة الطائشة، فإن في تنفيذها فورا إقلاقا لراحتنا.
هي :
لا تخشى على راحتنا بفضل هذا المغفل. إننا من غفلته في طمأنينة. أف إنك لا تدرك مقدار غفلته في نظري، فلذا أراك عاكفا على تدليله وتوقيره فتبش له وتصافحه بإخلاص وتسأل عن صحته باهتمام ... ما أغرب أخلاق الرجال!
ليموزان :
ينبغي لنا أن نعرف كيف نخفي ما في نفوسنا في بعض الأحيان.
هي :
ليست المشكلة إخفاء ما في النفوس ولكنها مسألة عواطف، فأنتم أيها الرجال إذا خنتم رجلا أحببتموه، أما نحن فخيانتنا تبدأ ببغضنا.
ليموزان :
لست أدري لماذا أبغض الرجل الذي أتمتع بزوجته؟
هي :
أنت لا تدرك، أنت لا تدرك؛ لأن الأمر يستدعي دقة النظر وهو ما ينقصكم جميعا معشر الرجال ... إن هذه أشياء يشعر بها الإنسان ولا يستطيع التعبير عنها ... على أنه أولا لا ينبغي ... كلا! ... إنك لن تفهم ما أقول ... لا فائدة في الكلام ... أنتم أيها الرجال دوننا بمراحل في دقة النظر (تبتسم ابتسامة لؤم وتضع يديها على كتفيه وتمد له شفتيها ليقبلهما، فينحني برأسه ليقبلها ويضمها إلى صدره بيديه، ويبقيان هكذا قليلا) .
المشهد الرابع (يدخل بارنت من أحد الأبواب بدون حذاء، قبعته على رأسه معكوسة، شاحب الوجه، ويداه منقبضتان كمن يريد أن يضرب بكلتا يديه، فينظر إليهما الواحد بعد الآخر، ثم يظهر كأنه مجنون وبدون أن ينطق بكلمة يهجم على ليموزان كالوحش الكاسر، ويأخذه بكلتا يديه ويضيق عليه في ركن من أركان الغرفة بقوة شديدة، فيفقد ليموزان توازنه، فيذهب برأسه تضرب في الحائط، فلما ترى المرأة أن زوجها سيقتل معشوقها حتما تلقي بنفسها على زوجها وتقبض على رقبته وتنشب أظفارها العشرة في عنقه وتضغط بكل قوتها حتى يخرج الدم من لحمه، وتأخذ تعض في كتفه كأنها تريد تمزيقه، فلما يشعر الرجل بالاختناق والضيق يترك ليموزان لينجو من زوجته، ثم يقبض على خصرها ويقذف بها بعيدا فترتمي في آخر الغرفة، ثم يقف الاثنين لاهثين وقد بقي كل منهما في ركنه.)
هو :
اخرجا من هنا فورا ... اخرجا فورا.
هي (تدنو منه) :
أفقدت إذن عقلك. ما الذي حل بك؟ لم هذا الاعتداء الفظيع بغير داع؟
هو (يدنو منها كأنه يريد قتلها) :
ما أبشع وقاحتك! لقد سمعت كل شيء أيتها الشقية ... أيها الشقيان ... اخرجا فورا أنتما كلاكما وإلا قتلتكما.
هي :
هيا بنا يا ليموزان إلى منزلك ما دام يطردني من بيته (ليموزان لا يتحرك كأنه مأخوذ رعبا) .
هو :
اخرجا فورا أيها الشقيان وإلا ... (يبدو عليه الغضب من جديد فيتناول كرسيا ويأخذ يطوح به ليرمي به أحدهما) .
هي :
هيا بنا يا صاحبي أنت ترى أنه مجنون ... هيا بنا (تنظر كمن يحاول اختراع أمر جديد للنكاية بزوجها وإغاظته) ... لا أنتقل بدون ولدي.
هو :
ولدك! ولدك! أتجرئين على أن تطلبي ولدك بعد ... ما أشنع جسارتك! ... أتجرئين ... اخرجي من هنا أيتها الفاجرة ... اخرجي (تعود إليه مبتسمة تقريبا كأنها انتقمت لنفسها وتقول له في وجهه) .
هي :
أريد ولدي وليس لك حق في حجزه عني لأنه ليس ولدك. أسمعت؟ إنه ليس ولدك ... إنه ابن ليموزان!
هو (كمن فقد رشده) :
تكذبين ... تكذبين أيتها الشقية.
هي :
أيها المغفل الأحمق، إن كل الناس قاطبة تعلم ذلك ما عداك ... أنا أقول لك ها هو والده ويكفي للأعمى أن ينظر فيتأكد ... انظر إلى وجه الولد تعرف الوالد (يتقهقر بارنت حيال هذا القول ويأخذ يبحث كالأعمى عن شمعة ويخرج بها ثم يعود حاملا على ذراعه الولد الصغير متدثرا بالغطاء ... الولد يبكي لأنه تيقظ فجأة فيلقي به بين ذراعي المرأة، ثم يدفع بها نحو الباب، فينتهز ليموزان فرصة غيابه فيخرج، فيغلق الباب خلفهما ويعود ويقع على الأرض في الغرفة) . (ستار)
الفصل الثالث (في القهوة - بارنت - موريس)
المشهد الأول
زبون :
جارسون.
جارسون :
سيدي.
زبون :
واحد أمير.
جارسون :
فورا يا سيدي (للبوفيه)
واحد أمير.
صوت من الخارج :
أيكودي ... باري لي ماتان ... لي جورنال (تسمع أصوات نفير سيارة وأجراس الترام ودفع عجلات المركبات. صوت يسمع قريبا جدا ثم يدخل القهوة)
أيكودي باري ... لي ماتان.
زبون :
لي ماتان (يحصل تبادل بين الزبون وبائع الجرائد) .
زبون آخر :
لي جورنال (يحصل التبادل ويخرج بائع الجرائد. يدخل زبون ... ويجلس على مائدة) .
الزبون :
جارسون ... هات واحد بيرة.
جارسون :
لك ذلك يا سيدي ... واحد بيرة (يدخل بارنت وقد تغيرت أحواله الظاهرية كثيرا؛ انحنى قليلا وابيض شعره وهزل جسده واصفر وجهه، وصار قليل العناية بملابسه ولكنها لا تزال تدل على نعمته، وتبدو عليه علامات الرجل الذي يسكر والمعذب الذي صار لا يهتم بشيء مع شدة قلقه، ومعه شخص آخر في شكله وسنه تقريبا) .
بارنت (لسيدة جالسة بالقهوة) :
طاب ليلك يا مدام جاكميه.
جاكميه :
ليلتك سعيدة يا سيدي.
زبون :
جارسون واحد بيرة.
جارسون :
فورا ... واحد بيرة.
بارنت (للجارسون) :
جوزيف ... فيرموت هل وصلت الصحف؟
جوزيف :
منذ هنيهة.
بارنت :
على بالطان.
جوزيف (لبارنت) :
فورا يا سيدي.
زبون :
جارسون هات طاسة قهوة.
جرسون :
فورا يا سيدي ... واحد طاسة قهوة.
بارنت (للرجل الذي دخل معه واسمه موريس) :
إنها مصادفة غريبة.
موريس :
رب مصادفة خير من ميعاد.
بارنت :
لو لم أمعن النظر في وجهك وأتطفل عليك بالسؤال ما تعرفت عليك؛ فقد تغيرت كثيرا!
موريس :
وأنت تغيرت أيضا ... تصور أننا لم نتقابل منذ أكثر من أربعين عاما! على أنني لو تغيرت فلي العذر، فقد قضيت أكثر من عشرين عاما في الحانات والفنادق، إنها حياة تبدل الشخص وتغير الأخلاق.
بارنت :
وأنا أيضا منذ عشرين سنة أعيش عيشة الحانات أصرف فيها ثلاثة أرباع حياتي، بل في هذه الحانة خاصة.
موريس :
ولكن أين أسرتك وأهلك؟ ألم تتزوج؟ إنني أتذكر أنني قرأت في جريدة يوما ما خبر زواجك.
بارنت :
نعم تزوجت وانفصلت عن امرأتي. وأنت ألم تتزوج؟
موريس :
لم أتزوج، رأيت أبي مرة يضرب أمي بسوط؛ فتغيرت الدنيا في نظري من ذلك العهد، وكأن الدهر تبسم لي ثم عبس، وبعد قليل ماتت أمي فتركت أبي وتخليت عن سائر مشاغل الحياة، وأنا الآن أعيش بلا أسرة ولا عمل وأنفق مما تركه لي والداي ... وأنت؟
بارنت :
إنني تزوجت وأسست أسرة وولدت امرأتي ولدا ...
موريس :
جارسون هات واحد بيرة.
بارنت (مستمرا في حديثه) :
واكتشفت أن زوجتي خانتني مع أعز أصدقائي وقالت لي في وجهي إن الولد ليس من صلبي! فطردتها من منزلي ... ما أبعد يومنا هذا عن ماضينا البعيد الجميل! أتذكر أيامنا في مدرسة لويز الرابع عشر في مونبليه؟
موريس :
نسيت كل شيء حتى نفسي.
بارنت :
إن المصائب كفيلة بأن تنسي الإنسان نفسه!
موريس :
لقد اختارتك الأقدار فأنزلت بك كبرى المصائب ... وماذا فعلت بامرأتك؟
بارنت :
اتقيت الفضائح فوكلت أمر النزاع القائم بيني وبينها إلى وكيل أعمالي، وانفض الخلاف على مرتب تتقاضاه كل سنة من مالي ... لقد فرق بيننا الفساد ولكن القانون يجمعنا فهي حتى الساعة امرأتي وأنا زوجها!
موريس :
وماذا فعلت بحياتك؟
بارنت :
عشت في بداية الأمر منفردا.
موريس :
عدت إلى حياة العزوبة؟
بارنت :
لم أعرف شيئا أشد ألما على نفس الرجل الذي تعود العيشة المنزلية الهادئة من عودته فجأة وبالرغم منه وبفعل امرأة خائنة، إلى حياة العزلة والانفراد ... تصور انتقالك من مائدة بيتك إلى مائدة المطعم وخروجك من قيود العائلة الجميلة إلى الحرية المطلقة المرذولة!
موريس :
هو الخراب بعينه!
بارنت :
الخراب كلمة تقال وتسمع ولكنها لا تنقل إلى ذهن السامع معناها الحقيقي إلا إذا ذاق مرارتها ... لقد خربتني تلك المرأة بعد عشرة خمس سنين وشاركها في ذلك صديقي الذي عاشرني منذ الصبا.
موريس :
المرأة سبب كل شيء في الحياة.
بارنت :
على أنني أقول لك شيئا ... إنني في المدة الأولى لم أشعر بآلام كثيرة؛ لأنني كنت كالمذبوح لا يشعر بالقتل إلا بعد أن يسيل دمه، ثم إن نظام المعيشة ينسي المصائب، ولكن بعد أن نظمت الفوضى الجديدة بدأت أفكر في الطفل الذي ولدته امرأتي ونسبته في اللحظة الأخيرة لعاشقها، فكنت حينا وأنا في منزلي يخيل لي أنني أسمع الصغير ينادي بابا، فكان قلبي يخفق وأنهض وأفتح الباب وأنظر في السلم لعل الصغير يكون قد عاد متوهما إمكان عودته كما تعود بعض الطيور كالحمام، وأقول في نفسي لماذا يكون الطفل أضعف غريزة من الطيور؟
موريس :
ما أصعب هذا على النفس! وما أصعب إدراك الحقيقة بعد هذا الوهم المؤلم! لقد ذقت في حياتي مرارة هذه الأوهام.
بارنت :
لقد ملك حب الطفل على نفسي، فكنت أفكر فيه ساعات بل أياما وأسابيع، وقد مكنتني الوحدة والفراغ من تحليل حالتي النفسية، فإن شغفي بالصغير لم يكن حبا قلبيا وحسب، بل كان حبا بدنيا أيضا ... كنت أشعر بحاجة شديدة إلى تقبيله وضمه ومداعبته، وكنت إذا ذكرت تبادلنا القبل الوالدية أشعر بحمى وأكاد ألمس بقوة الخيال شفتيه الصغيرتين، وأحس بلمس شعره الناعم يلمس خدي.
موريس :
إن الحب واحد لا يتعدد.
بارنت :
إن حب الوالد لولده أشد من حب الرجل للمرأة. أتعلم أنني وأنا أسير في الطريق كنت أتخيل أنه يسير بجانبي كما كان فيما مضى، فأنظر فإذا يدي خالية من كفه الصغيرة الناعمة، فتأخذني هزة البكاء فأنتحب وأشعر كأنني فقدت البصر، وأعود أدراجي إلى منزلي حيث أبكي حتى الصباح!
موريس :
إن حياتك بعد هذه الكارثة عشرين عاما معجزة ... لشد ما يحتمل الإنسان من الهموم في حياته ولا يقضى عليه، وقد يكون هلاكه بأهون الأسباب!
بارنت :
على أن سؤالا واحدا كان يعذبني ويمزق قلبي ... هذا الطفل من صلبي أو من صلب صديقي الخائن ... لم يكن هذا السؤال الجهنمي يخطر ببالي إلا إذا جن الظلام وأويت إلى غرفة النوم، وحينئذ كانت تلك المشكلة العظمى تتملكني، فتنفر النوم من عيني فأنهض كالمجنون وأبقى أسير الأرق والحيرة حتى الصباح.
موريس :
كيف ترتاب في نسبة الولد لذلك الرجل بعد أن قالت لك امرأتك الخئون في وجهك إنه من صلبه.
بارنت :
ارتبت وحق لي أن أرتاب؛ لأن تصريح المرأة في مثل هذه الحال لا قيمة له، فلعلها أرادت الانتقام مني على هذه الصورة الشنيعة، بل كثيرا ما وصلت بالتفكير والتأمل إلى الاعتقاد بأنها كانت كاذبة.
موريس :
ذلك الرجل وحده دون سواه هو الذي يعرف الحقيقة ويستطيع أن يقفك عليها.
بارنت :
لقد خطر هذا الخاطر كثيرا ببالي، وقد حاولت المرة بعد المرة أن أقنع نفسي أن أقصده وأتوسل إليه وأمنحه كل ما يطلب إذا هو صدقني.
موريس :
وما الذي دعاك للعدول عن هذا المسعى؟
بارنت :
نفسي حدثتني بأن العاشق لا بد يكذب كما كذبت معشوقته، ألم يتحالفا ضدي؟ ألا يخشى أن أسترد ولدي إذا قال لي إنه من صلبي، فإذا استرددته سقطت النفقة التي تتقاضاها المرأة ويعيشان بها في رغد من العيش.
موريس :
لعلك أخطأت بتسرعك. كان يجوز لك أن تخفي عواطفك وتصبر شهرا أو شهرين لتتأكد من نسب الولد. يكفيك أن تراقب صديقك والصغير في خلوتهما، فإن الرجل إذا بقي منفردا مع الطفل فقد ينتهز الفرصة ليقبله قبلة الوالد بشغف وحب وقوة؛ لأن قبلة الوالد لا تخفى على أحد، أما إذا كان يهمله أو يقبله بلا اكتراث فكنت تثق إذن بأنه من صلبك، وكنت تستطيع والحال هذه أن تطرد المرأة وتحتفظ بالصغير.
بارنت :
لقد أعوزني الصبر عندما علمت بالحقيقة المؤلمة من لسان الخادم، إن الجلد الذي تقترحه علي لا يأتي في وقت الشدة والهياج. على أنه قد خطر ببالي هذا الخاطر بعد الحادثة وقضيت ليالي بطولها في محاولة تذكر أحوال الرجل مع الطفل فلم أستطع تذكر شيء. كذلك المرأة لم تكن لها عناية بولدها وقد أقنعني إهمالها إياه بأن الولد من صلبي؛ لأنه لو كان من صلب عشيقها لكان تعلقها به أشد وعنايتها بتربيته أعظم.
موريس :
لقد تعلقت به في اللحظة الأخيرة ولم تغادر بيتك بدونه.
بارنت :
قد يكون هذا من قبيل النكاية أو من قبيل النفع المادي؛ لأن الطفل سلاح في يديهما وقد حارباني به وانتصرا.
موريس :
ولكن ألم تحاول قط استرداد الطفل؟
بارنت :
لقد حاولت ذلك وصحت عزيمتي يوما على ذلك، ولكنني لما صممت نهائيا عدت فذكرت أن الخادم أخبرتني أن عشقها يرجع إلى بداية الزواج، وأن المرأة كانت تعشقه عشقا يكاد يكون جنونا، والمرأة إذا عشقت وهبت نفسها لعاشقها بكل قواها وأكثر ما يكون حمل المرأة من رجل تحبه. أما أنا فكان نصيبي منها في أوقات خلوتنا نصيب الرجل المكروه الذي تنيله المرأة مأربه منها وهي نافرة متضررة، ويندر أن تحمل المرأة من رجل تبغضه.
موريس :
أهذا الذي دعاك للعدول عن استرداد الطفل؟
بارنت :
أجل ... قلت في نفسي إنني إذا استرددته فسوف أبقى دائما مرتابا في أنه ابن الآخر ولن أطيق إذن تقبيله أو ضمه إلى صدري أو مداعبته، بل لن أطيق سماع صوته يناديني بابا، وكنت إذن أبقى طول حياتي معذبا بهذا الشك المؤلم المزعج! ففضلت الوحدة على عشرة هذا الطفل الذي سيجعل حياتي جحيما دائما!
موريس :
يا لك من ضحية! إن الإخلاص وحسن الظن بالناس والاستسلام للنساء يؤدي بالإنسان إلى ...
بارنت (مكملا) :
إلى جهنم ... إن هذه الشكوك أطفأت نور قلبي وآذنت بحلول الظلام في نفسي وروحي، فكنت أفر من ذاتي كمن يفر من عدو مخيف، وأخيرا تجسم هذا الظلام النفسي بحيث صرت أخاف الظلام الحقيقي، فإذا ما بدأ الشفق مؤذنا بدنو الليل تدثرت نفسي وقلبي برداء من الرعب والرهبة، وتولدت فيهما للخوف أفاع لاذعة، وطغى الغم علي كأنه فيضان نهر حالك السواد، وامتدت إلى فؤادي براثن اليأس؛ فشعرت كأنني ميت بين الأحياء أو مجنون بين العقلاء، أتعلم مقدار هذه الآلام؟ إن أفكاري أصبحت كالوحوش التي تطارد إنسانا مطمئنا فيفر أمامها مهزوما ثم لا يرى بدا من الاستسلام لها؛ فتنشب فيه أظفارها القاتلة وتنهش لحمه حتى تقضي عليه.
موريس :
لعل عيشة العزوبة بعد الزواج هي التي أحدثت بك هذا.
بارنت :
عيشة العزوبة في المحل الثاني والمنزل الذي كنا نقطنه في المحل الأول ... المنزل ذلك المنزل الذي حل به الخراب بعد العمران ... ذلك المنزل الذي كنت أعود إليه فرحا مستبشرا فأجده مضاء آهلا بمن كنت أعتقد أنهم أخلص الناس لي ... حلت بي الكارثة فكنت أعود إليه فإذا هو في ظلام حالك مملوء بالأشباح المخيفة، فكنت أتحاشاه وأتحاشى ما يحيط به من الطرق الضئيلة الأنوار وألتجئ إلى الطرق الفسيحة المملوءة بالحركة والحياة والأضواء ... هذا ما كنت أشعر به في أيامي الأولى ... وكنت إذ ذاك ألجأ للحانات الحافلة بالناس كما يتهافت الفراش على السراج المضيء، فأنتحي ناحية وأطلب الكأس فأحسوها حسوا بطيئا خوفا من فراغها ومرور الوقت ودنو ساعة الانصراف والوحدة ... وكلما قام أحد رواد الحانة فكأنه قطعة من نفسي تغادرني! وأكاد أتمسك به وأتشبث بثيابه وأتوسل إليه أن يبقى معي؛ لأنني أترقب برعب شديد تلك الساعة التي يقول لي فيها خادم الحانة آن لنا أن نغلق فتفضل يا سيدي بالانصراف.
موريس :
أكنت تبقى إلى تلك الساعة؟
بارنت :
نعم أبقى إلى الساعة التي ينصرف فيها آخر إنسان ويشرع الخدم في نقل الكراسي والمناضد وتغيير معالم المكان، وكنت أرى متألما صاحب القهوة وأمينة الصندوق يتناقشان الحساب، وطالما سمعت الخدم فيما بينهم يشيرون إلي من طرف خفي، ويقول أحدهم لأخيه هاك ضيفا لا يدري أين يبيت.
موريس :
وقاحة الخدم في تلك الأماكن لا تطاق، على أنهم لا يعرفون مصائبنا.
بارنت :
فإذا ما خرجت إلى الطريق المظلمة الباردة في الساعات الأولى من الصباح عاودتني وساوسي، وأخذت أفكر في الطفل وأسائل نفسي ذلك السؤال الأبدي الذي تعوده ذهني ولساني، بحيث أفكر فيه بغير مجهود عقلي وأنطق به بدون أن أحرك لساني «هل الطفل من صلبي أو من صلبه؟»
موريس :
يا لنا من شقين.
بارنت :
إنني أشعر بأن الهم يسلب حياتي شيئا فشيئا، تكاد الخمر التي أتجرعها عن غير رغبة، والهواء الفاسد الذي أستنشقه اضطرارا يقتلانني.
موريس :
وأين تتناول طعامك؟
بارنت :
هنا في هذا المكان أفطر صباحا وأتغدى ظهرا وأشرب الخمر عصرا وأتعشى ليلا ، وإنني أحمد الساعتين التاليتين للغداء، فإنني بفضل كأسين أتمكن من النوم، وناهيك بنوم النهار بعد الغداء في مكان عام مطروق، فإن عيني تغمض جالسا كأنني حارس أختلس النعاس، ولا يتحاشى الخدم إزعاجي أكثر من عشرين مرة، وفي الساعة الرابعة يقدم لي أحدهم الجرائد التي قرأتها صباحا فأعيد تلاوتها عصرا من أول سطر في الصحيفة الأولى إلى آخر سطر في الصحيفة السادسة أو الثامنة.
موريس :
كان يحسن بك أن تغير نظام حياتك نوعا.
بارنت :
هذا ما حاولت، فقد تركت الدار تنعي من بناها، ولجأت إلى غرفة في فندق واخترت أقرب الطبقات إلى الطريق لأتمكن من سماع صوت الحركة والحياة فأطمئن وأشعر بالإيناس بقربي من الناس ... ما أشد حسد الإنسان في شقوته للناس الذين يظنهم سعداء! ... فإنني كلما مررت بغرف جيراني من قاطني الفندق ورأيت أحذيتهم بالأبواب أو سمعت أصواتهم وهم يتحادثون أو لمحت وجوههم لدى دخولهم أو خروجهم تخيلت أنهم سعداء وأنهم ينامون الليل الطويل ملء جفونهم ... ذلك الليل الذي تنتهزه الهموم لإشهار الحرب على الأشقياء أمثالي.
موريس :
أتردد في سؤالك سؤالا مؤلما ... ألم تر طوال هذه العشرين سنة تلك التي نكبتك، أو ذلك الوغد الذي خان صداقتك، أو الصغير الذي حرمتك ذكراه، لذيذ الرقاد؟
بارنت :
نعم ... منذ خمس عشرة سنة تقريبا أي بعد الفاجعة بخمس سنين، كنت أسير غارقا في بحار الهم والضجر ما بين كنيسة مادلين وشارع دورات، فإذا بي بامرأة لفتت نظري بمشيتها مستندة إلى رجل طويل القامة وبجانبها طفل نام، وكانوا يسيرون أمامي فقلت في نفسي أين رأيت هؤلاء الثلاثة؟ وأدركتهم لأتحقق منهم، وفي لمحة عين تعرفت على المرأة من إشارة حركت بها يدها، فقلت ها هي تسير إلى جانب معشوقها ومعهما الطفل، ثم خفق قلبي وكدت أقع مغشيا علي، ولكنني لم أقف بل أردت أن أنظر إليهم وجها لوجه، فتبعتهم وكان من يراهم يتوهم أنهم أفراد أسرة شريفة آمنة وتلك الفاجرة ماسكة بذراع صاحبها تحادثه بحب وحنان، وتنظر إليه من حين لآخر فألمح تقاطيع وجهها وحركات شفتيها وابتسامتها وعطفها على معشوقها لدى نظرها إليه.
موريس :
يا له من عذاب أليم! ... والطفل؟
بارنت :
الطفل هو الذي لفت نظري، وشغلني أكثر منهما كليهما ... رأيته وقد نما وظهرت عليه قوة الفتوة فاعترتني دهشة، أصار الطفل الصغير فتى طويل القامة يسير بجانب أمه كأنه رجل صغير ... وقد وقفوا أمام حانوت يتبينون بضاعة معروضة.
موريس :
هل تغيروا كثيرا؟
بارنت :
الرجل شاب وضعف وانحنى، والمرأة استعادت شبابها وزاد سمنها، أما الولد فلم أكن لأعرفه لو لم أره في صحبتهم، فقد تغير تغيرا تاما.
موريس :
هل حادثتهم أو رأوك؟
بارنت :
كلا كلا، ولكنني لما دنوت من الطفل شعرت بقوة عظيمة تدفعني إلى خطفه والفرار به ... أجل الفرار به، فدنوت منه كثيرا وتعمدت لمسه كمن يلمس شخصا خطأ، فما شعر الولد بجسم أجنبي يلمسه حتى التفت ونظر إلي نافرا غاضبا، فلم أتمالك أن فررت من وجهه وكأن نظرة الصغير طعنة خنجر جرحت قلبي، فأخذت أعدو كأنني لص يقتفي أثري شرط أو صاحب المال المسلوب، وقد أصابني خوف شديد لئلا تكون المرأة أو الرجل رأياني وتعرفا علي، وما زلت أعدو إلى أن بلغت هذه الحانة، فجلست وأنا ألهث من شدة التعب، وفي تلك الليلة شربت ثلاث كئوس من الأبسنت.
موريس :
عجبا ... أنت تفر منهم؟ يفر الأمين من الخائن ويهرب الموتور من الجاني ... كم في الحياة من المضحكات المبكيات؟
بارنت :
لقد بقي هذا الأثر المؤلم المزعج عقيب هذا اللقاء في نفسي أربعة شهور، وكنت في كل ليلة من هذه الشهور الأربعة أتخيلهم الثلاثة سعداء هانئي البال ... الوالد والوالدة والولد ينفقون عن سعة من مال الرجل الذي خانوه وخدعوه، ويعيشون آمنين في ظل القانون الذي طالما يوقع العقاب بالأبرياء ... لقد محت هذه الصورة ما سبقها وذهبت كل الشكوك القديمة المؤلمة، واستقر اليقين المر القاتل، فغاب عن ذهني الطفل الصغير الذي كنت مجنونا بحبه وحل محله في ذاكرتي صبي نابت نباتا حسنا كأنه أخوه الأكبر، وتأكدت أن حبي في قلب الصغير قد انطفأت شعلته وانقطعت كل علاقة كانت تربطه بي، ولو أنه رآني وقالوا له هذا والدك إذن ما سعى إلي ولا مد ذراعيه الصغيرين ولا فمه الذهبي، بل نفر مني وأنكرني ... ألم يطعني بنظرة أحد من طعنة الخنجر؟
المشهد الثاني (يدخل عجوز يبيع الزيتون - بارنت - موريس)
بارنت :
هاك الشاعر أوليفيه ... عم مساء يا هوميروس هذا الزمان!
العجوز :
الزيتون الجميل ... أتريد بنصف فرنك؟
زبون :
أريد بصاديين على شرط أن تنشدني آخر قصيدة من شعرك.
العجوز :
لا أنشد الشعر بأقل من نصف فرنك.
موريس :
أتعرف هذا العجوز؟
بارنت :
أراه من عشرين سنة ... إنه من أعظم شعرائنا وقد نشر أكثر من عشرة دواوين من الشعر.
موريس :
ولماذا يبيع الزيتون؟
بارنت :
هذا مصدر رزقه الوحيد ولا أدري سره، لعله مصاب مثلنا ... موسيو أوليفيه.
أوليفيه :
الزيتون الجميل، أتريد بنصف فرنك؟
بارنت :
نعم وأنشدني شعرا (أوليفيه يعطي الزيتون وينشد الشعر الآتي) .
1
أوليفيه (يتحرك) :
الزيتون الجميل.
موريس :
بعني أنا أيضا.
أوليفيه :
أتريد بنصف فرنك؟
موريس :
وقصيدة (أوليفيه يعطي الزيتون وينشد.
2
تدخل عجوز تبيع أزهارا) .
زبون :
أهلا بالأم جوليا هل نبتت أزهار الربيع؟
العجوز :
أزهار الربيع لا تنبت في الخريف إنما أبيع الزنبق والأقحوان.
بارنت :
وهذه المسكينة جوليا إنها لا تعرفني.
موريس :
من تكون تلك المسكينة؟
بارنت :
خادمتي ومربيتي ومسببة مصائبي!
موريس :
كيف لم تعرفك؟
بارنت :
أنها تتردد على هذه القهوة منذ خمس سنين، وقد ضعف بصرها واضمحلت قواها؛ لأنها تزيد عن الستين، ولست أدري ماذا فعل الدهر بها بعد أن غادرت منزلي.
موريس :
بأي عاطفة تشعر نحوها؟
بارنت :
ببغض شديد يمازجه عرفان بالجميل ... إنها سببت خراب بيتي ولكنها أنارت بصيرتي.
موريس :
أتحب تلك التي سببت لك هذا الشقاء؟
بارنت :
إنها لم تسبب شقائي، إن التي سببت شقائي هي تلك التي كانت امرأتي، ولكن هذه فتحت عيني. كيف كانت تكون حالي لو بقيت هذه العشرين عاما محجوب النظر بغشاوة الخيانة والخديعة؟ أتحب أنني كنت أحمل عار الزوج المخدوع طول عمري وأربي في حجري ولدا ليس من صلبي؟
موريس :
أصبت.
بارنت :
إنني أحسن إليها ولا أكشف لها عن حقيقة أمري لقد تغيرنا كلانا! وأنا أشد الاثنين تغييرا.
موريس :
أناديها ... أيتها الأم جوليا.
جوليا :
أزهار الخريف ... الزنبق والأقحوان.
بارنت :
علي بزنبق وخذي هذا (يعطيها بارنت نقودا صامتا) .
جوليا :
بارك الله فيك يا سيدي ... أزهار الخريف الزنبق والأقحوان ... (يفتح باب القهوة) .
بائع جرائد :
جرائد المساء ... لاباتري ... لي سيكل ... لي طان ... لي ديبا ... لاباتري
زبون :
لاباتري.
آخر :
لي ديبا.
آخر :
لي طان (يوزع ويخرج) .
موريس :
إن هذه الحياة مؤلمة على النفس. ألا تود يوما أن تخرج إلى ضواحي باريس؟ إن تغيير المناظر وتبديل الهواء يفيدك.
بارنت :
إنني أشعر منذ عهد قريب بضعف شديد، وقد نصحوني أخيرا بالانصراف يوما إلى الخلاء.
موريس :
جارسون ... علينا بجدول بمواعيد القطارات لضواحي باريس.
جارسون :
فورا يا سيدي (يعود به) .
بارنت :
أي مكان تختار لي؟
موريس :
غدا الأحد نذهب معا إلى سان جرمان.
بارنت :
أعرفها فقد قصدتها حين خطبتي مع تلك الخائنة.
موريس :
عد إليها فلا بأس بها، نركب قطار الساعة العاشرة فنصل قبيل الظهر.
بارنت :
في وقت الغداء.
موريس :
إذن إلى غد الساعة العاشرة إلا ربعا بمحطة سان لازار.
بارنت :
إلى الغد (تسمع أصوات ... لابارتري ... إكسلسيور) . (ستار)
الفصل الرابع
المشهد الأول (بافيون هنري كاتر - سان جيرمان - بارنت - موريس)
موريس :
إنك سعيد الحظ فإن الجو لا يصحو في هذا الفصل إلا نادرا، لقد كنت في القطار صامتا فلم أشأ إقلاقك.
بارنت :
إنني أشعر بحزن شديد، وأكاد أندم على مغادرة باريس وترك الأماكن التي ألفتها.
موريس :
ألم تعجب بالمناظر التي مررنا بها في القطار؟
بارنت :
إنها متشابهة تتكرر ولا تتغير، وقد أتعبت نظري لأنني لم أتعود رؤية الخلاء منذ عهد الشباب، وقد ظمأت وكثيرا ما وددت لو أنني غادرت القطار وقصدت حانة أشرب فيها كأسا ثم أعود إلى باريس.
موريس :
تظمأ في سفرة لم تقتض أكثر من ساعة؟
بارنت :
لقد بدت لي هذه السفرة طويلة جدا، وهذا لأنني كنت ساكنا والدنيا تتحرك، ولو أنني بقيت ساكنا وما حولي ساكن لبقيت سنين بدون ملل أو ضجر !
موريس :
ألم يرقك شيء قط؟
بارنت :
راقني نهر السين، فكنت كلما مررت بجسر أمعن النظر في مائه الأخضر، وعند جسر شاتو أعجبت بالشباب الذين كانوا يتسابقون في القوارب، وقلت في نفسي هاك فتيانا لم يملوا الحياة بعد.
موريس :
انظر إلى الأفق من هذه الجهة، فهاك الوادي الفسيح وقد نشر صحيفته كأنه بحر عظيم وهو مملوء بالقرى الآهلة بالسكان وقد انسابت فيه الطرق البيضاء كأنها أنهار من الفضة، وها هي غابة سان جيرمان الشهيرة تحف بالوادي، وبجوارها هضاب «سانوا وارجنتي».
بارنت :
كل هذا جميل، ولكنني لا أشعر بجماله، إنما الذي يهيج نفسي ويؤثر في عواطفي هو منظر الشمس بأشعتها، فكأنني أراها للمرة الأولى في حياتي.
موريس :
وذلك النسيم العليل المشبع بروائح الأزهار والخضرة، الذي يخترق الصدر فيملأ الجسم نشاطا والنفس سرورا ... ألا يروقك؟
بارنت :
إن هذه المناظر تؤلمني لأنها أيقظت نفسي الخامدة، فإنني أذكر تلك العشرين سنة التي قضيت أيامها ولياليها في الحانات والفنادق ... تلك السنين المملة التي مضت كأنها شهر واحد لخلوها من كل ما يملأ حياة الرجل، وكذلك مضت وكأنها مائة عام؛ لأنني كنت في كل صبح أنتظر الظهر وفي كل ظهر أستقدم الظلام، وفي كل ليل أتطلب النهار.
موريس :
أنت الذي فضلت البقاء حيث كنت.
بارنت :
كنت أستطيع أن أسافر كما يسافر الناس وأرحل إلى البلاد الأجنبية فأرى الشعوب الغريبة، وكنت أستطيع أن أقيم في باريس وأتعلق بأهداب الحياة كغيري فأتسلى بالصيد أو الفنون الجميلة أو العشق.
موريس :
وما الذي يعوقك عن طرق إحدى هذه السبل؟
بارنت :
الآن؟ أتمزح يا بسكيه ... لقد مرت الفرصة وفات الأوان ولم يبق لي من الحياة إلا تلك الكئوس التي أشربها مرغما؛ استجلابا للنعاس والغفلة، ولن أزال كذلك حتى نهاية أجلي بلا أسرة ولا أصدقاء ولا أمل (يبكي) ... لقد نشر الحزن لواءه على نفسي وها أنا أشعر بما لم أشعر به منذ عشرين عاما.
موريس :
هون على نفسك ... إنما أردت تخفيف آلامك.
بارنت :
لقد أيقظت هذه المناظر في قلبي الخامد كل الأفكار والأحلام والرغبات التي سكنت منذ مصيبتي الكبرى.
موريس :
الأفضل لنا أن نبادر بطلب الطعام ... جارسون.
جارسون :
سيدي.
موريس :
أعد لنا غداء من دجاج وسمك وشواء وبازلاء.
جاسون :
أي نبيذ يشرب السيدان؟
بارنت :
جراف.
جارسون :
والجبن؟
بارنت :
كمامبير.
جارسون :
والفاكهة؟
بارنت :
كريز وشليك ... أملنا أن تسرع في خدمتنا.
جارسون :
لك ذلك يا سيدي.
المشهد الثاني (يحضر الأكل ويبدأان في تناول الطعام، وتبدأ الأماكن تمتلئ بالقادمين وتظهر حركة في المكان، يدخل ثلاثة أشخاص ويجلسون على مقربة منهم ويبدأ الخادم يقدم لهم طعاما.)
صوت المرأة :
جورج ابدأ بتقطيع الدجاجة.
جورج :
لك ذلك يا أمي.
بارنت :
ما هذا؟ ما أسمع؟
موريس :
أي شيء؟
بارنت :
هذان الصوتان ... هذا صوت المرأة وذاك صوت الولد لقد ابيض شعرها، وبلغت سن الكهولة، وتبدو عليها علامة الوقار وهاك الولد ... لقد صار رجلا ذا لحية وقبعة عالية ونظارة زجاجية.
موريس :
أمتأكد منهم؟
بارنت :
كيف تسألني هذا السؤال؟ أيجهل رجل امرأة كانت زوجته وولدا نسب إليه خمس سنين؟ ... إنهم لا شك سعداء وإلا ما تركوا باريس لتناول الغداء في تلك الأماكن التي لا تطرقها إلا الطبقات الراقية الغنية. إذن يعيش هؤلاء الثلاثة عيشة هنية راضية، عيشة الأسرة الآمنة في بيت مطمئن، حافل بكل ما يسعد المتحابين المتآلفين ... لقد عاشوا طوال هذه المدة بفضلي، وينفقون عن سعة من مالي بعد أن خانوني وسلبوني وأضاعوني ... لقد حكم هؤلاء الجناة علي أنا البريء السليم النية المستسلم بكل صنوف الحزن والكدر، وأذاقوني مرارة الوحدة، وقضوا علي أن أصرف عمري بين الطرق والحانات، وألبسوني ثوب الآلام النفسية والبدنية ... لقد جعلوا مني - بعد أن كنت رئيس أسرة ورب دار - كائنا لا نفع له، ضائعا، ضالا في العالم الواسع إلى أن صرت شيخا فانيا لا أجد مسرة في شيء، وها أنا ذا في آخر أيامي لو طرقت كل أبواب باريس لا أجد وجها واحدا يبش لي أو فما يبتسم لي أو صدرا حنونا ينشرح لرؤيتي، وهذه جناية هؤلاء الثلاثة ... هذه المرأة الخئون وذلك الصديق الغادر الوغد وذلك الفتى الوقح الذي لا يدري من يكون أبوه، تعسا لهم وسحقا.
موريس :
ولكن ما ذنب الولد؟
بارنت :
إن حقدي على الولد يعادل حقدي عليهما ... ألم يكن ابن ذلك الأثيم؟ أكان هذا الأثيم يحتفظ به ويحبه ويتولاه لو لم يكن ولده؟ ألم يكن ليسارع إلى التخلي عن المرأة وولدها لو لم يكن الصبي من صلبه؟ أيربي الرجل ابن عدوه ... ها هم الثلاثة الجناة الذين سودوا صفحة حياتي كل هذه السنين الطويلة.
موريس :
هدئ روعك وكل لقمة تقويك. اشرب كأسا تسكن سورة غضبك.
بارنت :
سأشرب فورا. ألا يغيظك هذا السكون البادي عليهم، إن نفسي تحدثني بقتلهم. أألقي في وجوههم تلك القناني فتهشمها؟ ألا يكون هذا انتقاما عادلا؟
موريس :
حذار أيها الرجل من فعل كهذا. أي نفع لك لو قتلتهم أو جرحتهم؟
بارنت :
أأتركهم يعيشون هكذا مرحين في نعيم السعادة والهناء لا يقلقهم شيء، ولا يزعج خاطرهم أمر ما ... لن يكون هذا أبدا.
موريس :
ماذا تفعل بهم؟
بارنت :
سأنتقم منهم لنفسي حالا ما داموا في قبضة يدي.
موريس :
لا فائدة لك من تنفيذ عزمك.
بارنت :
لن تفر هذه الفرصة من يدي (يقدم جارسون) .
جارسون :
ماذا يطلب سيدي بعد ذلك؟
بارنت :
لا شيء سوى كأس من الكونياك العتيق الجيد.
جارسون :
لك ذلك يا سيدي (يعود بالقنينة. بارنت يسكب الشراب ويشرب ويستطرد قائلا ...)
بارنت : ... الآن أعرف كيف أنتقم.
موريس :
هيا بنا الآن.
بارنت :
لا بد من الانتقام ... (تبدأ بعض الناس تنهض وكذلك الثلاثة يقصدون مكانا ظاهرا من المسرح)
انظر إلى وجهها ... لقد خلع عليها الفجور والكهولة ثوبا من الوقار المصطنع ... من يقول عن تلك المرأة المحترمة في الظاهر أنها في عداد المجرمات اللواتي يستحققن عقوبة الإعدام؟ ... وهذا الأثيم ألا يحسبه من يراه سفيرا عاد إلى وطنه بعد خدمته في البلاد الأجنبية؟ إنه يعطي لذاته بتلك اللحية الموزعة على عارضيه شأنا ليس له، وهذا النغل الصغير الذي لا يعلم من يكون والده ... انظر إلى قبعته كيف لبسها مائلة كأهل البدع؟ ... وانظر إلى تلك اللفيفة الضخمة من طباق هافانا ألا يحسبه الرائي ابن أحد اللوردات؟
موريس :
هدئ روعك.
بارنت :
اتركني إذا كنت تخشى عاقبة انتقامي من أعدائي.
موريس :
لن أتخلى عنك.
بارنت :
إذن لا تخشى شيئا. سأنتقم منهم بكلمتين (يتقدم نحوهم، ويحدث نفسه قائلا)
الإقدام أولى من التردد، الإقدام، الإقدام ... (يلقاهم وجها لوجه وهم يتحادثون)
هذا أنا ... هذا أنا ... إنكم لم تكونوا تنتظرونني في هذا اليوم (ينظرون إليه بدهشة. بارنت مستطردا)
يقول من يراكم أنكم لم تتعرفوا علي ... أتنكرونني ... أمعنوا النظر في وجهي ... أنا بارنت ... أنا هنري بارنت ... كنتم تحسبون أن علاقتي بكم قد انقضت ... كلا ... لقد أخطأتم ... ها أنا قد عدت إليكم ويصح لنا أن نتفاهم الآن.
المرأة (مرعوبة تستر وجهها بين يديها) :
ما هذا يا رباه! (ينهض جورج ويحاول القبض على بارنت. وليموزان يرتعد) .
بارنت :
الآن نتفاهم. لقد سنحت الفرصة ولن تفر. لقد خدعتموني وسلبتموني وحكمتم علي بالعذاب عشرين سنة، وحسبتم أنني لن أدرككم لأقتص منكم! (يهجم جورج عليه ويقبض على كتفيه ويقول ...)
جورج :
ماذا تريد أيها المعتوه؟ سر في سبيلك وإلا ضربتك ضربا مبرحا.
بارنت :
ماذا أريد أنا المعتوه؟ أريد أن أقفك على حقيقة هذين الشخصين (جورج يهزه ويحاول ضربه)
خل سبيلي أيها الشقي، أنا أبوك ... انظر إليهما ألا ترى هذين الشقيين قد تعرفا علي؟ (جورج يتركه برعب ويعود إلى أمه.)
بارنت (للمرأة) :
قولي له من أنا ... قولي له إن اسمي هنري بارنت، وإنني أبوه ما دام اسمه جورج بارنت، وما دمت أنت امرأتي، وما دمتم تعيشون أنتم الثلاثة من العشرة آلاف فرنك التي تتقاضونها مرتبا سنويا من مالي منذ طردتكم ... لأنني فاجأتك مع هذا الشقي الأثيم عشيقك الوغد! ... قولي له من كنت أنا ... ألم تتزوجي بي طمعا في مالي وخنتني من أول يوم في زواجنا ... قولي له من أنت ومن أنا.
المرأة :
بول ... بول ... دعه يكف عن هذا القول بمسمع ولدي.
ليموزان (ينهض بضعف) :
اسكت ... اسكت ... ألا تفقه معنى ما تقول؟
بارنت :
أفقه جيدا، ولكن ليس هذا كل حديثي معكم. إن هناك أمرا أريد الوقوف على حقيقته لأنه سبب حيرتي وعذابي منذ عشرين عاما ... (يلتفت إلى الشاب الذي استند إلى شجرة)
اسمع أنت أيها الولد عندما تركت أمك بيتي لم تقنع بخيانتي، بل أرادت أن تقتلني بأسا، وقد كنت أنت عزائي الوحيد، فحملتك فلما تمسكت بك أقسمت أنك لست من صلبي وأن أباك هو هذا الأثيم. ولست أدري منذ عشرين عاما إن كانت كذبت أو صدقت ... (يدنو منها ويرفع يدها التي تخفي وجهها)
واليوم آمرك أن تقولي لنا أينا والد هذا الولد هو أو أنا ... زوجك أو عاشقك؟ تكلمي ... (يهجم عليه ليموزان فيصده) ... لقد تشجعت اليوم ... أنت اليوم أشجع من اليوم الذي فررت فيه من وجهي خشية أن أقتلك. إذا كنت لا تريد أن تجيبني هي فأجب أنت. أنت أعرف مني بالحقيقة وتعلم عنها ما تعلم هي ... تكلم ... أأنت والد هذا الولد ... تكلم (يعود إلى المرأة)
إذا كنت تأبين القول علي فقولي إذن لولدك ... لقد صار رجلا ويحق له أن يعرف والده، أما أنا فلم أستطع الوقوف على الحقيقة أبدا أبدا، لا أستطيع أن أقول لك شيئا يا ولدي (يرفع ذراعيه)
تكلمي ... إنك إذن لا تعرفين ... إنني أخاطر بكل شيء إذا عرفت ... كيف تعرف أينا والدك وكانت امرأة للاثنين معا! هل تعرف امرأة الرجلين أيهما والد ولدها؟ ولن تعلم أنت أيضا شيئا ... اسألها فلن تجيبك. إنها لا تعرف ولا هو ولا أنا ولا أنت ولا أحد في الوجود، ولكن لك الخيار بيننا ... لقد انتهى حديثي إذا أخبرتك أمك بالحقيقة فتفضل بزيارتي في فندق القارات الخمس ... هيا بنا يا صاحبي (يخرجان) ... (ستار)
الفصل الخامس
المشهد الأول (الوقت مساء - المكان بيت الوالدة هنريت - الوالد ليموزان بول)
الوالدة (للوالد) :
كانت رياضتنا مشئومة! ليتنا لم نبارح دارنا. إن نفسي حدثتني بهذه الفاجعة وكنت مضطربة طول ليلة أمس ... أنت الذي ألححت علينا بالذهاب إلى سان جيرمان ... يا ليتنا لم نعمل برأيك.
الرجل :
لم أكن أعلم ... ولو علمت ... على أنني منذ عشرين عاما أشير عليك بكل صغير وجليل من شئوننا ... ولم يقع لنا مثل الذي وقع اليوم.
الوالدة :
ولكن اليوم كان ما خفت أن يكون ... لقد تم خرابي على يديك ... ها أنا فقدت ولدي إلى الأبد ... لقد تركنا ولم يعد إلى المنزل ... إنني لن أراه بعد اليوم (تبكي)
لقد ذهبت متاعبي طول هذه السنين هباء منثورا.
الرجل :
لا تبكي إنه حتما سيعود ... إنك تتوهمين أفظع الأشياء ولن يقع إلا ...
الوالدة :
لقد خرب عشي ولن يعود إلى حاله ... لقد كنت سببا في خراب عشي مرتين ... المرة الأولى ...
الرجل :
هنريت! ... هل وصلنا إلى تلك اللحظة التي يلوم فيها أحدنا رفيقه؟ تعقلي. هدئي روعك وتعقلي. إنني لم أسبب لك خرابا ولا ضررا. إنني على العكس كنت معوانا لك وسندا.
المرأة :
إنني لا ألومك ولكن ماذا أقول لك؟ ألا ترى حالتي أين كان ذلك الرجل المشئوم مختبئا هذه السنين كلها؟ أرأيته اليوم؟ لقد شاخ وأشرف على الموت ضعفا وذهولا.
الرجل :
لولا ما سببت فعلته من الحزن والضرر لأشفقت عليه.
المرأة (هنريت) :
أنت تشفق على بارنت؟ أنت ... بعد الذي فعل؟
الرجل (بول) :
كان ينبغي لنا أن نصالحه، طالما أشرت عليك بذلك أثناء هذه المدة.
هنريت :
أكنت تود أن أعود إلى منزله وأعيش معه عيشة الزوجة؟ ... إذن أنت تبغضني وكنت تريد التخلص مني بهذه الوسيلة.
بول :
كلا يا عزيزتي الصلح شيء والعيشة الزوجية شيء آخر. الصلح والمقابلة من حين لآخر ومشاهدة الطفل وتودده إليه ...
هنريت :
كيف كنت تريد أن يرى الطفل ويتودد إليه ثم يتركنا نعيش عيشتنا؟ ألم يكن الولد ليسألنا في الرابعة عشرة من عمره لماذا لا يعيش مع والده.
بول :
كنا نخلق له سببا، كان ذلك أولى من علمه بالأمر فجأة في سنه هذه وعلى هذه الصورة الشنيعة.
هنريت :
يوافق أو لا يوافق إنما كانت القصة تنمو مع الصغير فيتعودها فيصدقها ويصعب نزعها من فكره. طالما طلبت إليك أن أفاتح جورج في تاريخ أبيه لأبغضه فيه، فكنت تأبى علي ذلك، وكنت تحتم أن يشب حاسبا نفسه يتيما.
بول :
تاريخ أبيه بدون أن يراه ينادى اسمه ويسمع الذم فيه ولا يتطلع يوما لرؤيته كان هذا مستحيلا.
هنريت :
ولكن هذا الحديث لن ينسيني ولدي. أين هو الآن الساعة العاشرة ... مضى أكثر من ثماني ساعات ولم أره. أين هو الآن، أفي قاع السين أم على لوح من ألواح المورج. أتحت العجلات مبدد الأوصال ممزق الأشلاء، أم في الطريق هائما على وجهه لا يدري أين يقضي ليلته السوداء (تبكي) .
بول :
خففي عنك. إنك واهمة. إن نفسك تحدثك بأشنع وأفظع ما يتخيله ذهنك المنهوك ... سيعود إلينا مطمئنا.
الوالدة :
حتى في هذا المصاب تنصحني بالصبر والاستسلام؟ ألا تعلم أنني بفقده فقدت كل عزيز بل فقدت النصير. ألم يكن بجانبي رجلا فأمسيت وحيدة، كنت أنتظر شيخوخة هادئة سعيدة في ظل ولدي فها أنا أرى مستقبلا مظلما في كنف الوحدة والأسى (تبكي) .
بول :
وأنا؟ هل فقدت أملك في؟ ألست رجلك؟
هنريت :
إنك لا تقل عني شيخوخة وضعفا.
بول :
لقد ذهب شبابي بين يديك، وكنت أعزي النفس برضاك وحبك، وها أنا أرى أنني لم أكن شيئا، وأن ولدك كان كل شيء.
هنريت :
تغار من الصغير؟ لعلك تحمد الأقدار على ما وقع. لعلك دبرت ما وقع. إنك عدو لدود لي ولولدي. يا ليتني فقدتك دونه.
بول :
هنريت! عزيزتي هنريت ما أشد تسرعك! ما أكثر تشاؤمك!
هنريت :
بول ... بول أنى لي ولد مثله، لقد مضى عمري وفات أوان الثمر (يسمع صوت) ... ها هو! انظر في الدرج ... إن كان محمولا فلا تخبرني ... إن كانوا يحملون جثته (تبكي)
فأنا بائعة نفسي لن تطيب لي الحياة بعد اليوم.
بول (ينظر في الدرج ويعود) :
كلا يا عزيزتي هذه جان عائدة من أجازتها.
هنريت :
لقد نسيتها ... اصرفها. لتقضين الليل حيث كانت. لا أريد أن يرى أحد حزني. أريد أن أكون في البيت بمفردي (يخرج ثم يعود) .
بول :
صرفتها ... ولكن من يقوم بتدبير المنزل؟
هنريت :
أي منزل؟ هل لنا منزل بعد ولدي؟ لمن كنا نعيش ونجد؟ لمن كنا نعد المائدة؟ (تدق الساعة العاشرة ونصف) ... بول ... بول دعني أذهب للبحث عن ولدي ... لا أستطيع الصبر بعد هذه الساعة.
بول :
تبحثين عنه في باريس وفي الليل؟ ... هنريت ماذا جرى؟ هل فقدت عقلك؟ أين تذهبين؟
هنريت :
إلى أقسام البوليس ومستشفيات الإسعاف وإلى المورج ... وأنشر إعلانات في صحف الصباح، خاصة في البيتي باريزيان لأن جورج يقرؤه كل صباح (تبكي) .
بول :
إذا كان الأمر كذلك إذن أخرج أنا ... سأقوم بكل هذا ... اطمئني.
هنريت :
ويل للشجي من الخلي.
المشهد الثاني (بول يخرج. تأخذ هنريت في العويل وترى صورة ولدها المعلقة فتأخذ في إنزالها وتقبلها وتضمها إلى صدرها وتبكي. تخرج من الصالون ومعها الصورة.)
المشهد الثالث (الولد جورج - الوالدة هنريت - الوالد ليموزان بول) (يدخل جورج ببطء شديد بواسطة مفتاح معه ... لابسا الحداد وقد تغيرت سحنته وشحب وجهه ... الصالون خال ينظر إلى صورة بول المعلقة بالصالون وإلى وجهه في المرآة ثم يجلس في ركن كئيبا قاتما، يضطرب تارة ويسكن طورا. تدخل أمه وبيدها الصورة ثم تبصر به فتبهت أولا ثم ترتمي عليه.)
هنريت :
جورج ولدي! جورج أنت هنا؟ أنت حي؟ هل عدت إلي؟ أأراك حقا أم أنا في حلم؟
جورج (ينهض ويبعدها عنه) :
مكانك ... إن جورج لم يعد ولن يعود.
هنريت :
ولدي! لماذا تدفعني عنك هكذا؟ ماذا تقول؟ ماذا جرى لك؟
جورج :
جورج ولدك لن يعود، لقد ودعتيه هذا الصباح في غابة سان جيرمان، أما أنا فشخص آخر أجنبي عنك وعن منزلك، لا علاقة بيني وبينك.
هنريت :
هل صدقت؟
جورج :
حسبك ما جرى. لا تنطقي بكلمة واحدة. لا تعيدي حرفا مما وقع. لا تحاولي تبديل لفظ واحد مما سمعت اليوم من ذلك ...
هنريت :
ولدي ... لقد كنت نموذج الأولاد حبا لي وعطفا علي ... (تبكي)
كنت حلم حياتي كلها ... كنت مثال الطاعة.
جورج :
لقد كنت أعمى، أما اليوم فقد زالت الغشاوة التي كانت تحجب النور عن بصيرتي.
هنريت :
إن ذلك الرجل ...
جورج :
لا تذكريه بسوء.
هنريت :
قم يا ولدي ونم ... الرقاد كفيل بأن يزيل أثر الانفعال.
جورج :
النوم! النوم! لن أعرفه بعد اليوم لقد كنت أنام قرير العين، قد كنت أحسب نفسي كسائر الناس، أما اليوم فلست أعرف من أنا. وكيف ينام من لا يعرف نفسه؟!
هنريت :
أنت ولدي ... ولدي العزيز جورج.
جورج :
إن نسبي إليك لا يكفي ... إنما الإنسان بالآباء يا أماه ... فمن أبي؟
هنريت (متلعثمة) :
أبوك ... أبوك هو ...
جورج :
هو من أحمل اسمه أو ذاك الذي عرفته عما لي منذ نعومة أظفاري؟
هنريت :
تبا لهذا الرجل، فقد هدم سعادتنا بوساوسه!
جورج :
تريدين الظلام وتبغضين النور، قد يكون ما فعله وقاله مضرا بك ولكنه نفعني.
هنريت :
أي نفع تعني؟ لقد كان بيتنا هادئا مطمئنا وعيشتنا سعيدة راضية، كنا أسرة متحدة متآلفة، وها نحن ثلاثة أفراد متنافرون متباغضون!
جورج :
بئس الاطمئنان والتآلف المبني على الكذب والفساد!
هنريت :
تعسا له!
جورج :
تعسا للسعادة الكاذبة وسحقا للبيت القائم على الخديعة والغدر. أكنت ترضين أن أعيش أعمى أصم مفقود الشرف؟
هنريت :
إنك ولدي وولد ...
جورج :
وولد من؟ لا أب لي ... إذا كنت ابن أبي الذي أحمل اسمه فلماذا افترقتما؟ وإذا كنت ابن ذلك ... ذلك الرجل الذي كنت أدعوه عمي، فلماذا لا أحمل اسمه؟
هنريت :
كنت أتحين الفرصة لأبوح لك بكل شيء.
جورج :
ولم تحن تلك الفرصة حتى حدث ما حدث؟ أنت تستسهلين السكوت وكأنك لا تدركين نتيجته، مهما يبلغ الرجل في الحياة من المجد والشرف والمكانة الاجتماعية بجده، فإنه يبقى زريا محتقرا في نظر الناس إذا لم يكن له والد يعرف باسمه ... العاشق والمعشوقة يتمتعان بلذة الحب ولا يجعلان شأنا لثمرة سعادتهم الوقتية، وثمرة سعادتهم ولد شقي مثلي!
هنريت :
ولدي! ليتني مت قبل هذا.
جورج :
حياتك وموتك سيان، ولكن أريد الوقوف على الحقيقة. إنك استبحت خداعي وذكرت لي أن الرجل الذي أحمل اسمه مات من زمن طويل، وعودتني أن أدعو الآخر عما لي، وقد قضيت فتوتي وصباي في الغفلة. كان الناس حتما يعلمون سري وأنا وحدي أجهله ... أية جناية جنيت فاستحققت بها هذا العقاب؟
هنريت :
إن ما وقع اليوم فاجع ولن يعود.
جورج :
أريد الوقوف على نصيب حديث اليوم من الحقيقة.
هنريت :
إنه كان يهذي ويخرف .
جورج :
ألم تكوني امرأته؟
هنريت (بتردد) :
أين بول؟ ... لقد أبطأ ... إنه خرج للبحث عنك.
جورج :
غيبته أفضل لنا جميعا. هل أعوزك النطق بدون حضوره؟ هل كنت امرأة شرعية لذلك الرجل الذي لقينا؟
هنريت :
نعم ... نعم ... منذ عشرين عاما.
جورج :
ولماذا تعيشين في غير بيته؟
هنريت :
لقد افترقنا باختيارنا.
جورج :
لماذا؟
هنريت :
لأنه لم يشأ أن يعاشرني بالمعروف.
جورج :
هل اتهمكما حقا بما سمعت؟
هنريت :
نعم لقد افترى علي هذا الإفك.
جورج :
إذن كنت شريفة طاهرة؟
هنريت (بخجل) :
أجل ... كنت ...
جورج :
ولكن لماذا قضيت هذه السنين مع شريكك في التهمة، إذا كنت طاهرة الذيل؟
هنريت :
إنه العناد.
جورج :
وهل يقتضي العناد أن تتبذل المرأة وتسيء إلى شرفها وشرف ولدها؟
هنريت :
كنت شابة ولم أحسب لما أقدمت عليه حسابا.
جورج :
وهل اقتضى العناد أن أشب على اعتبار صاحب هذه الصورة عما لي وهو كما تعلمين؟
هنريت (بعد سكوت طويل) :
لأنه في الحقيقة والدك!
جورج :
إذن لم تكوني طاهرة الذيل؟
هنريت :
ولدي ... اسكت ... أرجوك اسكت!
جورج :
أنا إذن ثمرة هذه العلاقة الآثمة!
هنريت :
اعف عني يا ولدي واقتلني.
جورج :
إنك تستحقين القتل، ولكنني لا أستطيع أن أكون قاتلا (يبكي) .
هنريت :
ليتني مت.
جورج :
لا ألوم الرجل الذي تكلم اليوم إلا على أنه أبقى عليك.
هنريت :
لقد شرع في قتلنا معا.
جورج :
ليته أفلح.
هنريت :
كنت تنشأ يتيما.
جورج :
ولكن كنت أعيش حاملا اسم رجل.
هنريت :
إنه كان ينبذك.
جورج :
لأنك أخبرته أنني لم أكن ولده.
هنريت :
أتحاسبني في كهولتي على ذنوب الشباب؟
جورج :
أنا ثمرة ذنبك في شبابك وأحاسبك عليه في كهولتك.
هنريت :
لقد خارت قواي ولم يعد لي صبر على هذا الحساب.
جورج :
تجلدي. لقد تركت غيرك فريسة الهم والوحدة عشرين عاما، فكيف لا تصبرين على الحساب عشرين دقيقة؟!
هنريت :
أشعر بأنك تسلب حياتي.
جورج :
شرفي أثمن من كل شيء.
هنريت :
لقد أذنبت واعترفت.
جورج :
لو كان للتوبة مجال فلربما طلبت إليك أن تتوبي، ولكن المذنبين البائسين من العود إلى ذنوبهم لا تنفعهم التوبة مهما كانت صادقة.
هنريت :
أريد التكفير عن سيئتي.
جورج :
سيئة واحدة؟ سيئتك نحو الزوج أم سيئتك نحو الولد؟
هنريت :
هل الذنب يتجزأ؟
جورج :
الذنب لا يتجزأ ولكن الضحايا ... المجني عليهم يتعددون.
هنريت :
أريد أن أستغفر بارنت؛ فإنه أرأف قلبا وألين جانبا منك.
جورج :
لو كنت ابنه لكنت مثله قلبا وجانبا، ولكنني كأبي الذي أدعوه عمي، أتحبين الوالد وتأبين على ولده أن يكون مثله؟ إني مثل أبي الذي اخترته وفضلته على زوجك.
هنريت :
سأذهب إلى بارنت ... سأسأله المغفرة.
جورج :
هبي أنه مات.
هنريت :
إذن أدخل الدير.
جورج :
لماذا أنشأتني على فكرة موته، فأفهمتني منذ نعومة أظفاري أن أبي الذي نحمل كلانا اسمه قد مات؟
هنريت :
لقد كانت هذه خير الوسائل.
جورج :
كيف ترضين لي أن أنشأ على أكذوبة؟
هنريت :
كيف تستطيع امرأة مثلي أن تشرح ماضيها لولدها الصغير؟
جورج :
فلما بلغت الرشد لماذا لزمت الصمت؟
هنريت :
لم أستطع أن أطلعك على عاري خشية أن يجرح قلبك.
جورج :
كنت تخجلين؟
هنريت :
لم تكن حالي خجلا إنما كانت خوفا ورهبة.
جورج :
ليتك أخرجتني حمالا أو حوذيا أو حفار قبور. إن صناعة الطب التي اخترتها لي لا يصلح لها إلا الأشراف!
هنريت :
أيوجد في الناس يا ولدي من هو أشرف منك؟
جورج :
ولكنني لا أستطيع أن أرفع رأسي.
المشهد الرابع (يدخل بول شاحب الوجه منهوك القوى فيتبادل الثلاثة النظرات.)
هنريت :
ولدي! أتوسل إليك أن ترحمنا.
جورج :
هذا أنت يا سيدي العم!
بول :
لقد انتظرناك طويلا.
جورج :
طالما دعوتك عمي ولكنك واأسفاه أبي!
بول :
هل صدقت ذلك الم...
جورج :
لا فائدة في الاختلاق، فقد اعترفت لي بكل شيء، ووقفت على الحقيقة.
بول (في دهشة وانزعاج) :
اعترفت لك بكل شيء؟
هنريت :
هل تسمي دموع أمك النادمة اعترافا؟
بول :
مهما تكن الحقيقة التي وقفت عليها، فالأجدر بك أن تكف عن تعذيبها.
جورج :
سأكف حتما ... إن الحقيقة أنقذتني من بيئة الكذب والتلفيق التي شئتما أن أنشأ فيها.
بول :
لم يكن في وسعنا أن نطلعك على كل شيء.
جورج :
ولماذا تستبيح فعلا تخشى اطلاع أقرب الناس عليه؟
بول :
لقد فعلنا كما يفعل الناس.
جورج :
أهذا عذرك إلى نفسك؟
بول :
كان عذري وعذرها حبا شديدا ملك علينا أنفسنا، وألقى على بصيرتنا غشاوة لم تنجل إلا يوم افتضاح أمرنا!
جورج :
إذن لماذا لم تتزوج منها؟
بول :
كنا في سن الزواج فقيرين فقرا مدقعا.
جورج :
إذن جبنت عن أن تعول امرأة تعدها أحب الناس إليك، وتريد أن تجعل منها رفيقة حياتك.
بول :
إن عيشة الزوجية في ألم الفقر أشد مرارة على النفس من فراق العاشقين مهما عظم الحب.
جورج :
إذن استبحت أن يكون لك شريك في المرأة التي تحبها لتتمتع بها في ظل ثروته؟ ورضيت أن تخون صديقك لأنه وثق منك وأتمنك على امرأته جهلا منه بعلاقتكما القديمة.
بول :
إنك يا جورج تحرج صدري.
جورج (مستطردا) :
ثم انتزعت زوجة الرجل من بيته.
بول :
لقد نبذها فأويتها.
جورج (مستطردا) : ... ثم رضيت أن تقاسمه ثروته عشرين عاما، فعشت من المال المسلوب أنت ورفيقتك والطفل الذي جنيتما عليه.
بول :
لقد أحببناك فوق كل شيء.
جورج :
طبعا وكيف لا ... لقد كنت لكما مصدر رزق لا ينضب، ورأس مال يغدق عليكما الأرباح.
بول :
لقد ربيناك تربية حسنة، وأنبتناك نباتا حسنا، وهذبناك وعلمناك الطب.
جورج :
بئس التربية والتعليم ... خذا تربيتكما وتعليمكما بشرط أن تأخذا معهما عاركما الذي ألحقتماه بي ... استردا كل ما ذكرت وردا إلي شرفي، وإن يكن شرف ابن نجار أو حداد جاهل فقير.
بول :
لم تكن نفسي تحدثني أنك على هذا القدر من القسوة! ألا ترضى بما رضينا به نحن والداك؟ (يدنو منه بعطف) .
جورج :
مكانك أيها الرجل! ... إنني أحتقرك (بول يخطو نحوه بغضب، فتتنبه الأم من عميق غشيتها وبكائها وتقف بينهما) .
هنريت :
حذار ... إنني قاسيت في هذا الأمر أكثر مما تحتمله نفسي.
جورج :
تتهددني؟ تحاول ضربي؟ ... إليك رأسي فشجه وعيني فافقأهما.
هنريت :
بول ... احتمل غضب ولدك.
جورج :
سأدخل غرفتي لأبدل ثيابي (يصعد الدرج) .
المشهد الخامس
هنريت :
أنتركه وحيدا بعد هذا الانفعال؟
بول :
لعله ينام فيهدأ ثائره.
هنريت :
تظن من كانت هذه حاله يستطيع النوم؟
بول :
إنه منهوك القوى، والتعب يرغمه على النوم.
هنريت :
إن قلبي غير مطمئن إلى خلوته وانفراده.
بول :
إن الخلوة أفضل له من عشرتنا بعد الذي سمعته منه.
هنريت :
ولكنني يا بول أخشى ...
بول :
إنك تبالغين في الخوف (يسمع صوت جسم يقع، فتجري الأم إلى الغرفة وتعود كالمجنونة) .
هنريت (بانزعاج) :
الباب مغلق وقرعته فلم يجبني ... بادر إلى تحطيمه.
بول :
املكي نفسك ... إن لديك مفتاحا آخر يفتح هذا الباب (يفتح درجا في دولاب في الصالون ويناولها المفتاح فتسرع إلى الباب وتفتحه وتغيب، ثم تسمع صرخة ثم تعود إلى المسرح) .
بول (بلهفة) :
ماذا جرى؟
هنريت :
لقد قتلت ولدي (ترتمي على الأرض) .
بول :
لم أقتل ولدك ... إنما قتله الشرف. (ستار) (تمت الرواية 2 / 10 / 1918
محمد لطفي جمعة)
خضر أرضك
فنظرية أخلاقية وقعت بمصر أي رواية مضحكة خيالية محلية 1918
الفصل الأول (المرسح يمثل أودة جلوس في منزل من الطبقة الوسطى وللأودة عدة أبواب منها باب على كل من الحمام وباب على المطبخ وفيها أي الأودة نافذتان.)
المشهد الأول (نجيب - نجيبة)
نجيب (يستعد لأخذ حمام الصباح) :
الدوش رحمة على البدن في الحر ده. لولا دوش الصبح ماكانش الواحد يعرف يفتح عينيه. خلي أصحابنا الأغنياء يتفسحوا في الرمل ورأس البر ويبلبطوا في الميه، ويبردوا جوفهم بالمشروبات العال، ويمزوا بالسمك والجندفلي والسمان المحمر. واحنا هنا نهلك في مصر ونشرب حر الصيف ونشرب كمان من كيعاننا. تسعة وثلاثين تحت الصفر والا فوق الصفر والله ما انا عارف، أهو فيه صفر والسلام، كل الواحد ما يقرأ في الجرنال إسكندرية 27 في الظل القرشية 35 القاهرة 39 الخرطوم 42 أقول برده إحنا أحسن من اللي في الخرطوم من شاف بلوة غيره هانت عليه بلوته. درجة فوق درجة تحت مش حاجة (يهرش في رأسه)
أنا حاكم أغسل رأسي قبل ما أتليف علشان ما اعرفش أصبنها تحت الدوش، وخصوصا إذا الرأس خلصت تبقى المسألة سهلة (يلف فوطة على كتفيه ويدخل مسافة ثانية في الحمام ويخرج)
دهده هي الكوبانية قفلت الميه النهارده كمان مش كانوا ينبهوا على السكان، أما شيء بارد، وإن ماكانش الصهريج والا هو الخزان مكسور تكون المواسير خربانة، وإن ماكانش المواسير خربانة يكون النيل واطي، وإن ماكانش النيل واطي تكون ماليتنا واطية، يقوموا يقفلوا الميه والله أيام سقة ملو كانت أحسن لنا من الحنفيات دي (يسمع صوت غسيل مواعين) .
نجيبة (من الداخل) :
سبوني يا ناس في حالي أروح مطرح ...
نجيب :
الله دهديه دي الميه شغالة وأهي مفتوحة في المطبخ (إلى نجيبة)
يا ست نجيبة هانم اقفلي الميه عندك.
نجيبة (تخرج) :
إيه بتقول إيه حضرتك؟
نجيب :
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، يا ست بأقول لحضرتك اقفلي الميه عندك حبتين علشان أعرف آخد الدوش وأصبن رأسي وأنزل، أحسن الوقت أزف على المكتب، وعندنا النهارده شغل، وفلاحين جايين من دمنهور، الوحش حيدفعوا قرشين والبيه موصيني وانت عارفة الواد محمود ابن خالتك مش نافع إلا في العياقة، ولا يعرفش يخلص القرشين من الفلاحين.
نجيبة :
بسلامتك عاوزني اقفل الميه وأبطل غسيل المواعين، وتاكل في إيه بسلامتك يا ابو عمر ومحمود ماله شايله على راسك وزاعق من صباحت ربنا (تدخل وتظهر رأسها من نافذة المطبخ) .
نجيب :
يا ستي ابقي اغسليهم بعد ما اغسل راسي، أحسن الوقت أزف ولا تخديش على خاطرك علشان سي محمود، أنا بس بافهمك سبب استعجالي.
نجيبة :
أزف والا ما أزف وإيه يعني ما يهمنيش، أنا عندي غسيل المواعين أهم.
نجيب :
غسيل المواعين أهم من غسيل راسي؟!
نجيبة :
أنا ما قلتش أهو كل واحد عنده حاجته غالية.
نجيب :
يا ستي اعملي معروف بس ولو خمس دقائق.
نجيبة :
بطلوا ده واسمعوا ده! يا راجل المواعين تخسر.
نجيب :
وأنا راسي متخسرش من الحر والعرق؟! دا مخي قرب يسيح.
نجيبة (تضحك) :
إن ساله حتى تمشش (تسمع ساعة 8) .
نجيب :
بلاش هزار يا نجيبة ساعة الجيران دقت ثمانية، وانت عارفة الفلاحين دول يبدروا من الفجر ويجوا عند الخبير ومعهم الأبوكاتية بتوعهم والأبوكاتية متعنطزين، إن ما كناش نحضر يتقمصوا ويزعلوا ويكتبوا لنا جواب مسوكر.
نجيبة :
يكفينا نعيرها والله بقى لنا زمان ماشفناش خير الفلاحين، ومن يوم ما طلعت الحرب في الدنيا لا بتجيب لنا هدية من واحد منهم، أنا عارفة الدنيا جرى لها إيه والا انت جرى لك إيه يا سي نجيب! الله يرحم أيام ما كنت مستخدم في الدخولية.
نجيب :
حاكم الأيام دي البيه الخبير بتاعنا واخد خيرها وبالع الشغل على القايم، وكل قضية يأكل فيها واحنا قاعدين نبص.
نجيبة :
بقه ما فيش فلاح لطشاه الشمس يجيب لك زيارة بصل ولا يوسف افندي، تروح السنة وتجي السنة ماندوقش للفاكهة دي طعم إلا إن كانش شوية المشمش الخسران ولا الجميز الخيبان اللي بتجيبهم.
نجيب :
ليه ما جبتلكيش خيار السنة اللي فاتت من مقاتة عيسوي بك بخيت.
نجيبة :
ريقي نشف على شوية جوافة حلواني وأهي بتطلع كتير في المعصرة، وأديك بتروح هناك عدد شعر راسك علشان قضية المعلم أحمد المبلط.
نجيب :
ما هو قال لي حيشيع لنا شوية جوافة في المشمش.
نجيبة (تضحك) :
يوه، جتك حوسة يا سي نجيب، ده بيضحك عليك.
نجيب :
أهو قال لما يطلع المشمش يبقه يشيع لنا الجوافة (تسمع الساعة تدق ونص)
الله الساعة 8:30 ... الميه.
نجيبة :
طيب علشان خاطرك أديني قفلتها من عندي (تخرج لنا) .
نجيب (يدخل الحمام ثم يعود) :
وأنا بفتحها عندي ما بتنزلش.
المشهد الثاني (السابقان - حسن الخادم - بربري من الخارج)
حسن (يدخل بسرعة) :
يا ستي، عم فضل البواب بيقول خدوا لكم شوية ميه، أحسن السباك حيقفل الأم علشان يصلح المواسير.
نجيبة :
قال لك كده من إمته يا واد؟
حسن :
من الصبح.
نجيب :
طيب يا واد ماقلتلناش ليه يا واد؟
نجيبة :
هو الواد حيفتكر إيه ولا إيه، أديك بشرت على نفسك.
نجيب :
يا واد قل له يفتحها أحسن احنا مالحقناش ناخد ميه.
حسن (من الشباك) :
يا عم فضل يا عم فضل.
فضل (من الخارج) :
خبر إيه؟
حسن :
افتح الميه شوية.
فضل :
ميه إيه هلاص مأفوله كمان نص ساعة يفته.
نجيب :
قول له يا واد الأفندي بياخد دوش .
حسن :
الأفندي مين يا سيدي؟
نجيبة :
يوه جتك نيبة يا واد يا حسن، الأفندي سيدك يا واد. أطيعه ده مستكترها عليك يا سي نجيب.
نجيب :
اختشي الواد واقف.
نجيبة :
وإيه يعني.
نجيب :
ما تهزريش معايه قدامه بالشكل ده.
نجيبة :
هو يفهم حاجة، ده واد أهبل.
حسن :
يا عم فضل، الأفندي بياخد دوش.
فضل :
دوش مش الميه مأفول ديلوأتي، أنا جلت لك من الصبه ياخد ميه زي كل الجيران.
نجيب :
حتى البوابين كمان بيتحكموا في السكان ده نهار إسود (لحسن)
امشي يا واد اطلع بره (يخرج حسن) .
نجيبة :
مابيدهاش بقه يا أفندي إطلع كده النهارده.
نجيب (متعكنن) :
طيب هاتي لي تغييرة نضيفة أحسن القميص عرقان وحالته عيرة.
نجيبة (تدخل ثم تعود) :
ما فيش هدوم نضيفة.
نجيب :
ليه كمان الكوبانية قفلت على الهدوم؟
نجيبة :
يوه، لأ أنا كنت منبهة على أم شفيقة الغسالة ماجتش امبارح ولا النهارده.
نجيب :
طيب كنت اغسلي لي تغييرة ... هي دي كمان شغلة ...
نجيبة :
إنت جايبني تجوزني والا تغسلني هدومك، مش بزيادة الطبيخ والغريف وفرش السرير، ده انت كمان شوية تمسحني البلاط.
نجيب :
وإيه يعني يا ستي لو مسحت البلاط، الله يرحم والدتي.
نجيبة :
دا أنت فشرت قوي.
نجيب :
الله يرحم والدتي. كانت عاقلة وطيبة وكانت تقول مثل اللي تشيل الفجل تشيل الوحل.
نجيبة :
حتقعد بقى زي عجايز قبرص تضرب لي أمثال ومواعظ وتتكلم لي بالحبكي (تدق الساعة 9) .
نجيب :
هو هو الساعة 9 ده النهار ضاع ويمكن البيه يقطعه لي.
نجيبة :
وإيه يعني.
نجيب :
حتبقي تصرفي على البيت يا ست نجيبة؟
نجيبة :
أهو باكسي نفسي وموفرة عليك حق الهدوم.
نجيب :
نهايته، أما ألبس الهدوم الوسخة، دا شيء يهري اللحم.
نجيبة :
لا ماتوهمش نفسك ده مش وسخ ده حمو النيل. بكره أبقى أجيب لك شوية طفل تدهن به جسمك.
نجيب :
لا ... لا ... لا طفل ولا أفل أحسن اللي بيتدهنوا بالطفل بيبقوا زي الحمير الجربانة (يلبس بعض الهدوم التي كان خلعها استعدادا للحمام) .
المشهد الثالث
حسن (يدخل) :
سيدي ... سيدي الميه جت .
نجيب :
تتفلأ إن شا الله تجي ميت مرة ضافر في بوزك.
حسن (يتقمص) :
الله طيب وانا مالي (يخرج) .
نجيبة :
طيب وهو ذنبه إيه ده، بيقول لك الميه جت.
نجيب :
تجي لما أستغنى عنها، ولما كنت واقف حاموت عليها ما تخرش.
نجيبة :
أدي حال الدنيا.
نجيب :
الله! فين الفطور؟ والله أنا عيني اليمين بترف من امبارح.
نجيبة :
ما ترف والا تنطرف حتى، هو أنا حأقطع نفسي ميت حتة حاغسل المواعين، ولا أرغي معاك ولا أعمل لك الفطور. عاوز تفطر إيه بسلامتك يا الدلعدي؟
نجيب :
ما انت عارفة كل يوم بافطر إيه من يوم ما عييت، بيض برشت وشوية شاي بلبن.
نجيبة :
هو انت ماتبطلش البيض أبو رشت والشاي أبو لبن، افطر لك يوم طبيخ زي الخلق.
نجيب :
ليه يعني يا ستي؟! ولما الكلاوي ترجع تمغص علي تبقى تنفعيني.
نجيبة :
بس ما اشترتش بيض النهارده علشان ما فاتش.
نجيب :
ليه هو انت لسه مش عارفة عادتي؟! بقالك معاية خمس سنوات وبقالي عيان سنتين ولانتش عارفة!
نجيبة :
أهو أديك بتفطر برضه فول مدمس.
نجيب :
أيوه لما تكون نفسي حليانة، ومن ورا روحي، ومرة كل شهرين مش حاجة.
نجيبة :
ونفسك النهارده مش حليانة؟ (تضحك.)
نجيب :
يا نجيبة الساعة 9.
المشهد الرابع
نجيبة :
يا واد يا حسن (يدخل) .
حسن :
نعم يا ستي.
نجيبة :
شوف الأفندي عاوز إيه.
نجيب :
عاوز بقرش صاغ بيض طازة، قول للحاجة على المكسر ورغيف فينو بقرش تعريفة وحتة زبدة بقرش صاغ. بالعجل زي الولعة، أديني حاتوف لك تفة وإن نشفت قبل ما تجي أهي الخرزانة (يعطي له الفلوس) .
حسن :
حاضر يا سيدي (يخرج جري) .
نجيب (يطل من الشباك) :
شايفة ابن الكلب ماشي على مهله إزاي. مد بأه يا ابن الكلب مد.
المشهد الخامس
نجيبة :
من حق على فكرة حنطبخ إيه النهارده؟
نجيب :
اطبخي اللي يعجبك.
نجيبة :
لأ اللي يعجبك انت.
نجيب :
لأ اللي يعجبك انت.
نجيب :
ما فيش فايدة إذا قلت لك اطبخي عسل تطبخي بصل، فاكرة نهار ما قلت لك الحكيم قال لي كل فاصولية خضرا قمت طبخت كفتة، وقلت لي نينتك نفسها في الكفتة.
نجيبة :
أهي مرة وعدت.
نجيب :
لأ اطبخي اللي يهف عليك.
نجيبة :
من حق قبل ما نطبخ عاوزين صفيحة جاز.
نجيب :
خدي أدي عشرين قرش للجاز.
نجيبة :
كان زمان وجبر يا حبيبي، الصفيحة دلوقت بثلاثين قرش، وهيهات إن رضي البياع وكل حين ومين لما يفوت الفنطاس.
نجيب :
ثلاثين قرش يادي الداهية أمال الوابور ما بيبطلش طول النهار ليه.
نجيبة :
لوازم بيتك يا حبيبي، هو أنا باسخن عليه لأمي ولا بطبخ لأبويا. أهو كله علشانك.
نجيب :
أدي عشرة قروش ولا تبقيش تولعي الوابور إلا وقت اللزوم، والواحد لازم يراعي الأحوال.
نجيبة :
من حق فكرتني، الوابور خسران وامبارح ندهت للراجل اللي بيقول نصلح وابور الجاز، قام طلب خمسة قروش، وقال إنه بينفس وعاوز يغير له الفونية ويحط له جلد جديد.
نجيب :
جاي يا مسلمين من وابور الجاز وانا بقيت دافع عليه قد ثمنه عشر مرات! هو ده وابور طحين والا وابور ري والا وابور الصعيد؟!
نجيبة :
أيوه احمد ربنا، دحنا عندنا ثلاث بوابير وبابا ...
نجيب :
في عرض النبي اعتقيني من بابا ومن نينة على الصبح، إحنا ما قلنا ...
نجيبة :
يوه مالك بتطلع فيه كده زي المدفع، هي سيرتهم بتجننك، هما مولودين فوق راسك أما شيء عجيب.
نجيب :
اتفضلي يا ستي خمس قروش للوابور، ولما تجي الغسالة ماتخليهاش تولعه أحسن هي اللي بتخسره.
نجيبة :
من حق فكرتني.
نجيب :
إيه كمان النايبة الجديدة؟
نجيبة :
الغسالة عاوزة صابون وبطاس وزهرة، غير أجرتها وقهوتها ودخانها.
نجيب :
أدي نص ريال يكفي.
نجيبة :
ده كان زمان وجبر.
نجيب :
ليه دحنا غاسلين الشهر اللي فات وما دفعتش غير كده؟!
نجيبة :
أنا كملت من عندي، ومع ذلك كل شيء بيتغير. الصابون دلوقت الرطل بستة قروش صاغ والأثمان بتطلع.
نجيب :
هي الأثمان دي تمللي تئب تئب ولا تغطسي ولا مرة.
نجيبة :
هو انت حضرتك ما بتقراش التسعيرة؟
نجيب :
أنا بقره التسعيرة وأشوف برده الأثمان مقبولة بالنسبة للأحوال الحاضرة ، ونحمد ربنا إحنا أحسن من غيرنا، ولكن التسعيرة بتعتك هي اللي بتجنني.
نجيبة :
ليه يا اخويا هو أنا باحوش من وراك، والا بسرق من المصروف، والا بودي على بيت أبويا، إياك انت بس تقضي بيتك على وشك يبان يا مضاغ اللبان.
نجيب :
يا نجيبة هو أنا كفرت، ما فيش كلمة أقولها إلا لما تردحي لي، الأحوال صعبة والمالية مأرطة.
نجيبة :
وأنا مالي وإيه يعني، اللي يفتح بيت يقدر على مصروفه، يا جارية اطبخي يا سيدي كلف، إنت عاوز بيت ممسوح ومكنسة جنبه؟!
نجيب :
هو البيت ده طاقة من جهنم اللي يفتحه ما يقدرش عليه.
نجيبة :
ما تقفله يا حبيبي، هو بيت أمي والا بيت أبويا، العايز أهبل!
نجيبة :
طيب يا ستي الحق علي أدي عشرين قرش.
نجيبة :
وإن قضوا.
نجيب :
ما فيش حاجة كمان.
نجيبة :
إنت بتطلع فيه ترزيني، أهو السمن فرغ وخايفة أقول لك من الصبح.
نجيب :
السمن فرغ! السمن فرغ! إنت بتقولي إيه السمن فرغ! دنا لسه مشكك صفيحة ولا دفعتش بقية ثمنها.
نجيبة :
بطلوا ده واسمعوا ده، مالك يا سي نجيب مفجوع كده ... دي الصفيحة عند بابا ماتقعدتش ...
نجيب :
يا ستي في عرضك اعتقيني من بابا ونينة أنا باستغرب.
نجيبة :
تستغرب إيه ياعني، إحنا لا بنعمل كحك على العيد ولا قرص للقرافة، ولا بنخبز المشلتت ولا المبطط، مفيش غير الطبختين ودمتم.
نجيب :
إلا السمن فرغ، ده الرطل الزبدة خدته بسبعة قروش ببوس الإيد من الراجل اللي في السبتية.
نجيبة :
ها ها ده كان زمان وثلاث جبرات يا جوز الهنا.
نجيب :
ليه كمان السمن غلي؟
نجيبة :
غلي وغلي وغلي وبقى ثمن رطل الزبدة تسعة قروش والسمن حداشر قرش.
نجيب :
حداشر قرش والله ما هو داخل لي بيت.
نجيبة :
هو مين ده.
نجيب :
السمن.
نجيبة :
دور على اللي يقعد لك.
نجيب :
بقى ما تقعديش معايا إلا علشان السمن.
نجيبة :
إن ماكانش الست منا واكلة وشاربة ولابسة ومتفسحة على كيفها، عنها ما عاشت، ربنا ما خلقش أكثر من الرجالة .
نجيب :
إيه الكلام ده أنا بعدين أزعل؟!
نجيبة :
وإيه يعني متزعل والا تشرب من البحر.
نجيب :
ويمكن يتأتى من الأمور أمور.
نجيبة :
وإيه يعني ما يتأتى اللي يتأتى، هو أنا مش حلاقي عرسان؟!
نجيب :
وإيه كمان خلصت مسألة السمن طلعت مسألة العرسان، ربنا يدبرها، إياك يجي لنا حد من طهطا أشكك منه صفيحة ولو بالفايظ، الله الساعة تسعة وربع والواد ابن الكلب لسه ما جاش.
نجيبة :
دلوقت يجي.
نجيب :
طيب بدال الأخد والعطا ده، روحي انت اعملي الشاي على ما يجي الواد (تقوم تدخل المطبخ وترجع) .
نجيبة :
الشاي فرغ، والسكر مفيش إلا حتتين صغيرين.
نجيب :
طيب ما قلتيش ليه من الصبح؟
نجيبة :
إنت مسألتنيش.
نجيب :
هو انت ما تنطقيش إلا بزنبلك؟!
نجيبة :
نجيب! حسن ملافظك أحسن الجيران يسمعونا.
نجيب :
هو أنا باقول حاجة، إشمعنا الجيران حيسمعوني ولا كانوش سامعين كلامك من الصبح.
نجيبة :
دي إهانة، زنبلك إيه يعني؟!
نجيب :
نهايته (يبص من الشباك)
الواد أهو جه الله! ده ممعهش حاجة، يكون حد ضربه وخد الفلوس لا ده ما بيعيطش.
المشهد السادس
نجيب :
فين الحاجات يا واد؟
حسن :
البيض بقه اثنين بالصاغ، والعيش ما فيش بتعريفة، والزبدة مفيش بصاغ.
نجيبة (تضحك) :
مش قلت لك، عيش عيشة أهلك وأقضيها بلدي، روح يا واد هات لسيدك فول.
نجيب :
بس اخرسي! أما شيء بارد وعجيب، لكن يا واد دانت شاري لي بيض امبارح أربعة بصاغ، وجبت لي أول امبارح زبدة.
حسن :
أهي الحاجة قالت لي كده، وقالت لي صبح على سيدك، وقل له الميه بقت علينا بخمسة وأربعين بما فيها الممشش والمفأس.
نجيب (يطلع فلوس من جيبه) :
روح هات يا واد بنص فرنك بيض وبصاغ عيش وزبدة بقرشين.
حسن :
الفرن قافل.
نجيب :
ليه كمان؟
حسن :
علشان بتوع التسعيرة.
نجيب :
طيب هات من فرن تاني (يخرج حسن)
الساعة 9:30 لازم أنزل على التسعين، طيب عندكيش حاجة بايتة من امبارح؟
نجيبة :
قلنا كده قلتوا اطلعوا من البلد أهو ما فيش إلا الطبيخ.
نجيب :
هو احنا كنا طابخين إيه امبارح، والله الواحد بينسى من كترة الهم.
نجيبة :
يعني طابخين المحمر ولا المشمر، أهم حبة البدنجان المكمورين، وقبلها كنا طابخين فاصوليا أرديحي.
نجيب :
نعمل إيه ما هي اللحمة بقت نار يا نجيبة، والواحد في الدنيا دي على دي ودي إذا كان رطل اللحمة البلدي بقه بثمانية صاغ وهيهات الله يرحم زمان، كان أبويا يشتري لنا الرطل البلدي العال من الإبشيهي الجزار بمية فضة والخشن نهار ما تكبر نجيبه بستين تعريفة، ونهار ما يقول العجل من دول أنا وانا مايزيدش عن قرش صاغ ومين حتى كان ياكله، وتمنتاشر بيضة بقرش صاغ ورطل السمن البلدي العال نهار ما يستعظم زي اللحمة.
نجيبة :
إحنا أولاد النهارده يا أفندي سيبك من زمان، شوف لك طريقة واعمل ترتيبك أحسن نينتي يمكن تجي النهارده تقعد عندي شوية.
نجيب :
طيب وماله وإيه المناسبة بين زيارتها وثمن اللحمة؟
نجيبة :
ليه هي مش حتتغدا وتتعشى هي واخواتي، ويمكن بابا كمان يفوت يقعد له شوية، ويقول لي يا أختي طابخة إيه، أبقى أقول له إيه؟
نجيب :
يسألك ليه هو عينوه مفتش طبيخ؟
نجيبة :
لأ يا بارد، العادة الأب يسأل على بنته يشوفها بتاكل إيه بتشرب إيه، ويحب كمان يدوق طبيخ إيدها.
نجيب :
بقه أما أقول لك انت عارفة طبعي، زمان لما كنت في الدخولية وأول ما اشتغلت مع البيه وقبل الحرب كانت الدنيا نعناع أخضر، ولا كنتش بتأخر عن إكرام أهلك، لكن اليومين دول صعب، فما فيش لزوم للزيارة دي لأنها بايخة، ومع ذلك يقدروا يأجلوها لبعد الحرب.
نجيبة :
يا دهوتي يا سي نجيب، مش عيب يا راجل زيارة إيه اللي يأجلوها لبعد الحرب، هو انت حتدبح لهم خروف والا زيارتهم طلعة المحمل، والا حتجيب لهم عشى باشا والا حتعمل لهم نصبة.
نجيب :
والله همه اللي حيعملوا النصبة مش أنا، ومع ذلك أهي العزومة في الزمان ده بتحصل خروف من بتوع زمان خمس ست أرطال لحم ضاني ورطلين سمن وقدحين رز وثلاث أربع وقات عيش ووقتين بامية من اللي يحبها قلب أبوك، وقهوة الاستقبال وقهوة بعد الأكل وقهوة العصر والدخان لنينتك، حاكم هي زي السوسة في اللف، والسكر لأبوك حاكم راخر يحب السكر من يوم ما جاله في البول وشفته بعيني بيقرشه قرش.
نجيبة :
أما أقول لك ... ما تجيبش سيرة أبويا.
نجيب :
بأقول يعني تعملي الحسبة تحصل لها جنية ونص، ثمن خروف من بتوع زمان والا لأ.
المشهد السابع
حسن (يدخل) :
سيدي الفرن أفل علشان ما فيش عندهم فحم، وبتاع الزبدة بيبيعوها له بالعسكر، وما قدرتش أروح وراهم التمن، والبيض وقع مني علشان الحاجة ما عندهاش ورق تلف فيه.
نجيب :
طيب يا ابن الكلب (يضربه)
حافطر إيه؟
نجيبة :
سيب الواد، هو مش حرام عليك إكمنك ماخلفتش. امشي يا واد وما تزعلش (يخرج) .
نجيب :
طيب ومسألة الخلفة رخرة مالها؟ وهو أنا اللي محقوق فيها والا انت؟ الحق علي اللي ما اتجوزت عليك.
نجيبة :
ماتتجوز عشرة وإيه يعني.
نجيب :
المقصود، أنا مش حاعرف أفطر في اليوم المقندل ده ... نهايته هاتي البدنجان يا ستي.
نجيبة :
مش لما أسخنه لك.
نجيب :
لا ... لا ... هاتيه كده جلاسيه أحسن أنا خايف من تسخينه ... مين يعرف الحوادث المحلية اللي تحصل في البيت لما تجي تسخني طبيخ امبارح ... بزيادة الحوادث الخارجية اللي حصلت لما شبعنا ... نفطر من بره.
نجيبة (تخرج وتعود بحلة) :
طيب أهو وأدي العيش.
نجيب :
اعملي لي بقه شوية شاي زي العادة أبلبع بهم الكبب دي ... ده صدق من قال النار رحمة على بني آدم ... لو كان البدنجان ده سايح شوية يمكن كان ينبلع، نهايته ... الشاي يا ستي يمكن يزحلق النايبة دي أحسن البدنجان ده زي كلمة الحق بيقف في الزور (يشرب ميه ويزور)
يا ترى مين جايب في سيرتي ... الفلاحين والبيه طبعا ... اللي في سيرتي يحتار حيرتي (لنجيبة)
مالك واقفة كده ما تروحي تعملي الشاي.
نجيبة :
ما قلت لك الشاي خلص (الباب يخبط) .
نجيب :
يا واد يا حسن شوف مين بيخبط. يا فتاح يا عليم ... يمكن يكون سي محمود ابن خالتك جاي ينط لنا يكون البيه استعوقني.
نجيبة :
يا ريت والله بآلي زمان ما شفتوش، ما هو كلامك اللي بيقطع رجل الأهل والأحباب.
نجيب :
حقه تتمني انت إنه يكون هنا عدد الأوقات والساعات.
نجيبة :
طبعا داحنا متربين سوا.
المشهد الثامن
حسن (يدخل) :
ده عم عبد الرسول المكوجي عاوز العلاقات والحساب.
نجيب :
طيب ما تقول للست يا واد.
نجيبة :
العلاقات بتوع الأيام دي بيتأصفوا زي عيدان الكبريت، ومختشية أقول له عليهم.
نجيب :
شوفي حسابه كام واصرفيه دلوقت.
نجيبة :
لا يا اخويا أنا ما اعرفش أصرفه. قوم كلمه انت ... هو انت حاططني للسكة والبله ومصدرني للطمة والصدمة.
نجيب :
اجري يا واد يا حسن اسأله عاوز كام.
حسن (يخرج ويعود) :
تلاتاشر قرش ونصف.
نجيب :
ليه هو كوى شال عمة الشيخ علي والا إيه؟
نجيبة :
كوى بدلتين بستة صاغ واتناشر ياقة بتلاتة صاغ وخمس قمصان وأربع جربتات من البيض اللي طلعت لي فيهم الأيام دي قول بقرش تعريفة وعشر مناديل قول بقرشين صاغ، يطلع له أربعتاشر قرش يدوبك.
نجيب :
يا ستي ده بيقول هو تلاتاشر، هو لازم تكوني مكوجية أكثر من المكوجي، ولازم تكويني بنارك ونار غيرك.
نجيبة :
مكوجية ده إيه؟ هو ليه الحق يزعلك بتسأل على الحساب بأقول لك عليه مكوجية وناري أتلطي كده.
نجيب :
يا ستي الناس قالوا انصر أخاك ... إشحال أنا بقه جوزك والقرش اللي في جيبي أهو في جيبك، وأديك جردتيني النهارده من صنف النقدية، وعاوزة القرشين الخردة اللي فاضلين كمان ياخدهم المكوجي، واركب الترام بإيه واقعد على القهوة بإيه، نهايته ياما أصعب الدين يا واد يا مكوجي.
عبد الرسول (من الخارج بصوت فظيع) :
واد إيه دنا راجل كبير يا أفندي!
نجيب :
يا راجل يا كبير حسابك كام؟
عبد الرسول :
بس بلاش مهزأة على الصبح، يا سيدي الست ما هي قالت لك 14 قرش.
نجيب :
سامعة يا ستي، شايفة يا ستي، أهو سمعنا واحنا بنتكلم (للمكوجي)
ليه يعني هي البدلة بكام دي الست كانت بتهزر؟
عبد الرسول :
زي ما بنكوي لغيرك، اسأل الدكتور القطاوي وسي مخيمر بيه وعريف أفندي بيكووا عندنا ولا بيكووش قلبنا على الحساب زي حضرتك، البدلة في كل الدنيا بفرنك، ما تسأل حضرة جنابك الفحم بقى بكام والنشا بكام والصنايعي بياخد إيه عرقه وأجرة الدكان زادت داحنا هنا في نعمة دي البدلة بتنكوي في إسكندرية بنص ريال.
نجيب :
خد يا واد إدي له دول تحت الحساب (يعطي وحسن يخرج ويعود) .
عبد الرسول :
كل مرة تحت الحساب ما فيش مرة حاجة فوق الحساب، المقصود الله الغني عن دي المكوى، أهي مرة وفاتت لما تبقوا تدفعوا الحساب القديم لما تبقوا تعرفوا تلبسوا، الحق علينا احنا.
نجيبة :
سمعت يا سيدي أهو بيهزأنا، أدحنا غيرنا وبدلنا مكوجية الخط كله، تبقه بقه تسفر المكوة تنكوي في بلد غير دي، كل المكوجية عرفونا ولا يرضوش يجولنا.
نجيب :
يبأه فيها فرج، والا ابقي اكوي انت.
نجيبة :
فرج إيه ده، بعد بكره أكوي أنا ده بعيد عن أشنابك!
نجيب :
الساعة 9 ونصف مانيش رايح المكتب أحسن أترفد، يا واد يا حسن أما أشيع معاك جواب للمكتب.
نجيبة :
قوم يا شيخ بلاش كسل، إنت حتقعد هنا طول النهار زي القتيل، ما تخفش من البيه وعلي أنا، ده راجل كبير ويحب فتح بيوت الناس اللي زيك، قوم خللي الواحدة تطلع تشم الهوا وتشتري لها حتة ركامة والا مترين لينوه.
نجيب :
أيوه ما انت بقا اتحينتي، حق الجاز والصابون.
نجيبة :
ليه هو أنا حرامية ولا باحوش من وراك، دي كسوتي كلها من جيب غيرك.
نجيب :
من جيب غيري إزاي يعني اختشي؟!
نجيبة :
من جيب بابا ... ولو كانت المسألة على فلوسك كنت ابأه دايرة مهربدة.
نجيب :
عجايب. يا واد يا حسن خد الورقة دي (يكتب)
حضرة عبد العليم بك الخبير بعطفة القبة بعد تقديم وافر التحية لحضرتكم السنية، رافعه مريض اليوم (اليوم بحيلة)
يا جمال بهجة بهجة جماله.
نجيبة :
اكتب يا راجل بلاش هبل أحسن الواد بيضحك علينا.
نجيب :
أهي بطالة! البركة فيك ويوم مقطوع ... والا يرفت النفس قرفت أما أكمل «وواخد واخد إيه واخد شربة ملح إنجليزي وملازم ملازم ثاني لا ملازم الفراش فالأمل صدور العفو عنه لأ هي قضية الأمل العفو عنه إلى باكر صباحا ودمتم.» تعرف يا واد المكتب بتاعنا؟
حسن :
نسيته!
نجيب :
إشمعنا ما بتنساش بطنك يا اقرع يا ابن ... اللي انت ابنه عطفة القبة يا واد جنبنا على إيدك اليمين، بعدنا بشارع قدام شادر الخشب تبص تلاقي مكتبنا، تسلم الجواب ده وتجيب رده (يخرج الخادم)
أما أقوم بقه أقلع أحسن ما انا متأمط كده (يخرج) . (ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول (الباب يخبط)
نجيبة :
مين؟ مين اللي بيخبط؟
محمود :
الأفندي هنا؟
نجيبة :
أهلا وسهلا سي محمود، أيوه اتفضل اطلع مبقاش إلا تخبط على الباب زي الغرب (يدخل) ، (بصوت واطي)
ده عامل عيان أما أشوفه لك اتفضل (يدخل محمود ومعه بعض الأشخاص الفلاحين ويلمح حتة من جسم نجيبة) .
نجيب (من الداخل بصوت متمارض) :
أهلا سي محمود.
محمود :
لا بأس عليك.
نجيبة (بصوت واطي) :
ده عامل عيان إكمنه اتأخر (بصوت عالي)
أما أشوفه كده.
محمود :
حاكم معايه جماعة فلاحين مشيعهم البيه.
نجيبة :
خليهم يتفضلوا (بصوت واطي)
ما حدش بيشوفك ليه من يوم ما تقابلنا عند نينتي.
محمود :
دلوقت نتكلم.
نجيبة (بصوت عالي) :
خليهم يتفضلوا.
نجيب (من الداخل بصوت متمارض) :
أهلا وسهلا بابن الإسبانيولي.
محمود :
شد حيلك يا أخي خد له شربة زيت.
نجيب :
الحمد لله خفيت دنا شيعت من الصبح جواب للمكتب (يخرج ملفوف في عباءة) .
محمود :
ما جاناش.
نجيب :
وحضراتهم مين؟
محمود :
دول بتوع قضية دمنهور الوحش والبيه اتأخر شوية والخصوم مجوش، والجماعة دول جم لوحدهم، فأجلنا الجلسة أسبوعين والبيه قال لي خدهم عند نجيب وخليه هو اللي يوضبهم بنفسه.
فلاحون (من الخارج) :
يا ساتر يا ساتر.
نجيب :
عارفهم اتفضلوا يا اخوانا، اتفضل يا عم حسن اتفضل يا عم عبد الجواد اتفضل يا عم سيد أحمد اتفضل يا سي مكاوي (يدخلون) .
عبد الجواد :
سلامات يا نجيب أفندي، والله سلامات من يوم ما شرفت البلد ما حدش شافك.
نجيب :
كل شيء قسمة، ولا تنتقل القدم إلا بإذن الله.
عبد الجواد :
والله تمام صدق الله العظيم مين يقول إن احنا حنشرف عندك في مصر في منزلك.
نجيب :
إنتو نورتوا بيتنا. يا واد يا حسن يا حسن ...
نجيبة (من الداخل) :
إنت ما شيعته المكتب.
محمود :
أنا سحت والله.
نجيب :
من إيه يا أخي؟
محمود :
من الحر.
عبد الجواد :
آه الشرد النهارده جامد جوي، لكن برده حكمة ربنا كويسة، بالكم يا جماعة لولا الزمطة دي ماكانش الجطن يفتح، لا لا وده كمان يجتل الدودة ويغنينا عن حريج الحطب.
نجيب :
القطن اتحسن أوي يا عم عبد الجواد، مين كان يحلم إن القنطار يصبح ب 20 جنيه.
عبد الجواد :
وانت نسيت أجرة الأرض وتمن الأوميه وتمن البذرة وأجرة الشغالة، ده بجا كله نار والمحصول هو هو جنطار ونص، وإن اتعنطظ الفدان واتخدم من بدري جوي واتخضر من أمشير يدوبك يرمي جنطارين.
نجيبة :
حسن أهو جه وبيقول ما عرفش المكتب.
محمود :
ما فيش لزوم بأه، أدحنا جينه وتعبنا رجلينه ودبنا.
نجيب :
من إيه يا أخي؟
محمود :
من شدة الحر (تسمع ضحكة من الداخل) .
نجيب :
يا واد يا حسن يا ولد أما شيء بارد.
حسن :
نعم يا سيدي.
نجيب :
اعمل قهوة وهات شوية ميه ساقعة، واختشي على عرضك ولا تخليش حد يسمعك (يخرج ثم يعود يوشوش سيده) .
نجيب :
بأه كله ما قضاش (يخرج فلوس من جيبه. يخرج الخادم) .
محمود :
بقه المسألة يا سيدي إن الجماعة دول حضروا أبل ما يحضروا خصومهم بيومين، والمسألة اتأجلت والبيه بيوصيك عليهم، واترجوني على شان يكون التقرير كويس حبتين في مصلحتهم.
نجيب :
وصية البيه على العين والراس، بس المسألة مسألة ذمة وأنا شايف أضية إخوانا ملخلخة.
عبد الجواد :
صلي على النبي هو احنا برده مش أبقالك من الجماعة دكهم، داحنا والنبي يا أفندي مظلومين، دنا بجالي راكب أرضي أدي لي سبع سنين، وخدمتها وجصبتها وصرفت عليها دم جلبي، هو مش حرام عليك برده يا أفندي إنك تأخدها مني وتديها لهم من غير تعب ولا شجا؟
نجيب :
وهم رخرين ما تعبوا في أرضهم.
عبد الجواد :
تعب عن تعب يفرج، دنا عدمت ولدي عبد المطلب فيها وكان ولد زي فلجة الجمر، كان يوم بيشتغل في الصيف في الأرض دي بعينها وجت له لطشة الشمس، دنا متنازلش عنها أبدا ولو كان في النجض والإبرام.
محمود :
بأه شوف يا سي نجيب ما تشدش مع الجماعة؛ لأنهم جماعة ومحاسيب البيه.
عبد الجواد :
آه ...
محمود :
ومع ذلك هما مش متأخرين ونويين يخضروا أرضهم.
نجيب :
لكن الجماعة دوكهم.
محمود :
عارف مش يعني خضروا أرضهم طيب دول يخضروا أرضهم أحسن وأحسن عم عبد الجواد.
عبد الجواد :
هو احنا متأخرين. سيد أحمد مكاوي. عبد العال (يطلعوا خرقا قديمة ومناديل وأكياس ملفوف عليها فلوس ويحلوها) .
نجيب :
نهايته على شان خاطركم أما أمليك دباجة التقرير (محمود يستعد للكتابة)
تقرير خبير زراعي مرفوع إلى هيأة محكمة مصر من حضرة عبد العليم بك عبده الخبير الزراعي أمام المحكمة المذكورة ... بتاريخ 14 يونيو 1914 عينتني المحكمة خبيرا في قضية المحترم الشيخ عبد الجواد لاشين عمدة دمنهور الوحش.
عبد الجواد :
والله ده كلام حلو جوي، شوف الكلام المستنير يا سيد أحمد مكاوي. عبد العال (يهزون رأسهم وتحضر القهوة ويشربوا) .
نجيب :
أهو كلام كله من ده، أوموا انتو بقأه اتفضلوا من غير مطرود خلوني أبيض التقرير.
عبد الجواد :
ما أوصيكش بجه حتة الأرض بتاعتي، أنا تتحد من بحريها شريط السكة ومن جبلي ترعة وعبد الرزاج ومن شرجي بجية الورثة ومن غربي أرض أبو شنب وفيها لبشتين ومسجة بتوعي خصوصي.
نجيب :
طيب لما المسألة كده، ما خضرتش أرضك لي ولسي محمود خصوصي ليه؟
عبد الجواد (يخرج فلوس من جيبه) :
أدي كمان يا سي نجيب هو لي بركة إلا انت وسي محمود. سيد أحمد. عبد العال. مكاوي.
نجيب :
دلوقت انت متأكد من أرضك ما حدش يقدر يفتح عينه فيها (يحضر الخادم يشيل الفناجين فينتهز محمود هذه الفرصة ويخلو به ويوشوشه. تنزل الفلاحين بعد السلام) . (محمود لنفسه: أجتهد بقى في توزيعه علشان أرجع واختلي حبتين ببنت خالتي اللي ما شفتهاش من زمن.)
محمود :
هات الفلوس وتعالى للبيه حالا على أهوة الشيشة، لاحسن هو معذور أوي اليومين دول زي ما انت عارف.
نجيب :
أديني في كعبك. وإيه فكرك الجماعة دفعوا ثمانية جنيه حنبينهم كلهم.
محمود :
إنت وكيفك دول فلاحين ولاد كلب دلوقت يقولوا له.
نجيب :
ما يقدروش أنا ححوش اثنين واحد لي وواحد لك، وانت وضبهم في السكة.
محمود :
طيب ويمكن أفوت عليك دلوأت علشان مسألة ثانية، بعد ما تكون رجعت من عند البيه، حترجع إمته؟
نجيب :
والله ما اعرفش حسب الظروف.
محمود :
غايته أرجع لك بعد ساعة ... أؤعدي بالعافية بأه يا بنت خالتي.
نجيبة (تخرج) :
ما تؤعد شوية يا سي محمود (يتغامزان) .
نجيب :
سيبيه أحسن وراه شغل، إنت حتفضلي تتعري عليه لحد إمته؟
نجيبة :
الله حتغير ولا إيه؟ ده ابن خالتي ومتربين سوه زي الاخوات.
محمود :
لا يغير إيه لا سمح الله، هو سي نجيب يغير ده بس بيناغش (نجيب مشغول بعد الفلوس ومحمود ونجيبة يتبادلون إشارات)
أؤعدوا بالعافية.
الاثنين :
الله يعافيك.
نجيبة :
كل تأخيرة وفيها خيرة.
نجيب :
حأه تمام.
المشهد الثاني
نجيبة :
مين كان يظن إن اليوم ده اللي اتعكننت في أوله تظأطط كده في آخره، وترجع الدنيا زي زمان إيدك بأه يا حظ.
نجيب :
إيدي على إيه يا ست، مش كفاية اللي خدتيه الصبح.
نجيبة :
إيدك على حاجة من اللي أبضتها، أنا سامعة الدهب بيرن والفضة بتشخشخ زي زمان.
نجيب :
هما دول بتوعي.
نجيبة :
يخي أوم بأه بلاش أونطة، أمال بتوع مين؟
نجيب :
بتوع البيه هو اللي حيأبضهم، ومشيع محمود مع الفلاحين على شان يعرف دفعوا كام.
نجيبة :
طيب وانت ومحمود تطلعوا باطه، مش تفوتوا لبعض حاجة.
نجيب :
لأ برده بنبلص الزباين في اللي فيه الإسمة.
نجيبة :
مش شغلي هات الفلوس دول وإلا أصوت.
نجيب :
تصوتي متصوتي لحد بكره أما مجنونة.
نجيبة :
متقولش مجنونة جن يلخبطك، أهو إن مكنتش تديهم لي أعمل على كيفي.
نجيب :
يا ستي دول فلوس الناس أديهم لك إزاي؟ تعملي على كيفك ما تعملي على ألف كيفك هو حد يئدر يحوشك.
نجيبة :
طيب اديهم لي ألعب بهم.
نجيب :
هو حد يلعب بالفلوس؟ (الباب يخبط)
شوفي مين.
المشهد الثالث
عبد الجواد (يدخل والباب مفتوح) :
دانا عبد الجواد.
نجيب :
خيرا. خشي يا ستي شوية من وش الضيف.
نجيبة :
دول فلاحين هم دول كمان أفندية ولا ولاد بلد، هو ده راخر محمود.
عبد الجواد :
أيوه والله صدجت برده الست ... إحنا ناس على نياتنا وملناش في الحاجات دي.
نجيب :
حاجات إيه يا شيخ عبد الجواد.
عبد الجواد :
يعني لو كانت الست من دول جدامنا عريانة وهي زي الشمعة، نفسنا ما تشتهي الحرام ده واصل.
نجيبة :
يوه جتك إيه يا عم عبد الجواد، واصل إيه يا راجل كمان.
نجيب :
إحنا في إيه والا في إيه، مين قال حرام ولا حلال.
عبد الجواد :
يعني بجول يعني واحنا النهارده اخوات.
نجيب :
مفهوم.
نجيبة :
ده طبعا.
نجيب :
خيرا يا حضرة العمدة.
عبد الجواد :
أنا جاي من ورا الجماعة اللي كانوا معاي على شان أوصيك على مسألة صغيرة.
نجيب :
اتفضل.
عبد الجواد :
يعني بجول لما المحكمة نزلت الخبيري الأولاني أنا برضه خضرت أرضي، ولا جاش منه فايدة. فأنا خايف يعني المرة دي تطلع زي المرة دوكهة.
نجيب :
لا لا أبدا.
نجيبة (بصوت واطي) :
أبلصه يا أهبل.
نجيب :
اسكتي انت يا ستي، خشي بيتك وسيبيني أشوف شغلي.
نجيبة (لزوجها بصوت واطي) :
والله ما انت حارت (لعبد الجواد)
إنت عاوز الحق والا ابن عمه يا سي عبد الجواد؟
عبد الجواد :
لا عاوز الحج جوي.
نجيبة :
يا اخويه والنبي كلامه حلو.
عبد الجواد :
والله ما حلو إلا كلامك.
نجيبة :
خضر أرضك.
نجيب :
يا ستي خشي جوه.
عبد الجواد :
يا نهار زي البرسيم الأخضر أنا مخضرتها يا ست ...
نجيبة :
أم نجيب.
عبد الجواد :
يا ست أم نجيب.
نجيبة :
لا يعني خضرها كمان.
عبد الجواد :
هي الأرض يا ناس تتخضر كام مرة؟
نجيبة :
تتخضر يا مرتين كويسين يا مرة كويسة أوي.
عبد الجواد :
والتجرير يا ست أم نجيب مش برده حينكتب لمصلحتي؟ دنا أرضي تعبان عليها وشفت في خدمتها الغلب كله.
نجيبة :
علي أنا متخفش، إن ماكانش تأرير على كيفك ما ابآش أم نجيب (الرجل يحل كيسه ويدفع) .
نجيب :
والله أهي سلكت.
نجيبة :
والنبي يا سي نجيب، إن ما كنت تكتب له تأرير على كيفه ما تعرف إلا خلاصك.
نجيب :
من غير ده وده.
عبد الجواد :
إيدك بأه لما أبوسها.
نجيبة :
يوه لأ ما يصحش.
عبد الجواد :
والله لأبوسها (تعطيها له) .
نجيبة :
وابأه افتكرنا بشوية عسل بشوية بصل، برده الأرض ما تستغناش.
عبد الجواد :
بالك انت يا ست أم نجيب، إن كسبت أنا الجضية دي مالك مني إلا زيارة زبدة تحلفي بها العمر كله.
نجيبة :
أنا برده عشمي كده في حضرتك، وسي نجيب يحب الفطير المشلتت وانا أحب البرام اللي في الفرن بالرز والحمام.
عبد الجواد :
إن شاء الله المرة الجاية أوكلكم من ده ومن ده اجعدي بعافية ... يا سي نجيب بيه الحد البحري جسر السكة والجسر الجبلي عبد الرزاج الدحداح والشرجي بجية الورثة.
نجيب :
أنا عارف إن شاء الله في محل النزاع.
عبد الجواد :
لا ما فيش نزاع ولا حاجة، واللي يجول لك نزاع حط صباعك في عينه، دانا صاحب الأرض وواضع اليد أبا عن جد، ورفعت جواضي منع التعرض وكسبتها.
نجيب :
محل النزاع يعني محل الأرض.
عبد الجواد :
إن كان كده معلهش، سلام عليكم أما ما فيش نزاع أبدا واصل.
نجيب :
عليكم السلام.
عبد الجواد :
يبجا عيب يا سي نجيب بيه ...
نجيب :
هو إيه لا سمح الله؟
عبد الجواد :
إن جلت انت يعني لحد من الجماعة اللي كانوا هنا، لحسن أنا جاي من وراهم علشان تشوف صالحي وتكتب التجرير علشاني.
نجيب :
ده طبعا ما انت قلت لي في الأول.
عبد الجواد :
أوعه تنسى، السلام عليكم.
نجيب :
ما تخافش، عليكم السلام ابأه آبلني ...
عبد الجواد :
فين؟
نجيب :
في محل النزاع.
عبد الجواد :
جول عند الأرض أحسن، جلبي بيجع في جعور رجليه لما باسمع الكلمة دي .
نجيب :
طيب عند الأرض عليكم السلام (يخرج عبد الجواد) .
المشهد الرابع
نجيبة :
إيه رأيك يا حظ؟
نجيب :
لا والله جدعة برضه عرفتي تبلصيه. أهو اثنين جنيه أحسن من عينيه.
نجيبة :
ما تبآش بأه تخاف علي، دا البلص ده مسألة بسيطة، يا ناس دانا ما كنتش فاكراه كده.
نجيب :
أمال لو تشوفي البيه في مسألة جد تعملي إيه؟
نجيبة :
بيعمل إيه يا دلعدي، أحسن مني والا إيه؟!
نجيب :
هو والله له نظرة في الزباين؛ اللي يشوفه غلبان ومنكسر يقول له ما تصلي على النبي وتخضر أرضك، واللي يلائيه معصلج وعندي يقول له تخضر أرضك والا اكتب لك تقرير زي وشك، خضر أرضك.
نجيبة :
والله عنده حق، أهم الفلاحين المغفلين دول ما يجوش إلا بكده (الباب يدق)
ده مين ده كمان؟
مكاوي (من الخارج) :
سلام عليكم يا سي نجيب، دنا مكاوي.
نجيب (لنجيبة) :
ده واحد منهم مهم ... دلوأت يكروا واحد ورا التاني من ورا بعض، وكل واحد عاوز تأرير أحسن من أخوه، وعاوز يدفع فلوس تانية، وأنا عارفهم ده نهار زي الإشطة الخضرا، يا ليلة الأنس عودي لنا.
نجيبة :
طيب سيبني عليه.
نجيب :
أهو أدامك (لمكاوي)
اتفضل (تخرج الزوجة ويدخل مكاوي) .
مكاوي :
حاكم أنا جاي من ورا الجماعة، جلت لهم حصلي الضهر في سيدنا الحسين، حاكم أنا كنت رايح أعطر للأولاد بدي أطاهرهم.
نجيب :
عقبال البكاري.
مكاوي :
عجبال عندك ونفرح لك كده ونزورك، وبعدين جلت لما أفوت على نجيب أفندي وأوصيه وصية خصوصي.
نجيبة :
سي نجيب سي نجيب، خد أما أقول لك.
نجيب :
عندي شغل بلاش خوتة.
نجيبة :
ده كمان شغل ضروري.
نجيب :
أوه مش فاضي.
نجيبة (تدخل متغمغمة) :
يوه دنا ما كنتش أحسب عندك حد.
نجيب :
إن كان على كده ما يهمش، لأنه ده سي مكاوي أخونا ومنا وعلينا من الجماعة اللي كانوا هنا دلوأت.
مكاوي :
لا لا مش كده أمال، دنا مش عاوز الجماعة تعرف.
نجيب :
الجماعة أنهم دول؟
مكاوي :
جماعتنا.
نجيب :
لكن دي جماعتي اللي بتتكلم.
مكاوي :
إن كان كده معلهش.
نجيبة :
العواف يا سي مكاوي.
مكاوي :
يا ميت ألف عافية يا ست أم ...
نجيبة :
نجيب.
مكاوي :
يا ست أم نجيب.
نجيبة :
هو انت يا دلعدي لك أضية؟
مكاوي :
أيوه، ونزلوا فيها سعادة البيه خبيري وعاوزين بجا التجرير يكون على كيفي، وسيبك يا سي نجيب من دوكهم.
نجيبة :
والله اللي بيكتب التأرير وبيمأأ عينيه هو سي نجيب، وسعادة البيه ماله شغلة ... غير يحط الفرمة.
مكاوي :
ما أنا عارف العبارة دي.
نجيبة :
التآرير اللي بيكتبها سي نجيب كلها حلوه وأصحابها بيكسبوا قضاياهم.
مكاوي :
بدي أنا كده أنا راخر أكسب الجضية وأغيظ الأعادي.
نجيبة :
بس الواحد يختشي يتكلم يا سي مكاوي.
مكاوي :
ليه اللي يختشي من بنت عمه ما يجبش منها غلام.
نجيبة (تضحك) :
يو جتك إيه يا مكاوي، ده مثل شفتشي أوي، طيب حيث إن عينك أوية كده ما تخضر أرضك.
مكاوي :
حاضر على العين والراس بس كده، ما لي بركة إلا انت يا ست أم نجيب بيه، أمال أنا جي وحدي من ورا الجماعة ليه (يطلع فلوس يعطيها) .
نجيبة :
لا لا والله يا سي مكاوي ما فيش لزوم للحاجات دي، إحنا نشوفك من غير شيء.
مكاوي :
لا لا ما فيش فرج بينا وبين بعضنا، غيرشي دول تمن عصبة للست جماعتك.
نجيب :
طيب ما تجبش سيرة لحد.
مكاوي :
يا سلام هي حصلت. دا عيب يا سي نجيب بيه الكلام ده عيب.
نجيبة :
سي مكاوي، إنت حتجي مصر إمته علشان نبأه نعمل لك عزومة.
مكاوي :
الجمعة الجاية.
نجيبة :
طيب ابأه امال افتكرنا بزيارة.
مكاوي :
والله من غير ما تجولي انت، أنا عملت حسابي على العبارة دي، التجرير يا سي نجيب.
نجيبة :
لا ما تخفش أنا حوصيه لك تمام، والبيه ما يعملش حاجة من غير رأي سي نجيب.
مكاوي :
اجعدوا بعافية (يخرج) .
الاثنان :
الله يعافيك.
نجيبة :
أهو ثمن الكردان جه، ربنا كريم.
نجيب :
كردان! كردان إيه كمان يا ست هانم وأجرة البيت اللي متأخرة بآلها شهرين، والحجز والسمن وقسط الخياط اللي رافع دعوى.
نجيبة :
أنا مالي، أنا شفت في بيت شعيب العشيري كردان حياكل حتة من رأبة ست جلفدان هانم. وأنا مالي أنا عاوزة كردان.
نجيب :
لا ما فيش كردان.
نجيبة :
لأ فيه.
نجيب :
لا ما فيش.
نجيبة :
بعدين أعمل على كيفي.
نجيب :
على كيفك إزاي؟
المشهد الخامس (الباب يدق)
حسن الخدام :
مين؟
زنوبة :
إحنا يا واد افتح (تدخل الفاميليا)
هو احنا ما نجيش نلائي الباب مفتوح في وشنا أبدا.
نجيبة :
نينتي (تنط)
نينتي يا بابا نينة نينة.
محمد أفندي :
إزيك يا أختي كل سنة وانت طيبة (بفتور)
نهارك سعيد يا سي نجيب (قبل أن يستطيع الجواب) .
نجيبة :
ما ترد، مالك مبلم كده؟
نجيب :
مش مبلم بس بابص للجماعة أحسن وحشوني أوي.
زنوبة :
بتتنأور بأه يا سي نجيب، ما نجيش عندك يوم ونلائيك زي الخلأ، والنبي دي حاجة تزهأ، لو كنا عارفين النسب كده كنا حاسبنا أبل ما تناسبنا.
محمد أفندي :
بس يا ستي امال إيه أستغفر الله العظيم من كل ذنب، إنت مالك ومال الناس، إنت جاية تزوري بنتك والا تتخانئي (لبنته)
إزيك يا أختي.
نجيب :
أول لها يا سيدي أول لحماتي.
زنوبة :
حماة الشوم واللوم. إن شاء الله إن كان لي جوز بنت.
نجيب :
تعدميه.
زنوبة :
الشر بره وبعيد، أنا ما قلتش نجيب بأه، أما أقول لك أنا ما تحملش الحاجات دي، وبنتي كمان جتتها مش خالصة.
محمد أفندي :
نهايته، إزيك يا أختي.
نجيب :
عنها ما خلصت أنا حعمل لها إيه (يحصل تشنج للزوجة) .
زنوبة :
اسم الله يا اختي، اسم النبي حارسك، بخور يا ناس، كده يا نجيب كده يا جوز الغبرة، كده يا وش النكد انت (لزوجها)
أنا ما قلت لك يا راجل ما تجيش النهارده، اسم الله، اسمك إيه يا حبيبي؟
نجيبة :
علي.
زنوبة :
اسم الله صلاة النبي يا سي علي. النبي تعفي عن أختك، يا علي عاوز إيه؟
نجيب :
عاوز كردان ذهب.
زنوبة :
كردان ذهب حاضر من عينيه الاثنين.
نجيب :
كردان أنا عارف برده المسألة حتنتهي على كده، لكن مش لو حضر سي علي ده لو جت ملوك الجن كلها ما انت واخدة الفلوس دي (يزداد هياج نجيبة) .
زنوبة :
انزل انزل يا جدع من البيت، حتموت لي البت.
نجيب :
أنزل من البيت، من بيتي، وأسيب الجن فيه؟!
محمد أفندي :
معلهش يا سي نجيب ولو خمس دقايق، اقعد على القهوة اشرب لك فنجان سادة على ما تروأ البنت.
نجيب :
يا سيدي دانا عندي عشر تآرير بدي اكتبهم.
محمد أفندي :
طيب اكتبهم على القهوة.
نجيب :
والمستندات اللي بدي أطبقها على الطبيعة.
محمد أفندي :
يا سلام من طبيعتك يا سي نجيب (يرتفع صوت العفريت ويزداد التشنج) .
نجيب :
يا اخي نهايته لما أنزل وأسيب لكم الدنيا، أحسن تملوا البيت عفاريت (يتجه نحو الباب) ... (ستار)
الفصل الثالث
المشهد الأول
زنوبة :
أومي يا اختي اصحي أهو نزل.
نجيبة :
آه آه أنا فين جرى لي إيه؟
زنوبة :
في بيتك يا نور عين أمك في بيتك، جرى لك كل خير يا حتة من كبدي.
نجيبة :
يا واد يا حسن.
حسن :
نعم يا ستي.
نجيبة :
سيدك نزل؟
حسن :
أهو انكشح.
نجيبة :
اعمل أهوة يا واد يالعجل.
حسن :
على النار يا ستي.
نجيبة :
السكر عندك يا واد في الصندوق الكبير، والبن الطاظة في العلبة الصفيح اللي في الصندرة.
حسن :
حاضر يا ستي عارفهم.
نجيبة :
طلع الفناجيل الكبيرة البيشة، اللي بيشرب فيهم بابا ونينة.
حسن :
طلعتهم.
نجيبة :
تاكلي إيه يا نينتي؟
زنوبة :
إحنا شبعانين يا اختي.
نجيبة :
طيب خدوا اللحمة والخضار اطبخوها في البيت، أحسن المخبل يجي يخانئنا.
محمد أفندي :
برضه رأي والله، أنا نفسي في البدنجان المحشي.
نجيبة :
أبيض والا اسود يا بابا؟
محمد أفندي :
كل ما اسمعهم يقولوا بدنجان أبيض حشو معدن ريئي يجري علي.
نجيبة :
طيب خد يا بابا انت الفلوس، وانت انزل والواد حسن اشتري اللي انت عاوزة من سويقة المناصرة.
محمد أفندي :
طيب يا بنتي (يدخل الخادم بالقهوة ويشربوا) .
زنوبة :
ما تقولش للجزار للفرم أحسن يطسلأها ويدبأها من كل حتة شوية، خليه يشفيها وبعدين قل له افرمها، وخد الدهن لوحده من اللحم.
محمد أفندي :
طيب برده رأي.
زنوبة :
أوعك ياخد منك أكتر من التسعيرة، وإن عصلج على التمن من شارع الترب.
محمد أفندي :
لأ متخافيش علي.
زنوبة :
أيوه محسب بالنبي (ينزل)
احكي لي يا بنتي، الراجل آل إيه على السمن؟
نجيبة :
اسكتي يا نينة ده صرخ وطلع من دينه، لكن برده دخلت عليه.
زنوبة :
أحسن من عينه هو ما فيش غيره ياكل سمن بلدي ولا إيه.
زوجة :
أهو برده ربنا فكها النهارده.
زنوبة :
رزق اخواتك.
نجيبة :
خدي يا نينتي الثلاثة جنيه دول.
زنوبة :
محسبة بالنبي ومحفضة بالصالحين.
نجيبة :
بقوا كام يا نينة؟
زنوبة :
أهم واحد واربعين.
نجيبة :
أظن إنهم ثلاثة واربعين.
زنوبة :
لا وحياتك يا نور عيني هم حيروحوا فين.
نجيبة :
طيب ابقي عديهم علشان بدي أشوف لي نص بيت أحطهم فيه، ويبقى يلمني لما أطلق من المسخم ده.
زنوبة :
كان أبوك كلم المعلم أحمد البديهي شيخ الحارة، ووصاه على نص بيت في الحتة، ولما عرف إنه على شانك آل على راسي وعيني.
نجيبة :
مش عم أحمد.
زنوبة :
أيوه مهو مربيك من صغرك وشايلك على كتفه، وكنتي تئولي له يابا ولا اتأطعتش رجله من عندنا إلا لما الناس استشاعت وأبوك زعل علي. حاكم المعلم أحمد شعبان عؤبالك أشيته معدن، وله ستة بيوت في الحتة.
نجيبة :
يا ريت أبويا عمل شيخ حارة.
زنوبة :
مين عارف كل شيء [قسمة] ونصيب.
نجيبة :
من حأ يا امه، شوفي لي بختي من زمان ما فتحتليش الورق.
زنوبة :
بافتحولك كل يوم يا نور عيني.
نجيبة :
افتحيه لي أدامي. يا حسن هات الكتشينة.
حسن :
حاضر يا ست (يحضرها) .
زنوبة (تفنط وتاخد ورقة وتعطيها لبنتها توشوشها) :
فال خير سلام فال نجيبة بنت زنوبة ونجيب جوزها ابن الحرام. يا ورأ يا فصيح أمك العشرة الطيبة وأبوك الدوه الأسباني وخالك الخواجة المليح (تفتح الورق)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
نجيبة :
إيه يا نينة؟
زنوبة :
مقفولة يا بنتي.
نجيبة :
افتحيها كمان مرة.
زنوبة (تفتحها ) :
شايفة كلام كتير ومجلس رجال في عتبتك، وزعل أدامك ووراك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وراجل غريب في فرشك.
نجيبة :
ده سي محمود؟
زنوبة :
ده راجل كبير وعينه سودة.
نجيبة :
مين عارف يمكن البيه، حاكم بآله زمان مجاش، لو كان نجيب هنا كان اتجنن.
زنوبة :
طيب وهو انا كنت اقول الكلام ده أدامه (يسمع زعيق)
يا حوستي ده صوت أبوك (يدخل محمد أفندي هدومه مبهدلة) .
محمد أفندي :
والله لأوديه في داهية، أنا وراه المسلول أصفر اللون، أبو علة ابن الكلب أبو سنان عيرة.
زنوبة :
جرى إيه يا ابو فاطمة؟ واد يا حسن.
حسن :
سيدي اتخانئ مع الجزار ووداه التمن، والجزار إداله ألمين طيبين وكتبوه مخالفة وقال 100 قرش على جزمتي، خد يا ابن الكلب على مخك يعني على مخ سيدي.
نجيبة :
اختشي يا واد.
محمد أفندي :
لكن برده خدت اللحمة غصب عن عينيه.
زنوبة :
أهو الشر اتفسر، أوم اغسل وشك وروأ (يدخل ليغسل وشه وتسرع الزوجة في تسريح شعرها يعود الأب) .
محمد أفندي :
ياله بنا بأه.
زنوبة (تقوم) :
ما تنسيش السمن ... إنت طحنت بن يا واد يا حسن؟ إديني تعميرتين يا واد.
نجيبة :
حسن هات العلبة هنا وهات ورأة جرنال من اللي بيئراهم المنيل على عينه.
حسن :
حاضر يا ست (يحضر الطلب. وداع وبوس وانصراف) .
نجيبة :
واد يا حسن.
حسن :
نعم يا ست.
نجيبة :
أوعك تأول له يا واد.
حسن :
لا يا ست.
نجيبة :
ده بيضربك.
حسن :
جته ضربة على ألبه، وواكل علي ماهية شهرين.
نجيبة :
طيب يا واد اغضب الليلة، وأول إنك عاوز تسافر بلدك، وأنا أجيب لك ماهيتك وبعدين أؤعد.
حسن :
طيب يا ستي.
نجيبة :
بص يا واد كده شوف سيدك محمود (تتزين) .
حسن :
أهو جاي يا ستي من عطفة المحكمة.
نجيبة :
طيب شاور له يا واد، أوعك حد يشوفك (ويطلع محمود ويعطي الخادم إرش ويصرفه) .
المشهد الثاني (محمود يدخل)
محمود :
هوه نزل؟
نجيبة :
من الصبح من أبل بابا ونينة.
محمود :
هي خالتي كانت هنا؟
نجيبة :
أيوه وروحوا ونزلته لك على ملا وشه.
محمود :
إزاي؟
نجيبة :
عملت لك متزارة والأسياد وبأه.
محمود (يضحك) :
الفتحة لبني ممه.
نجيبة :
لا والنبي يا محمود ما تهزأش بالأسياد.
محمود :
الله طيب ما انت اللي عملت كده، هو فيه أسياد؟
نجيبة :
أمال، ربنا يجعل كلامنا عليهم خفيف.
محمود :
طيب علشان عيونك انت يا خفيفة (ممازحة) .
نجيبة :
لأ أوعا أحسن حد يجي.
محمود :
ما تخافيش أنا وصيت الواد حسن، وخليته يؤعد على الباب، وساعة ما يشوف نجيب يدينا خبر.
نجيبة :
وإن كان حد تاني يقول ستي مش هنا.
محمود :
لا أحسن فيها شبهة، قلت له يسيبه يطلع ويعمل مش شايفه.
نجيبة :
هو الواد فهم ده كله؟
محمود :
ده فرار على كيفك هي أول مرة.
نجيبة :
عمرك أطول من عمري، كنت حأقول لك كده.
محمود :
إمتى بأه تطلأي من البأف ده، وتبئي لي أنا لوحدي، أهي خالتي كل يوم تفتح لي الورأ وتئول لي المسافة أربت، وكل المسافة ما بتأرب كل ما ألئيها بعيدة زي يوم الإيامة.
نجيبة :
أديني باسود لك في عيشته، أهو النهارده لا خليته يستحمى ولا يغير هدومه ولا يفطر وآخرته، وكل يوم على المعدل، وده لحد ما يطهأ.
محمود :
يعني لو كان ربنا هدا خالتي وجوز خالتي، مش كنا دلوقت متهنيين مع بعضنا.
نجيبة :
وأنا أعمل إيه، ما هو انت يا محمود اللي كنت مش لاقي لك شغلة، والمهبب ده كان مستخدم في الدخولية وكانت أشيته معدن.
محمود :
ويعني هو عمر في الدخولية، أهي روخرة لغوها.
نجيبة :
طيب ما هو برده شوية الحسابات اللي يعرفها نفعته عند البيه، واستخدم على حسها، وخدمك وياه وادحنا برده متمتعين.
محمود :
لكن بنشوف بعض كل حين ومين، لما يسافر صاحبنا مع البيه، نهار ما اسمع خبر انتقال لمحل النزاع تترد روحي.
نجيبة :
وأنا كمان مشحتفة عليك، لكن بأه نعمل إيه بكره يزهق ويطلأ.
محمود :
مش نتجوز في ساعتها ولا نستنى عدة ولا حب.
نجيبة :
ربنا يسمع يا اخويا منك ويكون عدلها لك، وبئيت تكسب لك أرشين كويسين حتى ولو ثلاثة جنيه في الشهر نعيش بهم.
محمود :
ما تبئيش يا جوجو تلطمي في خلقتي زي ما بتلطمي في خلقة صاحبنا.
نجيبة :
تف من بؤك، إخص عليك، غيرشي ده الكره اللي بيخليني أسبخ له، لكن إحنا مع بعضنا ده يبأه شيء تاني.
محمود :
إحنا حنفضل أعدين هنا في الفسحة الكتمة دي؟
نجيبة :
لا أوم لما أفرجك على الفستان الجديد اللي جبته من عند الخياطة.
محمود :
أيوه كده امال، هو يا ترى يرجع إمته؟
نجيبة :
ما يرجعش إلا في الليل، علشان هو عارف إن نينتي وبابا هنا لحد العشا (يدخلان لمشاهدة الفستان) .
بربري (من الخارج) :
يا ست خدي شوية ميه علشان سباك هيأفل مواسير ويفته المهبس والهدام بتاءك مش آوز يطلأ يكلمك (ينزل) .
غسالة (تكون امرأة خنقاء) :
يا ست ... يا ست نجيبة هانم.
نجيبة (من الداخل) :
مين؟
غسالة :
دنا أم شفيأة الغسالة، دنا كنت جاية امبارح وبعدين الست أم رويستنو اللي في حارة النصارى شيعت لي علشان والدة عؤبال عندك، ورحت لها شطفت لها حتتين.
نجيبة (من الداخل) :
يا أم شفيقة إبئي تعالي بكره من بدري.
غسالة :
لو كنا ننأع الحتتين من دلوأت على ما اجي الصبح، يكونوا اتبلوا ورخوا وسخهم حبتين، أغلي عليهم واخدهم فمين أحسن مالغسيل بيتغسل من غير نأع بيأرح.
نجيبة (من الداخل) :
أنا مش فاضية يا أم شفيقة، بس في إيدي بدنجانتين بأورهم واحشيهم.
غسالة :
أجي أساعدك يا ست؟
نجيبة :
لا روحي انت دلوأت.
غسالة :
طيب أعدي بعافية، أؤعدي بعافية يا ست (تخرج نجيبة في فستان جديد وتمسح في عرقها وبعدها بشوية يخرج محمود) .
نجيبة :
إيه رأيك في الفستان؟
محمود :
دا شيء معتبر! يا ريت كل الفساتين كده، مبروك عليك يا حبيبتي، عقبال ما تدوبي عدد خيطانه.
نجيبة :
في حياتك هئ هئ وفي حضنك.
محمود :
أما أقوم أنا بأه أديني بليت ريقي الحبتين دول.
نجيبة :
لأ لأ والنبي إلا لما تدوء المربة اللي عملتها (تدخل وتعود بمربة يأكل محمود ويستلذها) .
محمود :
الله! مربة إيه دي ؟
نجيبة :
مربة أرع إستانبولي.
محمود :
أرع! أرع ده اللي باكله؟
نجيبة :
أيوه أرع هو الأرع كفر والا إيه؟! ده المسخم جوزي يحبه زي عينه.
محمود :
الناس مزاجات، أنا محبوش إلا محشي.
نجيبة :
كل ده كويس، إن شاء الله تحبه على شان أبأه أعمل لك منه لما تجوزني (تضحك) .
محمود :
ما نفسيش أسيبك لكن آه عندي شغل في المكتب.
نجيبة :
من حأ نسيت أول لك الفلاحين ما رجعوا.
محمود :
آني فلاحين دول؟
نجيبة :
اللي كانوا هنا الصبح رجعوا واحد واحد ورا بعض.
محمود :
رجعوا يعملوا إيه؟
نجيبة :
قلت لهم خضروا أرضكم، آموا فهموا ودفعوا أربعة جنيه (ضحك) .
محمود :
طيب سلفيني جنيه يا نجيبة.
نجيبة :
ما انت واخد جنيه أول امبارح، سرأته لك من جيب الراجل وكان حيتجنن.
محمود :
والنبي يا نجيبة أحسن ماعنديش فلوس للخياط وأديكي شايفة. ما انت بالصاهم في أربعة جنيه.
نجيبة (تعطيه) :
طيب اتعلم كويس الشغل علشان نبأه ندوره سوه، أوعك تزعل البيه وخليه يحبك علشان مكتب الخبير كنز يا أهبل أوعك تضيعه من إيدك، وأنا ساعت ما اطلق أخلي البيه يطرد المخبل.
محمود :
يطرده إزاي؟
نجيبة :
بس مش شغلك أئول له ده كان معذبني ومغلبني وبيضربني واتجوز علي.
محمود :
طيب والبيه ماله ومالك؟
نجيبة :
دا راجل كبير في السن، والبيه طيب ويحب الولايا اللي زي حلاتي.
محمود :
أوعك يا نجيبة يكون ...
نجيبة :
اختشي يا شيخ ده زي والدي.
محمود :
من حأ أنا بشوفه يجي هنا كتير.
نجيبة :
يجي علشان ما يئول لسي نجيب على حاجات في الشغل، طيب وإيه يعني إذا كان بيجي هو حيئوم لا سمح الله.
محمود :
حاكم الراجل بتاعنا مشهور وتقيل أوي وحبيب.
نجيبة :
طيب ومهما كانت الحال، هو أنا بابان عليه طيب دانا زي ولاده.
محمود :
الراجل ملوش ولاد ولا هواش مجوز وماشي على كيفه ولا يعتأش.
نجيبة :
ده انت خبير أوي بأحواله.
محمود :
كل خبير وفوقه أخبر منه.
نجيبة :
يا اخي إحنا مالنا وماله سيبنا بأه من سيرته.
محمود :
طيب أؤعدي بالعافية بأه، أما أروح المكتب أحسن ورايا شغل.
نجيب :
حتجي إمته؟
محمود :
يمكن بكره والا بعده، لما ينتقل سي نجيب لمحل النزاع إن شا الله ينتقل لرحمة الله.
نجيبة :
ليه يا شيخ أهو موارينا حبتين لحد ما تتعدل.
محمود :
برده رأي على رأي جوز خالتي.
نجيبة :
ما تغبش.
محمود :
لا بس ابقي خضري أرضك.
نجيبة (تضحك) :
حاضر من عينيه (يخرج. يسمع طرق باب) .
المشهد الثالث
نجيبة :
مين؟
عديلة :
أنا أم حسين.
نجيبة :
أهلا وسهلا ألف ميت مرحبة (تدخل وبوس)
والنبي أنا كنت في سيرتك امبارح العصر، دي غيبة بالويبه.
عديلة :
والنبي يا نجيبة بافكر فيك في كل ساعة واختها بس تلائيني من يوم ما رجعنا من شبين القناطر وأنا مش عارفة مالي عيانة كده.
نجيبة :
ليه بعد الشر بتحسي بإيه؟
عديلة :
جتتي كده مهمدة، وأوم من النوم زي اللي مضروبة علأة.
نجيبة :
سلامتك، ما هو انت متعودة تخشي العشبة كل سنة ولا دخلتيش السنة دي ليه؟
عديلة :
المسخم جوزي عاوزني أبطلها وبطلتها. وآل دي بتتكلف بهريز 21 يوم ولحمة ضاني وعسل وبندأ ومحلب. آل ولا لوش أدرة على الحاجات والعشبة آل دي من علم الركة.
نجيبة :
طيب هو انت محتاجة له، ما تخشيها من فلوسك، هو يا اخي الأجواز مالهم بئوا عرة ويفضحوا كده!
عديلة :
هو أنا أقدر أبين مليم من الأرشين، أحسن يقول لي انت مأطوعة من الدنيا وجبتيهم منين، وبسلامته ما بيدنيش مصروف أحوش منه، تلائيني شايلة الإرشين اللي باخدهم من أبو دنيا وباتحسر عليهم.
نجيبة :
هو العمدة بتاعك اسمه أبو دنيا؟ يو جتك إيه، ده باين عليه راجل تقيل من اسمه، وده عرفتيه إزاي؟
عديلة :
كان المنيل جوزي راح يحجز عليه آم ترجاه وإداله عشرة جنية، وعمل محضر عدم إيه عدم وجود شيء، وضيع على الخواجا اللي كان رافع الدعوى على البيه بين 200 جنيه ولا 300 جنيه، آمت بأت صحوبية من نهارهه، وكان كل ما يجي ينزل عندنا وكل ما يعرف إن جوزي غايب يحود يستحما ويغير والذي منه .
نجيبة :
ويحط إيده في اللي فيه الإسمة.
عديلة :
ده طبعا.
نجيبة :
يا بختك يا ريت ألائي لي واحد يعمل له جوزي محضر، ده المسخم بيعمل تآرير.
عديلة :
إياك يعمل لواحد تآرير عدم (الباب يدق) .
نجيبة :
مين؟
عديلة :
أما أقوم بقى.
نجيبة :
والنبي تقعدي يا أم حسين لما تشربي الأهوة، وتبقى تفرجيني على عمدتك ده.
عديلة :
طيب والنبي لاعرفك يوم يكون عندي، واخليكي تبصي عليه من خرأ الباب (يدق الباب) .
نجيبة :
طيب (تنزل عديلة وبوس)
يدخل خادم.
المشهد الرابع
خادم :
البيه شيعني وآل شوف سي نجيب في البيت، هو عاوز يجي شوية.
نجيبة :
قول له مش هناك، خليه يتفضل.
خادم :
حاضر يا ست. سعيدة.
نجيبة :
سعيدة. بقه نجيب ما قابلوش لازم بيدور عليه، دلوقت يغيب للمغرب، ده إيه ده نهارنا ده! يا بيتنا يا بريمو، ملحة في عين اللي ما يصلي على النبي، الداخل أكثر من الخارج، إياك كل يوم الميه تنقطع خللي الرجل تجري.
البيه (من الخارج) :
إحم إحم.
نجيبة :
تفضل (يدخل)
أهلا وسهلا دحنا زارنا النبي.
البيه :
يا صباح الفل إزيك يا أطئوطة، فين سي نجيب امال؟
نجيبة :
سي نجيب خرج يقابلك ولا يجيش بقه إلا بعد العشا، تحبها سادة ولا بسكر؟
البيه :
اعمليها سادة ولقميها بصباعك تئوم تروء وتحلى.
نجيبة :
الأهوة الرايأة ما تكيفش.
البيه :
طيب المقصود ما تعكريهاش، انت بتشربيها إزاي؟
نجيبة :
إنت علمتني القهوة التقيلة.
البيه :
أنا علمتك؟! ما تظلمنيش إنتي متعلماها من يومك.
نجيبة :
لكن بأه أهوتك أطعم.
البيه :
متئونة يعني؟
نجيبة :
زي كده.
البيه :
والله بركة اللي وصلنا للسن ده، وبتمدح الزغاليل أهوتنا.
نجيبة :
ده إيه ده يا بابا.
البيه :
بابا إيه ما تخضنيش امال.
نجيبة :
يا راجل شيبتك على خدك يا اللي ما تختشي.
البيه :
ليه وانا عملت إيه؟ أنا منا آعد محتشم.
نجيبة :
أيوه شوف كلمة غير دي.
البيه :
طيب آعد مسلم نفسي.
نجيبة :
لمين؟ أما انقي لك الشعرتين البيض.
البيه :
لا سيبيهم أحسن يكتروا.
نجيبة :
الحنة الحنة يا أطر الندا.
البيه :
وبعدين يا بت انت. هو الشيب عيب؟
نجيبة :
لا يعني الصبغة باينة أوي. أما أئول لك.
البيه :
إيه؟
نجيبة :
ححطلك على شنبك أوكسجين.
البيه :
ليه يعني؟
نجيبة :
يبأه شعرك زي الدهب.
البيه :
طيب (تعود وتعمل له) .
نجيبة :
أؤعد عدل.
البيه :
وده كله ليه؟
نجيبة :
علشان تتدارى المسألة شوية.
البيه :
فشرت دانا أصبيك وأصبي عشرة زيك.
نجيبة (تنتهي من الصبغة) :
أما أجيب لك المراية (تعود بها)
شوف بأه.
البيه :
ده والله كويس (تأخذ زجاجة من جيبه) .
نجيبة :
لئيتي حلالي (تخبيها وراء ظهرها)
حذرك.
البيه :
ورأة بعشرة جنيه.
نجيبة :
لا.
البيه :
ورأة بخمسة جنيه.
نجيبة :
لا.
البيه :
ورأة بجنيه.
نجيبة :
لا.
البيه :
أهو ما فيش غيرهم في جيبي.
نجيبة :
إزازة وسكي.
البيه :
أوه ده وسكي أديم من اللي باحطه في الزمزمية.
نجيبة :
ليه بأه؟
البيه :
لما باتنئل لمحل النزاع آخد معاي شوية، أطري بهم ريئي أحسن من الميه الوسخة اللي عند الفلاحين.
نجيبة :
طيب ولما يشفوك؟
البيه :
أئول لهم دا دواء يصدقوا.
نجيبة :
شايب وعايب. طيب وإيه ده؟
البيه :
ده ملبس علشان الزغلولة.
نجيبة :
وده؟
البيه :
دي رواية مضحكة.
نجيبة :
رواية مضحكة، يعني إيه؟
البيه :
يعني كتاب يسلي.
نجيبة :
زي دلايل الخيرات بتاع بابا؟
البيه :
لا لا دا شكل ودا شكل، قلت لك دا كتاب يسلي.
نجيبة :
وهو انت ما تفرغش من التسالي أبدا.
البيه :
هو حد واخد منها حاجة، من حأ إحنا مش نشرب لنا كاس وناكل ملبستين ونمهط مهطتين؟
نجيبة :
دا طبعا أما أجيب البريمة.
البيه :
أنا معاية (يفتح الزجاجة)
أديني فضيت بكارتها.
نجيبة :
يا اخي فضك من الكلام ده وسيب الهزار بأه (يشربان) .
البيه :
يدندن (في مجلس الأنس) .
نجيبة :
بشويش أحسن الجيران يسمعوك.
البيه :
طيب أنا بدي أشوف وشي في المراية.
نجيبة :
ما جبتها لك طليت فيها.
البيه :
عاوز المراية الكبيرة اللي جوه في الأودة، اللي ببص فيها كل مرة.
نجيبة :
طيب.
البيه :
مستنية إيه الدنيا حر (يقلع جاكتته) .
نجيبة :
طيب لما يروء دمي حبتين أحسن أنا دمي متعكر .
البيه :
ليه بعد الشر؟
نجيبة :
تخانئت مع المسخم.
البيه :
جوزك؟
نجيبة :
أيوه.
البيه :
ليه؟
نجيبة :
علشان عاوزة ألبس كردان زي الصبايا ومش عاوز يجيب لي، وآل ماهيته قليلة ويدوبك تأضي في البيت.
البيه :
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، يا آطع ائطع يا ساتر استر، طيب يا ستي والكردان ده ثمنه كام؟
نجيبة :
تمانية جنيه وريال.
البيه :
ومين معاه دلوأت تمانية جنيه يا نجيبة؟
نجيبة :
سعادتك معاك ستاشر والنبي تديني أجيب كردان.
البيه :
لأ مش النهارده.
نجيبة :
لأ النهارده. والا ما تبصش في المراية الكبيرة.
البيه :
طيب خدي لك اثنين جنيه.
نجيبة :
ولا ثلاثة ولا أربعة دا انت بآلك زمان ما جبتليش حاجة.
البيه :
خدي أربعة جنيه.
نجيبة :
لأ ما فيش مراية.
البيه :
طيب خدي خمسة.
نجيبة :
خضر أرضك بتلاتة كمان.
البيه :
أعمل إيه؟
نجيبة :
يوه خضر أرضك.
البيه :
الله الله كمان انت عرفتيها.
نجيبة :
خضر أرضك.
البيه :
خدي عشرة علشان الكلمادي (يعطيها عشرة)
وياله نخضر أرضنا ونأصبها.
نجيبة :
أيوه كده بئيت دح يا بابا عليم.
البيه :
دي والله أمانة بشوكها، لسه ساحبها الساعة 9 (يشرب كاس)
ياله بأه نشوف المراية.
نجيبة :
الواد ابن خالتي المنيل ده محمود اللي عندك، أمه بتشتكي من قلة المهية وبتقول إنه بياخد منها فلوس ومش ملاحأه عليه.
البيه :
كداب ده بيكسب أد جوزك واكتر.
نجيبة :
صحيح؟
البيه :
والله.
نجيبة :
طيب ما تزوده شوية وتديله تلاتة جنيه في الشهر، هو مش نافع؟
البيه :
هو الواد مش بطال، بس يعني يظهر إنه خباص ومرافق بنت رقاصة.
نجيبة :
مرافق بنت رقاصة؟!
البيه :
أيوه أنا شفته ليلة معاها أبل ما يئفلوا الأهاوي، وباشوفه في وش البركة.
نجيبة :
وش البركة فين؟
البيه :
تحت.
نجيبة :
محل الناس البطالين؟
البيه :
أيوه.
نجيبة :
بأه محمود ابن خالتي مرافق؟
البيه :
أيوه.
نجيبة :
وبياخد فلوس من أمه ومن غيرها علشان رفأة.
البيه :
يظهر كده.
نجيبة :
طيب والله يا سي محمود (تسهم) .
البيه :
مالك سهمت؟
نجيبة :
لا ما سهمتش، بس يعني باستغرب على الناس اللي مش لاقيين ياكلوا وياخدوا فلوس الناس يخبصوا بها، أوم يا بيه شوف وشك في المراية (يدخلان وتترك الجاكتة وعصايته. يسمع غناء البيه العجوز من الداخل. يدخل محمود ينظر الجاكتة والعصا فيتأكد إنه هنا) .
المشهد الخامس
محمود :
العكروت الكبير هنا وآلع جاكتته. هيصه أيوه كده أمال إش خلاه بيجي ويروح (يسمع غناء العجوز)
وبيدندن الروبابكيا كمان، وإيه العمل؟ المسألة ما بدهاش، والله لأوديهم في داهية، أهي تبأه أضية زنا، ويمكن نخلي نجيب في الآخر يتنازل بعد ما يشوف بنت الكلب وتاخد حكم، ويمكن العجوز يخضر أرضه خوفا من الفضيحة (يسمع غناء العجوز)
أيوه غني بس فين دلوأت ابن الكلب نجيب اللي سايب مراته تلبس فساتين جديدة وتفرجها للناس؟ يا ترى وصلوا فني حتة من الفستان دلوأت؟ أنا أستاهل اللي نزلت وسبتها، لو كنت عارف ما كنتش أفتح الصنافور في نهاري، إياك ألائي نجيب برده ألائيه في بار البلح وعلى التمن بتخريمة من شارع الترب (ينزل بسرعة) .
المشهد السادس (في المنزل - محمود - نجيب)
محمود :
أدي الجاكتة والعصاية، اتأكدت دلوقت؟
نجيب :
ده تمام آه (يسمع غناء العجوز)
الضلالي الخنزير العجوز. دي مسألة ما فيهاش شك ... طيب وإيه العمل؟
محمود :
ما فيش إلا التمن ومحضر زنا.
نجيب :
وقضية وتحقيق وجلسة؟
محمود :
أيوه جلسة سرية طبعا، ما فيهاش إلا الأبوكاتية.
نجيب :
يادي الفضيحة.
محمود :
ما هو الحق عليك؛ لأنك انت اللي جرأتهم على الحاجات دي.
نجيب :
إزاي جرأتهم، حد يجرأ على الزنا في بيته؟
محمود :
طبعا ... مثلا ليه تخلي الراجل يخش البيت في غيابك؟
نجيب :
معمروش دخل في غيابي.
محمود :
لأنك ما شفتوش ولا حدش آلك، أما الحقيقة إنه دخل في غيابك أكثر من دخوله في حضورك.
نجيب :
ده كان بيجي علشان شغل يا أخي، زي ما بتجي انت.
محمود :
أنا بأه إن جيت في غيابك والا في حضورك ما يهمش، لأني أريبها وعرضي عرضها وأدافع عنها مش أخسرها.
نجيب :
شوف ... لأ وكنت من عبطي غاير منك وانت أخ حقيقي (يعيط)
نهايته وإيه العمل دلوأت ؟
محمود :
ما فيش إلا زي ما قلت لك.
نجيب :
ننده عسكري؟
محمود :
أيوه مالم تكون ناوي تبلعها المرة دي؟
نجيب :
أبلعها إزاي يا محمود؟ تئول كده اختشي ده عيب.
محمود :
أما المسألة ثابتة تمام، ما فيش شك رجل أجنبي في بيت الزوجية، وادحنا شهود رؤية.
نجيب :
أخش أأتلهم واروح فيهم في داهية؟
محمود :
لأ هدي أخلاقك، ما فيش داعي للأتل، ومع ذلك إذا قتلت ما ترحش في داهية ولا حاجة غايته ست اشهر.
نجيب :
ما هي ست اشهر برده داهية.
محمود :
يا اخي ما فيش لزوم لإزهاق الأرواح.
نجيب :
دبرني يا محمود، أحسن أنا ما بقتش طايق نفسي.
محمود :
ما فيش إلا الميري يخلص لك حأك.
نجيب :
هي مش فيها رد شرف من الراجل؟
محمود :
طبعا خش في القضية وطالب بحق مدني زي ما تريد.
نجيب :
والمرة يجرى لها إيه؟
محمود :
تنحبس وبعدين طلقها، ومع ذلك تقدر تعفي عنها.
نجيب :
إلحأ هات عسكري.
محمود :
طيب بس اوعا يفلت منك (ينزل محمود) .
نجيب :
لأ يفلت إزاي؟
المشهد السابع
نجيب (لنفسه) :
والله طيب يا ست نجيبة، ما بآش إلا كده، فين أمك الأرشانة وأبوك التيس دلوأت. وفين علي ملك الجن اللي يركبك، ده مكافأتي على جريي على العيش وعرق جبيني بعد عشرة خمس سنين؟! الحمد لله اللي محناش مخلفين (تسمع هيصة. للشاويش)
اطلع يا شاويش بئول لك خش (لمحمود)
وانت مش اللي انت جايبني شاهد.
محمود :
أيوه بس هدي نفسك.
نجيب :
ست نجيبة، يا عليم بك، اتفضلوا اطلعوا هنا في كلمتين.
نجيبة (من الداخل) :
مين؟
نجيب ومحمود :
إحنا.
نجيبة (تخرج) :
يا دهوتي عسكري! الشر بره وبعيد.
نجيب :
لأ والله الشر جوه وأريب أوي.
محمود :
ما كانش عشمنا.
نجيب :
ما كانش عشمنا ... خلي الراجل يخرج حالا والا نخش نجرجره من ودانه، أنا زهئت، ينعل أبو دي وظيفة وينعل أبوها عيشة، إنتآل لمحل النزاع سكتنا، رشوة بلعنا، عيشة سودة رضينا، وكمان قرنين على الرأس!
محمود :
ما بآش بينك وبين الإسكندر فرأ كبير.
نجيب :
انت بالك ...
نجيبة :
محمود انت اللي جايب نجيب وفتنت له الفتنة الفلصو دي وعاوز تخرب بيتنا، روح دور على رفيقتك الرقاصة، يا نصاب يا خباص جايب الراجل ومهيجه علي!
محمود :
الله الله، أنا مالي بتخانئيني ليه؟
نجيب :
أيوه هو اللي جايبني، وفيها إيه ما تئول يا واد، ما هواش ابن خالتك وبيغير عليك زيي واكتر؟
عليم (يخرج بالصديري) :
جرى إيه؟
نجيب :
أهلا وسهلا يا اخوي (يتهجم عليه ويمنعه العسكري) .
عسكري :
مش أصول يا أفندي تضرب الأفندي، عندك التمن.
عليم :
أنا مش أفندي، أنا بيه حايز للدرجة الثانية والنيشان المجيدي الخامس.
عسكري (يضرب سلام) :
طيب يا سعادة البيه.
نجيب :
يا شاويش هاتو لي على التمن، إنت هنا في بيتي بتعمل إيه؟
عسكري :
طيب روأ بالك.
عليم :
يا شاويش صلي على النبي.
عسكري :
حاضر يا سعادة البيه.
عليم :
جرى إيه يا نجيب هو يصح الكلام ده؟ أنا جي لك علشان شغل، ودي مش أول مرة.
نجيب :
هاتهم الاثنين على التمن يا شاويش المرة والراجل.
محمود :
إنت مش سامع يا عسكري، وأديك شاهد الراجل قالع هدومه، وكانوا الاثنين في أوده واحدة.
نجيبة :
إنت عاوز تفضحني يا محمود؟
عليم :
هو يصح كده يا محمود، دي زي بنتي وكانت بتوصيني عليك، ووعدتها بزوادة مهيتك إنت وجوزها؟
محمود :
لكن يا سعادة البيه برده ما يصحش (يدخل في وسط الهيصة) .
نجيبة :
اجري يا واد يا حسن انده ستك (يجري)
برده ده يصح يا سي نجيب هو سبب لك حاجة؟
نجيب :
هو سبب لي أكثر من كده، هو كان يصح ما كانش عشمي يا نجيبة. دنا مديك خمسة جنيه النهارده.
عليم :
منين جولك؟ من الفلوس اللي أعطيتها لك تدفعها في المحكمة. تبديد وخيانة أمانة شاهد يا شاويش؟ شاهد ومصلي على النبي؟
عسكري :
شاهد ومصلي جوي يا سعادة البيه.
عليم (يدنو منه ويدفع له) :
ومع ذلك إنت غلطان، أنا كنت بشوف وشي في المراية علشان صابغ جديد.
عسكري :
ما تصرفها وديا يا أفندي، أحسن انت حتودي نفسك الأبعد في داهية من غير سبب.
نجيب :
مش شغلك يا شاويش خيانة أمانة أدام مين؟
عليم :
إنت معترف حالا.
محمود :
المسألة باين حتفشخر.
نجيبة :
محمود برده كده! بتهيج جوزي علي كل ما يهبط تأومه!
محمود :
هو وكيفه دي مسألة شرف.
نجيب :
دي مسألة شرف ياللا على التمن. خدهم يا شاويش (تدخل زنوبة ومحمد أفندي) .
زنوبة :
الشر بره وبعيد ... جرى إيه يا اختي؟ (لنفسها)
الكوتشينة ما تكدبش أبدا.
نجيبة :
آه يا امه، محمود عمل عملته وفضحني، مظلومة يا نينتي مظلومة يا بابا.
زنوبة :
محمود! محمود برده تعمل كده في بنت خالتك؟ مع مين يا بنتي؟
نجيبة :
آل مع البيه.
محمد أفندي :
إخص عليك يا محمود، يصح دي لحمك وبتحبك وكانت عاوزة تتجوزك؟!
عسكري :
ما تنهيها وديا يا أفندي، الستر أحسن.
نجيب :
أبدا خدهم يا شاويش على التمن.
زنوبة :
سي نجيب اسمع مني كلمة.
نجيب :
لا يا ستي، مش عاوز أسمع منك كلمة ولا حدوته يا حماة الهنا.
محمد أفندي :
أنا محصلش بينك وبيني حاجة، لكن دي لحمي ولحمك.
نجيب :
كله ... لكن لازم بعد ما يروح لحمك على التمن (عليم ومحمد أفندي وزنوبة يتكلموا على انفراد) .
نجيبة :
جرى إيه يا سي نجيب أنا برضه ابقى لك ... ده الشيطان شاطر (تقرب منه)
هو أنا كنت مزعلاك؟ هو جرى مني حاجة؟ إن كنت باسطاك إراط حبسطك أربعة وعشرين، وإن كان خاطرك متغير علي سامحني، أنا ما كنتش عارفة مقامك بس الفضيحة وحشة (تتودد إليه) .
زنوبة :
عيب يا اخويا دي مراتك وفضيحتها في وشك.
نجيبة :
علشان خاطر أمي.
زنوبة :
مراتك منزارة والأسياد ما يستحملوش حاجات زي دي.
محمد أفندي :
يا نجيب أفندي، إنت مشفتش مني ردي، حرام عليك الفصل ده في (يتكلموا بصوت واطي) .
عليم (لمحمود) :
زي ما ولعت النار دي اطفيها وانا برده أشوفك (يلبس ملابسه) .
محمود :
يا سعادة البيه حاتشوفني إمته بأه؟
عليم (يغمزه) :
بكره أزورك وتبقى محل النطع ده ... ده ما ينفعش في حاجة.
محمود :
أنا وحياة ربنا ماليش في المسألة يد.
عسكري :
ياللا يا أفندية النقطة لوحدها.
عليم (يغمزه) :
اتفضل انت يا اخويا شوف شغلك (الشاويش يتحرك) .
نجيب :
على فين يا شاويش؟
محمود :
سيبه يا نجيب أنا فهمت الموضوع.
نجيب :
فهمت إيه؟
محمود :
المسألة لها شكل تاني، انزل انت يا شاويش.
نجيب :
إزاي؟
عليم :
خليك ذوق واتنحى بأه لاخوانك.
محمود :
انزل انت يا شاويش.
نجيب :
مش لما نعرف آخرتها.
محمود :
الحقيقة هو إن البيه ما كانش يقصد غير زيارة بسيطة ... وانا تأكدت من المسألة دي سوء تفاهم بسيط.
عليم :
سوء تفاهم.
نجيب :
وهو يصح إن البيه يزور المرة في غياب جوزها؟
محمود :
هو افتكر إنك في البيت.
زنوبة :
ونجيبة زي بنته.
محمد أفندي :
وانت زي ابنه (يتكلموا عليه كلهم ويبلفوه) .
عليم :
كلكم أولادي يا بارد اتفضل انت يا شاويش.
نجيب :
لو كنتم تحلفوا لي إنها زيارة بسيطة، وتضمنوا لي إن المسألة ما بقتش تحصل.
عليم :
وحياة شرفك.
محمود :
وحياة شرف أبوك.
نجيبة :
وحياة عينيك.
زنوبة :
وحياة شرف المرحومة نينتك.
محمد أفندي :
إن المسألة بسيطة.
نجيب :
أمال الكلام اللي قلته لي كله، كان إيه يا محمود؟
محمود :
أقول لك الحق الفار لعب في عبي، ولكن المسألة تنورت، وعرفت أصلها ولو كان فيها حاجة ما كنتش أنصحك بالعدول.
نجيب :
طيب مش كنت تتأكد قبله.
محمود :
ومع ذلك هو المحكمة حتعمل إيه مش تعويض مدني؟
عليم :
غايته وده إذا لا سمح الله وسبت.
محمود :
وده شيء بعيد، ومع ذلك البيه مستعد مش متأخر وتبقوا حبايب.
عسكري :
ولا حد شاف الجمل ولا الجمال.
نجيب :
اللي تحكموا به.
محمود :
انزل بأه يا شاويش.
عسكري (يضرب سلام) :
تروج وتحلى. أنزل يا أفندي؟
نجيب :
انزل يا سيدي الأمر لله، ولكن خليك قريب (ينزل الشاويش) .
محمد أفندي :
أيوه كده امال.
عليم :
لا أنا عارف إنه ذوق ويتنخي لأصحابه.
محمود :
سي نجيب ده قلبه طيب أهو بلعها لآخرها.
زنوبة :
أقعدوا بأه نشرب قهوة، ونروأ دماغنا، أنا راسي بأت زي الطبلة.
نجيب :
لكن عاوزين الحق؟
الكل :
أيوه.
نجيبة :
يا سعادة البيه.
عليم :
يا ستي .
نجيبة :
عاوز الحق؟
عليم :
وأبوه.
نجيبة :
خضر أرضك.
عليم :
وأبوها (يفتح المحفظة) . (ستار)
نيرون
رواية تاريخية تمثيلية في خمسة فصول
تأليف محمد لطفي جمعة المحامي بمصر
القاهرة وهليوبوليس 1917-1918
الفصل الأول (المكان: قصر نيرون برومه، الزمان: في أول عهده ويوم حفلة تأبين الإمبراطور كلوديوس.)
المشهد الأول (سنيكا - بوروس)
سنيكا :
يذهب تعب الإنسان عبثا إن هو حاول الوقوف على ما تخفيه الأقدار.
بوروس :
على أن الناس ما فتئوا يبذلون معظم الجهد في هذا السبيل.
سنيكا :
أما أنيوس سنيكا ...
بوروس :
الحكيم الجليل؟
سنيكا :
بل المنفي المضطهد المغضوب عليه من الإمبراطور كلوديوس ... أنا أعود إلى روما ...
بوروس :
معززا مكرما.
سنيكا :
وأعين قاضيا ومهذبا لنيرون ولي عهده بالأمس وخليفته اليوم.
بوروس :
ووزيرا نافذ الرأي مسموع الكلمة.
سنيكا :
وأحضر حفلة تأبين الإمبراطور كلوديوس الذي غضب علي لحكمتي ورضي عني إكراما لامرأته أجربين.
بوروس :
وفي قصره الذي صار قصر خلفه.
سنيكا :
وأنت أيها القائد الهمام، خدمت رومه فغضبوا عليك.
بوروس :
ونفيت مثلك.
سنيكا :
ولكنهم عادوا إلى الحق في شأنك؛ فأعادوك وعرفوا قدرك وعينوك قائدا للحرس الإمبراطوري.
بوروس :
وأسعدت الأرباب طالعي فصرت رفيقك في تهذيب الإمبراطور الناشئ.
سنيكا :
لو أن منجما تنبأ لي منذ سبع سنين بما وقع لي ما صدقته.
بوروس :
ولا أنا ... ولكن ها نحن نرى بأعيننا ونلمس بأناملنا أحلاما لم تكن لتخطر لنا ببال.
سنيكا :
وقد تحققت.
بوروس :
أصبت! فإن الأمل قوام الحياة.
سنيكا :
ولكن اعلم يا صديقي بوروس أن أجربين التي سعت في تعييننا في منصبينا لم تحسن إلينا.
بوروس :
كيف يكون ذلك وأنا أعد الأميرة أجربين ولية نعمتنا وربة الفضل وذات الكرم علينا؟!
سنيكا :
إن مهمتنا بالأمس لم تكن شيئا مذكورا بجانب المهمة التي وكلت إلينا اليوم، فعرفاننا بجميلها فات أوانه.
بوروس :
ماذا تعني؟
سنيكا :
كنا بالأمس أستاذين لفتى يافع، نلقنه مبادئ العلم والأدب، أما اليوم فنحن وزيران مسئولان، بيدنا قلب نيرون وعقله، وعليهما المعول في مستقبل الإمبراطورية الرومانية بأسرها.
بوروس :
ألا يكون الفضل لنا في إنبات الأمير نيرون نباتا حسنا؟
سنيكا :
أجل ... ولكن لهذا الفضل آفة، وهي أن كل خير يريده الأمير برومه والرومان سوف ينسب إلى جلالته لأنه الإمبراطور، وكل شر يراد بها وبهم سوف يلصق بنا لأننا معلماه ومرشداه، وهذا نصيب المعلم والمرشد في هذه الحياة!
بوروس :
أتحسده أيها الحكيم على نصيبه من ثناء الأمة، وقد قضينا أكثر من سبع سنين في تحسين العدل لنفسه حتى ينال رضا الشعب؟
سنيكا :
حاشا لمنرفا أن يكون محب الحكمة حسودا ... إنما أخشى أن يكون نصيبنا من ذم الناس إيانا أعظم من نصيب نيرون من ثنائهم عليه، وقد يؤدي به هذا لانقلابه علينا.
بوروس :
وما الذي حداك إلى هذا الظن؟
سنيكا :
إن من وقف على ماضي هذا الأمير وحاضره وقوفنا عليهما، يخشى عليه في المستقبل ركوب متن الشطط، فقد نبت نيرون منبتا سيئا؛ لأن أباه دوميتيوس أنيوباربوس مات وخلفه في الثالثة من عمره، ولما نفيت أمه بأمر عمها الجبار تيبريوس كفلته عمته ليبديا ووكلت تربيته إلى اثنين من أرقائها العبيد؛ وهما حلاق ورقاص، فالرقاص علمه الرقص والحلاق (بصوت منخفض)
أفسد خلقه.
بوروس :
أظن أننا محونا بالحكمة والشجاعة ما اكتسبه الأمير من الحلاق والرقاص.
سنيكا :
لا أظن أن عملنا كان مقرونا بالنجاح، فقد مضى علينا نحو ست سنين في تهذيبه، قد وكل إلينا الإمبراطور كلوديوس بإيعاز أجربين أمر تربيته عقيب تبنيه، ولا أرى تغييرا كثيرا في طبعه ... وهيهات أن يصلح العطار ما أفسده الدهر.
بوروس :
لا تنس يا رفيقي أن نيرون ذكي بالفطرة، وقد تخرج علينا في العلوم المدنية والحربية، دع عنك كرم أصله وعلو حسبه وشرف نسبه، أليس أبوه أنيوباربوس من أسرة دومنيوس العريقة في المجد، وأمه أجربين ابنة جرمانيكوس قاهر البرابرة؟
سنيكا :
دع عنك ما يهواك في فخامة الأسماء والألقاب، وأمعن النظر رويدا في حقائق الأخلاق، أتعرف من هو أبوه أنيوباريوس؟
بوروس :
سليل أسرة دوميتيا.
سنيكا :
لقد كانت حياته صفحة سوداء، فقد قتل في الشرق نديما؛ لأنه لم يثابر معه على الشراب، وتعمد قتل طفل تحت سنابك خيله في طريق أبين، وفقأ عين فارس روماني كان يجادله في ساحة عامة، وكان يسرق أرزاق أمناء الخزينة وهم تحت إمرته، ويحرم الفائز من المصارعين جائزته لينفقها في لهوه، واتهم في آخر عهد ثيبريوس بالاعتداء على عفة شقيقته ليبيديا ولم ينجه من العقاب إلا موت الإمبراطور، وقد أنقذتنا الأرباب من شره مذ قضى بداء الاستسقاء.
بوروس :
عجبا عجبا!
سنيكا :
واعلم أيها القائد أن العرق دساس، وأن الأبناء يرثون عن الآباء محاسنهم ومساوئهم، وقد يرث الأشراف والأمراء المساوئ دون المحاسن.
بوروس :
ما قولك في أجربين وهي ليست كغيرها من النساء يكتنفها الشرف من كل جانب، فهي ابنة إمبراطور وزوجة إمبراطور وأخت إمبراطور وأم إمبراطور؟
سنيكا :
أجربين على جانب عظيم من الجمال وكيدها أعظم من جمالها، وغير خاف عليك أن النساء يستولين على أشرف ما في نفوس الرجال بإرضاء أسفل ما في أجسامهم، وأجربين امرأة ترى أن الغاية تزكي الواسطة وتبررها، وتعتقد أن كل شيء مباح في سبيل المجد والسلطة، فلا دخل لشرف أصلها في فساد خلقها، هاك نسب صاحبك من الجانبين.
المشهد الثاني
بوروس :
من القادم علينا؟ لعمري إنها سحنة طارئة لم أرها قبل اليوم.
سنيكا :
بلى! رأيتها ولكن نادرا ... هذا لوسيوس بيلاتوس أحد شعراء البلاط، الإمبراطور كلوديوس قربه واتخذه نديما وجاسوسا على زوجته أجربين ومعتقه بالاس حاميها وأحد عشاقها؛ فوجدا عليه وحقدا عليه ولم يجدا وسيلة لقتله أو نفيه، ففازا بإقصائه عن القصر فهو يبغضهما بغضا دونه كل شيء.
بوروس :
وما الذي أتى به في هذا النهار؟
سنيكا :
رأيته مذ توفي كلوديوس يحوم حول القصر، وقد لقيه نيرون مرة فأعجب به واتخذه بلا علم أمه جاسوسا على بعض العظماء. إن لتلميذك نظرة خارقة في الرجال وسترى من سعة علمه وبعد نظره وحرية فكره ما يدهشك.
بوروس :
إذن فلنحذر هذا الجاسوس.
سنيكا :
لا خوف علينا منه، فقد قلمت أظفاره بالإحسان إليه، فإنني وجدته هائما على وجهه، مفقود الأمل، لا ناصر له ولا معين ولا مال عنده يقيه ذلة الفاقة، فسعيت لدى الإمبراطور في خيره فلم يخب رجائي .
بوروس :
طالما سمعتك تنصح باتقاء شر من تحسن إليه، على أنه قد آن لي الانصراف إلى ثكنات جنود الحرس البريتوري؛ لأن ركابهم يوشك أن يتحرك لحضور الحفلة، فسلامي عليك (يخرج بوروس من باب مقابل) .
سنيكا :
لك التحية (ثم يوجه حديثه إلى لوسيوس الذي يدنو)
أهلا بشاعرنا المفلق!
لوسيوس :
السلام على الحكيم سنيكا.
سنيكا :
لقد بكرت.
لوسيوس :
رثاء سيدي وإمبراطوري جادت به قريحة أستاذي وقدوتي يلقيه مولانا الجديد، وقد التفت عليه محافل الدولة ... تلك أمور جديرة بالبكور.
سنيكا :
كلام جميل بليغ لولا نسبتك تحرير الرثاء إلي.
لوسيوس :
إن رومه بأسرها تعلم أن نيرون لا يخط حرفا ولا يفوه بكلمة لم تصقلها براعتك الغالية.
سنيكا :
إن رومه لا تعرف مواهب سموه معرفتي إياها ... لعلك نسيت أنك ستلتقي اليوم بمولاتنا الإمبراطورة أجربين.
لوسيوس :
سحقا لها! واأسفي على أن مولاتي مسلينا ضرتها لم تكن ذات وفاء!
سنيكا :
هب أنها كانت وفية.
لوسيوس :
إذن لعاشت وعاش الإمبراطور كلوديوس؛ لأنه كان رجلا لا يطيق العزوبة وكان مستسلما لشهواته، وقد أدى به ذلك إلى تمليك قياد نفسه لشريكة فرشه، فلما ملكته أجربين فعلت به وبنا ما فعلت.
سنيكا :
طالما اشتقت لسماع حديث زواج الإمبراطور كلوديوس بالأميرة أجربين؛ لأنني كنت إذ ذاك منفيا عن وطني.
لوسيوس :
لما رغب الإمبراطور في الزواج انقسمت الحاشية، وطمعت شريفات رومه وبعض محظيات الإمبراطور في الجلوس على العرش؛ فتبارين واتخذن حماة ووسطاء، وفي نهاية الأمر فازت أجربين لجمالها وشبابها ومجد نسبها وقرابتها من الإمبراطور وحذق مرشحها بالاس معتوق الإمبراطور وصفيه.
سنيكا :
أرى في كل واد أثرا من هؤلاء الأرقاء والمعتقين.
لوسيوس :
إن هؤلاء الأرقاء والمعتقين عبيد في الظاهر وسادة سادتهم في الحقيقة. فهم يحكمون البلاط القيصري والبلاط يحكم رومه. إن دسائس الحاشية الإمبراطورية سلسلة يسبك حلقاتها الأرقاء المعتقون، ونظام الحكومة خرقة يحيكون أطرافها كما تشاء المطامع، وتزين الأحقاد، وها هم يتحزبون في القصر فيفرقون الحاشية وتصل مفاسدهم إلى السناتو فينشق هذا المجلس الجليل وتسود فيه الرغبات السافلة؛ فينصرف عن مصلحة الدولة ويقصر همه على الانتقام من بعض الفراد، ويرى الشيوخ سيوف النقمة معلقة على أعناقهم فيتفننون في ضروب التمليق والتزلف، ويصرف كل منهم عنايته إلى حفظ حياته أو الحصول على مال خصمه ... وهكذا تظهر الرشوة وينتشر الفساد وتهضم حقوق الشعب الروماني ... وهكذا يدب دبيب الأدواء إلى جسم روما الخالدة فتمرض ثم تضعف ثم تموت.
سنيكا :
إنك صادق الرأي بعيد النظر ... كنت تذكر رابطة القرابة بين أجربين وبين الإمبراطور كلوديوس.
لوسيوس :
تقصد أن زواج العم ببنت أخيه كان محرما في شرائعنا؟
سنيكا :
كيف مهدوا السبيل لهذا القران ... هذا سر سؤالي.
لوسيوس :
لجأت أجربين لأحد أعضاء مجلس الشيوخ فيتليوس، وهو رجل شريف بمنصبه دنيء بطبعه، فخطب في المجلس يلتمس عذرا، وكان الإمبراطور ذاته يخشى سخط المجلس لما في هذا القران من خرق حرمة شرائع الرومان، فلم يلبث خطيب السوء أن يفرغ من خطبته حتى نهضوا جميعا، وقالوا إذا تردد الإمبراطور في إتمام هذا القران السعيد فإننا نرغمه عليه ونحمل بأيدينا تلك العروس النبيلة إلى فرش مولانا.
سنيكا :
هذا من حسن السياسة.
لوسيوس :
إن هذا المجلس وصمة في جبين رومه.
سنيكا :
ولكن أي شيء عاد على الوطن من هذا القران حتى تحقد على محبذيه إلى هذا الحد؟
لوسيوس :
إن بغضي لتلك التي حاولت القضاء علي يخرجني عن جادة الاعتدال.
سنيكا :
ولكن بغضك لا ينسيك واجب الاعتراف بذكائها وقدرتها وقوة إرادتها.
لوسيوس :
لقد شهدت جميع آثارها، وقد كان في كل واد أثر من أجربين.
سنيكا :
كيف ذلك؟
لوسيوس :
لما استتب لها الأمر قاسمت زوجها حكم رومه، وهي التي سنت سنة انعقاد مجلس الشيوخ في القصر لتستطيع تنفيذ إرادتها في أعضائه.
سنيكا :
وأي شأن للمجلس في سياسة أجربين وقد كانت سيدة الإمبراطور ومالكة قياده؟
لوسيوس :
إنها صرفت همها نحو توطيد قدم ولدها نيرون؛ فاختطت لذلك خطة ذات ثلاث شعب، وكلها لا تتم إلا بموافقة مجلس الشيوخ.
سنيكا :
أدركت. وما كانت تلك الشعب الثلاث إذن أيها الداهية؟
لوسيوس :
الأولى تزويج ولدها نيرون من أوكتافيا ابنة الإمبراطور، والثانية إرغام كلوديوس على تبني نيرون وجعله ولي العهد وإقصاء برنيانيكوس ولده من ماسلينا، وقد لجأت في الوصول إلى هاتين الغايتين إلى خليلها ومحاميها بالاس.
سنيكا :
والشعبة الثالثة؟
لوسيوس :
أرادت بعد ذلك إثبات رشد ولدها نيرون قبل برنيانيكوس ابن كلوديوس من ضرتها مسلينا. فأمرت مجلس الشيوخ بتنفيذ غايتها فمنح نيرون ثوب الرجولة وعينه لساعته قنصلا منتخبا وولاه ما وراء العاصمة ولقبه أمير الشباب.
سنيكا :
لعل في ارتقاء الأمير نيرون إلى عرش رومه خيرا للشعب.
لوسيوس :
لو كان الأمر كذلك ما أظهرت الآلهة غيظها.
سنيكا :
أظهرت الآلهة غيظها؟!
لوسيوس :
لما تم لأجربين ما كانت تتمنى أطلقت الأرباب سخطها علينا؛ فحلقت طيور الشؤم في سماء رومه ونعق البوم في حظائر الكابيتول وزلزلت الأرض زلزالها في الجزيرة كلها، وتهدمت قصور حديثة العهد بالبناء، وعلا ضجيج الشعب من الغلاء وشح الأرزاق، ولم يقف غضب الشعب عند الشكوى، فإنهم تجمعوا في الفورم وهجموا على مجلس الإمبراطور وهو يقضي بين الناس، ثم اعتدوا عليه بالسب والأذى.
سنيكا :
سمعت بهذه الفظائع في المنفى مرتين ولم أكن أعلم سببها.
لوسيوس :
حقا، إنه بعد عام عادت السماء فأنذرت رومه بالدمار، فانقضت الصواعق على خيام الجند وأحرقتها، وهبت الرياح على الأعلام فاقتلعتها ومزقتها، وعشش النحل في الكابيتول، وأجهضت الحبالى فسمي عام الأجنة، ومن لم تجهض وضعت مخلوقا مشوها، وولدت الخنانيص بأظفار كأنها صقور، وظهر طاعون القضاء فأهلك جماعات منهم بجملتها، وتنبأ الكهنة بأن هذه الخوارق تدل على فاجعة تقع بالملك وتهز أركان الدولة.
سنيكا :
عجبا إن الشعراء كالنساء يؤمنون بالخرافات!
لوسيوس :
إن أجربين ذاتها وهي على ما هي عليه من الاعتماد على النفس وقوة الإرادة وبعد النظر تصدق بما تسميه خرافات.
سنيكا :
هذا مستحيل ... إن امرأة مثلها لا يعقل أن تؤمن بالخرافات.
لوسيوس :
سمعت كلوديوس يقول وهو معقود اللسان بفعل الخمر لقد قسم لي أن أحتمل خيانة زوجاتي زمنا ثم أنزل بهن سخطي، فنزلت هذه الكلمة على نفس أجربين نزول الصاعقة، وتأكدت أن كلوديوس قد كشف أمرها ووقف على علاقتها ببالاس وغيره ، وخشيت نقمته لعلمه بما وقع لضرتها مسلينا على يديه، فأقسمت أن لا تذهب فريسة خيانتها كما ذهبت سابقتها، فأصرت إذ ذاك على المبادرة.
سنيكا :
المبادرة بماذا؟
لوسيوس :
صح عزمها على القضاء عليه قبل أن يقضي عليها، ولم يقف بها عن الإسراع في هلاكه إلا اختيار نوع السم، ولكن حيرة هذه الجانية الشيطانية لم تطل؛ فإنها اهتدت إلى مزيج من سموم حديثة الاكتشاف، تقتل العقل وتترك الجسم بين رجاء الحياة ويأس الفناء، فباعت لنرسيس أحد المعتقين وصالها ثمنا للسم الذي تقتل به حليلها، فأحضر لها لوكاستا الساحرة ووكلا إليها إعداد الجريمة القاضية، واستغوت هالتس أمين الإمبراطور على مائدته وذائق طعامه، فقدم الجرعة لمولاه.
سنيكا :
لم أعلم أنه مات بالسم.
لوسيوس :
حقا فإنه لم يظهر للسم أثر في بدنه الضخم، فاستدعت أجربين زينوفون طبيب الإمبراطور وأمرته أن يشير عليه بما يمكنه من قتله، فأشار عليه بالقيء، فسلمه حلقه فمسه الطبيب الأمين بريشة مسمومة فمات الإمبراطور كلوديوس، ولكن أجربين لم تعلن وفاته قبل أن فرغت من إعداد العدة لجلوس ولدها على العرش، فصارت تأمر الأطباء بعلاج الجثة الخامدة وتبعث إلى مجلس الشيوخ بالرسالة تلو الرسالة عن تقدم صحة الإمبراطور المتوفى، وفي اليوم الثالث فتحت أبواب القصر وخرج موكب الإمبراطور الجديد، وبعد ساعة من مبايعته خرجت جنازة الإمبراطور المتوفى، وسارت أجربين بجوار نعش قتيلها باكية منتحبة.
سنيكا :
إنك تنسب إلى أجربين كل سوء.
لوسيوس :
إن المقام لا يسمح وإلا فإني ذاكر لك عن نيرون ...
سنيكا (مقاطعا) :
اغتب من شئت من الناس عدا الإمبراطور.
لوسيوس :
تخشى أن أخونك؟ أوصل سوء ظنك بي إلى هذا الحد؟ أنت سيدي وولي نعمتي، لقد أحييتني بعد الموت وبعثتني من قبر الوحدة والفراغ والفقر، وأرجعتني رغم أعدائي وبينهم الإمبراطورة أجربين ذاتها إلى حظيرة القصر الإمبراطوري.
سنيكا :
حاشا أن يسوء بك ظني ولكن ...
لوسيوس :
اعلم يا أستاذ أنني مهما أخلص لنيرون فإخلاصي لك أشد، واعلم أن عدوي أجربين وبالاس هما عدواك منذ ملكت زمام الإمبراطور الجديد.
سنيكا :
لا أريد أن أضع على فمك كمامة ... فقل ما أنت قائل.
لوسيوس :
لا أريد أن يخفى عليك في أخلاق الإمبراطور ما يعلمه الناس قاطبة لا سيما وأنني أعلم أن أجربين وبالاس لا يخشيان أحدا سواك، وقد تشاورا فيما بينهما في أمرك ولا يبعد أن ينقاد لهما نيرون لشبابه وضعفه.
سنيكا :
أعلم قدرا يكفيني شره ... ولا بأس من زيادة العلم.
لوسيوس :
أتعلم أنه شريك أمه في مقتل كلوديوس؟ أتعلم أنه انتهز فرصة ضعف بريتانيكوس ابن كلوديوس من ماسيلنا وأخوه بالتبني فأفسد خلقه؟ أتعلم أنه شرع يوغر صدر كلوديوس على ولده حتى أدخل في نفسه أن بريتانيكوس ليس ولدا شرعيا إنما هو ثمرة عشق مسلينا لغير زوجها، فلم ير كلوديوس بدا من حرمان ولده من المعزة الوالدية والتاج معا؟ أتعلم أن نيرون شهد زورا على عمته لبيديا، وهي التي كفلته صغيرا ويتيما في دعوى أمه عليها، وكان لشهادته أقوى أثر في الحكم بنفيها ومصادرة أموالها.
سنيكا :
يا لك من مغتاب! أتأكل لحم أميرك ومولاك؟
لوسيوس :
إذا كان ذكر الحقائق غيبة، فما قولك في أخلاق المؤرخين؟
سنيكا :
كيف تعدد مساوئ الأمير ولا تذكر محاسنه؟ ألم يجزل العطاء للشعب لدى وقوفه للمرة الأولى خطيبا في مجلس السناتو؟ ألم يدافع بين يدي الإمبراطور عن مصالح أهل بولونيا ورودس وطروادة وكان لدفاعه أحسن وقع؟ ألم يظهر حذقا نادرا في القضاء بين الناس، وقد حل بأحكامه أعوص المشاكل، وفضلا عن هذا فهو خطيب فصيح وكاتب بليغ وشاعر لا يشق له غبارا!
لوسيوس :
إن رومه تعلم أن براعة الأستاذ أثيوس سنيكا هي التي تجري بالجواهر الغوالي في شعر الأمير ونثره.
سنيكا :
هذا غير صحيح.
لوسيوس :
ليكن صحيحا أو غير صحيح فأي غضاضة في هذا؟ يكفي الملوك أن يكونوا ملوكا اسما ومظهرا ... إن لديهم بفضل قوتهم وثروتهم ألسنة ناطقة لأفصح القول وأبلغ الحكم، ولهم من آراء وزرائهم أصوب الآراء وأدق الأحكام، وفي براعة قوادهم أوفق الخطط وأعظم الانتصارات، بل إن أعمال أمم بأسرها قد تنسب إلى الملك دون شعبه. هذا نظام العالم من قديم ؛ السعي والكلل والنصب للصغار والمرءوسين والمجد والذكر الخالد للكبار والرؤساء.
سنيكا (في نفسه) :
إن هذا الثرثار يقول الحق في بعض الأحيان (ثم إلى لوسيوس)
ولكن لا تنس أنه خفف الضرائب عن الولايات ومحا ظلم العهد السابق، وجعل رشوة القضاء أثرا بعد عين، وقضى على دسائس البلاط التي أنقضت ظهر الشعب وأذلت كل عزيز. دع عنك كل هذا. ما قولك في فضائله النفسية؟ أليس خير زوج لأوكتافيا ابنة كلوديوس وأبر ولد بأمه أجربين؟
لوسيوس :
إن حبه لزوجه أوكتافيا يدوم حتى يشغف بسواها على أن الإمبراطور يهجر فرشه في كل ليلة ولا تحظى امرأته بقربه إلا نادرا، ويقال إنه يفضل عليها غلاما اسمه فيثاغورس!
سنيكا :
يا للغيبة!
لوسيوس :
أما أمه أجربين فهي تبقى فضلى الأمهات، ما دامت إرادتها لا تصدم إرادته، وما دامت مطامعها لا تتعارض مع نفوذه وحبه للتفرد بالسلطة المطلقة. أما إذا اختل هذا التوازن فالويل لها ... وأنت أيها الأستاذ لو أنك ظهرت يوما بمظهر المعارض لرغبات الأمير، فأقسم لك بالمشتري أن رومه تخسر حكيمها المفدى.
سنيكا :
إنك مبالغ. إنني لا أخشى شر الأمير. ألا تذكر أن أدبه وصل به إلى أن كان يحيي أفراد الشعب كلا باسمه؟ ألم يجر أرزاقا على أعضاء السيناتو الذين جمعوا بين طيب الأصل ومصيبة الفقر؟ ألا تذكر أنه لما قدم إليه أمر إعدام الشقي لوكارنوس لتوقيعه تنهد وقال: ليتني كنت أميا لأعفى من التوقيع على هذا الأمر.
لوسيوس :
ولكن وقع عليه ... كان في وسعه أن يعفو.
سنيكا :
والقانون؟
لوسيوس :
إن تنفيذ القانون لا يقف دون الشفقة الحقيقة والرحمة فوق العدل.
سنيكا :
وما قولك في جوابه للسيناتو عند شكر الأعضاء له «إنني اليوم غير جدير بثنائكم. أرجئوا الشكر حتى أستحقه.»
لوسيوس :
تواضع كاذب وكبرياء يسترها النفاق (تسمع أبواق وطبول وصهيل خيل) .
سنيكا :
اذكر أنك في قصر الإمبراطور!
لوسيوس :
إننا في مأمن من البيوت والآذان. إن بيت الملك خير مكان لاغتيابه ... ولكن حذار من الكلام عنه في الطريق حتى ولو كنت تصوغ له عقود الثناء .
سنيكا :
نصيحة خبير! (يدنو صوت الأبواق ويدخل القائد بوروس على رأس الحرس ويصطف يمينا، ثم يدخل أهل القصر، ثم يسمع غناء الكهنة فيدخلون وبعدهم عذارى فيستال ويأخذن مكانهن مقابل الكهنة، وعند دخول كل طائفة ينادي مناد باسمها وهكذا ...)
المنادي :
الحرس الإمبراطوري ... رجال القصر ... الكهنة ... عذارى فيستال ... مجلس الشيوخ ... الوزير بالاس (يدخل المذكور وحاشيته) .
لوسيوس :
هذا عشيق أجربين وسيد رومه بالفعل ... هذا عدوك وعدوي ... انظر كيف يرمقنا دون أن يشعر به أحد؟
سنيكا :
اخفض صوتك.
لوسيوس :
إنك إن أعنتني عليه لدى الإمبراطور فلن تطول سيادته، فلعله بعد أن يفرغ نيرون من هذه الحفلة أن يطوي صحيفة أمه وعشاقها.
المشهد الثالث
المنادي :
الأمير بريتانيكوس (يدخل وخلفه لوكوس) .
لوسيوس :
يا لك من شاب شقي الحظ، انظر يا أستاذ إلى اصفرار وجهه وانقباض نفسه ... من الغيظ ولكنه يكظمه.
سنيكا :
اخفض صوتك لئلا يسمعك أحد ... ها هو بالاس ينظر إلينا شزرا.
المنادي :
قناصل روما وقضاتها (يدخلون) .
لوسيوس :
هاك فيتليوس الذي صار قاضيا قد سن زواج العم بابنة أخيه. لم يجدوا ذمة أطهر من ذمته!
المنادي :
الإمبراطورة أجربين فضلى الأمهات والأزواج وكاهنة هيكل كلوديوس الإلهي (تدخل أجربين بأبهة عظيمة وحولها نساء وعلى وجهها قناع ضخم فترى بالاس فيتبادلان النظرات) .
لوسيوس :
فضلى الأمهات والأزواج وكاهنة هيكل كلوديوس الإلهي؟! ألا تحدثك نفسك يا أستاذ بالوقوف في وسط هذا الجمع المملوء بالنفاق والرياء، فتسمي كلا باسمه الحقيقي، وتصفه بما هو أهله؟
سنيكا :
هذا سلوك المجانين.
لوسيوس :
إن لساني يلذعني!
سنيكا :
إنك تهرق دمك.
لوسيوس :
لا شيء أجل وأعظم من قول الحق.
سنيكا :
إنك تحرج صدري. إذن لماذا رضيت بحرفتك؟
لوسيوس :
لأتشفى في هذا المجتمع الفاسد بالوقوف على أسراره. إن حرفتي تجري مع دمي في عروقي، ولكنها لا تحجب عن بصيرتي نور الحق.
سنيكا (لنفسه) :
تعليل حسن لحرفته (يسمع هتاف في الخارج) .
المشهد الرابع
أصوات :
النصر لقيصر! (تسمع أبواق وطبل ويدخل نيرون وعلى رأسه إكليل من الغار وبيده صولجان فيتحفز الجميع لاستقباله، فيذهب إلى أمه ويقبل يدها ثم يقصد المنبر الموضوع إزاء العرش ويضع على عينه نظارة عين واحدة «منوكل» ثم يبدأ مرثيته) .
نيرون :
بعين ملؤها الدمع السخين وقلب خافق من الحزن والحنين وصوت تخنقه العبرات وتقطعه الزفرات أرثي والدي ووالد الوطن الإمبراطور الإلهي كلوديوس. لقد كان فقيدنا من سلالة قيصر فورث عن أجداده حكمة الآلهة وشهامة الأبطال ... وكان بطبعه كريما محبا للشعب فلم يدخر وسعا في توسيع رزق أهل رومه وتسليتهم بالألعاب الفاخرة. وقد شاد لهم البيوتات العامة وغرس الحدائق الغناء وبنى الحمامات الممتعة وأنفق عليها من ماله ... أما عن شجاعته الحربية وبراعته في قيادة الجيوش وحكمته السياسية وقدرته في تدبير شئون الدولة فحدثوا ولا حرج؛ فقد كان قطبا من الأقطاب ومفتاحا لكل باب ... لقد كان أبي وأبوكم مثالا للفضيلة فلم يدنس نفسه الإلهية بفكرة سوء ولا جسده الطاهر برجس من الشيطان، وقد توفي بين ذراعي زوجته المحبوبة، كما توفي من قبله القياصرة الأجلاء ... ذهب فريسة لهموم الدولة ومتاعبها ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو يلهج باسم رومه الطاهرة ويذكر الشعب الذي يحبه وباسمي أنا أيضا، أنا ابنه وخليفته وظله على الأرض قد رفع إلى السماء ... إن روحه الآن بين الآلهة وقد أفسح له المشتري وعطارد وزيوس وإيزيس إلهة الشرق التي كان يمجدها مكانا ساميا في العلا. فحق عليكم أيها الكهنة الصالحون وأيتها العذارى المباركات أن تثابروا على عبادة كلوديوس الإلهي في هيكله الذي تشرف عليه فضلى الأمهات والزوجات (مشيرا إلى أمه أجربين)
تلك التي كانت تحبه ويحبها حبا جما لم يسبق له مثيل في تاريخ الأسرة القيصرية ... لقد دوخ الأعداء وأفسح مجال الحدود ونشر نفوذ رومه في كل بقعة، ومد سلطة شرائعنا وراء البحار بين الأمم المتمدينة والشعوب الوحشية ... إن مجدك يا كلوديوس أيها الناظر إلينا من سماء ربوبيتك لا يدخل في حيز الحصر ومحامدك جلت عن العد والحد ... تبارك اسمك في السماء بين الأرباب كما خلد مجدك في الأرض! سادتي الشيوخ والقضاة! مات الإمبراطور ليحي الإمبراطور ... إن الشباب خليق بالضلال، وإن من كان في سني لينوء بالعبء الثقيل الذي ألقاه على كاهلي كلوديوس الإلهي، لولا ما أتوسمه من البركة في أرواح أجدادي القياصرة وأعشمه في التعضيد من فضلى الأمهات ومنكم مستنيرا في حياتي الحافلة بالمتاعب بأنوار أستاذي الفاضلين بوروس قائد الحرس البريتوري وهو سياج الدولة وسيفها المسلول، والحكيم سنيكا الذي ذاع فضله واشتهر علمه بين الورى، ستكون حكومتي حكومة عدل واعتدال ... لقد علمني سلفي الصالح أن إصلاح الشئون العامة يقضي بذل النفس والنفيس، فلن أتردد مطلقا في إضعاف سلطتي إذا كان في ذلك تقوية للحق، سأخذل نفسي لأبصر العدل. سأنزع سلطة القضاء من يدي وأسلم زمامها لمجلس الشيوخ ليستريح الناس ويطمئنوا على أموالهم وأعراضهم وحقوقهم، وسأقضي على سلطة الحاشية ورجال البلاط في القضايا العامة والخاصة، ولن يكون نيرون سليل القياصرة وإمبراطور رومه جديرا بهذا النسب إذا لم يقض على الرشوة والدسائس والمؤثرات الخفية التي يبذلها أهل المطامع والأغراض ... وإنني من الآن أرى الفصل بين بيت المال وخزانة العرش، وأعيد إلى مجلس الشيوخ سلطة تنفيذ الدستور لتتمتع إيطاليا وسائر الولايات التابعة للإمبراطورية بنعم الشرائع الرومانية. أما أنا فأقنع بقيادة الجيش ولا أطلب منكم أيها الآباء الموقرون سواها.
رئيس المجلس :
لك ما تريد أيها الأمير الجليل.
نيرون :
أيها الآباء الموقرون إن لي لديكم طلبا أرجو ألا يخيب.
رئيس المجلس :
للأمير أن يطلب وعلينا أن نطيع.
نيرون :
تعلمون أكثر مني عواطف البنين نحو الآباء، وقد فطرتم يا سادة الرومان وشيوخهم على تمجيد الوالدين وإكرامهم، كما فطر شبابكم على احترامكم وتبجيلكم ... وها أنا لا أرى أثرا واحدا يذكر رومه برجل منحها إمبراطورا عادلا وقائدا مقداما ... لعلكم أدركتم قصدي بفطنتكم ... أريد أن ينصب تمثال لوالدي سينوبكس دوستوس أنيوباريوس.
رئيس المجلس :
إن ما اقترحه الأمير كان يجول بصدورنا جميعا.
أعضاء المجلس :
صحيح!
الرئيس :
ولكن إلهة الرحمة أرادت أن يصدر هذا الاقتراح عن الولد لتغتبط روح الوالد، وإنني أقترح أن تقام للإمبراطور تماثيل من الذهب الخالص والفضة النقية. فإن الأحجار الكريمة مهما غلت والمعادن النفيسة مهما عزت، أقل وأبخس من أن تشرف باحتواء شكل جلالته.
نيرون :
عفوا يا سادتي، ليس التواضع الكاذب من صفاتي، ولكن تفضلوا بإغفال هذا الاقتراح؛ لأن الأمير بأعماله لا بتماثيله، ولا أراني حتى الساعة في حل من قبول هذا التكريم ويكفي تمثال والدي (ينزل عن العرش) .
الجميع :
النصر لقيصر!
المشهد الخامس
نيرون :
أستميحكم عذرا في إبقائكم برهة ريثما ألقى وفد برمينا. إن هؤلاء البرمن ما فتئوا علة في جسم رومه، مطالبهم مبهمة وآمالهم غير محدودة، وهم عدا ذلك أشد مكرا من المصريين ... يا بوليوس.
بوليوس :
مولاي!
نيرون :
أدخل وفد برمينا (تدنو أجربين من العرش جدا فينظر الحاضرون باهتمام إلى هذه الحركة، يدخل الوفد ويتخذ مكانا متوسطا أمام العرش)، (للوفد)
رغما عن مشاغلنا العامة والخاصة أردت مقابلتكم لأسمع مطالبكم، فإن إلحاحكم جعلني أعتقد أن في الأمر ما يدعو للاهتمام.
رئيس الوفد :
إن برمينا تبعث إلى رومه تحية وسلاما!
نيرون :
إلى رومه تبعث برمينا تحية وسلاما. هكذا يقال أيها الرئيس؛ لأن رومه سيدة العالم واسمها مقدم على كل اسم (تدنو أجربين من العرش وتحاول الصعود، فيسرع سنيكا إلى نيرون ويسر إليه شيئا، ويسرع نيرون ويعترض أمه ويقف بينها وبين العرش) . (مستطردا)
وعرش روما فوق كل العروش (يقبل أمه ويقودها من يدها بعيدا)
أظن فضلى الأمهات في حاجة إلى الراحة، فضلا عن أن مقابلة الوفود ليست من واجبات كاهنة هيكل كلوديوس الإلهي.
أجربين :
أنا مسيحية.
نيرون :
مصحوبة بالسلام يا فضلى الأمهات (تمشي وخلفها حاشيتها وتشير إلى بالاس فيتبعها بحاشيته، أما نيرون فيصحبها قليلا وفي عودته يلتقي وجها لوجه ببالاس فينظر إليه شزرا) . (يصعد إلى العرش)
تكلم أيها الرئيس.
رئيس الوفد :
إلى رومه المقدسة سيدة العالم تبعث برمينا تحيتها، وتبث آمالها، وتعرب بلساننا نحن نوابها.
نيرون (بضجر) :
مطالبكم مطالبكم أيها الرئيس.
الرئيس :
مطالبنا إعادة مملكتنا واسترداد حدودنا الأصلية وتجنيد مائة ألف من أبنائنا للذود عن حياضنا ومساعدة رومه بجنودنا، ولا بأس بدفع الجزية لدولتكم وربط أواصر المودة بينها وبيننا بمحالفة دائمة.
نيرون :
إذن أي سلطة لروما تبقى على بلادكم؟ ما أشد طغيان هؤلاء البرابرة! ما رأيت شعبا وحشيا يأبى سيادة رومه (إلى الشيوخ)
ألم أقل لكم يا سادة إن مطالبهم مبهمة وآمالهم غير محدودة.
الشيوخ :
إن بعد النظر وجلاء البصيرة من الصفات التي حبتك بها الآلهة.
نيرون :
عفوا عفوا يا سادتي ... وبعد أيها الرئيس.
الرئيس :
نحمل إلى جلالتكم هدايا وتحفا.
نيرون :
جوهر وذهب ووحوش ضارية وخيول عربية؟
الرئيس :
أجل يا صاحب الجلالة الإمبراطور.
نيرون :
أما الجواهر والذهب فخزائن رومه بها مفعمة، وأما الوحوش فكذلك في حدائقنا وغياضنا منها ألوف مؤلفة، وفي مرابط خيلنا أكرم الأفراس وأسبقها. اذهب إلى من بعثوا بك وقل لهم إن رومه تغيرت، فإن الإمبراطور الجديد يفضل بيتا من الشعر على أسد غضنفر، ويرجح قيثارة راع على عقد من الجوهر، وعد لنا بطاعة قومكم وكراسة فيها نظم شعرائكم إن كان لكم شعراء قيصر يحييكم ... (يرفع يده فينسحب الوفد ثم يلتفت نيرون إلى الأعيان والشيوخ والقضاة والكهنة والعذارى) ... شكرا لكم أيها السادة الموقرون، قيصر يحييكم (إلى بوروس)
عد بجنود الحرس إلى ثكناتهم وأجر عليهم أرزاق الأعياد المقدسة.
المشهد السادس (تسمع أنغام حربية وينسحب الأعيان والحرس ولا يبقى إلا سنيكا ولوسيوس وبعض الحاشية، بينما يتلاهى نيرون قليلا بمحادثة الأشراف.)
سنيكا :
هل أدركت ما جرى؟
بوروس :
لقد أنقذت رومه من عار لا يمحى.
سنيكا :
إن قلبي كاد يتمشى في صدري؛ إذ رأيت تلك المرأة تسير نحو العرش.
بوروس :
عرش رومه تجلس عليه امرأة! ... حقا لقد حل الخراب، بل هذا ليس أول عهد رومه بالخراب، لقد حل الخراب بنا إذ طلبت أجربين من كلوديوس أن تنتقل إلى الكابتول محمولة على الأعناق.
سنيكا :
إذن حق لها أن تستهتر بالعرش، فقد شابهت بالأمس زعماء الدين وأنافت الآلهة؟
بوروس :
فلا عجب إذا طمحت اليوم إلى صعود العرش ... قد أدرك نيرون بسرعة البرق ما أشرت إليه.
سنيكا :
نعم لأنه ليس بابن كلوديوس الغبي.
لوسيوس :
وهو تلميذ سنيكا الحكيم.
نيرون (ملتفتا إلى لوسيوس ويدنو منه ويقبض على أذنه ويخاطب سنيكا) :
انظر يا أستاذ! هكذا تمسك الثعالب، أكان يحاول الفرار إلى وكره! آه لو كان له ذنب (يضحك)
ولكن أذنه التي يسمع بها أهم من ذنب الثعلب، الآن لا تستطيع الفرار قبل أن تسمع أرجوزتي ... انتقدها بصراحة وإلا قطعت أذنك، ألا تكفيك أذن واحدة (يأخذ جانبا)
ولكن قبل ذلك أريد الانتفاع بعينيك وأذنيك ... هذه الجفون الضيقة وهاتان الأذنان الضخمتان ... لقد خلقتك الطبيعة لخدمتي ... آه يا بوسيوس توسيوس فوسيوس!
لوسيوس :
لوسيوس يا مولاي لوسيوس.
نيرون :
لوسيوس ... لوسيوس إنني أحب فضلى الأمهات كثيرا، ولكن ...
لوسيوس :
ولكن مجد رومه فوق حب الأمهات.
نيرون :
آه يا ثعلب! هل فطنت؟
لوسيوس :
كيف لا؟
نيرون :
إذن علي بإخبارها وأخبار سيدك بالاس.
لوسيوس :
ليس هذا المعتق الحقير سيدي، إنما سيدي قيصر.
نيرون :
ها ها ... حسن ... هاك كيسا فيه نقود. دون ما ترى وتسمع هاك خاتما تغشى به كل مكان، وأبواب قصري مفتحة لك في كل وقت. أما الأرجوزة فنرجئها إلى حين ... افتح عينيك وأذنيك وأخف ذنبك (يعود إلى حيث كان سنيكا) .
نيرون :
أيها الحكيم، إن هذا الشاعر أفضل عندي من رئيس الوفد، أراض أنت أيها الحكيم عن خطة تلميذك مع هؤلاء البرابرة؟
سنيكا :
حكمة الأمير فوق كل شيء.
لوسيوس :
كرم مولاي لا يحد.
نيرون :
نحن زملاء يا لوسيوس؛ كلانا فخره نظم القوافي وشغله وزن العروض.
لوسيوس :
مولاي!
نيرون :
إلى وكرك أيها الثعلب العتيق ... إلى وكرك (يخرج) .
المشهد السابع
نيرون (لنفسه) :
إن نظرة هذا الرجل تروقني كأنه ثعبان عتيق، فإنه ينظر إلى كل شيء ويحرك حاجبيه وسائر عضلات وجهه كأنه يختزن في ذهنه ما يمر على بصره من الصور ... لقد أحسنا باختياره عينا لنا على من أردنا (لسنيكا)
أرأيت ماذا كانت فضلى الأمهات تحاول لولا حضور بديهتك وسرعة خاطرك وشدة عزمك.
سنيكا :
مولاي! لم أكن إلا صدى لصوت سريرتك.
نيرون :
دعني أعترف بفضلك على رومه حقا، إني شاب ولكني لست كلوديوس، وتحدثني نفسي بأنني محاط بالناقمين المبغضين، على أنني أريد ...
سنيكا :
مولاي
نيرون (مستطردا) :
أن أضع حدا لتداخل الغير في شئون الدولة.
سنيكا :
هذا حق جلالتك المقدس.
نيرون :
في وفيك الكفاية ؛ ستقول الأجيال القادمة عهد نيرون العادل وسنيكا الحكيم.
سنيكا :
عهد نيرون العادل الحكيم.
نيرون :
تواضع ما شئت فهذا لا يمنعنا الاعتراف لفضلك؛ أنت عقل الدولة وبوروس قلبها، وأنا حتى الآن يدها الفعالة ... ربما يأتي يوم أكون أنا العقل والقلب واليد معا.
سنيكا :
لقد كان هذا اليوم ... قد صعدت على العرش ولولا تساهل جلالتكم في بعض الشئون واستسلامها ل...
نيرون :
من تقصد يا أستاذي؟ ... تكلم.
سنيكا :
فضلى الأمهات ليست هي العاملة، إنما العامل هو بالاس.
نيرون :
سأنظر في شأنه ... ولكن بحق الأرباب، قل لي كيف أقاومهم جميعا؟
سنيكا :
بالاس رأس كل خطيئة، أرأيت جلالتكم كيف أنه أطاع إيماء من فضلى الأمهات، فأخل بنظام المحفل بانسحابه بغير إذن إمبراطوري؟
نيرون :
سأنظر في شأنه. سأقطع دابره.
سنيكا :
علمت أن جلالتكم تخرج للنزهة ليلا مع ...
نيرون :
نعم نعم كيف أعلل هذا الميل؟ إن نفسي مفطورة على حب كل غريب وقلبي ميال إلى المخاطر ... الليل وقطاع الطريق والأماكن المخفية ... إن دم الشباب يغلي في عروقي.
سنيكا :
مولاي إن لي كلمة أقولها شريطة أن آمن غضبك.
نيرون :
لو غضبت على رومه والعالم بأسره فلا أغضب على الأستاذ الحكيم. ألست مدينا لك بكل شيء؟
سنيكا :
هذا تواضع الأرباب.
نيرون :
تكلم فأنت تعلم أنه لا يسرني شيء مثل القول الصريح.
سنيكا :
يقولون إن الفساد قد عم رومه وساءت حال الأخلاق فيها؛ فاندفعت النسوة في طريق العشق وتغالى الشبان في السير في سبيل الغي والضلال اقتداء ب...
نيرون :
آه لعمرك ما أدري أي فرق بين الفساد والصلاح، وأي خطر في اندفاع الناس في طريق العشق ... أليس العشق داعيا لرقي النفوس من كل الوجوه، فهو يدفع بالعاشقين إلى طريق التغزل فينظموا الشعر ويقدموا الهدايا والأزهار ويجودوا بالنفس والنفيس في سبيل الحصول على المعشوق ... ألا ترى أن النفس مطبوعة على حب الجمال، والطبيعة لا تأبى شيئا من هذا بل تدعونا إليه، وإنما وضع الناس قواعد وقوانين واتفقوا على احترامها، ولا يلزم بمراعتها إلا من كان في حاجة إليها.
سنيكا :
قد يجوز للإنسان أن يفكر على هذه الصورة، ولكن لا يجوز له أن يصرح بفكره أو يطبقه على مرأى ومسمع من الناس.
نيرون :
لا أدري كيف تبيح التفكير ولا تبيح القول والفعل وأنا الإمبراطور.
سنيكا :
لأن جلالتكم إمبراطور، ولأنكم قدوة، ولأن الناس على دين ملوكهم، ينبغي لكم التستر.
نيرون :
تريد أن أصرف أوقاتي في الهياكل أعبد آلهة لا أومن بها، وأضحي لها بما هو أثمن منها؟ ... أتريد أن أتخلى عن حب أكتيه؟
سنيكا :
لا أقصد هذا ولا ذاك ... إنما أقصد خروج الليل. فقد شاع أن جلالتكم تخرج عند كل غروب تقريبا بزي رقيق، فتطوف بالطرق على غير هدى وتنزل إلى حيث تأوي النساء الشقيات، ولا تترك حانة أو معهد سوء مهما كان حقيرا إلا وتطرق بابه، وخلفك عصبة من أهل الشر ممن لا أخلاق لهم يضربون الناس ويسلبون الأمتعة في الأسواق، وأنه لم يخطر ببال أحد أن جلالتك تتنزل إلى هذا الدرك الأسفل، فقوبلت مرارا بالمثل من العامة والسوقة، وأن الجرح الصغير الذي في جبهتك من آثار تلك المعارك التي أهرق فيها دمك الإلهي، فلما ذاعت تلك الأخبار استفحل الخطب واستباح الناس سب الأشراف وإهانة فضليات النساء، فإذا خيم الظلام انسابت عصاباتهم في الطرق فيقطعونها على المارة ويفقدون الأمن في جوانبها، فكأن رومه في كل ليل مدينة غزاها العدو أو أغار عليها جيش فاتح يستبيح كل شيء بادئا بأعراض النساء وكرامة الرجال ينتهكها ومنتهيا بأحقر السلع يسلبها، وقد زاد الطين بلة مقتل الشريف بوليوس مونتانوس.
نيرون :
قل ما شئت ولا تذكر اسم هذا الرجل ... تصور أيها الصديق رجلا يعتدي على إمبراطوره؟ ... لقد بلغت وصحبي أحراش كونيا حيث تلتقي طريق فالوس بشارع نيتونيا، وكنا نقصد لقاء أصدقاء لنا على ضفاف البحيرة المنوطة بالغابة. فإذا بهذا الشقي يوليوس مونتانوس مارا بنا في مركبته بكبرياء لا تقدر، وحتم أن نتخلى جميعنا عن طريقه وإلا يدوسنا تحت سنابك خيله، فأوعزت إلى بعض الرفاق يأمروه بالتخلي لنا حتى نمر ... ألا ترى العدل يملي علي الاحتفاظ بسلامة السائرين على أقدامهم؟ فلما أبى ذلك أمرت أن يوقفوا جياده وينزلوه حتى نمر، فدنا من رفاقي وأمعن فيهم ضربا، وقال أين زعيمكم ورئيسكم حتى أشج رأسه. فتقدمت إليه فأخذ بتلابيبي وقال الأفضل لمثلك أيها الشقي أن تساق إلى الشرطة لتجلد، فلم أتمالك نفسي عن صفعه، فاعتدى علي وأخذ بلحيتي ثم لا أدري ماذا جرى. فإنه حملق في قليلا ثم ترك يده وكأنها استرخت وركع بجانبي، فقال رفاقي لقد عرف جلالتكم، ولكنه لم يتكلم. أما أنا فلم أعد أطيق النظر إليه، وأنا متأكد أنه أراد إيلامي بما فرط منه، فهويت على رأسه بهراوتي فشجت وجرى دمه، وعندما رأى عبيده ما وقع تركوا المركبة بخيلها وفروا، وأظن بعضهم ذهب يستعين بالجند، وقد صحت عزيمتي بعد اليوم على أن أصطحب فرقة من الجند وعصبة من المصارعين وهؤلاء يسكتون ولا يحركون ساكنا، فإذا حمي وطيس العراك دخلوا وأفسحوا لي طريقا بسيوفهم وخناجرهم.
سنيكا :
إذن مولاي لا يريد العدول عن هذا.
نيرون :
هذه غزوات الليل أجدد بها قواي وأنعش بها نفسي وأوقظ الإرادة الخامدة والمواهب النائمة، إنك أيها الحكيم الهادئ لم تذق لذتها. أريد أن تصحبني الليلة فتشعر بالسرور والغبطة من الانفعال الذي يصيبك عند الالتحام والاصطدام ووقع العصي على الرءوس والدماء التي تجري، هلا كنت في عصبتنا الليلة؟
سنيكا :
كلا يا مولاي أشكر جلالتكم على هذه المنة، وها أنا أكف عن النصح.
نيرون :
حسنا ... لا يستطيع التلميذ إرغام أستاذه ... ماذا فعل رسولك لدى أكتيه؟ هل أدى الأمانة إلى أهلها؟
سنيكا :
كيف لا؟! أيتردد أنيوس سريوس في خدمة مولاي؟ إن جاريتكم أكتيه ...
نيرون (مقاطعا) :
لا تقل جاريتي كما يقول بقية الناس، إن الحب لا يعرف سيدا ومسودا، بل أنا عبدها.
سنيكا :
ولكنها معتوقة آسيوية؟
نيرون :
سأثبت بصفة قاطعة أنها من أصل ملكي.
سنيكا :
لا شك أن مجلس الشيوخ يصادق على ذلك؛ لأن الأميرة أكتيه قد تحلت بأجمل الصفات وأكمل الخصال، لم تكد تصلها الجواهر التي جادت بها الذات العلية ولم توشك أن تقرأ القصيدة التي فاضت بها قريحتكم الأولمبية، حتى طارت فرحا وطلبت أن تحمل حالا إلى عتباتكم السنية لتلثمها.
نيرون :
الشعر ... الشعر ... أظن سرورها بشعري كان أعظم من سرورها بجواهري.
سنيكا :
ستحكم الأجيال القادمة بينك وبين هوميروس.
نيرون (بفرح وغرور) :
ولكن هوميروس نظم الإلياذة.
سنيكا :
ليس الشعر يا مولاي بالكمية ولكنه بالماهية، فرب بيت شعر من شعرك الخالد أفضل من ديوان بأسره!
المشهد الثامن
خادم :
النصر لقيصر!
نيرون :
ما وراءك؟
خادم :
عبدكم أنيوس سريوس يحمل رسالة مختومة.
سنيكا :
هذا صاحبنا أوفدته أكتيه.
نيرون :
ليدخل (يدخل الرسول ومعه رسالة وزهر وبنفسج) .
الرسول :
على قيصر السلام!
نيرون :
الرسالة (يعطيها له فيفضها نيرون ويقرؤها ثم يعطيها لسنيكا. مستطردا)
الزهور؟ (يعطيها الرسول له. بعد أن يشاهد الزهور)
بنفسج معناه الأمل! (يدق على النحاس فيدخل طواشي. للطواشي)
ثوب الخروج وهودج (يحضر الطواشي الثوب فيلبسه نيرون ... ثم يقول موجها كلامه إلى سنيكا)
انتظرني فإنني لا أغيب، لولا أوكتافيا زوجتي ما تكبدت مشقة الركوب إلى دار معشوقتي.
سنيكا :
الأمر لجلالتك وأتمنى لك السعادة.
نيرون :
إن قلبي يخفق لدى ذهابي إلى أكتيه أكثر مما خفق في حفلة هذا النهار.
سنيكا :
إن موعد حب أشد تأثيرا في النفوس اللطيفة من خطبة في السناتو!
نيرون :
ما أعرفك بأسرار القلوب! (يخرج.)
المشهد التاسع
أجربين (من الخارج) :
أريد أن أرى الإمبراطور فورا.
سنيكا (لنفسه) :
هذه فضلى الأمهات ... ما سبب عودتها فجأة؟! (تدخل أجربين فترى سنيكا الذي يدنو منها باحترام)
مولاتي!
أجربين :
عفوا أيها الفيلسوف إذا قلت لك إن رأس الحكمة عرفان الجميل.
سنيكا :
إن رأس الحكمة خدمة الدولة بحق وإخلاص.
أجربين :
أمن أجل إبعادي عن العرش، كنت أسعى في إجلاسه على العرش؟
سنيكا :
ألا يكفي مولاتي كونها كاهنة هيكل كلوديوس الإلهي وفضلى الأمهات؟
أجربين :
هذا قول حسن للعامة والمملقين من رجال الدولة، ولكنه محال لا ينطلي علي.
سنيكا :
ألا تقنعين بأنك بلغت أمنيتك؟
أجربين :
كنت أتمنى السيادة الفعلية على رومه ... ها أنت ونيرون تتآمران على النكاية بي.
سنيكا :
قد حفظنا كرامة الإمبراطورية.
أجربين :
وأهنتما كرامة الإمبراطورة!
سنيكا :
لا مجاملة في المصلحة العامة.
أجربين :
ولكن المصلحة العامة هي مصلحتي، لأنني أنا التي جعلته إمبراطورا وجعلتك وزيرا.
سنيكا :
رأي مولاتي يخالف رأيي.
أجربين :
لو اقتصر الأمر على ما وقع اليوم، إذن لهان الخطب لأن لدي علاجا لكبريائه وغدر غيره!
سنيكا :
مولاتي!
أجربين :
لقد كان همي بعد الوصول إلى مخدع الإمبراطور كلوديوس أن أحيط نفسي ببطانة مخلصة، وأن أقصي عن حظيرتي كل مخالف ومعاكس، فخطرت أنت ببالي وكنت منفيا فرأيت فيك رأسا مدبرا لدى الحيرة، وحيلة منقذة وقت الضيق، فتوسطت لدى زوجي في العفو عنك وردك إلى وطنك، فلما عدت رفعتك إلى منصب البريتور وسلمتك قياد ولدي لتهذبه وقربتك وفاتحتك بكل ما كان يخامر ذهني فوافقتني إذ ذاك؛ فجعلت منك ناصحا ومشيرا وشريكا في كل أعمالي وخططي، ولم تكن تأنف إذ ذاك من خدمتي ودس الدسائس التي تؤدي لغايتي، وها أنت اليوم قد قلبت لي ظهر المجن وبدوت لي بوجه جديد. ورضيت أن تكون رسول غرام بين تلميذك وبين معتقة دنيئة الأصل.
سنيكا :
هذا محض افتراء.
أجربين :
عيوني رأت تابعك أنيوس سريوس يحمل إليها هدايا وتحفا. هل من عار أعظم من انتحال الحكماء هذه الحرفة؟!
سنيكا :
إنك تسيئين الظن بي.
أجربين :
لدي براهين.
سنيكا :
حقا إني أعلم أن للأمير علاقة بمعتقة اسمها أكتيه، وقد سررت بهذا كثيرا لأنها فتاة جمعت بين جمال الخلق وكرم الخلق وتحلت بفضائل تعوز كثيرات من الأميرات وربات المجد، وإن في ميل الأمير إليها حبا بأخلاقها لدليلا على سمو نفسه وجمال عواطفه؛ لأنه مدفوع إلى الحب بحكم الشباب، فلو لم يجد لهواه مصرفا في دار هذه المعتقة لالتمسه حتما في بيوت المحظيات، وهذا مما يحرج صدر الأشراف ويملؤها حقدا عليه وهذا مضر بالدولة.
أجربين :
حتى هذه الحرفة وجدت تعليلا فلسفيا؟! إنني أفضل أن يفسد نيرون بيوت الأشراف كلها على أن يضع قلبه بين يدي امرأة واحدة.
سنيكا :
لا أدرك قصدك.
أجربين :
لا هم للمتزوجات إلا قضاء شهواتهن، ولكثرتهن يكون نفوذهن موزعا، أما إذا انفردت به امرأة فإنه يصبح لها وفي يدها، ونيرون صبي ضعيف لا يسع صدره إلا امرأة واحدة تملك عنانه وتملي عليه رغباتها، فإما أنا وإما أكتيه. أفهمت أيها الفيلسوف؟
سنيكا :
لقد غاب هذا عني.
أجربين :
إن فكر امرأة واحدة يفوق جميع فلسفتكم.
سنيكا :
مولاتي اتركي نيرون لحكم رومه.
أجربين :
وأترك سنيكا وأكتيه يحكمان نيرون ... اعلم أنني بمفردي كافية للقضاء عليكم جميعا، ولا يقف في سبيلي شيء، على أن أنصارا ومعضدين ...
سنيكا :
السيد بالاس؟
أجربين :
نعم السيد بالاس أي غبار على هذا الشريف، تريد تعييره بأصله. إنه لا يرضى أن يكون وسيطا بين رجل وامرأة.
سنيكا :
مولاتي إنك جرحتني جراحا لا تلتئم!
أجربين :
وأنت قتلتني فأينا أعظم جرما في نظر صاحبه؟ على أنني أستطيع الصفح والنسيان إذا وعدتني ببعده عنها.
سنيكا :
إن أنيوس سنيكا لا يعد ما لم يكن عازما على الوفاء.
أجربين (لنفسها) :
ستلقى شر الجزاء (يدخل بوروس) .
المشهد العاشر
أجربين :
أثورة في الحرس البريتوري أم في المدينة؟
بوروس (يتبادل نظرة مع سنيكا) :
لا هذه ولا تلك، إنما عدت لأنقل للإمبراطور شكر الجند الذين وزعت عليهم أرزاق أمر بها اليوم.
أجربين :
أأنت الذي أصدرت أمرا لحرس القصر بحجب الإمبراطور عن كل قادم لم يمر بديوانك العالي؟
بوروس :
إنه أمر الإمبراطور.
أجربين :
أنى له أن يصدر أمرا كهذا وهو لا يزال حدثا لا يعرف نتيجة أفعاله؟
بوروس :
إن الإمبراطور وإن كان صغير السن إلا أنه ذكي عاقل.
أجربين :
الفضل في ذلك لك ولرفيقك الفيلسوف، واللوم علي وحدي لأنني جلبتكما من منفاكما، أنت جندي قديم وتنقص ذراعا ... وهو ...
بوروس :
لقد فقدته في الدفاع عن الوطن، على أنني لا أزال قادرا على تجريد سيفي من غمده.
أجربين :
في وجه من أيها القائد؟
بوروس :
في وجه من يعتدي علي ويتعمد إهانتي.
أجربين :
عفوا ... لم أقصد إهانتك ولا تعييرك، ولكنني أستنجد بك بما لحق بي اليوم من الصغار والمذلة؛ إذ دفعني ولدي عن العرش، هل رددتكما من منفاكما ووكلت إليكما تهذيبه لأجني هذه الثمرة المرة؟
بوروس :
إني أخاطبك بحرية جندي لا يعرف تزويق الكلام ولا تلوين وجه الحقيقة ... لقد ائتمنتني على شباب قيصر، وقد أوليتني بذلك شرفا أشكرك عليه، فأعطيتك عهدا بتهذيبه، ولم أعطك عهدا بخيانته ... لقد علمته طاعة القانون ولم أعلمه طاعتك ... إن نيرون ليس الآن ابنك إنما هو إمبراطور رومه. لو طلبت إلينا أن نجعل منه رجلا ضعيفا لتنحينا، أما مسألة العرش فصاحب العرش مسئول عنها.
أجربين :
أهذا الذي تنتظر أم مثلي من ولد مثله؟
بوروس :
هل يضع رومه كل صبح تحت أقدامك ليرضيك؟ ألا يكون عرفان الجميل إلا بالذل؟ ألا يجوز أن يكون المعترف بالجميل ذا شمم وكرامة؟ ... إن الآلهة التي خلقتنا لو امتنت علينا كل صباح ومساء بوجودنا لقابلنا امتنانها بالجحود.
أجربين :
إنك لا تدرك معنى قولي وتندفع بغير أناة.
بوروس :
لقد أردت أن يكون ولدك قيصرا، فهل تريدينه قيصرا بالاسم؟ إن رومه ضجرت من حكم الأرقاء، والسماء ضجت من خيانة المعتقين والنساء، وها هو الشعب يحيي عهد نيرون بالأفراح، كيف لا تبتهج رومه بمن أعاد دستورها ومنح الشعب حق انتخاب القضاة، والجيش حق انتخاب القواد؟ ... إذا رضي الشعب يا مولاتي فلماذا تغضبين؟
أجربين :
يجب على الولد أن يغضب الشعب ليرضي أمه!
بوروس :
الأم التي تستبيح غضب الشعب لترضى أم لا تجب طاعتها!
أجربين :
ويل لك! لقد انضممت إلى أعدائي.
بوروس :
لا أعرف إلا الحق!
أجربين :
سأنظر في شأنكما لدى عودة الإمبراطور. إن أمورا ذات شأن تدعوني، ولكنني سأنتظر ولدي، وسوف نرى أينا يفوز في هذا اليوم الخطير (تخرج) .
سنيكا :
إلي إلي أيها الأخ لقد أحسنت.
بوروس :
أنت تفضلني في وزن الكلام، فهل أهنتها؟
سنيكا :
لو أنك أهنتها فقد أكرمت رومه ... إنها تهددني ببالاس.
بوروس :
سوف نرى ... على أنني صممت منذ اليوم أن أحجب عنها الإمبراطور.
سنيكا :
تحسن كثيرا لأنه يضعف أمامها وينقاد لها كأنها تسحره. أما بالاس فسأتولى أمره بنفسي، ولن تغرب شمس اليوم دون شمسه. أسمعت قولها إن أمورا ذات بال تدعوها؟ (يسمع صوت بوق) .
المشهد الحادي عشر
خادم :
حيوا قيصر (يدخل نيرون بثياب الشراب وعلى رأسه إكليل من الزهور وهو ثمل) .
سنيكا :
أرى مولاي متوجا بالأزهار الغضة.
نيرون :
توجني بها من تعلم. أليس هذا التاج في نظرك أعظم من التاج الذي ... آه أيها القائد ما وراءك؟
بوروس :
وزعت الأرزاق التي شاءت مكارم مولاي أن ...
نيرون (مقاطعا) :
أحسنت لا تقطع هذه العادة.
بوروس :
يأذن لي مولاي.
نيرون :
لا بأس لا بأس.
سنيكا :
مولاي.
نيرون :
أظن كتبك وزوجك الفاضلة أحوج إليك مني (يحيي ويخرج. يدخل لوسيوس بثياب سائل ويدنو كثيرا من نيرون) .
المشهد الثاني عشر
نيرون (بذعر) :
ويحك ما تريد؟ (يضع يده على خنجر ويدق نحاس الاستدعاء.)
لوسيوس :
خادمك لوسيوس!
نيرون (هادئا) :
بحق إيزيس إنك ابن جدتها ... لم يخب نظري فيك ... ما وراءك أيها الثعلب؟ ... هل عاد الثعلب بثمر؟
لوسيوس :
ثمر كثير يا مولاي، إن قصر الإمبراطورة أحفل بالإشراف من قصر الإمبراطور.
نيرون :
من رأيت هناك؟
لوسيوس :
بالاس جاء متخفيا ولكنني عرفته من مشيته وحاجبه، ولم تمض هنيهة حتى استدعى كايوس بيزو.
نيرون :
كايوس بيزو سليل كاليورنيوس؟
لوسيوس :
هو بعينه يا مولاي ثم جاء الخطيب سوريوس فلافيوس ثم سوليتسيوس أسير ثم أنيوس لوكان ثم بلونيوس لانيريوس.
نيرون :
على رسلك يا ثعلب! كل هؤلاء السادة زاروا قصر الإمبراطورة اليوم؟
لوسيوس :
كل مصحوب بحاشيته، ولا يزال بعضهم هناك، وخرج البعض وأنا بالباب ولم يخلصني من أيدي الخدم إلا الشاعر أنيوس لوكان.
نيرون :
إذن الفضل في نجاتك لأحد أهل حرفتك ... ولكن هل وقفت على الغاية من زيارتهم؟
لوسيوس :
لم يكن في وسعي إتمام كل شيء في يوم واحد، ولكنني لحظت أمرا مهما ... كان أحدهم يدخل مغتبطا بمقدمه بادي البشر ثم لا يلبث أن يخرج بوجه مكفهر ورأس مطرق.
نيرون :
إذن قدموا لا يعلمون غاية زيارتهم وخرجوا وقد وعوا أمرا ذا بال. هذا حسن. قد لا يكون في الأمر شيء.
لوسيوس :
وقد يكون فيه ما فيه ... أما الإمبراطورة فقد أسرعت إلى هذا القصر ولم أدركها.
نيرون :
ثابر على عملك.
لوسيوس :
ولكنني محتاج إلى رجال فقد اتسع نطاق العمل .
نيرون :
أتريد أن يكون لك أتباع؟
لوسيوس :
لأتمكن من خدمة العرش.
نيرون :
إن رئيس الشرطة السرية ...
لوسيوس :
الضابط بوليوس؟
نيرون :
هو بعينه ... إنه يغضب إذا علم أن الإمبراطور يشرك معه سواه في أداء عمله، فلا أريد أن يقف أحد على شيء من هذا، خذ المال الذي تريد واتخذ من تشاء من الأعوان دون أن يعلموا حقيقة الأمر. واعلم أن عملك سر بيني وبينك لا يقف عليه أحد ولا سنيكا نفسه.
لوسيوس :
هذا ما صح عليه عزمي.
نيرون :
خذ هذه الورقة فهي صك على الخزانة، واكتب إلي بيان عملك قبل غروب الشمس كل يوم، فقد تألبت الذئاب على الأسد، أما بالاس فسأسقطه فورا وسأضعه تحت مراقبة شديدة (يدق نحاس الاستدعاء) .
المشهد الثالث عشر
خادم :
مولاي!
نيرون :
الحكيم سنيكا على جناح السرعة.
خادم :
فورا (نيرون يتناول عودا «هارب» ويوقع عليه وتبدو عليه علامات القلق) .
خادم :
إن الإمبراطورة بالباب تحتم الدخول، وهذا ما نهانا عنه القائد بوروس (يضطرب نيرون أولا ثم يقول بتصميم) .
نيرون :
لتدخل ... من ذا الذي يحجبني عن فضلى الأمهات.
أجربين (تدخل) :
يحجبك القائد بوروس وقد أصدر أمره إلى الحرس.
نيرون :
هذا طيش منه وهوس. هل يحجب ولد عن أمه؟ إنني إذن غير مطاع في قصري. القصر قصرك والإمبراطور ولدك ورومه تحت قدميك.
أجربين :
هذا ما يقال بيننا، أما على مرأى من الشيوخ والكهنة والحاشية، بل على مرأى من هؤلاء الغرباء الوحشيين من رعايانا، فقد استبحت لنفسك أن تصدني عن العرش الذي حملتك إليه على كاهلي ... لقد وقفت شبابي وجمالي على خدمتك وما ضننت بشيء في سبيل ارتقائك إلى عرش رومه ... إنني رضيت بعشرة شيخ ذميم الخلق، زير نساء، لا يترك الفراش إلا إلى المائدة ولا ينصرف عن المائدة إلى للفراش!
نيرون :
عفوا عفوا يا أماه ... خليق بالأحباء ألا يزعجوا الأموات في قبورهم. إن الإمبراطور كلوديوس صار بفضلي إلها وأنت حارسة هيكله. لا يليق بخادم الآلهة أن يكفر بنعمتهم.
أجربين :
دومينيوس أينوباربوس.
نيرون :
أنت تعيرينني باسم أبي! إنك خلعت بريتانيكوس من ولاية العهد لأنه دعاني بهذا الاسم. سأترك اسمي المصطنع. سأمحو من التماثيل والأنصاب اسم نيرون وأصدر أمرا إمبراطوريا بإثبات اسمي دومنيوس أنيوباربوس؛ لأخلص من تعيير الناس ... وبعد يا سيدتي الأم الحنون ... إن دومتيوس أنيوباربوس مصغ إليك.
أجربين :
أراك ضيق الصدر قليل الحلم، وعلى غير ما كنت أعهد، أيضايقك الآن أن أعيد على مسامعك الإمبراطورية في طرفة عين ذكرى أمور قضيت في إنجازها أثمن وأعز سني حياتي؟ إنني قضيت سبع سنين في نزع محبة ولد من قلب والده.
نيرون :
أنا الذي فعلت ذلك؛ فقد أقنعت الإمبراطور كلوديوس بأن ابنه ليس ابنه إنما هو ثمرة الزنا.
أجربين :
لقد حادثته مرة أو مرتين في الحمام أو على المائدة، أما أنا فقد أنجزت عملي كله في الفراش وأنا بين ذراعيه ... إنني أبلغتك رشدك قبل الأوان، وخلعت عليك حلة الرجال وأنت صبي.
نيرون :
عفوا إن الإمبراطور كلوديوس هو الذي شاءت إرادته أن يخلع علي هذه الحلة، على أن هذا لن يذهب بحلاوة الجميل.
أجربين :
إنني لا أمتن ولكنني أذكرك.
نيرون :
إنني ذاكر وشاكر.
أجربين :
لقد جعلتك ابنا لكلوديوس وزوجتك من ابنته فأمسيت تربطك به روابط القرابة وأواصر النسب. لقد كنت في مبدأ حياتك طفلا يتيما تعيش في كنف عمتك ليبديا، فأصبحت في بضع سنين ابن الإمبراطور وولي عهده وابن زوجته وزوج بنته، ولو أنك بقيت في كنف ليبديا ...
نيرون :
لا تذكري عمتي ليبديا بسوء. فقد كفلتني صبيا، وأحسنت تربيتي، ولولا مشيئتك ما شهدت عليها زورا أمام مجلس السناتو.
أجربين :
إنني مهما حييت فلن أنسى أنك صددتني عن العرش.
نيرون :
أماه ... لم أحاول صدك عن العرش؛ لأنني لم أدرك أنك ترغبين التربع عليه ... ها هو أمامك قطعة من الخشب على قوائم أربعة ... اصعدي إن شئت وابقي حيث أنت.
أجربين :
كما يرون الفارس طفلة على ظهر فرس تدليلا أنت تهزأ بي يا نيرون!
نيرون :
حاشا للأرباب ... ليتني مت قبل أن أسمع منك هذه المسبة، على أنني أريد الصلح ... الصلح يا أماه ... الصلح خير من شماتة الأعداء ، ألست ولدك وغرس بنانك؟
أجربين :
إن للصلح شروطا.
نيرون :
هاتي شروطك ولا تكتمي عني شيئا.
أجربين :
سنيكا وبوروس لا بد من عزلهما.
نيرون :
سنيكا وبوروس، بل عزل ألف مثلهما هين في جنب رضاك، ولكن ما ذنبهما؟ إنك أنت التي اخترتهما وفضلتهما على غيرهما. هل يعزل الحكماء والقواد بغير ذنب؟ ماذا يقول العامة عنا إذا عاقبنا بدون ذنب أو جريرة ... إن سنيكا لا يغادر كتبه وبوروس لا يفارق جنده.
أجربين :
إنهما يدسان لي الدسائس، ويشعلان نار الفتنة بيني وبينك.
نيرون :
إن الذي نقل إليك هذا كذبك.
أجربين :
إن عزلهما يعود عليك بالنفع دوني.
نيرون :
وكيف ذلك؟
أجربين :
إن سنيكا يدعي أنه الرأس المحرك والعقل المدبر، وبوروس يزعم أنه حامي زمامك، ولولاه ما بقيت على العرش يوما.
نيرون :
حسن ... حسن ... سأفعل. ومن ترشحين لمنصبيهما؟
أجربين :
بالاس يخلف سنيكا، وفنيوس روفوس يخلف بوروس.
نيرون :
فنيوس روفوس! فنيوس روفوس ... هذا ضابط شاب.
أجربين :
أشيخ أنت؟
نيرون :
أنا إمبراطور والإمبراطور يصلح للملك وهو صبي، ولكن الحرس البريتوري يتطلب كهلا مدربا.
أجربين :
يمكن اختيار كهل للحرس ... وما قولك في بالاس؟
نيرون :
على العين والرأس ولا عيب فيه إلا أصله.
أجربين :
ولكن أصله لم يمنعه من سعيه في تزويجي من كلوديوس، ولا من إقناع الإمبراطور بضرورة تبنيك وإثبات رشدك قبل أخيك، ولم يمنعه كذلك عن الإحسان إلى سنيكا وبوروس وهما الآن ينتقصان من قدره ... ولا ريب في أنه ذو الفضل عليك، ولولاه لم تكن قيصرا.
نيرون :
عفوا عفوا ... الجميل لا يوزع، كوني أنت دون سواك صاحبة الفضل علي، وامتني بصنيعك كيفما أردت، ولكن بحقي عليك لا تثني عنقي لبلاس.
أجربين :
عدني أنك تفعل ما أريد.
نيرون :
أعدك.
أجربين :
أوكتافيا زوجتك الشرعية.
نيرون :
هل أعزلها؟
أجربين :
أتهزأ مني؟
نيرون :
كلا يا فضلى الأمهات، حيث إننا الآن في مقام العزل والتنصيب، زعمت أنك تريدين تبديلها بسواها.
أجربين :
كلا! على العكس أريد تبديل سواها بها، اهجر المعتقة أكتيه التي جننت بحبها حديثا.
نيرون :
أوكتافيا حقا إنها جميلة وطاهرة لا يضارع حسنها إلا فضائلها، وأنا مخلص لها منذ ثلاث سنين.
أجربين :
إنك تهجرها.
نيرون :
أوهذا من شئون الدولة؟
أجربين :
كلا بل من شئوني، وأنا لا أريد أن تفضل معتقة وضيعة الأصل على ابنة الإمبراطور كلوديوس.
نيرون :
ألم تقولي لدى زواجي منها إنه زواج قضت به الضرورة، وإنني في حل من ملاذي أسعى وراءها أنى وجدتها؟
أجربين :
اتخذ من شئت من نساء الأشراف والنبلاء، وقصري مفتحة أمامك أبوابه، أبيح لك فيه ما تهوى. وأجمع لديك نسوة رومه من كل ذات حسن وحسب، واهجر أوكتافيا إن شئت بل طلقها لساعتك شريطة أن لا تجعل لتلك المعتقة أكتيه سلطانا على قلبك.
نيرون :
ليت الحب تربط أواصره بأمر إمبراطوري أو بمرسوم من مجلس الشيوخ، إذن لأبغضت هذه وأحببت تلك.
أجربين :
إذن تهزأ بي ثانية؟
نيرون :
كلا كلا يا فضلى الأمهات ولكنني أتمنى. أليس التمني مباحا في رومه. سأهجر أكتيه وأعشق أوكتافيا وأعزل بوروس وأولي روفوس (يدخل سنيكا) .
المشهد الرابع عشر
نيرون (مستطردا) :
أو أعزل هذا أيضا. سأعزله حالا بحق الآلهة لأعزلنه (إلى سنيكا بصوت منخفض)
قصدت بالاس سترى كيف يسقط (يدق نحاس الاستدعاء فيدخل رسول) .
نيرون :
خذ فرقة من الشرطة واحضر إلينا الشريف بالاس فورا.
أجربين :
لماذا تحضره بفرقة من الشرطة؟
نيرون :
تشريفا لقدره (يدق نحاس الاستدعاء) .
خادم :
مولاي!
نيرون :
مر خازن البلاط يحضر الحلي والحلل التي خصصت بها فضلى الأمهات (يخرج الخادم) ... إن أفضالك يا أماه لا تعد ونعمتك علي لا حد لها (يعود الخازن وينشر الحلي والحلل) .
نيرون (لأمه) :
هذا بعض ما وجدت في خزائن القصر، أقدمه لك هدية بنية عربون للصلح الذي تم اليوم بيننا (تقلب أجربين نظرها في الهدايا باحتقار) .
سنيكا :
حقا إنها هدية قيصرية لا تليق إلا بفضلى الأمهات.
أجربين :
قيمة الهدية بقصد مهديها، وأنت لا تقصد بهذا إكرامي ولا التعبير عن حبك إياي، ولكنك فرزت نصيبي وخصصتني بما جادت به نفسك؛ لتحرمني من الميراث الإمبراطوري.
نيرون :
لماذا فسرت أقوالي وأفعالي على النحو الذي رأيته الليلة؟ أيقنت بسوء حظي.
خادم :
السيد بالاس! (يدخل بأبهة عظيمة وخلفه حاشيته ويتبادل نظرة من أجربين) .
المشهد الخامس عشر
أجربين :
إن الإمبراطور أيها السيد يريد إبلاغك أمرا خطيرا.
بالاس :
إنني أطوع خدمه.
نيرون :
إن رومه لا تحتمل إلا قيصرا واحدا.
بالاس :
لتحرس الآلهة قيصرها مرموقا بعين السعد مشمولا بعناية الأرباب.
نيرون :
دعني أتمم قولي وأبق الدعاء لي أو علي للنهاية ... إن رومه لا تحتمل إلا إمبراطورا واحدا، فإن وجد على عرشها اثنان فلا بد لأحدهما أن يتنحى، ولما كنت أنا إمبراطورا بحق إلهي، فلا أستطيع التنحي عن عرش أجدادي، فدعوتك لألتمس من جلالتك أن تتنازل عن نصيبك في العرش، فما قول جلالتكم؟! (نظرة اندهاش من أجربين) .
بالاس :
مولاي لست إمبراطورا ولا وزيرا بل أنا خادم وضيع.
نيرون :
أتريد أن تجعل مجلس الشيوخ حكما بيني وبينك؟
بالاس :
إنني لا أستحق المحاكمة.
نيرون :
إذن فأنت منذ اليوم ميت بين الأحياء لا دخل لك في شئون الدولة، لا تزور ولا تزار، لا تخطب على منبر ولا تظهر في سوق عامة ... محظور عليك دخول القصور الإمبراطورية، ومحرم عليك الاجتماع بالأشراف ورجال الحكم، واعلموا أيها السادة أن رومه لها إمبراطور واحد هو أنا (يصعد على العرش) .
أجربين :
إن بالاس الذي أذللته وأقصيته هو الذي رشحني لعرش الإمبراطور كلوديوس، وأقنعه إلى تبنيك، وأقنعه أن صالح الدولة وتأييد الأمن يقتضيان رفع شأن الغاصبين من أسرة قيصر كما فعل الإمبراطور أوغسطوس وطيبريوس من قبل، وزاده ترغيبا فيك بذكر مساوئ برنيانيكوس، ولما خطب كلوديوس خطبته بهذا الشأن لم يكن قوله إلا صدى صوت بالاس.
نيرون :
بالاس الذي كان يحرك الإمبراطور عن بعد بحبائل دهائه كما يحرك الأطفال صورا من الورق بخيوط دقيقة خفية.
أجربين :
لقد أنفق هذا الدهاء في سبيلك ولم تكن تهزأ بالإمبراطور إذ ذاك هزءك به الآن! لقد أخطأت في أنني سعيت في هذا السبيل، فحق لك أن تذلني وتلحقني بالمهملين في حاشيتك، وأخطأ بالاس ... وها هو يجزى شر الجزاء على خير الأعمال، وأخطأ كلوديوس لأنه تبنى ولدا من غير صلبه وأدخل غريبا في بيت كلوديان المقدس فقضى نحبه رغم أنفه مغضوبا عليه من الأرباب والناس. إن الشيء من معدنه لا يستغرب. ألست دومنيوس أنيوباربوس؟
نيرون :
نعم ... نعم ... أنيوباربوس ألم يكن لك زوجا؟
أجربين :
ستحكم الرومان بيني وبينك ... إن أرواح آبائي ساخطة عليك وعظامهم ترتجف في قبورها وروح كلوديوس تنظر إلينا بعين الشماتة والفرح. إنك تهين أمك على مرأى ومسمع من حاشيتك، وتقتل هذا الرجل الذي أحسن إليك لأنه بقي على وفائه لي. حمدا أيتها الآلهة على أن برنيانيكوس لا يزال حيا!
نيرون :
برنيانيكوس!
بالاس :
مولاتي!
أجربين :
نعم برنيانيكوس ابن كلوديوس من صلبه وولي عهده وخليفته على عرشه، قد شب ونما وآن له أن يجلس على عرش والده. لم يكن كلوديوس أبا لأحد غير برنيانيكوس. سوف يظهر كل شيء. سأرفع الستار عن كل شيء. سأفضح نفسي أمام الملأ. سأعترف بالجرائم التي لوثت بها جسمي وروحي لأجلك، أنا التي تزوجت من عمي وأشركتك فيما تعلم من أمره. سأحمل برنيانيكوس إلى الحرس البريتوري. سأشعل نار الفتنة. سأخرب رومه. فويل لك مني. ويل لك مني (تخرج ووراءها بالاس وتحدث هرجا) .
نيرون :
لا تذعروا يا سادة، هذه نوبة تصيبها من حين إلى آخر، وتهذي ثم تفيق فلا تذكروا ما قالت ... اذهب أنت يا بوليوس واستدع الأمير برنيانيكوس على جناح السرعة وأبقه في هذا البهو حتى أعود ... وأنت يا كراسوس (بصوت منخفض)
ادع لنا لوكستا الساحرة. وأنت أيها الحكيم إلى كتبك. أما أنا فسأوافي أصدقائي لأن الساعة الأولى من الليل قد قربت واليوم خمر وغدا أمر، وستعلم رومه أينا أقدر. (ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول
لوسيوس (يخرج فجأة) :
ها هو الأمير برنيانيكوس وصفيه لوكوس، سأستمع ما يقولان كما أمرت. انعكاف الأمير حرمني من التجسس عليه (يختبئ) .
لوكوس :
وهل تعلم يا مولاي سبب هذه الدعوة؟
برنيانيكوس :
لا أعلم سببها ولا يهمني، فقد استوى عندي كل شيء، ولولا أنك الباقي من حاشية أبي ولولا وفاؤك لذكراه وإخلاصك لي، لضاقت الدنيا في عيني.
لوكوس :
أحذرك يا مولاي من مكاشفة الناس بما يكتمه ضميرك، فقد ساءني تقرب أجربين الخئون من سموك، وأخشى أن تكون خدعت لها.
برنيانيكوس :
أجربين تخدعني! إن حوادث أذاها لا تزال حاضرة في ذهني، فقد دخلت على أسرتنا ولو كانت وباء جارفا لكان أثرها بيننا أقل فتكا بنا، فقد حرمت أختي أوكتافيا خطيبها الشريف سيلانوس وأدخلت علينا غريبا من غير دمنا؛ ولدها لوسيوس دوميتيوس أينوباربوس. وما زالت تقربه وتقصيني حتى حل محلي وصار ابن أبي وولي عهده وخليفته. فلما بلغت ما كانت ترجو قضت على والدي وجعلت ولدها إمبراطور رومه. كل هذا ورومه غافلة عنا كأنها لا ترى ولا تسمع.
لوكوس :
إن أشراف رومه عن بكرة أبيهم ينظرون بعين السخط إلى تلك الأعمال ويعطفون على سموك.
برنيانيكوس :
ما نفع العطف بعد حلول البلاء؟ ألم تصل المودة بينهم وبيني إلى أبعد من ذلك.
لوكوس :
هكذا أشراف رومه أبناء ساعتهم وعبيد حكامهم.
برنيانيكوس :
أهذا قدر أسرة كلوديان في نظرهم؟
لوكوس :
إن الإمبراطور كلوديوس والدك يستحق اللوم.
برنيانيكوس :
عفوا عفوا يا لوكوس، لا يجوز لولد أن يحكم على والده. لقد كان أبي طيب القلب طاهر السريرة.
لوكوس :
الفوز في العالم بالعقول والأخلاق لا بالقلوب الطيبة والنيات الحسنة.
برنيانيكوس :
إذن تظن أجربين ونيرون ...
لوكوس :
اخفض صوتك يا مولاي، فإن نيرون مذ بلغ العرش بث العيون والأرصاد في كل مكان، وقد يكون تحت هذا المقعد عين ترى ولهذا الجدار أذن.
برنيانيكوس :
هب أنهم نقلوا إليه ما أقول.
لوكوس :
إنه كالدهر لا أمان له وكالقدر لا مرد له.
برنيانيكوس :
أراه منذ أمد قصير يظهر لي العطف ولين الجانب.
لوكوس :
هذا يدعو سموك لأن تحذره أشد الحذر.
برنيانيكوس :
أتحسبه يضمر لي سوءا وأنا لا أناوئه العداء؟
لوكوس :
إن بطش نيرون بالناس راجع إلى ما يتوهمه فيهم، فهو يعاقب على الأذى الذي يتوقعه فيقتص من الناس على نياتهم، ولا يصبر إلى أن تصير أعمالا، ومبدؤه الاتقاء خير من العلاج، وسحق البيضة أسهل من ذبح الديك الصائح.
برنيانيكوس :
تظن نفسه تحدثه بقتلي؟
لوكوس :
إن نيرون يسارع إلى الخلاص من أعدائه على قدر ما تحملوا من مظالمه، فهو يخشاك بنسبة ما لحقك من أذاه.
برنيانيكوس :
أيقتلني في رومه جهارا؟
لوكوس :
لا حاجة به إلى الجهر في مثل الذي تقول، وما دامت لوكاست حية تسعى فكأس السم لدى نيرون حاضرة.
برنيانيكوس :
إن قولك يخترق قلبي ... إن نفسي تحدثني بأن نيرون يضمر لي السوء؛ ولذا عولت على تنفيذ أمرين أصونهما عن سواك.
لوكوس :
أبق هذا الحديث إلى أن تعود إلى قصر سموك، فإنني لا أثق بهذا المكان مهما كان خاليا في الظاهر، فقد يكون خلف هذا الستار جاسوس.
برنيانيكوس :
وفي جوف هذا التمثال جاسوس (يضحك) .
لوكوس :
الأمير يضحك من حذري.
برنيانيكوس :
الحذر يعد جبنا إذا زاد.
لوكوس :
الأمر لمولاي.
برنيانيكوس :
سأحاول إشعال نار الفتنة في قلوب الأشراف والشيوخ بأن أهيج الخواطر على نيرون.
لوكوس :
وإذا فشلت؟
برنيانيكوس :
سأتعلق بأهداب الفرار فألتجئ إلى آسيا أو أفريقيا.
لوكوس :
أتترك رومه وطنك؟
برنيانيكوس :
لا وطن لمن لا كرامة له في وطنه.
لوكوس :
أتترك المدنية والنعيم؟
برنيانيكوس :
ماذا جنيت من المدينة والنعيم ... إنني أعاني صنوف الذل، وأفضل أن أكون رأسا لذئب على أن أكون ذيلا لأسد!
لوكوس :
أتعيش بين الأمم المتوحشة؟
برنيانيكوس :
عيشة الإباء في ظلال الهمجية خير من عيشة الذل في ظلال التمدين. ليست قيمة الترحل في نصيبه من الرفاهية، إنما قيمته في نصيبه من الكرامة والشمم.
لوكوس :
هل فاتح سموك بهذا العزم سواي؟
برنيانيكوس :
نعم أفضيت به قبلك إلى بوليوس أحد ضباط الحرس البريتوري، وهو من النفر الكرام الذين بقوا على مودة أبي.
لوكوس :
خاب ظنك أيها الأمير ... إن هذا الضابط صنيعة نيرون وعينه الساهرة وأذنه الصاغية! بل هو يده اليمنى في جرائمه؛ لأنه رئيس فرقة الحرس الخفي.
برنيانيكوس :
أراك لا تحسن الظن بأحد.
لوكوس :
إن حسن الظن شيمة الحمقى. ماذا كان رأيه؟
برنيانيكوس :
لقد بشرني بنجاح الفتنة، وقال إن الأشراف والشيوخ مجمعون على بغض نيرون.
لوكوس :
إنه ينصب لك الحبائل.
برنيانيكوس :
إن السعادة حسناء تعشق أشجع الفتيان.
لوكوس :
ولكنها لا تعشق الطائشين .
برنيانيكوس :
ما تقصد؟
لوكوس :
الرأي مقدم على الشجاعة.
برنيانيكوس :
حتى متى؟ (يسمع بوق) .
جندي :
حيوا قيصر (يدخل نيرون وخلفه جند وحرس ويحدث اضطراب. ينتهز لوسيوس فرصة فيزوغ من خلف التمثال ويخرج دون أن يراه برنيانيكوس، ويدخل مع نيرون كأنه كان في حاشيته ويحادثه همسا كأنه يفضي إليه بما سمع) .
لوكوس (يهمس لبرنيانيكوس) :
كن حذرا صبورا في قولك.
برنيانيكوس :
سأرى (يخرج لوكوس بعد أن يعانق مولاه ويقبل يده) .
المشهد الثاني
نيرون :
أهلا بك أيها الأخ. إن عزلتك تسوءني وبعدك يؤلمني فلا وقت أسعد لدي من الوقت الذي أتمتع فيه بحلو حديثك.
برنيانيكوس :
إن الإمبراطور يتنزل.
نيرون :
ألم أقل لك يا برنيانيكوس إنه ليس للسلطة في نفسي أقل أثر، فهي عبء أنوء به.
برنيانيكوس :
إن الدولة حمل ينوء به من لم يخلق لحمله.
نيرون (يتغير) :
تقول إنني لم أكن أصلح للعرش؟ إذن من ذا الذي كان يصلح؟
برنيانيكوس :
لا يصلح للدولة إلا أهلها.
نيرون :
ألست ابن كلوديوس وأخاك الأكبر؟
برنيانيكوس :
إنك ابن وأخ اسما ووهما!
نيرون :
برنيانيكوس! ألا تخشى صولتي؟
برنيانيكوس :
أنت مغتصب ولا صولة لغاصب. كنت تقول الآن إنك لا تأبه للسلطة ولا تهتم بالصولة، فما الذي جعلك تلجأ إلى صولتك.
نيرون :
عجبا عجبا هون عليك. إن هذه الحدة قد تليق بالسوقة ولكنها لا تحسن بالأمراء من بيت كلوديوس.
برنيانيكوس :
ليس لي من بيت كلوديوس إلا النسب وقد شريت النسب - وهو وهم باطل - بثمن باهظ وهو حياتي وسعادتي. ليتني ولدت بين الشعب إذن لاخترت بقوتي وخلقي قائدا أو كنت خطيبا، ولكنني واأسفاه ولدت أميرا من صلب إمبراطور، وقد قضي على الأمراء أن يضحوا بسعادتهم وآمالهم في سبيل نسبهم، وأن يقضوا أعمارهم في عشرة الأرقاء والمعتقين ورجال الحاشية عوضا عن عشرة الأشراف وأهل الفضل، وهذا سر انحطاطنا وانطباع نفوسنا على الخوف والتمليق.
نيرون :
هذه روح الثورة ولا يليق بالأمير الفتى أن يثور على أخيه الأكبر، لا سيما إذا كان الأكبر نيرون إمبراطور رومه أليس كذلك يا سادة؟
السادة :
هذا عين الصواب .
برنيانيكوس :
أنا ثائر؟ أنا الخاضع الراضي المعتزل الصامت. أنا الصابر.
نيرون :
إن الثورة تجري مع دمك في عروقك.
برنيانيكوس :
لو كانت الثورة تجري في عروقي لثرت إذ ألبسوك قباء الرجال ليثبتوا رشدك قبلي، وإذ منحوك سلطة القناصل وسموك أمير الشباب ... لو كانت الثورة تجري مع دمي في عروقي لثرت إذ خلع الإمبراطور عليك الحلة الأرجوانية وهي حلة القواد والزعماء وتركني في قميص لا يستر الساق؛ ليثبت للملأ أنني لا أزال طفلا، وأنك أمير راشد ... لو كانت الثورة تجري في عروقي إذ مات أبي موتا خفيا بغير داء وفي الوقت الملائم، كأن المنية كانت تترقب بلوغك الرشد وعقدك على أوكتافيا وحلول بوروس على رأس الحرس البريتوري محل جينا وكريستيبوس كأنكم أخذتم على المنية عهدا أن لا تتأخر بعد ذلك عن الإمبراطور طرفة عين!
نيرون :
أما والآلهة ما كنت أظن هذا الصبي الناشئ يصون في صدره كل هذه الذكريات ... لم تحدثني نفسي أيها الشاب بأن قلبك الصغير يحمل هذه الأحقاد الكبيرة، وليس بيني وبينك ما يدعوني لاحتمال دلالك وصلفك.
برنيانيكوس :
ليس هذا دلالا ولا صلفا، إنما أدفع عن نفسي تهمة الثورة.
نيرون :
إنه دفاع يتضمن اتهاما، وهذا الاتهام موجه إلى إمبراطورك، على أنني طالما دافعت عنك وعن أمك لدى الإمبراطور كلوديوس.
برنيانيكوس :
لقد ذهبت أمي فريسة دسائس أمك!
نيرون :
إن ميسالينا لا تستحق دفاعا.
برنيانيكوس :
لك أن تلحق بي من الأذى ما تشاء، ولكن حذار من اغتياب امرأة متوفاة في حضرة ولدها.
نيرون :
إنها لم تصن كرامتها ... كانت متهتكة؟
برنيانيكوس :
لم تكن أكثر تهتكا من سواها، على أنني لا أستبيح اغتياب أمك أجربين وهي لا تزال حية.
نيرون :
ها أنت تسب فضلى الأمهات ... إن أمي لم تخن زوجها.
برنيانيكوس :
وأمي لم تقتل بعلها.
نيرون :
أيها السادة! إن هذا الحدث يحرج صدر إمبراطوره.
برنيانيكوس :
لست إمبراطوري!
نيرون :
أنا إمبراطور رومه، ألست من أهل رومه؟
برنيانيكوس :
كلا ... مذ صعدت على عرشها فلا أعدها وطنا لي.
نيرون :
عجبا ... إن هذا الولد يخرجني عن حلمي (يدنو منه ويحاول إمساكه) .
برنيانيكوس :
مكانك يا لوسيوس دومتيوس أنيوباربوس.
نيرون (يرجع إلى الخلف بذعر) :
آه يا للنجدة! يا للنجدة! إنه يدعوني باسم أبي. إنه يعيرني بأصلي. هذا الولد يريد قتلي ... دسيسة سوداء ... مؤامرة شيطانية! احكموا بيننا قبل أن أبطش به.
المشهد الثالث
سنيكا :
مولاي! الحق في جانبك ولكن القوة بيدك أيضا فصافح أخاك واعف عنه (يدنو من نيرون ويشاوره) .
نيرون :
إنني لا أرفض الصلح إذا مد لي يده.
برنيانيكوس :
وأنا لا أرفض الصلح إن كنت مخلصا.
نيرون :
أنا الإخلاص مجسما ... إلى صدري ... عانق أخاك الذي لا يحب سواك ... إن الدنيا هينة في جنب رضاك. اصحبه أيها الضابط إلى حيث ينتظرني لأمتع به قلبي ونفسي. واعلم يا بوليوس أن اليوم الذي عاد فيه برنيانيكوس إلى حضن أخيه لهو يوم مبارك! (يخرج بوليوس ورنيانيكوس، ثم يعود بوليوس بعد قليل) ... لقد تحققت صدق روايتك وعلمت أن ما نقلته عن برنيانيكوس هو عين ما يجول في صدره، هل أحضرت المرأة لوكستا؟
بوليوس :
هي رهينة أمر مولاي. حاشا أن أنقل لمولاي إلا صدقا.
نيرون :
آه يا بوليوس! إنه ليحزنني أن يقضي هذا الفتى في ريعان صباه، ولكن مصلحة الدولة فوق كل مصلحة، إنهم يتآمرون ويدسون الدسائس السوداء ويتحفزون للانقضاض علي أنا أميرهم وحاكمهم إمبراطور رومه! إنني لا أدافع عن نفسي إنما أدافع عن عرش رومه، وواجب الدفاع عن العرش أعظم واجب. أريد جرعة من السم تزهق عشرين نفسا في طرفة عين، لا بد لي من الفتك بهم قبل أن يفتكوا بي.
بوليوس :
هل يأمر مولاي بمثول الساحرة لوكستا بين يدي جلالته؟
نيرون :
نعم لا بأس ... أريد مشاهدتها لأزيدها تأكيدا (يهم بوليوس بالخروج) ... (مستطردا)
ولكن لا، لا أريد مشاهدتها لأنها ساحرة وأخشى شر عينيها. ليس من المحتم على الأمير أن يلقى كل أعوانه. إن لوكاستا يدي السوداء التي تعمل في الخفاء، فدعها في ظلمائها ولا تعرضها للضياء.
بوليوس :
الأمر لك (يخرج) .
خادم :
القيصر! القيصر ...
نيرون :
ما وراءك؟
خادم :
القائد بوروس (يدخل القائد) .
المشهد الرابع
نيرون :
أهلا بك أيها الشهم الهمام لقد جئت بعد الأوان.
بوروس :
هل طلبني مولاي قبل الآن؟
نيرون :
أين كنت إذ رفع برنيانيكوس صوته على صوتي وسب جلالتي وتهكم علي وتعدى على مقامي الإمبراطوري ثم تهددني؟
بوروس :
أيصدر كل هذا عنه وهو الأخ الأصغر؟
نيرون :
لقد صار أخي حربا علي وعلى الدولة ... إنه يحاول إشعال نيران الفتنة، وقد جمعت الأحقاد والمطامع بينه وبين تلك التي تدعونها فضلى الأمهات، وما هي إلا شرهن، ويشد أزرهما في اتفاقهما بالاس حتما لأنه صفي الإمبراطورة وحاميها!
بوروس :
مؤامرة!
نيرون :
كلا ... لهو ولعب؟ ... نعم مؤامرة ... مؤامرة شيطانية، هم يريدون عزلي عن العرش؛ لأنني لم أفسح لهم عليه مكانا، ويودون نزع الصولجان لأنني أبعدته عن أيديهم، ويرغبون في وضع التاج لأنه يسع رأسي دون رءوسهم.
بوروس :
وهل ثبت؟
نيرون :
ثبت. وهل نحن في نزاع قضائي حتى نبحث عن الثبوت بالأوراق والصكوك والمستندات؟ أحقل هو أم بيت؟ إن الأمر أعظم مما تظن أيها القائد ... إن عرش رومه في خطر، والفتنة ضاربة أطنابها والثورة على الأبواب وحياة الإمبراطور نيرون أمست مهددة. أمن حزبهم أنت؟
بوروس :
مولاي!
نيرون :
إذن ما هذا السكوت؟ ألست قائد الحرس البريتوري وهو سياج الدولة؟
بوروس :
مر.
نيرون :
القضاء على زعماء الفتنة.
بوروس :
وهم؟
نيرون :
الأمير برنيانيكوس
بوروس :
مولاي؟!
نيرون :
نعم نعم ... لقد طفح الإناء وقد صحت عزيمتي على ...
بوروس :
أتقضي عليه؟
نيرون :
قبل نهاية هذا اليوم ... ثم أتبعه بغيره.
بوروس :
قد تكون المجازفة في العجلة، وقد يكون الذي أوعز إلى جلالتكم ...
نيرون :
لم يوعز إلي أحد ... إن مجدي وحياتي وطمأنينتي وسلامة العرش هي التي أوعزت إلي.
بوروس :
لا تطاوعني نفسي أنك أنت الذي ابتكرت هذا العقاب. تأمل يا مولاي! بأي دم تريد تخضيب يديك؟ هل سئمت حب الرومان وأنت الآن تستثير بغضهم. إن الشعب ...
نيرون :
الشعب! الشعب! ... إلى متى أحفل بحب الشعب وبغضه؟ على أنني ذقت هذه اللذة فلم أجد لها الطعم الذي كنت أتوهمه. إن حبهم ابن يومه، فهو يولد مع الشمس وينتهي مع الغروب.
بوروس :
أنت إمبراطور رومه.
نيرون :
ليكن ... فهل أنا إمبراطور رومه لأرضي الرومان وأغضب نفسي؟ ألا أستطيع أن أكون إمبراطورا لنفسي يوما، ألا أتمتع بالإمبراطورية.
بوروس :
إن واجب الدولة ...
نيرون :
الدولة أنا وأنا الدولة!
بوروس :
مولاي إنك إلى الآن أبيض اليد طاهر الذيل، فإذا أخذت برأي المملقين والدساسين فسوف يقودك إلى ذنب والدم يدعو الدم، والعنف يزيد العنف!
نيرون :
سأقضي على واحد وانظر في شأن الآخرين.
بوروس :
إنك إن قتلت أخاك أشعلت نارا لا تنطفئ جذوتها.
نيرون :
إن لي في القصاص حياة ومجدا.
بوروس :
إذن لقد رفعت الآلهة عن رومه رحمتها. لقد كنت ضنينا بدماء المجرمين وتأبى التوقيع على أحكام القصاص، فما بالك اليوم تجود بأكرم الدماء وأطهرها؟!
نيرون :
إن مجدي يأمرني!
بوروس :
إنك إن قتلت أخاك لا شك فاقد مجدك.
نيرون :
أمن حزبهم أنت يا بوروس؟
بوروس (يركع ويمد له يده بسيف) :
خذ هذا السيف وأغرسه بين جوانحي وأهرق دمي، فليس له غرماء، ثم سر في طريقك التي رسمتها لنفسك، إنني أفضل الموت في هذا السبيل على أن يقال عنك إنك سفاك لا ترعى حرمة الأموات ولا تحفظ مودة الأحياء.
نيرون :
انهض انهض ... إنني واثق من إخلاصك.
بوروس :
بشرفي.
نيرون :
أوشكت أن أعدل.
بوروس :
أين الأمير برنيانيكوس سأرده إلى رحابك وأرد كيد الوشاة إلى نحورهم.
نيرون :
إنه في مكان أمين من هذا القصر لا يستطيع الوصول إليه أحد ... سيعلم أنه مدين لك بحياته.
بوروس :
كان المسكين ينتظر حتفه وهو لا يدري مصيره! (يخرج.)
نيرون (لنفسه) :
إن القوة التي فقدها هذا القائد ببتر ذراعه استردها بطول لسانه. ما كنت أحسب هذا القائد المغوار يحرص كل هذا الحرص على دم فرد وطالما سبح في دماء الألوف (يدخل بوليوس) .
المشهد الخامس
نيرون :
هذا أنت يا بوليوس، عليك لعنة الآلهة، أين كنت أيها البطيء المتراخي؟
بوليوس :
كنت أعد سما يزهق عشرين نفسا، وقد جمعت له لوكستا أعشابا شيطانية وجربناه في رفيق فقضى قبل أن يستقر في جوفه!
نيرون :
واأسفاه! لقد أضاعت لوكستا عملها وسحرها عبثا . كدت أعدل عن قتل برنيانيكوس.
بوليوس :
عدلت يا مولاي؟ إذن ويل للمخلصين الذين يدافعون عن عرش إمبراطورهم ... إن الإمبراطورة أجربين إذا علمت بهذا العزم وهي لا شك عالمة. فسوف تستغل هذا العدول لذاتها وتنسبه إلى نفوذها عليك وتأثيرها فيك؛ وبهذا يقوى حزبها ويرتفع ذكر برنيانيكوس ويعود بالاس رأس العصبة إلى سالف مجده.
نيرون :
دع عنك فضلى الأمهات وبالاس، فإن شأنهما أقل من أن يشغلني، ولكن الذي يشغلني هو الشعب.
بوليوس :
إن علم الشعب أن الملك سفاك ثم يسفك، فالشعب يخشاه، وإن علم منه الرحمة والعدل فالشعب يبغضه ويحتقره. فاختر لنفسك ما يحلو.
نيرون :
قاتلتك الآلهة! ما أصدق نظرك وأصوب رأيك! أين كنت وهم يرهبونني بالشعب تارة وبالرومان طورا.
بوليوس :
إذا أكرمت الرومان أطغيتهم وأغريتهم بالغرور؛ لأنهم ألفوا تقبيل اليد التي تضربهم.
نيرون :
لقد وعدت بوروس، وإنني أخشاه لفضيلته.
بوليوس :
إن لبوروس غاية يرمي إليها.
نيرون :
أمن حزب الفتنة هو؟
بوليوس :
كلا ولكن بوروس ومن معه يخشون أنك إن قضيت على أعدائك من ذوي قرباك ونجوت من رقابتهم، ذقت للحرية والبطش طعما لا تسلوه فيخلو لك الجو ويتسع أمامك أفق الصولة، وفي هذا إضعافهم والقضاء على سلطتهم.
نيرون :
آه آه ... مسكين أنت يا نيرون! لها أجربين لها حزب وبرنيانيكوس له حزب وبوروس له حزب، لقد تكاثرت الأحزاب علينا فلا ندري أيها نقاوم أولا. إن الأمر لا يحتمل الصبر وليس في الوقت متسع للإبطاء، أجربين ... برنيانيكوس ... إلي جميعكم ... سأصارعكم وأصرعكم ... لقد عدلت عن العفو والرحمة ... سيلقى برنيانيكوس حتفه لا محالة!
المشهد السادس
خادم :
النصر لقيصر!
نيرون :
ما وراءك؟
خادم :
إن امرأة مقنعة تأبى تعريف نفسها تريد المثول بين يدي جلالتكم.
نيرون :
مؤامرة جديدة في هذا اليوم العصيب ... أمقنعة هي؟
خادم :
كإحدى عذارى النار المباركات.
نيرون :
لعلها تخفي بين ثنايا قناعها خنجرا أو مدية أو طلسما مصريا.
خادم :
لم نمد إليها يدا.
نيرون :
أحضروها محفوفة بالجند، ثم اتركوها ريثما أستطلع طلعتها وكونوا على قيد قدم مني.
خادم :
الأمر لمولاي (يختفي نيرون وراء تمثال وتدخل عشيقته أكتيه محفوفة بالجند) .
أكتيه :
عجبا! أهكذا أمرتم أن تفعلوا؟
خادم :
هذه عادتنا مع من لا نعرفهم.
أكتيه (ترفع النقاب) :
لا خوف على الإمبراطور مني ... أنا جاريته أكتيه (يدهش الحرس) .
نيرون (خارجا من مخبئه) :
اتركونا ... (ينسحب الحرس) ... (مستطردا)
أكتيه إلى صدري!
أكتيه :
مولاي لقد طال هجرك فيا ليتني لم أعرف هواك.
نيرون :
جئت في يوم لا يصلح للغرام!
أكتيه :
كل وقت صالح للحب. إن نغمة من قيثارتك ولحنا ترفع به عقيرتك وكأسا تنبه بها نفسك وكفا ناعمة تمحو هموم الدولة عن جبينك وشفتين ملتهبتين تسران إلى فمك الإلهي حديث الهوى وقلبا خافقا ينضم إلى قلبك هذا، هو الحب الذي جئت أحمل إليك رسالته.
نيرون :
أكتيه أكتيه، أنى لك بهذا الكلام العذب؟
أكتيه :
إن حبي بل عبادتي إياك أوحت إلي ما أقول!
نيرون :
هذا شعر صادق.
أكتيه :
أشعر بأعظم مما يتحرك به لساني، فما القول سوى صدى صوت العواطف!
نيرون :
حقا لقد مضت أيام دون أن أراك.
أكتيه :
بعد مولاي عني يوما هجر سنين. فما بالك إذا طالت الأيام؟!
نيرون :
إنك بارقة الأمل في ليل الحوادث التي تكتنفني، وقد ارتاحت نفسي منذ رأيتك وتفاءلت بمقدمك.
أكتيه :
إني جارية قليلة الشأن ولكن حبي عظيم. ضعفي ظاهر ولكن قوتي كامنة، فإن أبقاني مولاي بجانبه فأنا كفيلة بأن أزيل همومه وأسهر على سعادته.
نيرون :
ولكن أوكتافيا ابنة كلوديوس الإلهي التي دهتني بها فضلى الأمهات ألا تغار؟ ألا تنتحب؟ ألا ترفع شكواها إلى مجلس الشيوخ أولا وإلى الأرباب ثانيا، كأن للشيوخ أو الأرباب دخلا بين الرجل والمرأة التي يختارها؟
أكتيه :
إن أوكتافيا زوجة شرعية وشريكة الإمبراطور في العلانية، أما أنا فجاريته وخادمته أخلع نعليه وأحملهما وأقبل قدميه هكذا (ترتمي على قدميه) .
نيرون :
إذن فلتبقي.
أكتيه :
مولاي!
نيرون (يدق نحاس الاستدعاء) :
أعدوا لهذه العقلية مخدعا في الطبقة العليا من الجناح الأيمن.
أكتيه :
مولاي لو سمحت جلالتكم لاخترت الجهة التي أقيم بها.
نيرون :
أي مكان تختارين؟
أكتيه :
القلب!
نيرون :
يا لك من مداعبة! لقد محوت نصف همومي !
أكتيه :
والنصف الآخر؟
نيرون :
في هذه الليلة! (ترمي له قبلة وتسير خلف الخادم.)
المشهد السابع
لوسيوس :
مولاي! إن العرش في خطر.
نيرون :
خطر جديد؟
لوسيوس :
بقية أخبار المؤامرة.
نيرون :
ما لهذه الأخطار من نهاية؟
لوسيوس :
إن فضلى الأمهات ...
نيرون :
لتخطفنها الشياطين وتخطفنك أنت أيضا! إنني لم أنج من دسائس الأمس حتى تفاجئني بمكائد اليوم!
لوسيوس :
إن لها حزبا قويا مؤلفا من الأشراف والشيوخ وأكابر الأمة، وهي لا تألو جهدا في لم شعث الناقمين على عهدك وجمع كلمتهم، وقد علمت أنها تغل يدها في كل الأمور إلا في شراء هؤلاء القوم، فهي تبسط لهم يدها كل البسط وتنفق عليهم بسخاء قيصري وتولم لهم الولائم، وقد سمعتها بأذني تخطب فيهم وتدعو كلا منهم باسمه، وتحبب نفسها إلى أصغرهم شأنا بالملق والمداهنة وتغذي نفوسهم بالألحان العذبة.
نيرون :
سنيكا ... على سنيكا وبوروس ... الأسماء يا لوسيوس ... الأسماء.
لوسيوس (يخرج ورقة من جيبه) :
أكبرهم شأنا تسعة.
نيرون :
الأسماء الأسماء (يدق نحاس الاستدعاء)
الحكيم سنيكا والقائد بوروس على جناح السرعة.
لوسيوس :
إن بالاس هو الرأس المدبر واليد الفعالة.
نيرون :
بالاس! ... إن سياسة اللين لا تنفع. لقد عاهدني ونقض عهده. سأبعث به إلى حيث لا يستطيع التآمر علي بعد اليوم ... هات الورقة وبادر إلى إتمام عملك ووافني بكل جديد وحذار من الطيش والمبالغة في نقل الأخبار، أنت عيني وأذني، واعلم أني إذا علمت أن عيني تخدعني فقأتها، وأذني إذا خانتني صلمتها ويدي إذا عجزت عن قضاء حاجتي قطعتها.
لوسيوس :
المال يا مولاي!
نيرون :
خذ (يلقي له مالا. يخرج) .
خادم :
الحكيم سنيكا والقائد بوروس (يدخلان) .
نيرون :
الحكيم غارق في بحار علمه، والقائد مرتكن إلى سالف مجده، والعرش في خطر.
سنيكا :
مولاي!
بوروس :
لم نقصر.
نيرون :
نعم لم تقصرا ولكن تعوزكما اليقظة. أنتما تتخليان عني وتتركاني أذهب فريسة امرأة لا قلب لها، ومعتق لا أصل له ولا كرامة.
سنيكا :
مولاي.
نيرون :
إن مولاك لم يعد مولى لأحد. إن مولاكم منذ اليوم هو بالاس المفدى ومولاتكم أجربينا!
سنيكا :
فضلى الأمهات ؟
نيرون :
إليك عني ... إنما هي الخئون الغادرة.
سنيكا :
وماذا يحمل مولانا على أن ...
نيرون :
تقذف بي الشياطين والأرواح الشريرة، وتنهش لحمي الخنانيص الوحشية، وتهشم عظمي تماسيح أفريقيا، إذا ما أبقيت على أحد منهم بعد اليوم! لقد تآمرت الإمبراطورة أجربين مع بالاس وروبيليوس بلاتوس حفيد الإمبراطور أغسطس على إحداث ثورة، غايتها خلعي والتزوج من شريكها لتقاسمه العرش ... لقد آن الأوان للخلاص من هذه العقرب.
سنيكا :
نريد أن نعلم.
نيرون :
وما نهاية علمكم؟ إن أجربين الخئون هنا في رومه على قيد ميل مني تؤلف حزبا من أعدائي الطامعين في العرش، وتتآمر علي وهاك قائمة بأسماء زعماء حزبها (يدق نحاس الاستدعاء) .
خادم :
مولاي!
نيرون :
أيها القائد بوروس. تسع فرق من جندك تحضر لي كلا من هؤلاء قبل أن يهدأ روعي.
بوروس :
الأمر لك (يخرج) .
المشهد الثامن
سنيكا :
هل تثبت مولانا؟
نيرون :
دع التثبت للمؤرخين. أما أنا فأذبح أولا.
سنيكا :
قد يكون في القضاء عليهم خطر أشد من الذي تخشاه.
نيرون :
ليس لدي إلا وسيلة واحدة حيال من يتآمر.
سنيكا :
كلا يا مولاي إن هناك عدة وسائل بعضها أفضل من بعض ... تستطيع أن تستبقيهم بعد أن تقف على أسرارهم وتملك أعناقهم. طالما تقدمت إلى جلالتك بالمشورة في أمر هؤلاء الأشراف، إن تقريبهم من جلالتك بالإحسان خير حائل بينك وبين دسائس الأعداء.
نيرون :
إنني إذا أحسنت إليهم طمعوا في وأطمعوا غيرهم.
سنيكا :
وإن قتلتهم أغضبت أسرهم وهجت سخط سواهم.
نيرون :
وماذا علي إذا أغضبت نصف رومه؟
سنيكا :
إن حسن السياسة يقتضي الإقلال من الناقمين والإكثار من المخلصين.
نيرون :
حسن ... ولكن ما حيلتي في هؤلاء وأنا لم ألحق بأحدهم أذى؟
سنيكا :
إن من لم يلحقه أذاك يطمع في إحسانك.
نيرون :
يا لك من مدافع عن حياة من لا يستحقون الدفاع.
سنيكا :
إنني لا أدافع عنهم إنما أريد أن أدفع عنك أذاهم.
نيرون :
إذن بماذا تشير علي؟
سنيكا :
إذا أقبل هؤلاء التسعة في حراسة الجند، أحسن وفادتهم وأنعم عليهم، وكفاهم ما أصابهم من الرعب في قدومهم.
نيرون :
أأنفق ما أملك في شرائهم وأحرم نفسي؟
سنيكا :
أنفق نصف ثروتك في الاحتفاظ بالنصف الآخر، ثم ماذا عليك لو قسمت بينهم ما صادرته من أملاك سواهم، فإن ذلك يغريهم بالانضمام إلى صفك ويوقع بينهم وبين الموتورين.
نيرون :
أما فضلى الأمهات فقد حق العقاب عليها فلا أقبل فيها شفاعة (يدق نحاس الاستدعاء ويدخل رسول) .
نيرون :
ابعثوا في طلب فضلى الأمهات.
بوروس :
مولاي قد يكون المخبر كاذبا. إن من يعيش من نقل الأخبار قد يستبيح المبالغة!
نيرون :
وأنت أيضا من حزبها؟ أي ثقة لي فيكم بعد اليوم؟
بوروس :
مولاي لو كنت من حزبها ما أخلصت لجلالتك النصيحة.
نيرون :
إنك تخلص لأجربينا إذ تريد الإبقاء عليها ... لو كنت مخلصا لي لسارعت إلى القضاء عليها.
بوروس :
إنها مهما عظمت جنايتها فهي والدة لها كرامة.
نيرون :
إنك تسبني في وجهي ... أنت تهين العرش إذ تجعل لمن يغتالني كرامة. إنها كانت والدتي إذ كنت طفلا فصبيا فيافعا فأميرا فوليا للعهد ... أما الآن وأنا خليفة كلوديوس فهي لا ترى ولدها على العرش، إنما ترى شريكا لها غصبها نصيبها في الغنيمة. أفهمت أنك لا تدرك كنه امرأة كولدها.
بوروس :
ولكن ...
نيرون :
بئس اللفظ هذا لكن ... لكن ماذا؟ لقد استضعفتني بالأمس وأنقذت برنيانيكوس من يدي، واليوم تريد إنقاذ الأخرى؟ كلا! كلا! لن أضعف منذ اليوم ... تستطيع أن تركع ما شئت وتبرز لي موضع البتر من يمينك، وتذكرني بوقائع الحرب التي شهدتها وعقدت لك فيها ألوية النصر ... كل هذا لن يحرك مني ساكنا لأن حياتي ... حياتي كلها في خطر (إلى سنيكا)
ما لك ساكت؟
سنيكا :
حتى يفرغ مولاي.
نيرون :
إنني لا أعتز بحياتي لذاتها، إن رومه تجد بعدي مائة إمبراطور، ولكن الفنون ... الفنون الجميلة تفقدني ... إن صوتي الذي أسرف فيه أمامكم لم يخلق للنثر وإلقاء الخطب، وحنجرتي هذه حنجرة صيغت من معدن إلهي، فلا تعادلها قيثارة أورفيوس ولا أوتار أبولون ... إنها وديعة بين يديكم فلا تبددوا أوصالها فيما لم تخلق له ... إن الشعر والأوزان والقوافي وأبحر العروض كلها تناديني أن احتفظ بشبابك. رباط رقبتي يا لوسيوس (يحضره الخادم فيربط رقبته) .
سنيكا :
حقا لم يغب عن ذهننا ...
بوروس :
على أنني لا أرى مانعا من سماع أقوالها قبل توقيع العقاب عليها.
نيرون :
الآن جاء وقت الدفاع!
بوروس :
نعم يا مولاي إن الدفاع حق طبيعي لكل متهم مهما كان حقير الشأن، فما بالك بوالدة وإمبراطورة؟
سنيكا :
إن هذا الرأي عين الصواب. فإذا ظهر لجلالتكم أن للتهمة ظلا من الحقيقة فلا يعوقك عن الدفاع عن حياتك عائق.
نيرون :
من يضمن لي قتلها؟
بوروس :
أنا أباشر التنفيذ بيدي.
نيرون :
أنت إذن كفيلها إلى أن تعدمها.
بوروس :
هذا إذا ثبتت التهمة.
نيرون :
إذا ثبتت التهمة.
سنيكا :
ولكن قبل كل شيء لا بد أن تفعل شيئا ... قص جناحيها وجز حواشيها.
نيرون :
وكيف ذلك؟
سنيكا :
بأن تقصيها عن قصرها وتسرح حراسها، وتضيق عليها في مسكنها الجديد، فإن هذا يذهب بكرامتها ويضعف من شأنها. إن بلاطا بلا حرس ولا أبهة كجسم بلا روح.
نيرون :
سأحكم بنفيها مهما كان دفاعها ... وقد وكلت إليك أيها الحكيم إبلاغها بمشيئتي بعد الدفاع، بحيث لا تعلم أن الحكم صدر قبل سماع قولها.
سنيكا :
الأمر لك يا مولاي.
نيرون :
حسن (ويدق نحاس الاستدعاء ويدعو ضابطا يسر إليه شيئا) .
رسول :
فضلى الأمهات! (تدخل.)
نيرون (على العرش) :
لقد شاءت إرادتنا أن يستوي في الدفاع المخلصون والخونة، ولولا توسل بعض من نجل رأيهم ونعول في الشدائد عليهم، لكان مصير المتهمين بالتآمر على العرش وحياتنا مصير سواهم من الجناة والآثمين ... إن سلامة العرش فوق كل شيء. تقدم أيها القائد بسؤال من تشاء من المذنبين.
بوروس :
ليس أمامنا إلا الأميرة، متهمة بأنها تآمرت مع من يدعى بالاس وغيره على خلع الإمبراطور وقتله ليخلفاه على العرش، وقد نقل إلينا الخبر عن لسان لوسيوس وتيكتوس ويدعي هذا المخبر أنه شاهد رؤية وعيان، وقد أمر جلالة الإمبراطور أن تتمتع الأميرة بحق الدفاع عن نفسها.
أجربين :
هذه فرية يأبى العقل تصديقها، وتهمة كاذبة لا دليل عليها، مصدرها المرأة جوليا سيلانا، ولا شك عندي في أنها استعملت المخبر لوسيوس الذي كان شاعرا في عهد كلوديوس يعيش على هامش البلاط، ولا يكفي الناس شر لسانه حتى سيده الذي كان يقيم أوده، فلما عرفت حقيقته وجد أنه أحقر من أن ينفى أو يقتل. وإنني لا أبرئ دورميتيا عمة الإمبراطور من اشتراكها مع جوليا سيلانا في هذا البلاغ الكاذب، وإنني أستطيع أن أدعم كل حرف مما نطقت به بالأدلة القاطعة ... هذا هو تاريخ التهمة التي قمتم من أجلها وقعدتم، ومن أجلها استبحتم لأنفسكم أن تزعجوا امرأة هي رغم كل قول وقائل والدة الإمبراطور، ولو جهلت جوليا سيلانا ما تعانيه الأم في الحمل والوضع لأنها لم تنعم عليها الآلهة بنسل من أحشائها، فأنتم لا تجهلون ما عانيته في هذا السبيل ...
إن فاسقة مثل سيلانا مطلقة كايوس سيليوس قد تغير عشاقها وتستعيض عن محبوب أمس بآخر، ولكن الأم لا تستطيع تبديل ولدها ولا الاستعاضة عنه بسواه ... إن معتقين لا ذمة لهما ولا شرف باعا لسانيهما لعجوز قضت شبابها في الخنا، وتقضي شيخوختها في الإساءة إلى من أحسنوا إليها، يتحتم أن تكون أجربين جانية بغير ذنب. وهل يستبيح ولدي لنفسه تصديق هذين المفتريين فيوقع بي ويلطخ يديه بدم أمه؟ ... لقد استعملوا كلهم لإتمام العمل ذلك الشاعر الحقير الذي استعان بخياله السقيم على تصوير حادثة لا وجود لها في عالم الحقيقة ... لما كنت مشغولة بإدخال نيرون في الأسرة الإمبراطورية وإثبات رشده قبل الأوان وجعله وليا لعهد كلوديوس الإلهي، وأمهد له سبيل الإمبراطورية ليجلس على عرشها محفوفا بالجلال والمجد، أين كانت تلك التهم وأين كان هؤلاء المبلغون؟ ... ليظهر الرجل الذي يستطيع اتهامي بتهمة تمس سلامة العرش أو كرامة الدولة، ولو أن برنيانيكوس ابن كلوديوس صار إمبراطورا فأي أمل لي في دولته وهو يعلم عني في مناهضته ما يعلم، بل أي أمل لي في عهد ديلبوس بلوتوس إذا جلس على عرش رومه، إنني إذن ما كنت أستطيع الدفاع عن نفسي بين يدي إمبراطور أجنبي كما أفعل الآن أمام ولدي الذي حملته في أحشائي وغذيته من لحمي ودمي ... تسلمته من أبيه في ليلة حب شريف، قبلة حارة وحلما لذيذا وأسلمته للعالم إمبراطورا لرومه وسيدا للناس أجمعين. هاكم الاتهام وهاكم الدفاع فاحكم أيها الإمبراطور ... احكم على أمك، فأنت خير الحاكمين!
بوروس (لسنيكا) :
لم تبق في عروقي نقطة دم لم تغل من الغضب من أعداء الأميرة ... ولم يبق عندي أقل ريب أو أدنى شك في براءتها مما نسب إليها ... أيها الحكيم أليس هذا رأيك؟
سنيكا :
نحن نستمع وللإمبراطور الرأي الأعلى.
بوروس :
إن كلامها يصل إلى أعماق السرائر وهذه شيمة الصدق.
نيرون :
أظن التهمة باطلة ولكنهم أتقنوا التلفيق بحيث إنني، وأنا أعتقد براءة الأميرة، لا يزال في نفسي أثر من أقوالهم.
بوروس :
لا مجال للشك يا مولاي!
نيرون :
حقا لا مجال للشك يا مولاي.
بوروس :
ينبغي عقاب المخبرين فقد أتوا بنبأ كاذب.
نيرون :
ما أطيب قلبك أيها القائد! إنني لا أعاقب جاسوسا مهما كان كاذبا لأن عقابه يضعف عزمه ويثبط همة سواه، ما هو الجاسوس؟ أليس خادم الدولة الأمين يعرض حياته للخطر ويستعمل ذكاءه في الوقوف على أسرار أعدائنا. الجاسوس ... الجاسوس ... إنه عيني التي أرى بها وأذني التي بها أسمع، أتريد أن أبقى إمبراطورا أعمى وأصم؟ إن مثل الجاسوس كمثل الكلب الأمين يحرس القطيع، إن أوقع الراعي بكلبه، فقد أمن الذئاب عاقبة الاعتداء عليه. إذا عرف الأشرار أنني أعاقب جواسيسي أو أوقع بهم لمجرد تحريف في القول أو تغيير في الحقيقة فهم يطمعون بي.
بوروس :
ولكن ألا يحسن إكرام الأميرة؟
نيرون :
سلها هل يستغني الإمبراطور عن جواسيسه؟ إنها أدرى مني ومنك بتدبير شئون المملكة. على أن هذا أمر لم أبت فيه بصفة قاطعة وسأنظر فيه.
أجربين :
لا أمل لي إذن في عقاب أعدائي من الذين بلغوك في حقي كذبا.
نيرون :
أبلغ أيها الحكيم الأميرة مشيئتي.
أجربين :
مشيئتك هل كان يعلمها قبل أن تسمع دفاعي؟
سنيكا :
إن الإمبراطور راغب في خير الأميرة، ويريد أن لا يتكرر مثل ذلك الحادث، لأجل هذا صحت عزيمة جلالته على إبعادها عن مواطن الريب وتنظيم دخلها وخرجها بحيث لا تكون ثروتها نهبا للطامعين والمملقين والمنافقين ورسل السوء وسعاة الشر، وإن العزلة في ظل التمتع برضاء الإمبراطور خير من تكالب الناس على مجلس سموها والأمير غضبان مرتاب.
أجربين :
إذن نفي وفقر ووحدة؟ أهذه التي تزوقها وتنمقها وتسميها بالعزلة وتنظيم الدخل والتمتع برضاء الإمبراطور؟
سنيكا :
لست إلا ناقلا.
أجربين :
هل أمرت بذلك يا مولاي؟ هل حكمت على أمك قبل سماع دفاعها؟
سنيكا :
إن الطبيب نهى جلالته عن كثرة الكلام احتفاظا بحنجرته.
أجربين :
ليس لي عون ولا نصير سوى الاستسلام والصبر. سر أمامي أيها الحارس إلى السجن الذي اختاره لي ولدي (تخرج) .
نيرون :
إن البراءة ليست واضحة.
بوروس :
والتهمة غير ثابتة.
نيرون :
إذن تستحق العقاب.
بوروس :
إن الشك يفسر لمصلحة المتهم.
نيرون :
هذا إذا كانت التهمة مما يقع على الأفراد، أما إذا كان المجني عليه إمبراطورا فالشبهات توجب الحدود. على أنني جاملتكم وأظهرت الشفقة على الرغم من أنها تعلم مخبأ بالاس الذي حار جندي في البحث عنه، ولكنها لا تبوح به.
سنيكا :
لقد تجلت الحكمة العليا في حكم جلالتكم بنفيها. أما بالاس فلن يفلت من يدنا مهما طال أمد اختفائه.
نيرون :
الآن أستطيع أن أتنفس ... برنيانيكوس معتقل، وبالاس ذليل مختبئ، والبحث عنه متواصل ورؤساء الحزب من الأشراف سأتولاهم بتقسيم الأموال المصادرة عليهم عملا برأيك أيها الحكيم فيهتفون لي، وأجربينا منفية مراقبة ... سأقول شعرا في هذا، تخيلت نفسي أبولون مثلا أقود سفينتي وهي رومه في بحر إيجيه ثم تهب الرياح العاتية وتعصف العواصف القوية وتعلو الأمواج حتى تغمر السفينة ... ثم ...
سنيكا :
هذا خيال سام.
نيرون :
لا تقاطع فقد ارتج علي ... سأرجئ تكوين القصيدة إلى ما بعد السهر (يدق نحاس الاستدعاء فيدخل خادم) .
خادم :
مولاي.
نيرون :
هل حضر الأمير أوتون؟
خادم :
لم يحضر بعد.
نيرون :
إنه أخلف ميعاده ... الأفضل أن أقضي هزيعا من الليل في الترحيب بالعقيلة المقنعة ... هيا بنا يا سادة (يخرجون. يدخل بالاس مقنعا. لوكوس) .
بالاس (إلى لوكوس) :
لقد دعوتك لأنك أشد الناس إخلاصا للأمير، وقد صحبته في مقدمه إلى هذا القصر وستصحبه في الخلاص من الأسر والفرار من الموت، فقد صحت عزيمة نيرون على القضاء على مولاك غداة غد، وقد أعدت له لوكستا السم الناقع!
لوكوس :
وكيف السبيل إلى نجاته؟ ومن يكون سيدي المقنع؟
بالاس :
لقد وعد نيرون القائد بوروس بالعفو عن أخيه، ولكن وعده لم يكن إلا خديعة. هاك اسمي فاقرأه (يخرج من جيبه ورقة) .
لوكوس (بذعر) :
كيف علمت ذلك؟
بالاس :
إنه أخذ في إعداد المعدات للقضاء عليه، ولكنا تمكنا بما بذلناه من الجهد والمال من الوقوف على مكانه وجئنا لإنقاذه، كما تمكنا من إبقاء الإمبراطورة ريثما نجمع كلمتنا ... وإنها قادمة بعد حين في حراسة اثنين من حاشيتي (يهمس في أذنه) .
لوكوس :
إنني أبذل حياتي في سبيل نجاته.
بالاس :
ها هو يسير في مقدمة منقذيه ولا يدري جسامة الخطر الذي يتهدده، ففاتحه أولا في أمره وحبذ إليه الفرار.
لوكوس :
سأفعل (يدنو برنيانيكوس من الاثنين. يبتعد بالاس قليلا) .
المشهد التاسع
لوكوس :
مولاي! لقد وقع ما خفت أن يقع، وأنت الآن أسير في هذا القصر تترقبك المنية، ولا حائل بينكما إلا تردد هذا الظالم.
برنيانيكوس :
عجبا ... لقد تصافينا وضمني إلى صدره قائلا إنه الإخلاص مجسما والوفاء ممثلا ثم وضعني بحيث لا أرى أحدا ولا يراني أحد!
لوكوس :
لم يكن ولن يكون نيرون صادقا، وقد علمت أنه بدأ الآن يضرب بشدة على أيدي من يتهمهم ببغضه. وها هو قد نفى أمه وأفقرها وقص أجنحتها، وهي الآن في القصر سجينة مثلك، ولكن السيد بالاس يسعى في إنقاذها كما سعى في إنقاذ سموك.
برنيانيكوس :
وبماذا تشير علي؟
لوكوس :
بالفرار يا مولاي تحت جنح الظلام متزييا بزي تاجر أو بحار، وأنا في صحبتك.
برنيانيكوس :
إن الأمير المطالب بالعرش لا يفر.
لوكوس :
لقد كنت عازما على الفرار من قبل.
برنيانيكوس :
لو أنني أشعلت نار الثورة وفشلت إذن لفررت فيكون انصراف اليائس الناقم المزدرى، أما الآن فيكون هرب الجبان من وجه الردى، وهذا ما لا أرضاه لنفسي مطلقا.
لوكوس :
أتوسل إليك قد تستطيع أن تجر جيشا من البلاد الأجنبية وتعود إلى رومه ظافرا.
برنيانيكوس :
هذا أمر محفوف بالريب. إن من يتولاه الجبن في أول أمره يترقبه الفشل في آخره (ترى أشباح قادمة) .
لوكوس :
هذه الأميرة أجربين يصحبها رجلان من حاشية بالاس.
برنيانيكوس :
أأخاطبها؟
لوكوس :
لا بأس إن مصلحتكما واحدة.
برنيانيكوس :
إنني لا أحب الوفاق الذي ترغمنا عليه الحوادث.
لوكوس :
هذا نظام الحياة، فعدو اليوم قد يكون صديق الغد، وخصيم الأمس قد يصبح أليف اليوم.
المشهد العاشر
أجربين :
ولدي العزيز برنيانيكوس، كنت أبحث عنك وظننت هذا الوحش أوقع بك.
برنيانيكوس :
لم يكن وحشا إذ اقترفت كل جريمة لتحرميني وتمتعيه.
أجربين :
ليس هذا مجال العتب والتأنيب، إني أرشحك للعرش!
برنيانيكوس :
أي سلطة لك بعد اليوم فقد قص ولدك جناحيك وجز حواشيك.
أجربين :
إن أجربين ابنة جرمانيكوس لا تقهر.
برنيانيكوس :
ما خطتك؟
أجربين :
أن نفر حالا إلى البلاد الأجنبية، وأن نهيج الأقوام ونعود بجيش فاتح.
برنيانيكوس :
هل يئست من رومه؟
أجربين :
نعم.
برنيانيكوس :
إذن لا أمل لنا؛ لأننا إذا فقدنا العضد والنصير في رومه ذاتها، فمعنى هذا أن رومه لا تريدنا.
أجربين :
إن رومه تريدنا حتما، ولكن إرادتها تلاشت وأخلاقها فسدت، ومثلها كمثل العاشق الذي ذهبت قوته وقلبه يخفق لأجل حبيبه وسائر أعضائه تخونه إذا حاول إشباع أشواقه.
لوكوس :
إن رأي الأميرة عين الصواب، ولكن هل لدى جلالتكم مال؟
أجربين :
أكثر من ماله.
لوكوس :
ورجال؟
أجربين :
أعظم عددا وأشد إخلاصا من رجاله.
برنيانيكوس :
من يكون هذا السيد المقنع؟ (أجربين تهمس في أذنه.)
بالاس :
مولاي أنت إمبراطورنا غدا.
برنيانيكوس :
هذا حلم!
بالاس :
ليست هذه أول مرة أجلس فيها أميرا على العرش.
برنيانيكوس :
لقد فعلتها وقتلت نفسك وقتلتنا!
بالاس :
قد يخطئ الإنسان، ولكن الحكيم يصحح خطأه، وقد أعددت كل شيء لهذا الغرض.
برنيانيكوس :
وهل أنت صاحب رأي الهجرة؟
بالاس :
نعم، ولكن لن تطول ولن تكون بعيدا عن رومه.
برنيانيكوس :
ألا ترى غرابة في أن من يريد أن يحكم رومه يفر منها؟
بالاس :
من يريد الاستيلاء على الحصون يصوب عليها سهامه وهو بعيد عنها
برنيانيكوس :
أصبت!
بالاس :
الإسراع بالخروج من هذا القصر من الباب الأخضر.
برنيانيكوس :
أليس محفوفا بالحرس؟
بالاس :
لا يعرف هذا الباب أحد سوى الأميرة وعبدكم.
برنيانيكوس :
هيا بنا (يخرجون) .
لوسيوس (يخرج من مخبئه) :
إن عين نيرون ساهرة. (ستار)
الفصل الثالث (قصر نيرون - أهل الديوان الإمبراطوري - ندماء وأميرات ونساء ومهرجون وخدم وجواري ... إلخ.)
المشهد الأول (بيترون (صديق نيرون) - ريبليوس (وطني) - أصدقاء)
ريبليوس :
مذ عدت إلى رومه علمت ما سرني، وهو أنك أوفى من يثق بهم قيصر.
بيترون :
حقا لقد طالت غيبتك، فإن هذا الخبر لا يسر إلا من طالت غيبتهم عن رومه فانقطعت سلسلة الاتصال في أذهانهم بين الحاضر والماضي.
ريبليوس :
يحق لك أن تتهمني بالجهل؛ لأننا مذ افترقنا في صبانا اتجهت نفسي نحو الجيش فتتبعت القائد كوربولون وحاربت البارتان، أما أنت فقد فضلت الإقامة بين جدران قصرك الفخم وحدائقك الغناء، وتسعدك المحظيات ويخدمك الجواري والأرقاء.
بيترون :
على رسلك يا ريبليوس! إنني لم أركن إلى السكينة في ظلال الرخاء، وقد كان لي نصيب لا يقل عن نصيبك في خدمة الوطن، فقد كنت حاكما على مقاطعة بيتينا بأسرها، وإني لا أمدح نفسي، ولكن أتحدث بنعمة الآلهة إذا قلت لك إنني كنت حاكما عادلا محبوبا من الرعية.
ريبليوس :
نحن الرومان الذين رحلنا مع الجيوش لمحاربة البرابرة والوحشيين اكتسبنا من أخلاقهم؛ فكستنا عشرتهم ثوبا من الخشونة، وغمست ألسنتنا في مرارة الصراحة الفطرية.
بيترون :
عفوا أيها البطل تحسب أنني واجد عليك لصراحتك. إن الصراحة هي أعز الصفات منالا في رومه أيامنا هذه، بل إنني أغتبط بمن لم تذهب أخلاقنا المجلوبة المصطنعة بسلامة سريرته وحرية لسانه. لقد راجت سوق النفاق والتصنع، وارتفع قدر الكذب والنميمة، وعلا شأن التملق والمداهنة بقدر ما هبطت قيمة الإخلاص والصدق والكرامة!
ريبليوس :
إن أدبك الرائع يملي عليك هذا القول المنمق؛ لتذهب عني وهلة الخجل بما سبق به لساني.
بيترون :
لست أيها الرفيق في بيتي فأداجيك وأتملقك، إنما أنت في بيت قيصر، فإن شرفت بيتي ...
ريبليوس :
علمت أنه تلتقي فيه صنوف المسرات والملاذ، وأن صاحبه مخترع البدع!
بيترون :
لقد بالغوا في الوصف إنما الناس على دين ملوكهم، إذا كان قيصر يدعونا للشراب والمنادمة فلا نستطيع أن نشرح له فلسفة أفلاطون!
ريبليوس :
ولكن تستطيع أن تنشده قصيدة من شعرك الرائق الذي كنت تمارسه منذ صباك.
بيترون :
بحق أسلبياس وسيبريس لا تذكر الشعر لئلا تذكر في الشعر نيرون!
ريبليوس :
أشاعر هو؟
بيترون :
إنه شاعر ومنشد وممثل ومتسابق ومصارع وصياد وموسيقار، وبالجملة فهو يدعي لنفسه كل صفات المتفننين، أما شعره فقد حرم علينا الشعر لأنه لا يروقه إلا إنشاد ما ينظم ويحتم على الحاضرين والغائبين التفاني في تمجيده وتقديسه، والويل كل الويل لمن لا يجن إعجابا بقصائده، وقد أنقذت بالأمس فيسباسيان من الموت لأنه أخذته سنة من النوم ونيرون ينشد قصيدة من شعره (يسيران قليلا) .
المشهد الثاني (فينكيوس - بلازوس)
فينكيوس :
كيف أصبحت؟
بلازوس :
نهضت ظهرا منهوك القوى، وقد أقنعني استرخاء أعضائي أن بدني لم يعد يطيق ملاذ الحياة.
فينكيوس :
إن وليمة في قصر نيرون ليست مما يستهان بها. لقد رأيتك تفرط في الأكل والشراب وتسرف في المغازلة.
بلازوس :
حمدا للآلهة التي أنعمت علينا بحمام الصباح، وبأيدي الجواري المدلكات، وبدهن النعام، وعطر الشرق وزيت الكافور.
فينكيوس :
لا تنس ريشة العاج المغموسة في زيت الجوز.
بلازوس :
إنني شريت منذ شهر رقيقا مصريا كانت صناعته الطب، فوصفت له حالي وما أعانيه من سوء الهضم وآلام المفاصل وما يعتريني من أوجاع الكعبين والأطراف، وخفقان القلب ووخزاته المزعجة التي تمتد أحيانا إلى ذراعي اليسرى بأسرها، وما يصيبني أحيانا من هياج الكليتين وضيق الصدر ويغشاني من ضعف الذاكرة وخمود القريحة والأرق وفقد الشهية.
فينكيوس :
لقد عددت أمراض الرومان وجميع ما يملكون من الأمم!
بلازوس :
إن عبدي الطبيب المصري يقول إن هذه المصائب كلها ما هي إلا أعراض لداء واحد معروف في مصر بداء الملوك؛ لأنه لا يصيب إلا المترفين والأغنياء.
فينكيوس :
وما دواؤه؟
بلازوس :
قال لي الحمية إلى حد الصيام، وكبح جماح الشهوات إلى حد العفاف.
فينكيوس :
وهذان أمران تستطيعهما.
بلازوس :
سأحاول الاعتدال؛ لأنجو بجلدي من هذا الداء الوبيل (يسيران) .
المشهد الثالث (سنيكا - لوكيان)
لوكيان :
حقا إن المناقشة كانت لذيذة وممتعة لولا أن الإمبراطور أدركته النشوة قبل الوصول إلى النتيجة!
سنيكا :
إن هذا البحث لا نتيجة له.
لوكيان :
ومع ذلك فإنك وافقته على معظم آرائه، وكدت تقول بقوله.
سنيكا :
أنا أقول برأيه إن المرأة مخلوق بلا روح؟
لوكيان :
يخيل لمن كان يسمع حديثك أمس أنك كنت مشرفا على قول هذا الرأي.
سنيكا :
أنت كنت مشغولا عنا بمحادثة ذلك الساحر الإغريقي الذي يدعي الحكمة.
لوكيان :
كنت أعيرك أذنا، وما بقي من سمعي لخرافات هذا الشيخ.
سنيكا :
أنا لا أوافقك، فإن حديثه لم يكن حديث خرافة، وقد قال كثيرا من الحقائق، فأنا أعتقد مثله بخلود النفس وتأثير السحر واستحضار الأرواح والتأثير على الناس عن بعد، بمجرد الفكر والإرادة.
لوكيان :
ولكن هل تعتقد أن للنفس إشرافا على المستقبل فتحدث صاحبها عن علم بما سيقع؟
سنيكا :
وهذا أعز وأرفع ما أعتقد.
لوكيان :
إذن تقول كما يقول كهنة مصر بإمكان الاطلاع على الغيب، والاستسلام للأقدار، وسبق علم الآلهة بما سيقع لبني الإنسان.
سنيكا :
أقول بهذا كله.
لوكيان :
ولكن هذه الأفكار تناقض أفكار نيرون.
سنيكا :
لقد وهبت نيرون فصاحتي ومشورتي، ولم أهبه روحي وعقلي.
لوكيان :
حقا أيها الفيلسوف، إن معظم آرائك مضنون بها على غير أهلها.
المشهد الرابع (لوسيوس - كريسبوس)
لوسيوس :
إن الليالي حبالى يلدن كل عجيبة!
كريسبوس :
وهذه الليلة؟
لوسيوس :
تتمخض عن المدهشات.
كريسبوس :
عجبا كيف ذلك وبال نيرون هادئ يولم الولائم، ويعقد مجالس الخمر، ويمرح في بحبوحة الغرام؟
لوسيوس :
إنه علم بفرار أمه وبرنيانيكوس واجتماعهما عليه مع فريق كبير من الناقمين، فتمكن من القبض عليهما وردهما إلى محبسهما، ولكن يده لم تمتد بعد إلى بالاس؛ ولذا تراه هادئا في الظاهر ولكنه مضطرب في الباطن.
كريسبوس :
إنه لا يعدم رأيا صائبا يمده به سنيكا، وسيفا حادا يطرحه بين يديه بوروس.
لوسيوس :
لو كان الأمر كما تقول، ما كان نيروند ليلتجئ إلى طلاسم لوكستا وسمومها، فقد أرسل في طلبها، لعله مدبر مقتل أمه في هذه الليلة.
كريسبوس :
إنه يشبه الملوك جميعهم، يندر أن يكتفي أحدهم بالأسلحة الظاهرة دون الخفية، إن حياة الملوك حرب دائمة، والحرب خدعة.
لوسيوس :
أضف إلى ذلك أن لنيرون في كل حين أصدقاء وندمانا وعشاقا يرتاح إليهم ويطلبهم ويستسلم إلى مقاصدهم، وقد فات الآن عهد أتوتون وبوروس وسنيكا كما فات عهد أجربينا وأكتيه، وجاء عهد سوفنيوس وتجلان وبترون ونوفاثنيوس.
كريسبوس :
ولكنني أرى الفريقين قديمهم وجديدهم مجتمعين، فهناك سنيكا وبوروس وأوتون وتجلان وبترون.
لوسيوس :
إن القديم لا يزال يتحكك بالبلاط عسى أن يعود إلى سابق مكانته أو يحاول الإيقاع بالجديد الذي خلفه، وهو لا ينقطع عن القصر لئلا يشمت به أعداؤه أو يتخذ خصومه من ذلك ذريعة للوشاية به لدى قيصر.
كريسبوس :
ها هو سنيكا يدنو من بترون، وبوروس يحادث تجلان.
لوسيوس :
إن بترون وتجلان عدوان لدودان، تجمعهما المنفعة والمصلحة المشتركة وتقصيهما الغيرة والحسد.
كريسبوس :
وسنيكا يبدو عليه الذل!
لوسيوس :
من يهن هان الهوان عليه، لو تمكن هذان الرجلان سنيكا وبوروس من الاستيلاء على عقل هذا الشاب لكان عهده أعظم عهد في التاريخ، ولكن قضت الأقدار إلا أن يتغلب الشر على الخير ويعطي نيرون نفسه هواها، فيذهب عقل سنيكا وفضل بوروس عبثا. وما قيمة العقل حيال القوة الغشوم، وماذا يستطيع الفضل إزاء الرذيلة المنتصرة؟!
كريسبوس :
حقا! إن هذا من العجائب!
المشهد الخامس (تاسوس - كريسبوس)
تاسوس :
إني لا أرى أكتيه بين المقربات من قيصر في هذه الليلة.
كريسبوس :
لقد مضى عهدها وانقضى سلطانها.
تاسوس :
كيف؟ هل زال حبها من قلب نيرون الذي كان يعبدها؟
كريسبوس :
إن من صفات هذا الرجل وأمثاله عدم الوفاء في الحب، ديدنه الملل وخلته الضجر، وكما تراه في قلق دائم أينما حل، كذلك ترى عواطفه في تنقل مستمر، ولا يمكن تعليل هذه الحال إلا بفساد الطبع.
كريسبوس :
لم يفعل بأكتيه سوءا ... فهي الآن تعيش منزوية، كالوزير الطاهر الذمة في بلد فاسد.
تاسوس :
قد انضمت إذن إلى ضرتها.
كريسبوس :
تقصد أوكتافيا؟
تاسوس :
نعم!
كريسبوس :
لا فرق بينهما إلا أن أوكتافيا زوجة شرعية وأكتيه محظية.
تاسوس :
ما أسعد الرجل الذي تحبه امرأتان!
كريسبوس :
إن أوكتافيا لا تحبه مطلقا، ولكنها مغلوبة على أمرها وهي مرغمة على السكوت والصبر.
تاسوس :
كنت أعلم فيما مضى أنه يحسن معاملتها.
كريسبوس :
كان ذلك خوفا من أمه أجربينا، ولا يعوقه عن قتلها إلا أنه لا يجد لها ذنبا يبرر فعلته ولكنه حتما واجد.
تاسوس :
نسيت إجابتي عمن حلت محل أكتيه الجميلة.
كريسبوس :
لقد حلت محلها سابينا بوبيا، وهي امرأة شريفة الأصل كريمة المحتد، وقد جملتها الطبيعة بأجمل الصفات وأبهى الخصال وأحلى المزايا، ولم تحرمها إلا من الفضيلة ... جمالها رأس مالها وعقلها رائدها ومصلحتها دليلها في حياتها الفاسدة.
تاسوس :
ولكن كيف وصلت تلك الفاتنة سابينا بوبيا إلى قلب نيرون؟
كريسبوس :
إنها تزوجت من الشريف أوتون صديق نيرون العزيز ونديمه المقرب ورفيقه في رحلاته الليلية، وما لبث الشريف أن عقد عليها وحظي بها حتى أخذ يطري جمالها لدى نيرون وهو أعلم الناس بأخلاق مولاه! لقد سمعته بأذني ينهض فجأة في وسط الوليمة عندما تكون الخمر قد بدأت تلعب برأس نيرون في تلك اللحظة المتوسطة بين الصحو والنشوة ... تلك اللحظة التي تتيقظ فيها كل الشهوات عندما يريد الثمل الجمع بين حافة الكأس وشفة امرأة، ويقول ها أنا ذاهب إلى ذراعي تلك التي جمعت صنوف الجمال والدلال ... تلك التي يشتهيها كل من رآها، فإذا ذاق غرامها لا يسلوها!
تاسوس :
حقا إن هذه كلمات عجيبة على لسان زوج!
كريسبوس :
هكذا لم يلبث نيرون أن شغف ببوبيا، أو وقع في الحبالة التي نصبها له أوتون، فأرسل إليها من يبلغها حبه الجم، فلم تتردد لحظة في قبول غرام الإمبراطور!
تاسوس :
لقد عرفت من أين تؤكل الكتف!
كريسبوس :
ولما أن وثقت أن نيرون صار رهن حبها، بدأت تتيه وتدل وتشير إليه من طرف خفي أنها امرأة متزوجة!
تاسوس :
يا للعفة!
كريسبوس :
وقد استطاعت تلك الفاجرة أن تصيب هدفين بسهم؛ فإنها نفرت نيرون من معشوقته المخلصة أكتيه، وبغضته في صديقه الحميم أوتون؛ فهجر الأولى وقلب للثاني ظهر المجن، فأبعده وأقصاه وحرم عليه مجالسه، وقفل في وجهه أبواب قصره، ولما لم يجد وسيلة للإيقاع به ولاه على لوزيتانيا.
تاسوس :
والزوجة؟
كريسبوس :
أبقى عليها وقربها، وهي الآن قرة عينه ومالكة قلبه وسيدة قصره.
تاسوس :
بغير عقد شرعي؟
كريسبوس :
عقد الهوى.
المشهد السادس (يسمع صوت بوق.)
رسول :
النصر لقيصر! (يدخل نيرون ومعه كثيرون.)
نيرون :
آه يا رفاقي ... كنت الليلة على وشك السفر إلى أشايا، وقد أعددت للسياحة عدتها، وقصدت الكابيتول مصحوبا بالنبلاء لتقديم القربان الأخير قبيل الرحيل.
أحدهم :
إن قيصر المقدس يتواضع للآلهة بتقديم القربان.
آخر :
ما رأينا إلها يقدم قربانا لأخوته!
نيرون :
حقا ولكن ينبغي للأرباب أن تذكر بعضها بعضا من حين لآخر، ومع هذا فإن زميلي هوميروس ذكر لنا في إلياذته أن الأرباب في ألومب كانت تولم الولائم فيما بينها!
أحدهم :
لا غرابة إذا قدم قيصر قربانا لبوليكس وفيستا.
نيرون :
خاصة فيستا يا صاح، فإنها على الرغم مما بيننا من أواصر القرابة الإلهية لا تفتأ تملؤني رهبة ورعبا.
أحدهم :
حاشا لقيصر الإلهي أن يذكر!
نيرون :
صمتا يا صاح. إنني أقول الحق. إنني لا أكاد أرى تلك الإلهة الرهيبة وأشهد نارها المتأججة حتى ينفر شعري في منابته ويصطك فكاي وتستولي على سائر أعضائي رجفة كالتي تدرك العصاب بالحمى. وأضرب لكم مثل اليوم، فإنني لم أوشك أن أقف في حضرة تلك التي يزعجني مجرد ذكر اسمها حتى شعرت بدوار فخارت قواي، ثم اصفرت الدنيا في وجهي وفقدت الإدراك، وكدت أستلقي على ظهري لولا أن تناولني تيجلان بذراعيه القويين. تعسا لها من رجفة، ما أشنع الخوف أيها الرفاق! إنه الحالة الوحيدة التي يستوي فيها الآلهة أمثالي والبشر أمثالكم!
تيجلان :
نفسي حدثتني اليوم وأنا أرى قيصر يتمايل اليوم أن هذه رجفة الوحي الإلهي.
نيرون :
حقا حقا ... إنني أتذكر الآن شيئا فشيئا ... لقد كان يخيل إلي أنني سمعت صوتا يهمس في أذني: أرجئ سفرتك (يدخل رسول) .
رسول :
النصر لقيصر!
نيرون :
ما وراءك ؟
رسول :
لقد أنجزت ما أمر به قيصر.
نيرون :
اقرأ البلاغ.
رسول :
أيها الشعب الروماني لقد أرجأ قيصر سفره لأجلكم، فإنه أثناء ذهابه إلى الكابتيول وعودته شهد آثار الحزن تبدو في سيماكم، فعلم أن سفره هو سبب كآبتكم، فتحرك في قلبه الإلهي عواطف الحب الوالدي نحو أبنائه الأعزة، فقرر أن يبدل راحته في سبيل سعادتكم وصحت عزيمته على البقاء بين ظهرانيكم، فانتظروا في يومكم هذا توزيع الأرزاق، وأعدوا أنفسكم لمشاهدة الألعاب الفخمة ... ليحي قيصر! ... هذا يا مولاي هو البلاغ الذي سنذيعه في الشعب.
نيرون :
عظيم! افعل ... افعل (يخرج الرسول) ، (مستطردا)
تعددت الأسباب والفعل واحد، لا ينبغي للشعب أن يعرف أكثر من هذا ... إن الشعب لا يهمه إلا امتلاء بطنه وانشراح صدره (يسمع هتاف الشعب من أسفل القصر: ليحي قيصر! ليحي قيصر!)
حقا يا رفاق إن الوحي الإلهي لا يزال يرن صداه في أذني، يخيل إلي أن تلك التي يزعجني مجرد ذكر اسمها أوحت إلي أنني أستولي عما قريب على ملك مصر والشرق بأجمعه. فإذا وقعت لي مصر الفاتنة، سأشيد بها آثارا لا تعد الأهرام في جنبها شيئا مذكورا، وسأنحت في الصخر سفنكسا يزيد في الضخامة والعظمة سبع مرات عن الإسفنكس الموجود، وسأصور ملامحي جميعها في صورته؛ بحيث تخلد تقاطيع وجهي على مر الدهور، وتشمل حمايتي شعوب الأرض إلى آخر أجيالها.
بيترون :
يا لها من منحة تعجز الإنسانية عن حمدك عليها!
نيرون :
وفي مصر أيضا سأتزوج من القمر!
بيترون :
يا له من زواج ... إنه قران النيرين!
نيرون :
سنلد أجمل الكواكب!
بيترون :
سيخلق نيرون دورة فلكية جديدة، لا تعد في جانبها دورة الشمس شيئا!
نيرون :
نعم سأخلق سماء تزهو على السماء وأرضا تفاخر الأرض.
بيترون :
ليتزوج فتيليوس من النيل!
نيرون :
إنهما لا يلدان إلا التماسيح ... وأزوج تيجلان من الصحراء!
بيترون :
فيلدان الثعالب وأبناء آوى!
نيرون :
سأجد لكل واحد منكم في مصر ما يسره ويلهيه.
بيترون :
إن ملكتي الشعر والغناء اللتين تملكان عليك نفسك منذ الصغر، تشكو من الهجر.
نيرون :
حقا لقد مضى حين من الدهر ولم أنظم شعرا ولم أوقع نغمة على وتر.
بيترون :
إن الأشراف والقرناء الذين مننت عليهم بهذا الاجتماع وفضلتهم على كل العالمين، يبتهلون إلى مقامك الإلهي، ويلتمسون من مراحمك الوالدية أن تتفضل بالإنعام عليهم بما تجود به قريحتك الأولمبية.
نيرون :
إليك عني يا بيترون ... أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أرفض لك طلبا إلا هذا فإنني لا أطاوعك فيه.
لوكان :
إن الإنسانية راكعة أمام هيكلك الإلهي تحييك وتلتمس ...
نيرون :
وأنت أيضا يا لوكان ... من أين آتي لكما بالشعر؟
لوكان :
كلنا نعلم أنك نظمت في الفترة الأخيرة أناشيد وأغاني ومقاطيع تسمو على كل ما نظمته شعراء الجنس البشري منذ بداية الخليقة إلى آخر الدهر!
بيترون :
إن لوكريس نفسه أمير شعراء الرومان يخجل من شعره إذا أسعده الحظ بسماع شعرك.
نيرون :
أنتم تعلمون ...
الجميع :
ارحمنا بقصيدة من شعرك!
نيرون :
إن شفقتي الوالدية تعوقني عن الاستمرار في الامتناع ... سأنشدكم ولو ارتجالا.
بيترون :
إن بيتا واحدا من شعر قيصر يحيي نفوسنا وينعشها.
نيرون :
فلتدع إذن بوبيا ... إنها حقا منحرفة المزاج وهذا الذي دعاها للتخلف عن هذا الاجتماع ... إن عقاقير الأطباء وقوانين أبقراط ونصائح جالينوس تعجز عن شفائها، ولكن قصيدة من شعري تعيد إليها الحياة والقوة!
أحدهم :
ما أسعد حظها وحظنا!
نيرون :
فلتدع إذن لتسمع إنشادي (يتحادث على انفراد مع بيترون ويخرج رسول لدعوتها) .
المشهد السابع (شخصان من حاشية القصر)
أحدهما للآخر :
أتظن أنها تستطيع النهوض من فراشها؟
الآخر :
إنها تنهض مرغمة ولو كانت تجرر أذيال المرض.
الأول :
أليس لها عليه من دالة؟
الآخر :
حقا إنها الوحيدة لأيامنا هذه في السيادة على قلبه. فلو كانت في النزع فإنها تحضر ولو محمولة على أعناق الرجال ... إنها تستبيح لنفسها كل شيء معه إلا جرح عواطفه في مواهبه.
الأول :
إنني لم أرها.
الآخر :
سترى أجمل وجه خلقته الأرباب (تدخل بوبيا محاطة بخدم وهي تجرر أذيالها وعليها علامات الذبول) .
نيرون :
إلى المائدة أيها السادة (يجلس وينتحي نيرون وبوبيا مكانا بعيدا عن الجالسين) .
نيرون :
أهلا بالملك المتربع على عرش الجمال!
بوبيا :
جاريتك الطامعة في رضاك التي تفدي تراب قدميك بنور عينيها، الساجدة في غيبتك أمام تمثال جلالك الإلهي، العابدة في حضرة صفاتك، التي لم تمنحها الأرباب لملوك الأرض قاطبة، ها هي بين يديك تلبي نداءك وتلتمس إقبالك عليها بنظرة واحدة تطفئ لهيب حبها!
نيرون :
أنت قبلة الشمس لدى شروقها، وفم الطبيعة الفرحة بالصباح! ... أنت شعاع الفجر في أول يوم من الربيع، أنت مطلع قصيدة السعادة الأبدية، نظمك أورفيوس في ديوان الحياة الهنيئة، وينشدك نيرون موقعا على أوتار قلبه المفعم بحبك!
بوبيا :
مولاي! إن حبك الإلهي هو الذي رفع نفسي إلى مصاف النفوس التي تستمد من ضيائك، كذلك إخلاصي لشخصك وعرشك هو الذي يملي علي مالا يجرؤ على التصريح به إنسان على سطح الأرض.
نيرون :
حبيبتي بوبيا! إن عرشي وتاجي وأعظم منهما صوتي وقيثارتي تحت قدميك! ما الذي ألم بك؟
بوبيا :
هذا كرم الأرباب وتواضع الآلهة، ولكن الذي يحزنني وينغص علي أسعد ساعات الحياة التي أقضيها بقربك، ما أسمعه فيغلي له دمي في عروقي وتفارقني راحة القلب والنفس.
نيرون :
أتسمعين من أحد ما يسوءك؟
بوبيا :
أجل أيها الأمير تصور بمخيلتك الشعرية النادرة المثال، مقدار حسرة عاشقة عابدة تفاخر بمعشوقها ومعبودها إذا هي سمعت أنه ليس ملكا ولا إمبراطورا ولا رجلا ... وما هو إلا طفل خاضع لإرادة غيره، يخيل له أنه قابض على زمام الدولة وما هو في الواقع إلا آلة في أيدي ثلاث نساء، وأن ذلك الذي ندعوه إمبراطور الرومان ووالد الوطن وسيد العالم لا يملك حريته الشخصية.
نيرون :
عجبا! أيجرؤ مخلوق بشري أو إله شيطاني أن يقول هذا عن نيرون! ... فوالآلهة لو أن سواك نطق في حضرتي بهذه الألفاظ إذن لسحقت رأسه بصولجاني هذا، بل لمزقت أعضاءه بأناملي ... لقد غادرتني ملكة الشعر واستولى علي شيطان الغضب!
بوبيا (راكعة) :
من حسن حظ الناس جميعا أنني أستقبل سورة غضبك المقدس وأشرب بلذة الظمآن حلاوة هذا الغيظ الإلهي. لأجل هذا أنا أصون لساني عن ذكر من سببن هذه النميمة؛ لئلا يمتد إليهن سخطك وهن أقرب الناس إلى جلالتك وأحبهن إلى قلبك.
نيرون :
إذن أنت شريكتهن في الخيانة! اعلمي يا بوبيا أنني أتسامح في كل شيء إلا كرامتي ... إن صوتي سيخفت وشعري تمحوه الأيام، ولكن كرامتي أنا لوسيوس رومينيوس نيرون إمبراطور رومه وسيد العالم كرامتي ستبقى مسجلة في بطون الدفاتر إلى آخر الدهر.
بوبيا :
عفوا يا مولاي، ما عظمة الملك وجلال العرش وسلطان رومه وسيادة العالم بأخلد من صوتك وتوقيعك!
نيرون :
حقا! لقد نسيت خلود المواهب. إن العبقرية أبقى على كر الدهور من عرش رومه، تبا لهم إنهم يسيئون إلى العبقري بالانتقاص من الإمبراطور ... انهضي!
بوبيا (تنهض) :
إن الغيبة يا مولاي مهما كانت مكذوبة وصاحبها مهما كان حاسدا وحاقدا تترك أثرا في نفوس سامعيها.
نيرون :
حقا حقا ... الأسماء ... أسماء النسوة.
بوبيا :
عدني أنك لا تنالهن بسوء بسبب إخلاصي وصراحتي.
نيرون :
أعدك بكل شيء.
بوبيا :
هن أكتيه محظيتك!
نيرون :
يا لها من فاسقة! ولكنها جارية تباع وتشترى وقد هجرتها مذ عرفتك! ثم من؟
بوبيا :
وأوكتافيا زوجك!
نيرون :
لقد صدق ظني، هذه أيضا قتلتها الغيرة قتلتين!
بوبيا :
أما الثالثة فهي فضلى الأمهات!
نيرون :
فضلى الأمهات وفضلى الأزواج وفضلى الجاريات! يا لنيرون من مؤامرة النساء! ستلقى كل منهن جزاءها، أما الجارية التي كانت محظية فستباع في الأسواق.
بوبيا :
إن بيعها لا يسكتها.
نيرون :
إذن يمثل بها ... أما أوكتافيا ابنة كلوديوس فلا تستحق رحمة ولا حنانا. ما رأيت مثلها زوجا عاقرا وعاشقة ملحة، فإذا ما جفوتها تآمرت علي وأذاعت عني ما يقلل من قدري في نظر الشعب ... هذه تحفة من تحف فضلى الأمهات وهدية من هداياها القيمة ... سأطلقها في احتفال عام ... سيشهد طلاقها الآباء المقدسون، ويصدر أمري بنفيها إلى أقصى حدود المملكة ... أما فضلى الأمهات فهي في القصر سجينة وسأقضي عليها في أقرب فرصة بدون مناقشة ... إنها اقترفت ذنوبا ما ذكرت في جنبها شيئا مذكورا.
بوبيا :
إن عبادتي لشخصك المقدس وخوفي عليك وكل ما قد يمسك بأذى يدعوني للإلحاح في الوقوف على جميع خواطرك وخططك.
نيرون :
إن لنا نحن الأمراء من بيت قيصر، خطة واحدة نسلكها حيال أعدائنا أقارب كانوا أو غرباء ... القتل.
بوبيا :
ولكن لفضلى الأمهات ذاتا سامية وشخصية مقدسة!
نيرون :
إن ذاتها مهما سمت وشخصيتها مهما تقدست لا تقفان في سبيل أغراضي وإرادتي. لقد تآمرت مع برنيانيكوس وبالاس وغيرهم على إمبراطورية رومه.
بوبيا :
إن قتل الأم ...
نيرون (مقاطعا) :
كقتل أي إنسان آخر!
بوبيا :
إذن صحت عزيمتك؟
نيرون :
نعم ... لقد صحت منذ زمن طويل، ولكنني كنت أتحين الفرص وهاك فرصة فريدة سنحت ولن تفر من يدي.
بوبيا :
الفرصة ...؟
نيرون :
أجربين (نيرون إلى الأضياف)
أيها النبلاء.
بيترون :
القصيدة.
نيرون :
أرجئوا الشعر لفرصة أخرى. ليعزف العازفون. اشربوا جميعا وادعوا لقيصر بالنجاح.
بعضهم :
نشرب وندعو ليحي وليفز قيصر!
المشهد الثامن (نيرون يدق نحاس الاستدعاء فيدخل رسول.)
رسول :
مولاي!
نيرون :
علي ببوليوس (يخرج ويعود ومعه بوليوس)، (إلى بوليوس)
هل أحضرت تلك التي تقيم على شاطئ البحر؟
بوليوس :
تلك التي تطلبها جلالتك بالباب!
نيرون :
سألقاها ... فلتحضرن.
بوبيا :
لقد شعرت بأن قواك خارت لما سمعت بقدوم هذه المرأة؟
نيرون :
ألا تخور قوانا إلا لدى لقاء امرأة محبوبة؟ ... إن في شئون الدنيا ما هو أعظم شأنا من الحب.
بوبيا :
وتلك المرأة؟
نيرون :
ما بالها؟
بوبيا :
إنها محظيتك القديمة أكتيه.
نيرون :
أخطأت يا عزيزتي ... هذه المرأة هي أظافري التي أنشبها في أعدائي، ومخالبي التي أنتزع بها نفوسهم من بين جوانحهم، هي المنقذة المخلصة، بيدها سر حياتي وسعادتي؛ لأنها قابضة على زمام الموت.
بوبيا :
إذن هي ...
نيرون :
لوكستا الساحرة وصانعة السموم.
بوبيا :
لألتقين بها لأكون لك عضدا ومساعدا.
نيرون :
قومي بتحية الأضياف (تدخل لوكستا. لوكستا ونيرون على انفراد) .
لوكستا :
ماذا تطلب مني في هذه المرة؟
نيرون :
أتذكرين الماضي؟
لوكستا :
سل تيزيه إذا كان يذكر الجحيم!
نيرون :
أتذكرين كيف أنقذتك؟ لقد أخرجتك من سجن ضيق وقذر حيث كنت أقرب إلى الموت منك إلى الحياة، وأنت راقدة على فراش من الوحل الكريه الرائحة، وحول بدنك تلتف الأفاعي والحيات.
لوكستا :
كنت لا أشعر من شدة البرد فلم أكن أبالي.
نيرون :
أتعلمين إلى أين نقلتك؟ ... لقد نقلتك إلى بيت فخم بنيته لك خاصة وزينته بأبهى الزخارف ... إن القوم يعتبرون حرفتك جرما فظيعا وأنا أعتبرها فنا جميلا، وكانت الحكومة تطارد شركاءك في صنعتك، فأغمضت عيون الشرطة عنك وغللت يدها التي كانت تمتد إليك بالأذى لولا حمايتي ... وقدمت إليك أتباعا ومريدين يتلقون ما تجودين عليهم بتعليمه.
لوكستا :
أنت تذكر إحسانك إلي وتنسى كيف رددت لك الجميل ... لقد منحتك نصف قوة المشتري فوضعت تحت تصرفك أعظم قوة في الطبيعة، وسلكتك قياد الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات.
نيرون :
حسن ... إذن أنت تذكرين وأنا لا أنسى ولا تزال المودة بيننا قوية.
لوكستا :
اليوم حتف من؟
نيرون :
إن لساني ينعقد دون ذكر اسمه ... احظري ... إن الذي هوى نجمه وأريد تسليمه بيدي إلى الموت عدو شديد القوى، عظيم الخطر، ولا أستطيع أنا نيرون سيد العالم أن أحرك به لساني ... ولكن حذار أن يبطئ فعل السم كما حدث لدى القضاء على كلوديوس ... لا بد أن يكون السم قتالا لساعته دون أن يستطيع من يتناوله أن ينطق بحرف أو يومئ بإشارة ... أريد سما ناقعا مهلكا سريعا قاطعا مانعا ... أريد سما خارجا من فوهة جهنم كما تخرج النفثة من فم الثعبان!
لوكستا :
هذا أمر هين ... إن أوصاف السم الذي تصفه سهلة التحضير لدي، ولكن لا بد لي من معرفة المقصود بالموت.
نيرون :
لقد عهدتك غير محبة للاستطلاع، فما الذي جعلك الآن فضولية؟
لوكستا :
ليس حب الاستطلاع ولا الفضول هو الذي يدعوني إلى معرفة المقصود بالموت، إنما اعلم أن هناك إناسا لا يفعل بهم السم مهما كان قويا؛ فإنهم لخوفهم على حياتهم عودوا أحشاءهم التغلب على السم بازدراد جميع صنوفه بمقادير معينة في أيام متتالية؛ فأصابتهم مناعة دائمة، فإذا كان المقصود بالموت شخص من هؤلاء، فلعل السم لا يصيب منه مقتلا، فتعود علي باللائمة وتتهمني بالخيانة، وما أسهل هذه التهمة لديك حتى لأخلص المقربين لديك!
نيرون :
حقا إذا خاب السم في هذه المرة فلأعيدنك بغير رحمة إلى سجنك القديم وأعين عليك سجانا أقسى من بوليكس ... صديقك بوليو يوليوس فتأملي!
لوكستا :
لا بد لي من معرفة المقصود بالموت بالذات.
نيرون :
لا أستطيع ولا أريد ... استنجدي بقوى سحرك على معرفة اسمه ... نجمي أيتها العرافة القادرة، واستحضري الجن الخاضعين لأمرك (تجلس وتبسط تختا من الرمل، وتنظر في كأس ماء، وتقوم بإشارات وتطلق بخورا ونيرون ينظر إليها ثم تنهض وتحييه) .
نيرون :
لعلك وفقت؟
لوكستا :
لقد نجح السحر!
نيرون :
والسم؟
لوكستا :
خائب!
نيرون :
هل فرغت جعبتك؟
لوكستا :
كلا ولكن لسمي ألف ترياق.
نيرون :
إذن علمت شخص المقصود بالموت!
لوكستا :
أمك.
نيرون :
حسن سأبحث عن وسيلة أخرى ... اغربي عن وجهي.
لوكستا :
ستحتاج إلي.
نيرون :
ربما ... في يوم آخر (يلقي إليها كيسا فيه مال ويستدعي بوليوس) .
المشهد التاسع
نيرون (لبوليوس) :
علي بأنيستوس أمير البحر ... إنه بين الأضياف.
أنيستوس (يدخل) :
مولاي!
نيرون :
أتذكر ماضيك؟ لقد كنت رقيقا فأعتقتك، ومعدما فأغنيتك، ثم صرت جنديا فرقيتك وجعلتك كبير الأسطول وأمير البحر، فأنت الآمر الناهي في عرض البحار ... ترتجف ميسينوم لذكر اسمك، ولا يأنف نبتون أن يلبي نداءك!
أنيستوس :
لم يفعل قيصر بعبده هذه المكارم عبثا، وسيلقاني في كل وقت رهين إشارته.
نيرون :
أنا أعلم ما بينك وبين والدتي من أسباب النفور مذ كنت معلمي.
أنيستوس :
وأعلم ما بين جلالتك وبين سموها من أسباب البغضاء.
نيرون :
لقد أعجزتني تلك المرأة، وأصبحت حيالها ضعيف الحيلة.
أنيستوس :
إن قيصر لم يأمر عبده.
نيرون :
لا أريد مشروعا يفشل أو محاولة تخيب.
أنيستوس :
إن كان الإغراق فإن البحر واسع الأرجاء ولا حد لعمقه.
نيرون :
وكيف يكون ذلك؟
أنيستوس :
لدي سفينة كبرى ذات ثلاث قلاع مهجورة مذ خلفها تيبريوس، وكان صنعها للقضاء على العظماء من أعدائه ... إنها ذات طبقتين؛ إحداهما متحركة والأخرى ثابتة، فإذا شاء ربانها قلب الطبقة المتحركة بجهاز خاص بها فتغرق بمن فيها وينجو البحارة وكل من كان على الطبقة الثابتة ... وهكذا يلتهم البحر فريسته والبحر أشد العناصر كتمانا للأسرار!
نيرون :
ولكن كيف تقنع فضلى الأمهات بالنزول إليها؟
أنيستوس :
أنا أدبر لك ذلك ... ادعها وسالمها وأظهر لها الرغبة في الصلح وهيئ لها سبيل السفر بحرا إلى بايا؛ حيث يحتفل بعد قليل بعيد الإلهة منرفا، وسأحملها في الفلك المعلوم، ولندع إله البحر نبتون يتلقاها بحنان ورحمة.
نيرون :
نعم الرأي رأيك ... اذهب وأعد السفينة على جناح السرعة (يخرج ويدق نيرون نحاس الاستدعاء ويدخل بوليوس فيدنيه نيرون ويحادثه ويخرج) .
المشهد العاشر
نيرون (للأضياف) :
لقد دعوتكم في أمر ذي بال! لقد طال الهجر بين الأم وولدها، وقلب الولد يحن إلى رضاء تلك التي حملته في أحشائها وأرضعته من ثديها.
تيجلان :
نعم القلب قلب قيصر! إن جلال الدولة وعظمة الملك لا تنسيه حب الوالدين.
نيرون :
لأجل هذا صحت عزيمتي على مصالحتها، وأجعلكم شهودا على صفائنا ومودتنا في مستقبل الأيام.
بعض الأضياف :
إننا في خدمة قيصر وإن فضلى الأمهات لتقدر هذه النعمة حق قدرها (يدخل بوليوس) .
نيرون (إلى بوليوس) :
علي بفضلى الأمهات ... إنها هنا في القصر في ضيافتي (تدخل أجربين) .
أجربين :
أرى الولائم تولم ومعالم الأفراح تقام بأمر قيصر، وأجربينا ابنة جرمانيكوس وحليلة كلوديوس وأم نيرون سجينة؟!
نيرون (يعانقها) :
أماه! إن قلبي يدمى لدى سماع هذه الألفاظ الجافية. إنما دعوتك لأزيل أسباب الشقاق أبدا، ولأمحو سيئات الماضي بحسنات المستقبل.
الأضياف :
إن فضلى الأمهات لا شك تقدر هذه المروءة.
أجربين :
متى كان للولد مروءة على والدته؟! أنا التي ...
نيرون :
أنا أعلم من أنت. وها أنا جئت إليك خاضعا مطيعا طالبا الصلح. الصلح يا أماه، فاجلسي على هذه المائدة، وكلي من هذا الطعام واشربي من تلك الخمر، وشمي هاتيك الأزهار واسمعي تلك الأنغام.
الأضياف :
إن نفوسنا تذوب رأفة من هذا الحنان البنوي.
أجربين :
أتعاهدني على الصفاء الدائم؟
نيرون :
أعاهدك.
أجربين :
أتطلق سراح أخيك برنيانيكوس؟
نيرون :
حتما إنه ليس بالسجين الذي يطلق سراحه، إنما هو في ضيافة أخيه الأكبر!
أجربين :
إذن أقبل صلحك، وأجلس على مائدتك.
نيرون :
إلى صدري أيتها الأم العزيزة (يتعانقان وتدق الأنغام ويهتف الحاضرون) .
الحاضرون :
لتحي فضلى الأمهات! ليحي قيصر!
نيرون :
لقد حل فصل الربيع.
أحدهم :
هذا فأل حسن وبشرى سعيدة.
نيرون :
ولا بد لنا من الاحتفال بهذا الصلح المبارك ... انظروا في سجل الأيام ... ألا يوجد عيد مقدس نشترك في إحيائه ... وإن لم يكن هناك عيد فلأخلقن عيدا باسم فضلى الأمهات.
أحدهم :
أذكر جلالتكم بعيد الكونكاتورا؛ عيد الإلهة منرفا يحتفل به في بايا.
نيرون :
متى موعده؟
القرين :
بعد ثلاثة أيام.
نيرون :
إذن هو عيدنا عيد منرفا وأجربين.
القرين :
لتسمح لي جلالتكم بتصحيح أمر بسيط.
نيرون :
صحح ما شئت، فكل شيء مباح في يوم الصلح المبارك!
القرين :
عيد أجربين ومنرفا. حقا إن منرفا إلهة الحكمة، ولكن فضلى الأمهات أسمى منها مقاما وأرفع شأنا؛ لأنها إلاها أعظم من منرفا!
الجماعة :
حقا حقا صحيح عيد أجربين ومنرفا.
نيرون :
الأمر لكم في التسمية، ولكن كيف يكون الوصول إلى بايا حيث يحتفل بالعيد؟
أحدهم :
بطريق البحر.
نيرون :
ما أجمل هذه السياحة! علي بأحد رجال الأسطول.
المشهد الحادي عشر (يخرج بوليوس ويعود أنيستوس.)
نيرون (إلى أنيستوس) :
ادن وقبل أقدام فضلى الأمهات، واطلب منها العفو عن زلاتك السابقة.
أجربين :
لا أعرف لمثل هذا زلات تذكر (يدنو أنيستوس ويقبل طرف ثوبها) .
نيرون :
لقد مضى زمن طويل لم أر فيه وجهك أيها الذئب العتيق، كأنك ملك مستقل على مملكة الأمواج.
أحدهم :
ما أجمل هذا التشبيه!
آخر :
إنه معنى شعري مبتكر.
أنيستوس :
إن نبتون خادم قيصر وأنا أحقر خادمي نبتون.
نيرون :
لقد عزمنا بحول الإلهة فيستا على السياحة إلى بايا؛ حيث نحتفل بعيد الإلهتين أجربين ومنرفا، فأعد لنا سفنا تحملنا واختر من بينها أعظمها وأفخرها، وزينها بالأزهار وضع فيها ثلاثين بحارا من أمهر بحارتك، وقلدهم أقوى المجاديف وأحسنها، وانشر على سطحها أفخر الألوية وأبهى الأعلام، واعتن بأثاثها أشد عناية، واعلم يا أيها الذئب العتيق أنني سأراها لأنها معدة لفضلى الأمهات وحاشيتها.
أنيستوس :
لجلالتك الأمر.
نيرون :
وأعدوا لنا سفنا حيثما اتفق ولتسر سفينة فضلى الأمهات في المقدمة تحت قيادتك، وقدم القربان لإلهي الريح والبحر ليسكن الأول وليغتبط الثاني. لا أريد أن تزعجها هبات النسيم ولا اهتزاز الأمواج.
أنيستوس :
الأمر لجلالتك .
نيرون :
والآن إلي يا والدتي العزيزة أضمك إلى صدري قبل نزولك إلى البحر. إن هذا القلب مهما قسا في الماضي على وحيدك لم يكن يريد به شرا لأن فوقه ذلك الصدر الحنون الذي طالما ضمتني إليه تلك الأيادي الكريمة وتان الثديان اللذان أرضعاني ماء الحياة الأولى، وتحته تلك الأحشاء الغالية المصونة التي حملتني وغذتني من لحمها ودمها ثلاثمائة يوم وليلة! أي غافل جاهل وأي حاقد حاسد وأي لئيم معاند يسعى للإيقاع بين والدة وولدها؟! بل أية قوة من قوى الأرض تستطيع التفريق بين أم وابنها ... لقد كنا قبل الخليقة شخصا واحدا ثم انفصلنا ولم ننفصل بحكم الطبيعة إلا لأكون منك بمثابة الجزء الذي لا يتجزأ، إذا نطق الصغير يا أماه اهتزت جوارحها وسالت نفسها على لسانها لتجيب سؤاله، وإذا قالت الأم ولداه طارت نفسه شعاعا وصعد الجواب من أعماق نفسه أماه!
أجربين :
ولداه! (يتعانقان ويسمع شهيق البكاء)
اعلم يا ولدي أن الموت يحلو لي بعد هذا الوداع.
نيرون :
لا قدرت الآلهة أن أشرب غصتك وأفجع فيك ولما أتمتع برضاك.
المشهد الثاني عشر (يدخل أنيستوس)
أنيستوس :
إن السفينة الكبرى قد أعدت (نيرون يضم أمه إلى صدره) .
أجربين :
هل آن وقت الفراق؟
أنيستوس :
انتهاز فرصة سكون البحر أفضل وأدعى للسلامة والبركة.
نيرون :
إذن في حفظ الآلهة (يسير بأمه إلى باب الخروج ثم يعود فيقف على مكان عال ويشير بيديه علامة الوداع) ، (إلى بوبيا)
الآن اطمأن قلبي! سترحل فضلى الأمهات عن هذا العالم وهي محسنة ظنها بي بعد أن سمعت خطبتي في حب الوالدين (ثم إلى سنيكا)
ما رأيك أيها الحكيم؟
سنيكا :
إن المعاني التي جرت على لسان جلالتك كادت ...
نيرون :
دع عنك المعاني إنها ملك مشاع، إنما أطلب رأيك في الأسلوب ... الأسلوب قبل كل شيء!
سنيكا :
الموضوع ...
نيرون :
خل عنك الموضوع، الشكل أعظم أهمية من الموضوع ... إن عمران العالم بالأشكال.
سنيكا :
الأسلوب بديع والشكل كامل.
نيرون :
والآن أيها السادة، انظروا لنا نوعا جديدا من المسرات.
تيجلان :
إن هؤلاء الراقصات من الشرق قد حضرن مصحوبات بمغنيين وعازفين وناقرين على أدوات الطرب، والجميع في انتظار أمر مولانا ومولاهم.
نيرون :
ما قولك في رقص الشرق أيها الحكيم؟ علينا بهن (منظر رقص شرقي وموسيقى شرقية وأكل وشرب وغزل) .
المشهد الثالث عشر
نيرون :
ما وراءك؟
أنيستوس :
لقد خططنا لفضلى الأمهات مضجعا بين الأمواج، ونبتون أغمض جفنه ووضع أنامله في أذنيه فلم ير ولم يسمع!
نيرون :
هل تم كل شيء؟
أنيستوس :
كل شيء تم على ما تروم جلالتك.
نيرون :
علي بالتفصيل ... صف لي كل ما جرى منذ خرجت بها من هنا إلى أن وصلت بها إلى مضجعها الأخير.
أنيستوس :
لما أوصيتني جلالتك بفضلى الأمهات، صحبتها معزوزة مكرمة إلى الشاطئ، وهناك فرشنا لها بساطا قرمزيا لتخطو عليه إلى الجسر المحدود بين الشاطئ والسفينة، وقام البحارة لجلالتها الإمبراطورية بالتحية، وقد أنزلتها على الرحب والسعة في الطبقة المتحركة من السفينة، وبعد أن قرعنا الأجراس ونفخنا في الأبواق تحركت السفينة متجهة برأسها في شق من البحر بين بابيس وبوزولا، ولم يوشك الفلك أن يتحرك حتى رغبت الإمبراطورة في الراحة، ولزمت قمرتها المزينة بأفخر الأثاث، وعندما أقبل الليل وأسدل الظلام ستوره حولنا رأس السفينة نحو عرض البحر، ولم يطل سيرنا في هذا الاتجاه حتى حدث في السفينة هرج واضطراب وسببها على ما علمت بعد ذلك، إن جارية من حاشية الإمبراطورة اسمها أسيرونيا فطنت إلى خطتنا فأيقظت مولاتها ولفتت نظرها إلى خطة السفينة؛ فنهضت فضلى الأمهات من فراشها مذعورة واستدعت جالوس وهو فارس روماني كان على ظهر السفينة، ولما مثل بين يديها أمرته بأن أحضر لديها، فأخبرها جالوس بأنني لا أستطيع إلى ما تريد سبيلا لانشغالي بإنزال بعض قوارب النجاة إلى البحر، فقالت له إذن سأذهب إليه وألقاه حيث يكون، وكنا قد أدرنا جهاز الطبقة المتحركة فبدأ الماء يدخل من الخروق ويتدفق كأنه من أفواه القرب، وأخذت سطوح الغرف التي كانت فيها الإمبراطورة وحاشيتها تسقط، وكان لسقوطها صوت مخيف مزعج في سواد الليل، ثم أمرت بدق ناقوس النجاة، وبالنفخ في أبواق الإنقاذ، وقد رأيت تحت جنح الظلام أشباح النساء تروح وتجيء حائرات، وسمعت نواحهن وعويلهن، واخترق أذني صوت فضلى الأمهات وهي تقول أنيستوس! أيها الربان الخائن! أهذه قيمة وصية ولدي لديك، ثم سمعت عويلا وعاد صوت فضلى الأمهات فقالت الآن فطنت هذه ليست خيانة أنيستوس بمفرده إن هو إلا عبد مأمور ... هذه خيانة ولد جحود كافر بنعمة الآلهة.
نيرون :
لا تعد على مسامع إمبراطورك كل ما سمعته.
أنيستوس :
لقد أمرتني جلالتك إن أسهب.
نيرون :
حسن! أتمم حديثك.
أنيستوس : ... إن هو إلا عبد مأمور هذه خيانة ولد جحود كافر بنعمة الآلهة (يتململ نيرون) .
نيرون :
وبعد؟
أنيستوس :
وبعد هجم الردى على فضلى الأمهات وجواريها من جهتين؛ أتاهن من فوق رءوسهن فهوى السقف عليها وأدركهن من تحت أقدامهن فطغى الماء فكن من المغرقات، عندئذ رأيت منظرا رهيبا لا أنساه ما دمت حيا ... رأيت فضلى الأمهات ونفرا من صواحبها وقد استسلمن للأمواج فابتلعهن البحر، وقد خرجت من أعماق قلوبهن صرخة مزعجة لفظن بها وداعهن للحياة وآمالها، وقد خرجت من أعماق البحر حيث انطبقت عليهن الأمواج صرخة أخرى كأنها صوت إله غضوب.
نيرون :
كفى كفر شعرا! هذا صوت عويل هؤلاء النسوة ... ليس لديهن إلا العويل والصراخ حتى في تلك الساعة ... ساعة الموت!
أنيستوس :
وماذا كان يجدر بهن يا مولاي وقد يئسن من رحمة الآلهة وفقدن الأمل في النجاة؟
نيرون :
يتأملن في جلال الموت ويحفظن ألسنتهن لدى هذا الموقف الرهيب ... على أنك بحار ساذج لا تدرك جلال هذه الآراء الشعرية! ... أكمل حديثك.
أنيستوس :
وبعد قليل عادت شعورهن فطفت على سطح الماء، ثم ما لبثت رءوسهن أن ظهرت للعيان ثم رأيت رأسا بين تلك الرءوس تستغيث صاحبته من أعماق قلبها بصوت خافت لا يوشك أن يصل إلى أذني: النجاة النجاة أنا أجربين أنا والدة الإمبراطور أنقذوني.
نيرون :
ثم ماذا؟ ... هل مد إليها أحد يد المساعدة؟ هل كانت متشبثة بلوح طاف ومعتصمة بحبل الإنقاذ؟
أنيستوس :
لا هذا ولا ذاك يا مولاي، فإن بحارا قويا كان يعلم حقيقة الحال دنا من فضلى الأمهات وبيده مجداف، فظنت أنه أتى لينقذها فمدت إليه يدها وتجددت آمالها فبذلت مجهودا شديدا في الوصول إليه، فهوى بالمجداف على ذراعها فبترها، ثم أخذ يضربها على رأسها حتى شجه، واختفت للمرة الأخيرة في غيابة اليم ولم يبد لها أثر!
نيرون :
وما اسم هذا البحار الشجاع؟
أنيستوس :
أنتيكوس يا مولاي.
نيرون :
سأرقيه وأكافئه على أنه أراح فضلى الأمهات من متاعب ساعتها الأخيرة ... أحسنت يا أنيستوس أحسنت، هكذا أبطال البحر وإلا فلا!
المشهد الرابع عشر
نيرون (فجأة للحاضرين) :
يا لك من مخبر مشئوم ... آه وا أماه!
الحاضرون (ينهضون عن المائدة مفزوعين) :
مولانا!
نيرون :
الحداد يا سادة! الحداد خبر ينعقد دون ذكره لساني!
أحدهم :
حياتنا فداك!
نيرون :
إن فضلى الأمهات التي كانت بين ظهرانيكم منذ ساعة، والتي لم أتمتع برضاها بعد صلحنا المبارك، قضت نحبها غريقة في طريقها إلى مكان الاحتفال بعيدها المقدس!
أحدهم :
يا ويلنا!
نيرون :
لقد غارت الآلهة من الصلح الذي تم بين نيرون وأمه ... الحداد يا سادة الحداد ... لا تضاء مدينة رومه ثلاث ليال، ولا تقام الأفراح ولا تولم الولائم.
الحاضرون (ينتقلون إليه) :
نعزي جلالتكم (يصافحه بعضهم) .
نيرون :
سأبقى حليف الحزن أليف الأسى إلى أن تدركني منيتي.
الحضور :
يأذن لنا صاحب الجلالة في الانصراف؟
نيرون :
إن الوحدة خير وسيلة للعزاء (يخرجون ماعدا بوبيا) .
المشهد الخامس عشر
خادم :
النصر لقيصر ... بالباب رفيق اسمه أجرنيوس يحمل رسالة مهمة.
نيرون :
ليدخل (يدخل أجرنيوس) .
أجرنيوس :
النصر لقيصر!
نيرون :
ما وراءك؟ (يدنو منه أجرنيوس ويهمس في أذنه) .
نيرون (يبدو عليه اضطراب شديد) :
قل تكلم.
أجرنيوس :
رسالة من مولاتي الإمبراطورة أجربين فضلى الأمهات.
نيرون :
رسالة من مولاتك الإمبراطورة؟ هل وصلت سالمة إلى مستقرها محمولة على السفينة؟
أجرنيوس :
لقد حدث لها حادث مزعج في الطريق، ولكن الآلهة التي لا تغفل عن سعادة جلالتك، أبت أن تصيبك في أعز حبيب لديك وأقرب الناس إلى قلبك فأنقذتها.
نيرون :
آه لقد نجت فضلى الأمهات ... نجت من البحر العجاج المتلاطم بالأمواج.
أجرنيوس :
نعم يا مولاي وهي الآن في قصرها آمنة مطمئنة ، وقد بعثت بي لأبشرك بهذا الخبر السار خشية أن يبلغك عنها سوء فيبدو لك الحزن.
نيرون :
حمدا للآلهة على نجاتها ... يا لها من أم حنون تخشى علي من الحزن عليها، إنها تعلم ما في قلبي نحوها من العطف والمحبة! ولكن قص علي خبر نجاتها، إن هذا يهمني لأكافئ الأشخاص الذين ساعدوها على الخلاص من مخالب الموت (يهيج)
ويل لنبتون الخئون يا له من إله وغد بين الآلهة!
أجرنيوس :
على العكس يا مولاي يحق لنا أن نشكره.
نيرون :
إنني أسبه أيها الغبي لأنه حاول انتزاع أمي من بين يدي، ولكن علي بالتفاصيل.
أجرنيوس :
إن السفينة التي ركبتها فضلى الأمهات كانت مزينة ومنمقة إلا أن السوس نخر أخشابها وقوض أركانها، فلم تكد تهب عليها الريح حتى تبددت أوصالها وطغى عليها الماء من كل جانب، وقد استغاثت فضلى الأمهات بكل من كان على ظهر السفينة فلم يعن بها أحد ... وتقدست الآلهة التي شغلت كلا بنفسه وصرفت أنظار البحارة عن والدة قيصر.
نيرون :
سيلقى كل واحد منهم عقابه لا سيما كبيرهم أنيستوس الكذوب، الذي أوصيته بها خيرا وأتمنته على تلك الجوهرة الثمينة، وذلك البحار الدنيء جالوس الذي كنت أظنه شهما مقداما فإذا به أقل من كلاب البحر (لنفسه)
ينبغي الآن أن نكذب بلاغ الموت ونذيع بشرى النجاة وننقض أمر الحداد.
أجرنيوس :
ولما غرقت السفينة وأشرفت فضلى الأمهات على الهلاك مر بها بعض البحارة في قارب صغير فأنقذوها، وقد حدث أن جارية أرادت النجاة فادعت أنها أجربين ولكنها هلكت!
نيرون :
يا لهم من ... يا لهم من ...!
أجرنيوس :
شجعان.
نيرون :
نعم يا لهم من شجعان!
أجرنيوس :
وقد أوصلوها سالمة من كل أذى.
نيرون :
من كل أذى! مرحى! مرحى! يا أنيستوس كنت أنت الجدير بهذا الفضل على مولاتك.
أجرنيوس :
أوصلوها سالمة من كل أذى إلى خليج بوزولوس، ومن هناك حملت على الأعناق في سرير إلى قصرها، وما كادت تطأ قدمها على أرض القصر حتى بعثت بي إليك.
نيرون :
نعم الرسول يا صاح! نعم الرسول!
أجرنيوس :
ما أنا إلا غرس بنان جلالتك وخادم والدتك التي بعثت بي إليك لأدخل الطمأنينة على قلبك، وإنها تلتمس من جلالتك أن تؤجل زيارتك لها على الرغم من شدة شوقك إليها وتشوقها إليك، ريثما تستكمل راحتها من الانزعاج الذي أصابها، والآن يسمح لي قيصر بالانصراف؟
نيرون :
ابق لدينا قليلا يا صاح ... ما هذا؟
أجرنيوس :
هذا سيف أحمي به ذمار والدة قيصر.
نيرون :
أرني إياه ... جرده من غمده ... إنه من طراز عجيب (يخرج سيفه ويناوله لنيرون الذي يلقيه بين رجليه بسرعة ويصرخ)
النجدة! النجدة! إلي برجال الحرس ... دقوا نواقيس الاستغاثة (يحضر قوم) .
بعضهم :
ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
نيرون :
انظروا انظروا ... ها أنتم شهود عدول ... هذا الرجل حارس قصر فضلى الأمهات وأقرب خدمها، قد أوفدته لقتلي بعد أن صالحتها في مجلس حافل بالشيوخ والقرناء والأشراف، وهذا سيفه بين رجليه ... جرده ليغمده في صدري ... هذا سيف الغدر أرسلته تلك التي تدعونها بفضلى الأمهات لتجهز به على ولدها وفلذة كبدها ... على سيد العالم وإمبراطور رومه.
أحدهم :
ليقتلن الساعة.
نيرون :
بل أبقوا عليه. إنه أصبح رهن التحقيق. تنفعنا حياته أكثر مما يشفي موته غليلنا. إن له حتما شركاء في جنايته ... خذوه إلى مكان أمين وادعوا إلي أنيستوس كبير الأسطول ... لم يبق بعد إلا هذا ... اعتداء في رابعة النهار من رقيق حقير في أسفل درك الجندية على إمبراطور رومه وسيد العالم ... في أي زمن نعيش يا سادة؟ أيحدث هذا وأنتم أشراف هذا الزمان ورجال هذه الدولة؟ أيعتدي على أميركم لأن طامعة كانت تريد الوصول إلى العرش الذي لا تستطيع حمايته فأقصيتها؟
أحدهم :
إن التحقيق سيسفر ...
نيرون :
التحقيق! التحقيق! ... إذن فتحنا باب القضايا وأوسعنا مجالا للمرافعة والمدافعة وأقمنا منصبا للخطابة والفصاحة، اعلموا أن من كل ألف مجرم لا يقع في يد القضاء إلا مائة، ولا ينال العقاب من المائة إلا عشرة، فلو أن لهذا الجاني مائة شريك فلن يعاقب منهم إلا واحد!
أحدهم :
إن مثل هذه الخيانة تقتضي حكما سريعا قاسيا.
نيرون :
أنت تعرف كيف تحكم البلاد.
آخر :
ولكن لا تنس أن للمتهمين في هذه القضية شأنا لا يماثله شأن الآخرين.
نيرون :
جميع الناس سواء أمام القانون.
المشهد السادس عشر (يدخل أنيستوس)
نيرون :
أنيستوس.
أنيستوس :
مولاي!
نيرون (بسخرية) :
أيها الربان الماهر والبحري القدير!
أنيستوس :
لا قدرة لأحد حيال قدرة قيصر.
نيرون :
إذن ماتت فضلى الأمهات؟!
أنيستوس :
واستقرت في قاع البحر إلى الأبد.
نيرون :
ولكنها بعثت إلي منذ هنيهة رسولا!
أنيستوس :
إذن هو من زبانية جهنم وقادم رأسا من أعماق الجحيم؛ لأنني رأيت بعيني السفينة تتحطم وتغرق والماء يطغى عليها، ورأيت أجربين تصرخ وتستغيث ورأيتها كذلك وقد كسر ذراعها وشج رأسها ورأيتها تغيب في اليم عن أعين الناظرين.
نيرون :
لقد صدق أجرنيوس وأخطأ أنيستوس. إن التي قتلت على تلك الصورة الشنيعة لم تكن للأسف أجربين إنما هي جاريتها أبيرونيا، أما فضلى الأمهات فقد نجت بجلدها وهي الآن في قصرها.
أنيستوس :
من قال هذا؟
نيرون :
معتوقها أجرنيوس.
أنيستوس :
أرأيته بعينك؟
نيرون :
رأيته وسمعت رسالته، وقد حاول الشرير اغتيالي فاستغثت وقد اعتقلناه وهو ينتظر المحاكمة.
أنيستوس :
أيريد قيصر حقيقة محاكمة مثل هذا الوغد؟
نيرون :
وغيره من شركائه في محاولة اغتيال حياتي الغالية.
أنيستوس :
إن الأمر يطول.
نيرون :
وهذا رأيي ... إذن ما العمل؟
أنيستوس :
أنا كفيل هذه المرة بالقضاء عليها بصفة لا تقبل الشك.
نيرون :
كيف تفعل؟
أنيستوس :
سأذهب إليها في الحال ومعي فرقة من البحارة، حتى إذا مثلت بين يديها قتلتها.
نيرون :
تحقق من شخصيتها أولا بحيث لا نحتاج إلى بلاغ آخر عن نجاتها. (ستار)
الفصل الرابع
المنظر الأول
شخص :
لقد تم كل شيء على يد أنيستوس، وقتلت أجربين في قصرها بأمر ولدها شر قتلة.
آخر :
عجبا لقد علمنا أنها نجت من الغرق!
الأول :
إن من يقصده نيرون بالقتل لا نجاة له، فإن سلم من غائلة البحر لا يفر من غوائل البر، فقد أرسل الأمير البار بأمه إليها شرذمة من الجند يقودهم أنيستوس الجسور ليغتالوها، متهما إياها بالاشتراك في الشروع في اغتياله بيد معتقها أجرنيوس الذي نقل إليه خبر نجاتها من الغرق.
الثاني :
هل فعل هذا جهارا؟
الأول :
لقد كنت بين الحاضرين آن ذاك. إن خبر نجاتها من أيدي القتلة الذين حاولوا إغراقها ذاع وانتشر، فجاء الناس من كل فج يهنئونها بسلامتها وينظرون بأعينهم أميرة حاربها الدهر حتى جعل موتها على يد ولدها.
الثاني :
كل جانية تدفع ثمن جرائمها.
الأول :
وإننا لكذلك مجتمعين في ردهة القصر وأبوابه نتلقف أخبارها، وإذا بتلك الشرذمة من القتلة قد أقبلت شاهرة أسلحتها، فشتت شملنا بالأسنة والسيوف ثم أحاطت بالقصر لتحرسه ريثما يتم الجناة فعلهم ثم دخلوا القصر عنوة واعتقلوا الخدم، ودخل أنيستوس بمفرده إلى مضجع أجربين.
الثاني :
وكيف كانت حالتها؟
الأول :
إنها كانت في هياج وقلق لا حد له؛ لأن رسولها إلى ولدها أبطأ فلم تستبشر، وكأن نفسها كانت تحدثها بما سيقع لها، فكانت تصرخ وتستغيث وتقوم في فراشها وتقعد كأنها مجنونة، وكانت تبعث في كل لحظة بالرقيق تلو الآخر يكشف الطريق لعله يرى رسول ولدها ورسولها عائدا، ومما زاد آلامها هولا أن البحر الذي كان هائجا مضطربا منذ برهة سكن سكون الموت، كأنه يريد الإصغاء إلى ما سوف يصيبها، فقالت وقد أثر سكون الأمواج في نفسها: ما للبحر قد خفت صوته. وإذا بالبحر عاد فجأة فزأر وزمجر فذعرت من ذلك الصوت الذي لم يكن منتظرا، وكادت تخر مغشيا عليها لولا أنها رأت إحدى جواريها تغادر مخدعها فاستوقفتها قائلة: وأنت أيضا تتركينني؟! وإذا بأنيستوس يدخل عليها بغير إذنها وخلفه القبطان هرقل والبحار أولوراتوس، وكان الثلاثة مسلحين بخناجر وسيوف ورماح كأنهم قادمون على معركة فاصلة، ولم يبتدرها أحدهم بالتحية، فابتدرتهم قائلة: إن كنتم قادمين من لدى الأمير فأخبروه أنني بخير. فسكتوا ولم يجدوا جوابا فقالت: إن كنتم قادمين لقتلي فلستم إذن رسله لأن قتل الأم ليس من صفات ولد بار. فلم يجيبوا إنما أحاطوا بفراشها وجرد البحار سيفه.
الثاني :
يا لهول ما تروي!
الأول :
فلما تيقنت أنهم يقصدون قتلها، وأنها فقدت المساعد والنصير كشفت عن أخفى ما في جسمها وأشارت بيدها إلى مكان الستر منها، وقالت بصوت هز خناجر القتلة في أيمانهم: هنا أغمد سيفك، في هذا المكان جزاء حملي ووضعي ولدا يستبيح قتل الأم!
الثاني :
فماذا فعلوا؟
الأول :
هوى هرقل على رأسها بهراوة فشجها، ثم اشترك معه رفيقاه فأصابها كل من الثلاثة في مقتل من مقاتلها، ولم تلبث أن زهقت روحها بين آلام يصعب علي وصفها.
الثاني :
وبعد؟!
الأول :
حدث أمر لم يكن في حسبان أحد، فقد أقبل بعد برهة نيرون بذاته متزييا بزي بحار، وقد عرفه كل من كان على مقربة من المكان.
الثاني :
هل أدركته الندامة فجاء ينقذها؟
الأول :
إنك طيب القلب. لقد جاء ليتحقق بعيني رأسه أنها قتلت هذه المرة.
الثاني :
وكيف علمت ذلك؟
الأول :
لقد بلغنا أنه أمر أن يكشف عنها الرداء الذي سترها به جلاده، فلما أن رآها عرته دهشة ثم قال: لو علمت أنها على هذا النصيب من جمال الجسد لأبقيت عليها ... أفهمت؟
الثاني :
ما أفظع هذا! ما أفظع هذا!
الأول :
ثم عاد الأمير من حيث أتى بعد أن أمر أن تحرق جثتها ليلة مصرعها، بدون حفاوة وأن يدفن رفاتها بغير إكرام، ولا ضحايا في مكان لا يعرفه أحد.
الثاني :
يا لها من خاتمة شنيعة!
الأول :
كانت حياتها أشد شناعة من موتها.
الثاني :
لشد ما أدهشني جلدها لدى الموت!
الأول :
كانت عالمة بأنها ستلقى حتفها على هذه الصورة، فقد روى لي من عليم بأخبارها أنها استشارت منجمة في صباها، فقالت لها: سيولد لك ولد يحكم رومه ويقتل أمه. فأجابت: رضيت أن يقتلني إن حكم ... إنه منذ قتل أمه لم يستقر على حال من القلق، وأغرب ما في أمره أنه أخذ يظهر بمظهر الحزين الذي أصابه الدهر بفقد أمه، فهو يبدو لمن يراه كمن فارقته بشاشته واعتدال مزاجه، ولبس وجه اليتيم شاحب السحنة كاسف البال لا ينفع معه العزاء على المصاب الذي حل به.
الثاني :
ما أقدره على التصنع!
الأول :
إن الذي كان يبدو عليه لم يكن من أثر الحزن والألم، إنما من أثر الرعب والندامة، فإنه مهما كان قلب الولد قاسيا فإن قتل أمه بأمره ليس أمرا هينا، ولكن دهاء نيرون أعظم من ندمه، فإنه تمكن من الانتفاع بما يبدو عليه من شحوب الوجه وكسافة البال ليظهر بهما بمظهر المحزون على فقد أمه.
الثاني :
أترى لهذا علاقة بغيبته الطويلة عن عاصمة المملكة؟
الأول :
قلت لك إن الرعب ملك عليه سبيله، فأدركه القلق فهام على وجهه منذ فعلته الشنعاء، وقد قيل إنه لا يستطيع النظر إلى البحر لأنه يخيل إليه في كل مرة أنه يرى أمه تغالب المواج، وقد أبلغه أتباعه أن الدائر على ألسن العامة أنه إذا جن الليل سمع من ناحية القبر الذي دفن فيه رفات أجربين صدى عويل واستغاثة، وأبلغوه أن امرأة جاءها المخاض فولدت ثعبانا، وأن أخرى انقضت عليها الصاعقة وهي في فراش زوجها، وأنه لدى كسوف الشمس الأخير زلزلت الأرض فتهدم أربعة عشر حيا من أحياء رومه، ومما زاده يقينا في تلك الخرافة أنه يهذي حينا فيسمع صوتا في غرفة نومه يشبه صوت أمه، ويرى شبحا يمثل صورتها وهو يودعها الوداع الكاذب يوم أغرقها أنيستوس بأمره.
الثاني :
ما أفظع هذا؟ ... على أنني أرى في العاصمة معالم الزينة لاستقباله.
الأول :
إنه بعد أن أقام شهرا يتنقل من غير قصد ويضرب في الأرض بدون جدوى، ألقى عصا تسياره بنابولي، وبعث إلى مجلس السناتو لعجم عوده برسالة من قلم سنيكا البليغ يشرح فيها عذره عن ذنبه.
الثاني :
فماذا كان جواب هذا المجلس الموقر؟
الأول :
إنه بالرغم من صوت الشعب الروماني الناقم على هذا الجاني الذي لا عذر له، أصدر المجلس الموقر القرار تلو القرار مفرغة كلها في قالب المذلة والتمليق، فأولها تخليد ذكرى اليوم الذي فشلت فيه المؤامرة المصطنعة التي لفقها نيرون لينتحل عذرا لقتل أمه، وثانيها إقامة تمثالين أحدهما لنيرون والثاني لمنرفا إلهة الحكمة ونصبهما في رحبة المجلس، وثالثها محو تاريخ ميلاد أجربين من التقويم الروماني، وكان حتى اليوم عيدا عاما ويوما مقدسا.
الثاني :
وهل أغفلوا أمر عودته إلى رومه؟
الأول :
كلا! إنهم بعثوا إليه برسلهم يستقدمونه إلى العاصمة ، ويمثلون له الشعب هائما بحبه منتظرا بفارغ الصبر عودته إلى مقر ملكه، وأكدوا له أن الشعب أمسى لا يبغض شخصا بغضه أجربين، بعد أن اتضح أمرها وبانت حقيقة مقاصدها.
الثاني :
أراه قد اعتقد صدق قولهم.
الأول :
إنه أحذر من ابن آوى ... لم يأمن أن يعود دون أن يبعث بنفر من رجال حاشيته يستطلعون طلائع البلد وهو على مقربة منه، فلما أن قدموا رأوا أكثر مما كان يتوقعون، فقد التقوا في الطرق بوفود القبائل قادمة للقائه بأمر مجلس الشيوخ، ورأوا الشيوخ أنفسهم وقد لبسوا أفخر ثيابهم وتزينوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة ينتظرون عودة نيرون ليقدموا له فروض العبودية، وقد حشد أهل رومه رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا واصطفوا حسب أعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية، وصدر الأمر فشيدت في الطريق التي سيمر بها الإمبراطور مواقف من الخشب كما يفعل يوم عودة القياصرة الفاتحين بعد انتصاراتهم الحربية ... هكذا يعود إلى الوطن ظالم قتل أمه واستباح كل منكر ... يعود عودة القياصرة المنتصرين تحت أقواس النصر!
الثاني :
وهل اليوم موعد عودته؟
الأول :
الساعة انظر (ينظران) .
المنظر الثاني (يسمع صوت بوق.)
الثاني :
ما هذا الذي نسمع؟
الأول :
هذه موسيقى الحرس (ينظر) .
الثاني :
ولكن بوروس ليس على رأسه.
الأول :
إنه مصاب بداء في الحنجرة (يدخل قضاة المحكمة العليا ووفد مجلس الشيوخ ويسمع صوت هتاف الشعب: ليحي قيصر! النصر لقيصر) .
المنظر الثالث (يدخل نيرون محمولا على الأعناق ويبدو عليه الضعف والملل ويبقى في هودجه - ضباط وجند وأعضاء مجلس الشيوخ وقضاة - وكهنة ...)
ضابط :
عمر مديد وملك سعيد وانتصارات لا تعد ومفاخر لا تحصر.
نيرون :
وبعد؟
ضابط :
هذا يا مولاي لسان حال هؤلاء الجند، أرادوا أن يحظوا بشرف المثول بين يدي جلالتك، فأعرهم يدك الطيبة الطاهرة فيقبلوها وأذنك الرقيقة الحساسة فيشنفوها بأطيب الثناء والحمد.
نيرون :
حديث واحد منهم كاف.
شخص :
إنهم يهنئونه بمقتل أمه!
جندي (يتقدم) :
بلسان الجيش الروماني المقيم في العاصمة وضواحيها والراحل منه في أطراف الإمبراطورية النائية رافعا أعلام دولتك وناشرا صولتك، جئنا نصوغ لآلئ التهاني لجلالتك فرحا بما أنعمت به علينا الآلهة بنجاتك من المؤامرة الفظيعة التي دبرها عقل جهنمي وقلب نزعت منه الرحمة، ونعم العقاب الذي لقيته الجانية (يدق نيرون يده فيأخذها الجندي ويقبلها بخشوع وينصرف) .
قاض عظيم :
إن قضاة المحكمة العليا يعدون هذا اليوم من أسعد الأيام، فقد منت علينا الآلهة بحياة جديدة بأن طالت حياتك ونجت رومه بأن نجوت من غدر الغادرين، وقد سرنا أن جرى العدل مجراه، ولقي الأثيم جزاء ما قدمت يداه، فذاق الكأس التي أراد أن تجرعها، وهكذا كل نفس تستبيح القتل سوف تلقى مصرعها.
نيرون :
إن قولك أيها القاضي العادل يفرج الكرب ويقنعني بأن في رومه قضاة (يمد له يده فيقبلها وينسحب) .
شيخ من مجلس السناتو :
مجلس السناتو ملجأ لكل شيخ محنك، وقد بغضتنا التجارب في كل من يغتال النفوس كائنا من كان، فما بال مولاي لو كانت تلك النفس التي نجت بأعجوبة سماوية هي أعز علينا من نفوسنا ... إننا بنص الدستور الروماني المقدس نستمد سلطتنا من شعاع من هالة أنوارك الساطعة، وننطق من أعلى منابرنا مدفوعين بقوة بيانك، ونشرع الشرائع ونقنن القوانين بفضل إرادتك الإمبراطورية، فمن يحاول إلحاق الأذى بجلالتك فقد حاول ضرب رومه في مقتلها، فقتله خير الجزاء ونعم الفعل!
نيرون :
كلام الشيوخ ... شيخ الكلام! (يدنو الشيخ ويقبل يده وينصرف.)
كاهن :
يسمح لي قيصر أن أقدم للآلهة قربانا فرحا بنجاته؟
نيرون :
لك ذلك.
بيترون :
إذا تنازل قيصر بالقبول أمرت لساعتي بتوزيع القمح والزيت والنبيذ بين الفقراء ابتهاجا لخلاصه من مؤامرة أهل السوء.
نيرون :
لك ذلك يا بترون العزيز.
سنيكا :
أما أنا فقد ضحيت بما ضحيت بدون إذن؛ لعلمي بأن قيصر سيقر عملي.
نيرون :
حسنا فعلت.
بوروس :
أما أنا فقد ضحيت وعتقت أربعين رقيقا.
نيرون :
لا تنس يا بترون عتقاء بوروس لئلا يجرعوا فيبغضوا الحرية (يضحك) .
رسول :
ليحي قيصر.
نيرون :
ما وراءك؟
رسول :
وفود من مدن شتى قدموا ليهنئوا جلالة الإمبراطور.
نيرون :
أدخلهم (يدخلون) .
أحدهم :
نحن أهل سولوسيا وباكتريا ورافنا ونابولي وبيتيا وجاليليا وقيصرية وقرطاجنا، جئنا نحمل إلى جلالتكم أجمل التهاني لنجاتكم من خطر المؤامرة السوداء، وقد ضحينا بعشر ما نملك إنعاما ومتاعا وأقمنا الصلوات في كل مكان داعين للأرباب أن تتقبل أضحياتنا وصلواتنا وأن تطيل حياتك وتسعد أيامك وتنصرك على أعدائك.
نيرون :
إن رومه تشكركم وتثني عليكم، أما أنا فقد أمرت أن تجرى عليكم من الخزانة الخاصة أرزاق تعوض عليكم ما أنفقتم في هذا السبيل.
أحدهم :
لم نبغ بذلك عوضا.
نيرون :
لم يفتكم الأجر من الأرباب ولا الثناء من مولاكم (يدنو فيقبل يد نيرون) ، (مستطردا)
آه ماذا أسمع؟ هذا صوت منكر ... صوت امرأة ... صوت امرأة تستغيث ... امرأة تقتل ... أسامعون أنتم أيها السادة صراخها؟ أجيبوا ... انطقوا ...
بعضهم :
لا نسمع شيئا سوى هبوب الريح.
نيرون :
إذن هذا الذي أسمع ليس صوتا إنما هذيان الحمي!
المنظر الرابع (ينزل نيرون من هودجه ويقف بين الحاضرين خطيبا.)
نيرون :
أيها الجنود والقضاة والشيوخ والأعيان والوفود والأصدقاء، باسم رومه أشكركم واعلموا أن دولتكم في يد جبار عنيد، لا يخاف أعداءه قليلا كانوا أو كثيرا، صغارا كانوا أو كبارا، وإنني دائما لهم بالمرصاد أصيدهم قبل أن يصيدوني، وأبطش بهم جهارا قبل أن يتمكنوا من طعني بخناجرهم سرا، ماذا يفعل الخنجر في السيف؟ وماذا تنال الأفعى من التنين ... على كتفي أحمل رومه وفي كفي أرى قلوب أهلها وبين أناملي زمامهم أفرادا ومجتمعين وتحت قدمي هذه أعناق أعدائي الحاسدين، فعودوا إلى عساكركم ودساكركم ومحاكمكم ومجالسكم ومدنكم وقراكم، وانقلوا عني أن رومه آمنة ما دمت سيدها، ونيرون مطمئن ما دام خادم رومه ... حقا إنهم يتقولون علي ويغتابونني ... إن اغتياب العظماء ونكران فضلهم من صفات البشر ونصيبي من هذا وذاك لا يقل عن أنصبة أجدادي العظماء وأمثالي الأماجد ... يقولون ظلما إنني قاتل أمي الأميرة أجربين، وهذا محض اختلاق، إنهم يفترون علي الكذب ليشوهوا سمعتي ويصمونني بالعقوق والكفران ... إن ذكر الخبر مجردا عن جميع ما أحاط به من المقدمات والنتائج، ظلم بين وإيذاء لي في عواطف الحب البنوي، كذلك تفصيل الأمر فيه ذكر لسيئات أمي بعد أن قضت، ولكن هل تريدون الوقوف على الحقيقة ؟
أصوات :
إننا نعلمها.
نيرون :
إنني أدافع عن سمعتي، أليس لإمبراطور رومه أن يدافع عن شرفه؟
أصوات :
كيف لا؟
نيرون :
لقد بعثت إلي الأميرة أجربين بعد نجاتها من الغرق بمعتقها أجرنيوس وهو أقرب العتقاء إليها وأوفرهم نصيبا من ثقتها، فلما رأيته أدنيته واثقا منه ثقتي من أكثر خدمي أمانة، فإذا هو مسلح بخنجر وقد استله فعلا وشرع في الاعتداء على حياتي، فلم أصدق عيني في بداية الأمر، ولكنني رأيت الموت يطل من خنجره فاستغثت وقبضنا على الجاني وأخذنا نحقق معه لنقف على حقيقة حاله ولنعلم حقا هل أرسلته أمي ليخطف روحي أم هو رسول غيرها من المتآمرين الأشرار، فعلمت الأميرة الوالدة بهذا الأمر وخشيت افتضاح السر ففضلت أن تموت بيدها على أن تلقاني وجها لوجه، بعد أن علمت أنها دبرت مقتلي، على أنني وحقكم يا سادة، لم أكن أضمر لها سوءا، كنت عقدت النية على العفو عنها وإن كان العفو في مثل هذه الحالة يغضبكم لأنها كانت ترمي بمطامعها إلى الاستيلاء على العرش، وقد حاولت بتأثير بالاس أن تحصل على يمين الطاعة من الحرس البريتوري، أكنتم تخضعون يا سادة لظلم امرأة يوحي إليها الشرير بالاس أنواع الشر والفساد؟ ... إنها كانت تبغضكم أكثر من بغضها لي ... إنها كانت تحثني في صباي على ازدراء الشيوخ، وطالما ألحت علي في أن أغل يدي عن المنح التي كنت أمنحها للجيش والشعب (أصوات اشمئزاز)، (مستطردا)
ألا تذكرون دعاواها الطويلة العريضة ضد أشراف رومه وأعيانها؟ ألا تذكرون أنها حاولت الجلوس على عرش أوجست العظيم أثناء استقبال الوفود الأجنبية؟ ... إنني منعتها إذ ذاك عن السقوط بمجد الرومان إلى الدرك الأسفل، فلم تنس لي تلك الحسنة.
صوت :
ورومه لا تنسى لك تلك الحسنة.
نيرون :
إن عهد كلوديوس الإلهي كان عهد مجد ورخاء، ولكنه كان منغصا من حين إلى آخر بالفشل والضيق، فاعلموا أن كل خير تم إنما تم على يدي الإمبراطور، وكل شر وقع إنما خزيه واقع على رأس تلك التي كانت تحركه في الخفاء.
صوت :
يا لها من خائنة !
نيرون :
فإذا ضربنا صفحا عن العواطف البنوية ونظرنا إلى مصلحة الإمبراطورية الرومانية، حكمنا بأن موت أجربين كان من حسن حظنا.
صوت :
حقا.
نيرون :
أرأيتم بعض البله والغافلين والطائشين ينسبون إلي محاولة إغراقها قبل موتها، على أن تلك الحادثة التي تعرفون تفصيلها إنما هي بنت المصادفات، وأظهر حجة على أنه لم تكن لي فيها يد، نجاتها ووصولها سالمة إلى مقرها. فلو أنني دبرت مقتلها ووكلت أمره إلى عدد من البحارة يقودهم قبطان جسور، أتظنون نجاتها تكون أمرا سهلا؟ ... على أنها هي أول من أساء بي الظن، فأرسلت إلي خادمها ليغتالني، وكانت نتيجة ذلك أنها ماتت وعاش نيرون.
أصوات :
ليحي قيصر!
نيرون :
قيصر يحييكم! (ينصرفون طائفة طائفة ويبقى لوسيوس وتيجلان.)
المنظر الخامس (لوسيوس - تيجلان)
نيرون (إلى لوسيوس) :
أيها الثعلب لقد تغيرت الدنيا منذ التقينا.
لوسيوس :
ولكن وفائي وإخلاصي واجتهادي لم يتغيروا.
نيرون :
وفضلى الأمهات تلك التي كانت ترهبني وتتوعدني.
لوسيوس :
أصبحت أثرا بعد عين، وأخنى على ذكرها الذي أخنى على سابينا.
نيرون :
لم يكن لك دخل في القضاء عليها.
لوسيوس :
لأن ذلك يتطلب دهاء وقدرة أقصر عنهما بلا ريب.
نيرون :
تقسيم العمل خطة محمودة، إن ما يتطلب مجهود التنين لا يتم على يد الثعلب وسأبقيك للخطط الصغرى ... بالاس لا ينغصني الآن سوى اختفاء هذا الخائن.
لوسيوس :
لقد ضاع بحثنا عن هذا الداهية!
نيرون :
واصل البحث فإنني لا أزال أخشى جانبه (لنفسه)
نيرون الآن تستطيع أن تتزوج من بوبيا، فقد زالت من سبيلك سائر العقبات التي كانت تدعو لتأخير هذا القران المنتظر، ولكن قبل الزواج الجديد ينبغي طلاق أوكتافيا ... لم يدعني لاحتمالها والصبر على عشرتها إلا فضلى الأمهات ... فلتطلق أوكتافيا، ولكن أي مبرر لهذا الطلاق؟ ... حقا إنها ما فتئت نموذج الأزواج، ولم تتحول عن طريق العفة والاستقامة قيد شعرة، ولكن مجد أبيها ودفاع أمي عنها وحب الشعب الهائل لها، كل ذلك بغضني فيها، وجعلها في نظري مصدر رهبة وازدراء، والآن فلأستشيرن تيجلان (إلى تيجلان)
أنت تعلم أيها العزيز أن قلبي متعلق منذ حين بسيدة يعادل جمالها شرف نسبها.
تيجلان :
أعلم ذلك.
نيرون :
ولم يعقني عن تحقيق حلم حياتي بالزواج منها إلا عقبتان؛ عقبة زالت وأخرى لا تزال، وهي حليلتي أوكتافيا، وقد صح عزمي على طلاقها ولكنها بيضاء الصحيفة عاطرة الذكر طاهرة الذيل، فهل لديك عذر أنتحله لدى الآباء الموقرين أستبيح به فراقها؟
تيجلان :
إن نيرون العظيم يطلب خليفة على عرش رومه، وهذه الأميرة عاقر، وهذا في شرعنا من أسباب إباحة الطلاق.
نيرون :
لا فض فوك! ... أسرع لساعتك إلى السناتو وأعرض عليهم الأمر وعد إلي بجواب قاطع.
تيجلان :
سأفعل.
نيرون (إلى رسول) :
ادع الأميرة بوبيا (لنفسه)
سأبشرها بقرب الزواج وسيكون فرحها بقربي عظيما، أليس من العجيب أن يضطر نيرون العظيم إلى حيلة شرعية وهو فرق الشرائع؟ ... على أنني أغتبط بمثل هذه الحادثة لأنها تدل الشعب على مقدار حبي للعدل والمساواة.
بوبيا :
مولاي!
نيرون :
شئت أن أحادثك قليلا في مشروع زواجنا.
بوبيا :
أتوسل إليك يا مولاي ألا تزيد ألمي بذكر هذا الأمل الذي لن يتحقق، إنك قوي بل أقوى من كل كائن تحت السماء، وأنا بجنسي وحبي وقلبي أضعف المخلوقات، وتلك القوة من جانبك وهذا الضعف من جانبي لم يشفعا لي عندك، فأنت تستبيح في كل وقت أن تعبث بنفسي المعذبة وتلعب بعواطفي الملتهبة ... أنت تلهي نفسي الظمآى المتعطشة بذلك السراب الخلاب، وكلما دنوت لأطفئ لهيب ظمآي من غدير حبك العذب أقصيته عني بحجة أو حيلة.
نيرون :
ألا تظنين أن عشرتنا بغير زواج أدعى للتمتع ونحن نجني فيها من ثمار الحب ما نشاء؟
بوبيا :
أنت لا غبار عليك إذا قيل عنك إنك موضع عشق ألف امرأة، ولكن امرأة مثلي لا تستطيع أن تسير في المدينة ولا تلقى سيدة شريفة وجها لوجه، وإن أحقر جارية في قصرك لأرفع شأنا من أعظم محظية.
نيرون :
وأنت أيضا تنسجين على منوال العامة، وتجعلين للعقد الشرعي شأنا وأنت تعلمين أنه ضرب من الأوهام.
بوبيا :
ليس في العالم شأن أعظم من شأن الأوهام، لأنها الستار الذي تختفي وراءه الحقائق.
نيرون :
أخشى أن تزول لذة العشق إذا عقد الزواج، فإن لذة العشق ناتجة عن كونه محرما!
بوبيا :
كلا يا مولاي، إن عشق النفوس التي كنفوسنا شجرة لا تنمو إلا في ظل الطمأنينة والأمن، ولا يقتلها شيء مثل التستر والتخفي والتقيد بالقيود التي تقتضيها حياة العاشقين بغير زواج.
نيرون :
ولكن لا يخفى عليك أن زواجنا يقتضي طلاق أوكتافيا، وهذه الأميرة وإن كانت مبغضة إلي إلا أنني لا أجد حيلة للخلاص منها.
بوبيا (تمعن التفكير لحظة) :
الأمر سهل يجوز لك أن تتهمها بالزنا مع الموسيقار الإسكندري إيريوس.
نيرون :
إليك عني! ومن يصدق هذه الخرافة ... أوكتافيا ابنة كلوديوس وأخت برنيانيكوس وزوجة نيرون تسلم نفسها لذلك النافخ في الناي؟!
بوبيا :
أنت تجد هذه التهمة صعبة التصديق، ولكن ثق أن الشعب يقبلها عن طيب خاطر.
نيرون :
ولماذا؟
بوبيا :
لأن شريفات النساء أسهل انقيادا للطبقة المنحطة من الرجال.
نيرون (إلى تيجلان) :
اكتب إلى الأميرة أوكتافيا كريمة الإمبراطور كلوديوس وحليلة الإمبراطور نيرون، أنك استهنت بالرباط المقدس الذي بينكما، واستبحت لنفسك الوقوع في شراك حب دنيء، واستسلمت للموسيقار إيريوس الإسكندري، فهل لديك ما تدفعين به هذه التهمة المشينة قبل أن يوقع الإمبراطور بك عقاب الزنى؟ اذهب بهذه الرسالة وحقق تلك التهمة بكل دقة، وابذل جهدك في الحصول على اعتراف منها أو شهادة رؤية من الحاشية، وإذا رأيت ضرورة لتهديدها أو تعذيب من حولها فلا تتردد.
بوبيا :
وإذا لم يسفر التحقيق عن إدانتها؟
نيرون :
هذا أمر لم أفكر فيه.
بوبيا :
على أنه ممكن الحصول.
نيرون :
وماذا ترين؟
بوبيا :
أمل عليه الحكم من الآن، ومهما تكن نتيجة التحقيق فالحكم ينفذ لا محالة.
نيرون :
أليس في إصدار الحكم قبل ثبوت التهمة تسرع يشين العدل؟
بوبيا :
أراك تتردد فيما يقرب أجل سعادتنا، وأنت في كل ما عدا ذلك ثابت العزم صادق النية، قل إذن يا مولاي إنك لا تريد الزواج.
نيرون (لتيجلان) :
اكتب باسم نيرون العظيم إمبراطور روما ووالد الوطن صدر هذا الحكم في قصره. من حيث ثبت على الأميرة أوكتافيا حليلة الإمبراطور من اعترافها وشهادة خدمها أنها فرطت في عرضها للموسيقار إيريوس الإسكندري، قد أمرنا بنفيها إلى أقصى حدود المملكة ومصادرة أملاكها عقابا لها وعبرة لسواها.
تيجلان :
ألا يزال للتحقيق ضرورة؟
نيرون :
حقق احتراما للظواهر واحتفاظا بالرسميات لئلا نتهم بالظلم! (يخرج تيجلان) .
بوبيا :
الآن استراح قلبي واطمأنت نفسي.
نيرون :
أتعلم الآلهة يا حبيبة قلبي أنني لست قاسيا وليس الظلم من شيمي، ولكن الناس اعتادوا اللين والتساهل؛ فهم لا يحبون إلا من ظلم نفسه في سبيلهم، فإذا رأوا بوادر العدل عدوها ظلما. أليس من العدل أن أطلق امرأة لا أحبها وأنا أقوى رجل في العالم؟ ولكن إذا عرضت هذا الأمر بسيطا مجردا عن الأسباب والدواعي التي تطفئ نار حب الاستطلاع المشتعلة في قلوب الناس قالوا مجنون أفعاله لا تعلل، ومخبول لا يسأل عما يفعل؛ فأضطر والحالة هذه لاختلاق الأسباب من حيث لا أسباب، ولما كانت الأسباب الملفقة مرذولة لأنها غير معقولة، فهم يصمونني بالظلم والقسوة، ونيرون مظلوم يا قوم! نيرون مظلوم!
بوبيا :
متى كان لرأي الناس هذا الشأن في نفسك؟ ألا تعلم يا مولاي أنه لا يخشى رأي الجمهور إلا الجبان؟
نيرون :
حاشا لنيرون أن يخشى الناس أو يعمل على إرضاء غرائزهم ... إنني إن فعلت ذلك خسرت لذتي وهلكت، ولكن هذا سنيكا قد أصابته الحكمة بخور العزيمة وفتور الهمة، فكنت كلما استشرته في أمر حسب له ألف حساب، وكان لرأي الجمهور المكان الأول في نظره.
بوبيا :
وهل سنيكا ولي أمر نيرون؟
نيرون :
كلا إنما نيرون لا يستغني عن سنيكا؛ لأنه معلمي الأول ولأن وجوده بجانبي يهدئ روع الشعب؛ لاعتقادهم أن الإمبراطور لا يصدر أمرا بغير موافقة حكيمه ومستشارة.
بوبيا :
نفسي تحدثني أن الوصاية قد طال استمرارها، وصارت لا تلائم سنك وعقلك وكرامتك.
نيرون :
سأعمل على زوالها. إن هذا ما تحدثني به نفسي، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها. اتركيني أخلص من الذين رماني بهم الدهر واحدا فواحدا؛ لئلا يتألبوا فيصيروا حربا علينا لا نقدر على صد تيارها الجارف (تيجلان يدخل) .
بوبيا :
ما وراءك؟ هل أذعنت الإمبراطورة ورحلت؟
تيجلان :
خبر يسوء ولا يسر. إنني قصدت حجرة الأميرة وقرأت عليها الرسالة الإمبراطورية فأظهرت في بداية الأمر دهشة عظمى، ثم أخذت تبكي ثم وقفت وقفة لا يستطيعها إلا أميرات بيت كلوديوس وأمطرتني وابلا من الذم والتكذيب والتأنيب، وادعت أن هذه تهمة ملفقة وفرية باطلة اخترعها الإمبراطور ليتخلص منها، وكان الخلاص منه أحرى به بعد أن فعل بأبيها وأخيها وغيرهما ما فعل.
بوبيا :
والجواري؟
تيجلان :
كدن ينهلن علي ضربا لولا أنني لجأت للقوة وعذبت واحدة منهن إرهابا للبقية، فلم يكن نصيبي من تلك المعذبة إلا قولها: إن سيدتي بريئة شريفة وسأبقى على هذا القول لأنه الحق حتى أموت ... إن ذيل سيدتي أطهر من فمك وفم مولاك!
نيرون :
هل جبنت حيال هؤلاء النسوة، وجرؤت أن تنقل إلي مسبتي؟
تيجلان :
كلا يا مولاي، إنني لم أجد داعيا لتلاوة الحكم لعدم انطباق أسبابه على الواقع ولكنني نفذته، ولست أعلم كيف وصل الأمر إلى آذان الشعب، ولم أكن أدري قبل اليوم أن أهل رومه يعتزون بإنسان اعتزازا ينسيهم واجب الطاعة والاحترام نحو شخص جلالتكم المقدس.
نيرون :
وماذا جرى؟
تيجلان :
إنهم عابوا في حقك بألفاظ لا تقف بذاتها عند حد، واعتدوا على تماثيل الأميرة بوبيا فقلبوها رأسا على عقب، وزينوا بالأزهار تماثيل أوكتافيا، وحاولوا مرارا ضرب الجند وإعادة الأميرة إلى قصرها عنوة، وكادوا يفوزون ببغيتهم لولا أن أمرت الجند فشهروا السلاح وحملوا عليهم حملة كاذبة.
نيرون :
وأين أوكتافيا الآن؟
تيجلان :
لما رأيت السير بها غير متيسر اعتقلتها تحت حراسة الجند في ثكنة كراسوس.
نيرون :
أرأيتم كيف يتداخلون فيما لا يعنيهم من شئوني الخاصة؟
تيجلان :
وقد سمعتهم يقولون سحقا للقاتل وتعسا للمخنث! إن جميع الآلهة تلعن نيرون. إنه لم يأت بمكرمة واحدة وأتى بكل الرذائل!
نيرون :
هذا مستصغر الشرر. لأقضين على الفتنة وهي جرثومة قبل أن يستفحل أمرها.
تيجلان :
بماذا يأمر قيصر؟
نيرون :
بالتشديد في تنفيذ ما عزمنا عليه.
بوبيا :
هل أرجأت نفيها؟
نيرون :
إليك عني أيتها السيدة. إن شئون الدولة أهم من شئون النساء (تقبل يده وتنصرف بخوف) .
نيرون :
علي بأنيستوس الجسور ... وأنت يا تيجلان رد الأميرة أوكتافيا إلى قصرها، وأطلق أصوات المنادين يعلنون هذا الأمر في كل مكان، وامنح كل من تلقاه فرحا بهذه البشرى درهمين ونصيبا من القمح وآخر من النبيذ، وبشر الشعب بالألعاب العامة، وقل للأميرة إنك فعلت ما فعلت بغير إذن قيصر، وأعلم أنه لا يقرني لشدة تعلقه بك وغيرته عليك، وأحسن كل الإحسان إلى الجواري اللواتي تعدين عليك وكن باشا في وجه الناس جميعا، ولاطفهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، واعلم أن من لا تستطيع قصم ظهره اليوم فابتسم له وجاوز القضاء عليه إلى غد. إن غدا لناظره قريب (يحضر أنيستوس) .
المنظر السادس
نيرون :
أهلا يا أنيستوس الجسور.
أنيستوس :
مولاي؟
نيرون :
إن إمبراطورك لا ينسى جميلك، فطالما أنقذتني من أعداء كنت أستثقل ظلهم وأخشى أطراف ألسنتهم، وبقي عليك الآن أن تنقذني من سخافة امرأة متعجرفة، ولست في حاجة إلى تجريد سيفك أو سل خنجرك، بل إن الأمر أهون من أن تهز له يدك.
أنيستوس :
وكيف يتم إذن يا مولاي؟
نيرون :
حرك لسانك ... اعترف أمام مجلس حافل بعظماء الدولة أنك عاشق أوكتافيا، فإن تم الأمر على ما أشتهي منك أغدقت عليك من الأرزاق والمنح ما لم تحدثك به نفسك، ووهبتك قصرا جميلا في أجمل بقاع الأرض بعيدا عن رومه، وإن أبيت أو ترددت فإنك ملاق حتفك لساعتك!
أنيستوس :
إن طاعتي لقيصر غير قائمة على ترغيبه أو وعيده.
نيرون :
إذن ابق في هذه الحجرة حتى تدعى (يدخل الحجرة)، (مستطردا)
علي بترزياس الشيخ ودراكوس الشريف وماركوس منتدب الشعب وسنيكا الحكيم ... إن أمرا ذا شأن عظيم من أمور الدولة يقتضي حضورهم فورا.
رسول :
سنبعث في طلب كل واحد منهم ثلة من الجند ليصلوا جميعا في وقت واحد (يخرج) .
نيرون (لنفسه) :
كلوديوس الإلهي! طيبت الآلهة ثراك! ما أصعب الخلاص منك ومن ابنك وبنتك وزوجتك! هل كتبت علي أن أقضي حياتي الطيبة في القضاء عليكم ليهنأ بالي وتقر عيني؟ إن أنيستوس الجسور سيقوم حتما بما طلبت إليه، إنه خبير بأنواع الفساد وصنوف الشر ... إن الضرورات تبيح المحظورات بل تبيح المحرمات أيضا ... ما أشقى المعذبين بتبكيت الضمير! سمعت بوروس يقول إنه كوخز الإبر. من حسن حظي أنني في راحة من هذا الوخز المؤلم.
رسول :
حضر الأشراف المدعوون.
نيرون :
ليدخلوا (يدخلون) ... أهلا بكم يا سادة. إن الأمر الذي دعوتكم من أجله من أكبر أمور الدولة شأنا. يسوءني وحقكم يا سادة أن أوجع مسامعكم بذكر رذيلة جديدة صدرت عن بيت كلوديوس.
أحدهم :
متى كان بيت كلوديوس مصدرا للفضائل؟
نيرون :
إن الأميرة أوكتافيا فوجئت في حضن عشيق لها، ونيرون يصرف وقته في شئون الدولة ويحرم ذاته لذيذ الرقاد في الدفاع عن الوطن وحليلته الخائنة تبيع عرضها بثمن بخس مع البحار أنيستوس، ولما وقع المذنبان في يدي بفضل الإله بوليكس الساهر على شرفي، أنكرت المرأة واعترف الرجل.
أحدهم :
أين هذا الخائن الذي دنس عرض مولاه واستحق سخط الآلهة؟ (يدخل أنيستوس ويبدو عليه رعب مصطنع ويدنو من نيرون ويقبض على يده.)
نيرون :
تكلم أيها الوغد. اذكر لنا كل ما تعلم. إن حياتك هينة في جنب شرفي ... لقد اعتقلت متلبسا بالجناية واعترفت أمامي فانزع برقع الحياء الكاذب وكن جسورا إلى آخر الأمر.
أنيستوس :
إن جرمي أفظع من أن يعاد الاعتراف به على مسمع من هؤلاء السادة.
أحدهم :
إن شرف قيصر وصيانة عرضه من أمور الدولة.
أنيستوس :
لقد دعيت إلى حجرة الأميرة أوكتافيا، فلما مثلت بين يديها صرفت خدمها واستقبلتني بما لا ينتظره قبطان مثلي من حليلة نيرون، ثم حسنت إلي القرب منها والبقاء في مضجعها، وبعد أن أظهرت لي ما خفي من جمالها ...
نيرون :
يا لهول ما أنا سامع! يا للعار! انهض أيها الإمبراطور الإلهي من مضجعك وانظر ماذا فعلت كريمتك الطاهرة بشرف خليفتك!
أحدهم :
خفف عنك يا مولاي.
آخر :
من شابهت أمها فما ظلمت!
نيرون :
لا فض فوك ... لقد اختارت لي فضلى الأمهات المرأة الحسناء في المنبت السوء. أتمم حديثك أيها المعشوق! (يهجم عليه)
دعوني أقضي على حياة هذا الرجل قبل أن يقضي على شرفي (يمنعونه) .
آخر :
إن له شريكة في الجرم، فلا بد من سماع قولها لنقدر جناية شريكته.
أنيستوس :
إنك أمرتني أن أذكر كل شيء.
نيرون :
تكلم! تكلم!
أنيستوس :
ولما قضينا ليلتنا على أتم ما يكون من الصفاء والسعادة، أصبحت الأميرة تطالبني بإخلاص أسطول ميسونوم.
نيرون :
الأسطول الذي أنت أميره!
أنيستوس :
هو يا مولاي بعينه.
نيرون :
خيانة للشرف وأخرى للوطن. لقد عمت البلوى وطفح الإناء ... وبعد؟
أنيستوس :
لقد سللت سيفي من غمده، وقلت لها ضعي هذا أنى شئت من مقاتلي ولكن لا تطلبي إلي أن أخون الوطن.
نيرون :
إن هذا القول وحده كاف لتخفيف عقوبتك.
أنيستوس :
وإننا لكذلك، وإذا بالجند قد أحدقوا بنا يقودهم تيجلان.
نيرون :
أتسعمون شهادة تيجلان أم اكتفيتم باعتراف هذا الرجل؟
بعضهم :
اكتفينا.
نيرون :
هل ثبت لديكم أيها السادة جناية الزنا في بيت قيصر؟
أحدهم :
كل الثبوت.
نيرون :
اكتب يا تيجلان باسم نيرون قيصر وإمبراطور رومه من حيث ثبت جريمتا الخيانة والزنا على المرأة أوكتافيا مطلقة الإمبراطور حكمنا عليها بالنفي في جزيرة بانداتوريا، ومن حيث إن شريكها أنيستوس خان شرف قيصر مجبرا بعد أن نصبت له أوكتافيا حبائل الشر ثم إنه أبى موافقتها على خيانة الوطن بتسليمها قياد أسطول ميسونوم، قد راعينا في حقه منتهى الرأفة، وحكمنا بنفيه إلى جزيرة سردينيا، وليقرأ هذا الحكم في مجلس السناتو وليناد به المنادون في كل ناد، أخرجوا بهذا الوغد إلى حيث لا أراه بعد اليوم (إلى تيجلان سرا)
اقتلها وشتت شمل جواريها، وصادر كل ما تعثر به في مخادعها من المال والحلي.
تيجلان (همسا) :
سأفعل يا مولاي (يخرج تيجلان وبعده أنيستوس) .
نيرون (مستطردا) :
أيها السادة لقد تمت مهمتكم وأنتم ضيوف قيصر.
المنظر السابع (يدخل رسول ومعه علامة الحداد.)
نيرون :
ما وراءك؟
رسول :
أطالت الآلهة حياة قيصر.
نيرون :
فيمن هذا العزاء؟
رسول :
القائد بوروس.
نيرون :
إن المصائب لا تأتي فرادى أيها السادة، لقد مات شهم يستحق ثناء الوطن ... لم أكن أظن أن التهاب الحنجرة يودي بهذا البطل! (يبكي.)
أحدهم (لآخر همسا ) :
هل مات بالتهاب الحنجرة؟
آخر :
هذا ما يقال، ويقال أيضا إن هذا الذي يبكيه ويرثيه هو الذي قضى عليه؛ ليستولي على ثروته لأنه لم يترك ذرية.
نيرون :
ينبغي لرومه بأسرها أن تبكي هذا القائد الشجاع والمشير الكامل الناصح الأمين ... إن فضائله أكثر من أن تعد وأعماله الباهرة في ميادين القتال لا حد لها وآراءه في سياسة الملك يحسده عليها أعظم الملوك (لنفسه)
ها نحن نخلص من العهد القديم شيئا فشيئا (ثم مستطردا)
فخلدوا يا سادة ذكر هذا الرجل الكريم، ولا تضنوا على اسمه بأن تزدان به صفحة من صحف التقويم الروماني ... لقد مات القائد بوروس عن غير عقب، وتركته ترد حتما إلى الخزانة الإمبراطورية ... ما كان أكرمه وأشرف نفسه! لقد منحني في حياته أغلى ما كان يملك وهو علمه وذكاؤه، وها هو يمنحني بعد موته ميراثا لا يستهان به.
أحدهم :
العبد وما ملكت يداه.
نيرون :
لقد رأيت أن أعين مكانه على رأس الحرس البريتوري القائدين فنيوس روفوس وسوفونيوس تيجلان.
أحدهم :
ما أصدق نظر هذا الرجل! ... لقد اختار واحدا مشهورا بالأمانة والاستقامة وعلو الهمة ليرضي الشعب، واختار الآخر مشهورا بالفساد ودناءة الأخلاق ليرضي ذاته.
سنيكا :
مولاي!
نيرون :
سيدي الحكيم الفاضل.
سنيكا :
لقد مضى علي أربع عشرة سنة في خدمة شخصك الكريم؛ قضيت ثمانيا منها وزيرا ومشيرا، وقد أغدقت علي النعم من متاع وشرف فزينت بكرمك حياتي ووضعتني موضع الحسد ممن لم ينالوا شأوي، ولم يبق لي يا مولاي لديك سوى مطلب واحد وهو أن تبيح لي أن أقضي ما بقي من أيامي في القناعة والراحة بعيدا عن مشاغل الدولة ومشاكل السياسة، وقد جرأني على هذا الطلب علمي بأنك صرت بفضل مواهبك الإلهية ناضج الفكر صحيح العزم صائب الرأي، ولست في حاجة إلى نصح شيخ أحب شيء لديه تعهد حديقته ومطالعة بعض الكتب، فتفضل يا صاحب الجلالة وجد على خادمك المخلص بآخر ما يلتمس من عتباتك السنية ... دام جودك وطال وجودك في مجد مؤثل وعيشة رضية.
نيرون :
أستاذي! إذا استبحت لنفسي أن أرتجل ردا على خطبتك البليغة، إنما بقوة أستمدها مما استفدته من أدبك الجم وفصاحتك النادرة. لقد دربتني على الخطابة وأكسبتني حضور البديهة وسرعة الجواب، وعلمتني مقابلة الشدائد بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومرنتني على حل المعضلات فلا تقف في وجهي مشكلة، ولو كانت أعقد من ظهر التمساح، وأكسبت أسلوبي في الخطابة والكتابة مرونة تمازجها البلاغة، فيكاد يكون من السهل الممتنع، وعلمتني من حوادث التاريخ القديم والحديث ما أنار بصيرتي وشحذ قريحتي وأكسبني خبرة الأجيال الغابرة، هذه نعمك علي ذكرتها لا على سبيل الثناء عليك، وإن كنت أهلا لكل ثناء، ولكن لأسرك بنضج ثمار جهودك وتكليل أعمالك السامية بتاج النجاح، ولكن لا تنس يا أستاذي العظيم أنك إن تخليت عني فأنت تجني على الوطن والدولة؛ لأنك تعيدني إلى طفولتي الأولى فأشعر أنني ما بلغت مدى العظام، إنني أوتيت ما ذكرت من الفضائل والكمالات ما دمت بجانبي، ولكنك إذا بعدت عني فهيهات أن أصلح لشيء بعد ذلك اليوم المشئوم، يوم انصرافك (تغرورق عيناه بالدموع ويضم سنيكا إلى صدره) .
سنيكا :
مولاي إن قواي تخور حيال هذا الكلام. إنني أضع تحت قدميك كل ما أوليتني من النعم السابقة وأرد إلى خزائنك الإمبراطورية كل ما أملك من تراث، فإن المال يفنى ورضاك عني خالد.
نيرون :
لا تستعجل إن ثروتك - مدت الآلهة من أجلك - ستعود حتما إلى خزائني كما ردت إلينا ثروة رفيقك الشهم بوروس؛ لأنك واأسفاه لم تعقب، وهكذا العظماء أمثالنا لا يعقبون.
سنيكا :
العبد وما ملكت يداه لسيده عاجلا وآجلا، إنما أريد أن يجيب مولاي سؤالي.
نيرون :
حسن ... حسن ... الزم قصرك وتمتع بشيخوختك المباركة، ولكن لا تنس أنني سألجأ إليك عند مقتضى الحال، فلست بعيدا عني لأنه كلما نأى الحبيب دنا (يتعانقان) ... هذا لا يمنع بقاءك الليلة لأنك ضيفي.
سنيكا :
أنا باق (يدخل تيجلان) .
تيجلان (على جنب) :
مولاي!
نيرون :
ماذا فعلتم؟
تيجلان :
لقد فتحنا شرايينها فلم تقطر نقطة واحدة من دمها، فذبحناها وعدنا برأسها!
نيرون :
لماذا فعلت ذلك؟
تيجلان :
إن السيدة بوبيا أصرت على أن ترى رأسها!
نيرون :
إذا كان الأمر كذلك فحسنا فعلت، وهل أحصيت التركة؟
تيجلان :
تربو على ألف سستر عدا الجواهر والحلي.
نيرون :
طيبت الآلهة ثراها كانت مدبرة مقتصدة ... هذا يوم الخلاص من العالم القديم في يوم واحد، مات بوروس واستقال سنيكا وماتت أوكتافيا (إلى الحاضرين)
أيها السادة، إنكم ضيوفي في هذه الليلة ... أعدوا شرابا ورقصا ... إن لدي سرا عظيما سأقترن غداة غد بالسيدة بوبيا، فلتدع إلى مجلسنا ولتحي بلقب إمبراطورة رومه! (تدخل بوبيا باحتفال موسيقي ويحدث رقص وغناء ويتناول نيرون قيثارته.)
أحدهم :
الشعر الإلهي!
نيرون :
هذا يومه سأنشدكم آخر ما نظمت ... وصف حريق طروادة!
الجميع :
كلنا آذان صاغية.
نيرون (ينشد) : ... عني أيا قوم الهوان افرنقعوا
أفلم يبرح في مقامكم الكدر
لا أبصرت عيناي حرق معاقلي
من لي بقربي قبل ذلك في سقر!
تيجلان :
ما أجمل هذا الشعر! ما أبلغ هذا الأسلوب! ما أبدع هذه القوافي!
آخر :
لو اختار الخلود قصيدة تمثله لم يجد أسمى مما سمعنا.
آخر :
ليس هذا الشعر من صنع البشر ... إنه صوت الآلهة في العلا حركت به أفصح لسان إنساني!
نيرون (إلى بترون) :
بترون ... مالي أراك صامتا؟ هل ملك عليك حسن النظم قدرة النطق؟
بترون :
كلا إنما أرى [الصمت] أحق بهذه الأبيات الضئيلة الركيكة والمفككة.
نيرون (بحنق مكتوم) :
ماذا ترى فيها من العيوب الفنية؟
بترون (بعدم اهتمام) :
لا تصدق ندماءك فيما يصوغون لك من عبارات الثناء. إنهم لا يدركون شيئا في الشعر.
تيجلان :
ليس حسن الذوق وقفا على أحد.
آخر :
الآلهة حصرت مواهبها العليا في رب البدع ...
نيرون :
لا تقطعوا عليه حديثه. إنني أحب الصراحة ... تكلم بحرية.
بترون :
تسألني عن عيوب هذه القصيدة من الوجهة الفنية وتحرجني بهذا السؤال، ولكن إذا أردت الحقيقة المرة فاسمعها ... إن هذه القصيدة تكفي لتخليد ذكر فحول شعراء الرومان أمثال فيرجيل وأوفيد بل تكفي لتمجيد ذكر هوميروس؛ لأنها لا تقل في شيء عن الإلياذة، ولكنها لا تليق بعبقريتك الإلهية. من يكون أوفيد وفيرجيل وهوميروس في جنب نيرون؟ هؤلاء شعراء ذوو مواهب إنسانية ، أما أنت فإله من الآلهة وعبقريتك روحانية أولمبية فلا تعر أذنك لثناء تيجلان أو إعجاب لوكان، فهذا تمليق ظاهر. إنني أطلب إليك شعرا أعظم من هذا لأنه على قدر العبقريين الجبابرة تكون ثمار أفكارهم. إن الأجيال القادمة تطالبك بشعر يليق بما منحتك الآلهة من الذكاء والفصاحة وسمو الأفكار، ولكنك يا قيصر ألزم بالكسل منك بالمجد الخالد، وهذه عادة الأرباب في العلا، تنام نهارك وتسهر ليلك وواجبك نحونا ونحو رومه ونحو الإنسانية يقضي عليك بأن تدأب وتنتج لتخرج لنا من كنوز نفسك الغنية ما لا يخرجه إلا الجد والعمل، فأنت يا من تستطيع أن تخرج للناس شعرا باقيا ما بقيت لغات البشر، أقول لك على رءوس الأشهاد وأمام هؤلاء الذين لا يعرفون قدرك فيقنعون بالقليل من فضلك، إننا ننتظر منك خيرا مما سمعنا.
نيرون :
مهما عظمت المواهب التي جادت بها علي الأرباب، فأنت أيها الصديق الحبيب المخلص المتفنن في نظري أجل وأعظم من مواهبي ... أنت وحدك تستطيع أن تقول الحق في وجهي. وها أنا أعمل بنصحك (يهم بإشعال القصيدة بالنار) .
بترون (يقبض على يد نيرون ويأخذ الشعر قبل أن يحترق) :
كلا كلا، إن هذه القصيدة وإن كانت غير جديرة بعبقريتك، إلا أنها أصبحت ملكا للإنسانية فأعطني إياها.
نيرون :
دعني إذن أبعث بها إليك في علبة تليق بهديتي إليك. حقا لقد فتحت عيني إلى ما كنت عنه عميا. إن وصفي لحريق طروادة ليس بالقوة التي كانت تجول بنفسي، على أنني كنت أحسب أنه يعادل وصف هوميروس. أتعلم مصدر عجزي في الوصف؟ لا بد للمتفنن إذا شاء أن يصنع تمثال إله من الآلهة من نموذج ينقل عنه التقاطيع والملامح الظاهرة، ثم يضيف إليه من الصورة النفسانية التي لا يراها ولا يشعر بها سواه، وقد رأى هوميروس حتما مدينة تحترق أما أنا فلم أر لسوء الحظ هذا المنظر الذي يجول في نفسي، فأنى لي أن أصف شيئا لم يقع عليه نظري.
بترون :
إذا صح هذا الرأي من الوجهة الفنية، فقد أتيت في قصيدتك بمعجزة لأن الوصف على ضعفه آية في الإبداع، إن في نفسك قوة تشرف بها على ما لم تحط به علما.
نيرون :
أجبني يا بترون هل أحزنك إحراق طروادة؟
بترون :
كلا وحق نبكال حليل الزهرة، فإنه لولا ذاك الحريق ما دون آشيل رواية بروميتيه، ولولا حرب طروادة ما نظم هوميروس شعر الإلياذة، وإنني أفضل بقاء رواية آشيل وديوان هوميروس على بلد حقير كطروادة.
نيرون :
هذا قول ينطوي على العقل والحكمة. إن الضحايا مهما عظمت وجلت قليلة في جانب الفنون الجميلة، وينبغي للمتفنن أن يبذل في سبيل فنه كل شيء، فما أسعد حظ الشاعر الذي رأى بلدا تلعب به النار!
تيجلان :
إذا أمر قيصر أحرقنا له أنتيوم، فإن عزت عليك قصورها وبساتينها أحرقنا السفن الراسية في خليج أوستي، وإلا فإني أشيد لك على قمة جبل البان بلدا من الخشب ثم تشعل فيه النار بيدك.
نيرون (باحتقار) :
أنا أقنع بحريق سفن قديمة أو بلد ملفق من أخشاب بالية؟! أهذا مقياس عبقريتي في نظرك؟ ما أضعف إدراكك وما أبعد فكرك عن تصور معاني الجمال.
بترون :
وما أصغر عبقريتك في اعتباره!
نيرون :
هذه رومه وقد أقبل الصيف وانتشرت الرطوبة في أرجائها، وانبعثت من حواشيها ودروبها روائح الوباء الجارف.
تيجلان :
إن النار تطهر كل شيء.
نيرون :
إن جدران رومه منقوشة بمثالبي والعيب في حقي شعرا ونثرا؛ فقد وصموني بأني قاتل أمي وأخي، وأنني وحش في صورة إنسان؛ لأنك يا تيجلان أعدمت نفرا من أعدائي بأمري. إنهم ينسبون إلي القسوة وبالغوا في تقبيح أعمالي بحيث أصبحت أسيء الظن في نفسي وأسائلها: أقاسية أنت أيتها النفس الطيبة الهادئة المطمئنة؟ فتجيبني نفسي: كلا إنما الناس لا يدركون قيمة أعمالي. قد يكون في عقاب الجناة قسوة، ولكن العقاب قصاص على جريمة، فالفعل قاس والنفس حنون كريمة، قولوا لمن يصمني بالقسوة أن يشهدني وأنا أسمع أنغام الموسيقى، إنني إذن لألطف من طفل وأكثر وداعة من حمل!
تيجلان :
إن رومه لم تستطع تقديرك حق قدرك.
نيرون :
إن عقلي ليس كعقل غيري من بني الإنسان ، ويخيل إلي أن الآلهة خلقت عقول بعض الناس دميمة قبيحة، وبعض العقول جميلة بديعة، فعقلي جميل.
تيجلان :
ما أصدق هذا القول!
نيرون :
إن عقلي مصنوع من مادة ثمينة نادرة كالجواهر الكريمة، وعقولكم مصنوعة من القصدير أو ... أو ... أو ...
تيجلان :
الصفيح!
نيرون :
الصفيح أحسنت ... فهذا العقل الجوهري اللؤلؤي الياقوتي الزمردي الزبرجدي، يرى ويدرك ما لا تدركه العقول القصديرية الصفيحية النحاسية وتفتح له حتما أبواب اللانهاية، فإذا فتحت أمامي هذه الأبواب في كل عام مرة أرى لمحة من لمحات الجمال والجلال التي لا أستطيع التعبير عنها وإن استطعت فإنكم لا تدركونها فأشعر بأنني من طينة غير طينتكم ... إنهم يقولون عني إنني مجنون!
تيجلان :
من ذا الذي يجرؤ على هذا؟
نيرون :
كلا! دعهم إن كمال العقل اللؤلؤي يسمى في نظر العقل القصديري جنونا. إذا كنت مجنونا في نظركم فهذا أعظم فخر لي، والويل لي إذا رضيتم عني ووصفتموني بالعقل والتؤدة. إنني إذن أكون في نظر نفسي مضيعا. إن عقلي يسبق قلبي، فلذا تراني أريد أن أرى ما لا يخطر على بالكم. وأريد أن أشعر وأحس بما لا تحدثكم به نفوسكم. وها أنا اليوم أشعر بأن أبواب اللانهاية ستفتح لي لحظة فأرى فيها بريق الجمال الأعلى ... إن الآلهة تأبى إلا أن أضحي لها بما هو أعظم فلتكن إرادة الآلهة.
تيجلان :
علام صح عزمك؟
نيرون :
ستدرك من إرادتي القيصرية معنى كل ما تقدم؛ لأن أفعال الآلهة اليوم تفسر أقوالهم بالأمس. اعلم يا تيجلان أنه يوجد شخصان في جلدي، أنت الآن ترى قيصرين تحت هذا التاج، الأول هو الذي يراه كل الناس ويخافون بأسه وبطشه، والثاني هو المتفنن الذي لم يدرك حقيقة أحد سواه، إن الأول هو الذي يخاطبك الآن والثاني هو الذي ينشب أظفاره بهول أشد من هول المنية، ويشعل النيران في المدن العظمى فتلتهب وتتأجج حتى تمتزج دموع ساكنيها بأمواه أنهارها ... أف أف ماذا أصابني!
تيجلان :
قيصر!
نيرون :
ما أثقل العبء الذي أحمله على كاهلي!
تيجلان :
أي عبء تعني؟
نيرون :
أرأيت يا ذا العقل القصديري أنني أنوء بحمل عبء السلطة المطلقة وأكل دون حمل العبقرية.
تيجلان :
إذن خفف عن نفسك وهون.
نيرون :
لا يخف حملي ولا يهون إلا إذا نفذت إرادتي الآلهة لساعتها.
تيجلان :
تنفذ حتما.
نيرون :
لتحرقن رومه.
تيجلان :
ستشتعل النار في أرجائها في أقل من لمح البصر.
نيرون :
ابدأ بأحياء الفقراء؛ لأتمكن من مشاهدة النار عن بعد، وليكون لدي من الوقت ما يكفي لنظم أغنيتي الجديدة، وتوقيع أنغامها على قيثارتي.
تيجلان :
لك ذلك (يخرج تيجلان) .
نيرون (إلى رسول) :
علي بعذارى النار (يجلس متأملا وتدخل العذارى فيرقصن وينشدن نشيد النار) .
المنظر الثامن (يدخل رسول)
رسول :
قيصر!
نيرون :
ما وراءك؟
رسول (يذعر الحاضرين) :
رومه تحترق وقد أخذت النار بمعظم أطرافها.
نيرون (ناهضا بفرح) :
وافرحتاه! لقد أتاحت لي الأرباب رؤية مدينة تلتهب!
بترون :
لقد أرادت الآلهة أن تنظم قصيدتك بما يطابق الحقيقة.
نيرون :
أتسهل علينا مشاهدة النار من شرفة القصر؟
رسول :
مولاي لقد صارت رومه نافذة من الجحيم، وقد صعد الدخان في أرجائها فاختنق معظم السكان واحترق منهم عدد كبير، ولقد جن الناس من هول المنظر فتراهم يلقون بأنفسهم في وسط النار، ومن بقيت له مسحة من العقل يهيم على وجهه حتى إذا قطع النهر سبيله ألقى بنفسه فيه فامتلأ التيبر بجثث الغرقى ... لقد ضاعت رومه فيالشقائها!
نيرون :
لا أريد رسلا ينقلون إلي أخبار النار ويفسدون علي جمال المنظر بعويلهم. ابعثوا بمن يأتي بالأخبار مجردة كأنها أخبار معركة ... إننا في معركة بين الآلهة والبشر لسنا في مأتم ...
أحدهم :
سنوفد من يأتي بالأخبار تباعا ويلقيها بغير تعليق.
رسول :
إن النار ...
أحدهم :
بغير تعليق.
رسول :
النار اشتعلت في الحي المجاور للملعب الأكبر وقد غادرتها، وقد تفشت في وسط المدينة، وهي تعدو على الأحياء حيا بعد حي بقوة لا تقاوم.
نيرون :
اذهب وعد بجديد من أخبارها.
رسول :
إن وادي التيبر مشتعل كأنه صفحة من المعدن المحمى وقد سترته الغيوم، فأخفت عن الناظرين مدن الوادي وقراه وغدرانه وحقوله وأشجاره، وفي طرف الوادي تبدو رومه كأنها كتلة من اللهب ، وقد رأيت في بعض جهات المدينة كتلا سوداء متحركة فاستبنتها فإذا هي جماعات من السكان تحاول الفرار ولا مفر لها، ثم رأيت الدخان المتصاعد وقد سد على النظر أقصر المدى؛ فحجب جبال سابين فكأن المدينة محصورة بجيش من النار لا تجد لها مخرجا.
نيرون :
أسرع ثم عد إلينا بأخبار جديدة (يخرج ثم يعود بعد فترة وجيزة) .
رسول :
لم أر في سبيلي في هذه المرة إلا بغالا وحميرا وخيلا محملة أمتعة شتى تماشي فقراء السكان، وقد ازدحمت بهم الطرق وكل يحمل على كاهله ما استطاع إنقاذه من ألسنة اللهيب المندلعة، وقد بدأ بعضهم ينصب الخيام لإيواء النساء والأطفال والمرضى ممن لا عائل لهم، وعلمت أن المصارعين والأرقاء ينهبون المنازل التي اشتعلت فيها النار، ويستبيحون أعراض الضعفاء من أربابها، فإذا قاومتهم امرأة أو عذراء قتلوها شر قتلة، وقد رأيت بعضهم يلقون بالأطفال إلى النار أحياء يصطلونها، فرجوتهم أن يجهزوا عليهم قبل إحراقهم رحمة بهم!
نيرون :
لا أريد تعليقا من عندك أيها الأبله ... لقد أفسدت علي جمال المنظر ... من ذا الذي دعاك إلى تقييد حرية الناس وقد أطلقتها الطبيعة؟ ... ألا تعلمون يا سادة أن عويل الطفل المحترق صوت من الأصوات التي خلقتها الطبيعة، ينبغي أن تسمع أصوات الألم. إن الموسيقى في احتياج لها وأنا محتاج إلى الموسيقى.
أحدهم :
انقل الأخبار بغير تعليق.
رسول :
إن صوت النار مرتفع في كل مكان، فهو أعلا من قرقعة المنازل المتهدمة، وأرفع من صراخ الرجال وعويل النساء، لقد سقطت رومه حيال قوة النار، وديست شرائعها تحت الأقدام، وذهبت رهبة القانون من قلوب السكان، وقد اختلط الحابل بالنابل، وزالت أنظمة الاجتماع الروماني بل تفككت روابط الحب الإنساني؛ فالزوج يضحي بزوجه لينجو، والأم تهجر طفلها إذا عاقها عن الخلاص، وكل إنسان لا يسأل إلا عن نفسه، وقد رأيت أرقاء الشيخ دراكوس يضربونه بالهراوات على رأسه ليسلبوه الثروة التي أراد الفرار بها، ورأيت فرقا من المصارعين سكارى بالخمور التي سلبوها يعتدون على أعراض النسوة على مقروعة الطريق، ورأيت أسواق الرقيق تتهدم جدرانها وتحترق أبوابها، فتخرج رهائنها التي كانت بالأمس معروضة للبيع وهم يباركون آلهة النار ويبتهلون لها لأنها كانت سببا في إطلاق سراحهم وخروجهم من نير العبودية.
نيرون :
هذا قانون الطبيعة، مصائب قوم عند قوم فوائد. ألم تر منهم من يضرب من كان مولاه بالأمس، إن في هذا معنى شعريا جميلا.
رسول :
رأيت هؤلاء الأسرى من سائر بقاع الأرض ينتقمون من رومه كلها، فهم ينفثون سم أحقادهم في كل من يلقون في طريقهم، وإن لهم رطانة تصم الآذان، فليس بينهم واحد يعرف لغتنا، فهم بين آسيوي بهي الطلعة، وأفريقي منحوس السحنة وبربري مفتول العضل أشقر، وإغريقي يصلح للفراش قد تواطئوا على السكان الآمنين وصبوا عليهم جام غضبهم وغضب شعوبهم الذليلة.
رسول :
جئت بآخر أخبار النار.
نيرون :
تكلم.
رسول :
إنهم يقولون إن الآمر بها قيصر، وإنه لا يوجد في رومه من يقدم على هذه الجناية سواه ولا يجرؤ على تنفيذها غير تيجلان، وقد شاهدوه في الطرق معتليا صهوة جواده ينظم وسائل الحريق لا وسائل الإطفاء، وشاهدوا جندا يشعلون النار في جهات شتى من البلد، فإذا انتهرهم الناس أجابوا إنما هم ينفذون أمر قيصر، وشاهدوا هؤلاء الجند يقتلون كل من يقرب من النار أو يحاول إطفاءها.
نيرون :
إنهم معذورون، إن الشعب الروماني محدد الذكاء فلا بد له من أن ينسب هذا الفعل الجليل لفاعل فلا يرى أمامه أقدر مني ولا أشجع من تيجلان.
رسول :
وسمعتهم يهتفون: ليمت قيصر، ليهلك الأمر بالحريق بين اللهب، ليسقط قاتل أمه وأخيه!
نيرون :
ما رأيكم يا سادة؟
بترون :
لا بد من نشر إشاعة تحول التهمة عن قيصر.
نيرون :
وكيف يكون ذلك؟
بترون :
نطلق المنادين ينادون أن المشتري أمر بركانا فأشعل النيران في بطن الأرض، وأن فستا انتقمت من رومه على ما حل بروبريا، وبهذه الحيلة نخلي مسئولية قيصر، ونحول نظر الشعب الهائج نحو آلهته.
نيرون :
هم وشأنهم مع الأرباب ... ليس لقيصر دخل في هذا الموضوع ... المشتري وبركان فستا وروبريا ... لا فض فوك. أطلقوا إذن أصوات المنادين بما أشار به بترون. ألم أقل لكم منذ برهة إن هذه المعركة بين الآلهة والبشر. أما أنا وأنتم فعلى الحياد.
أحدهم :
ها هي النار قد دنت وأصبحنا نراها ظاهرة.
بترون :
هذا حلمك يا قيصر قد تحقق! (يتناول نيرون قيثارته ويغني) .
نيرون :
المدينة تشتعل. رومه تلتهب وعن قريب تختفي آثارها وتضيع معالمها. أيتها المدينة الخالدة! أيها البلد المقدس لقد ظنوك باقية دهرا فوق دهر، ولكن الأرباب أرادت لك الزوال. أنت ملكة العالم ولكن ملكك لم ينقذك من الدمار. لقد ذهبت رومه ونيرون باق!
الجماعة :
ليحي قيصر العادل الرحيم!
رسول :
لقد أدركت النار جميع الهياكل فاحترق معبد هرقل، واشتعلت النار في معبد المشتري وستانور وكذلك التهمت معبد القمران. رومه التي قضى الرومان عشرة قرون في تأسيسها وتشييدها تختفي لحظة فلحظة.
نيرون (يغني) :
لقد ذهبت رومه ونيرون باق! أيها البلد الخالد يا مهد آبائي وأجدادي. أيها الوطن العزيز لقد أكلتك النار وذكراك تشعل قلبي!
الجماعة :
لقد ذهبت رومه ونيرون باق (تصفيق شديد من الشيوخ والندماء والوزراء) .
الشعب (من أسفل شرفات القصر) :
ليسقط نيرون القاتل! ليسقط نيرون الآمر بالحريق!
نيرون :
أرأيتهم يا سادة كيف يقدر الشعب مواهبي الفنية! أرأيتم كيف يقابلون أعظم قصيدة نظمتها؟
أحدهم :
إن القضاء عليهم عن آخرهم أخف علينا من غضبك وانفعالك.
نيرون :
لقد ضاع شعري على هؤلاء الحمقى.
أحدهم :
إن حرسك الإمبراطوري على قدم الاستعداد.
نيرون :
ما رأيك أيها الصديق؟ ما رأيك أيها القائد؟
بترون :
إن جندك بلا ريب موضع ثقتك.
روفوس :
إذا وثقنا من الإخلاص يخوننا العدد.
الشعب :
ليسقط نيرون! (تسمع أصوات حجارة تلقى) .
أحدهم :
ها هم قد شهروا أسلحتهم.
رسول :
إن الشعب الهائج سائر نحو القصر بسرعة، وكلهم مسلحون بالأسنة والرماح والسيوف وقد حمل النساء سهاما وأقواسا وهراوات وأحجارا كبارا (يسمع صوت الشعب والأحجار ويدخل تيجلان) .
نيرون :
ما وراءك.
تيجلان :
إن الخطر محدق بالقصر.
نيرون :
واخوفاه! يا لها من ليلة مشئومة. النار تأكل البلد والشعب هائج، إذن لا مفر لنا من الحرب! مر الحرس الإمبراطوري بالهجوم عليهم من غير إنذار ولا تهديد ...
الشعب (من أسفل) :
بترون بترون رب البدع وصديق قيصر.
بترون (يخطب في جموع الشعب) :
أيها الشعب الروماني. إن قيصر يذرف الدمع السخين على ما لحقكم من غضب الآلهة. لا تصدقوا ما يتهمه به أعداؤه وأعداؤكم. سننشأ المدينة من جديد. ستفتح لكم حدائق لوسولوس ومسينا وأجربينا، وغدا نبدأ بتوزيع القمح والزيت فتشبع بطونكم وتدفأ أجسامكم، وبعد غد ستقام حفلات الألعاب العامة وأثناء الألعاب ستولم الولائم وتوزع الأموال فيصيبكم من الغنى ما لم تحلموا به قبل اليوم.
الشعب :
الخبز والألعاب!
بترون :
سيكون لكم ما تطلبونه. أعدكم باسم قيصر بتوزيع الخبز وإقامة الألعاب.
الشعب :
ليحي قيصر!
نيرون :
لقد هدأ الشعب ... ها هم يهتفون! ما أسهل صنعة الملك في رومه!
تيجلان (لنيرون) :
لقد أمرنا بالهجوم، ولكن الجيش أضعف من الأمة.
نيرون :
ما العمل إذن؟ ما العمل؟ أتشتركون معي في أحداث الكرب ولا تساعدونني في تفريجه!
تيجلان :
خاطب شعبك من شرفة القصر فلعل روعهم يهدأ.
نيرون :
لعل وعسى؟ أتجعل حياتي أيها النذل رهينة لعل وعسى؟ ألا تخاف أن تصاب حنجرتي بسهم يمزق أوتارها؟ ألا تخشى أن يهشم فمي حجر كبير فتفقد رومه في يوم واحد ماضيها وسيدها ويفقد العالم أعظم متفنن؟ ... لا أجرؤ أن أخاطبهم. لا أستطيع الظهور أمامهم (الشعب يحدث جلبة وصراخ وتهديد) .
نيرون :
أليس فيكم رجل رشيد؟ أليس فيكم خطيب شجاع؟
بترون :
سأنوب عنك.
نيرون :
لا عدمتك. أنزل بينهم وعدهم خيرا. بشرهم بكل شيء (ينزل بترون ثم يعود)
أحسنت أيها الصديق (يضمه إلى صدره) ... اسمحوا لي يا سادة أن أغني النشيد الأخير من أغنيتي ... لقد ضاعت رومه.
الملحنون :
ولنيرون البقاء.
نيرون :
الخلود لي وحدي.
الملحنون :
وهذا نعم العزاء. (ستار)
الفصل الخامس
المنظر الأول
أحدهم :
تتساءل عن نبأ نيرون في مدينة نابلي؟ إن حب الأمير للظهور بمظهر المتفننين قد ملك عليه نفسه، وأمنيته الوحيدة أن يغني ويوقع على قيثارته ويمثل دور أوديب على مرأى ومسمع من الشعب الروماني.
آخر :
علمت أن له مطمحا آخر وهو الفوز في حلبة المصارعة، والسبق في امتطاء الجياد وقيادة المركبات السريعة.
أحدهم :
صدقت إن للأمنيتين على نفسه سلطانا؛ لذا عزم على أن يصارع ويجالد ويسابق في أثينا ويغني ويطرب ويمثل في رومه، ولكنه شاء قبل أن يظهر أمام الشعب الروماني في عاصمة ملكه أن يعجم عود جمهور مدينة نابولي، فسافر لهذه الغاية منذ عشرين يوما.
آخر :
وكيف كان تمثيله؟
أحدهم :
لقد سيق أهل المدن والقرى المجاورة لذاك الاحتفال سوق الأغنام، وبثت عليهم العيون والأرصاد، ووزعت الجند بين ظهرانيهم فكل من يظهر الاستياء أو سبق لسان بكلمة قارصة أو لا يبالغ في إظهار الإعجاب بذلك المهرج الإمبراطوري أنزل الجند به أشد العقاب ... إمبراطورنا يلهو وشعبنا يئن من مظالمه! لذا تراني أستنجد بالأرباب كلما اجتمعنا وأدعوها أن توفقنا في عملنا.
آخر :
يظهر أن الآلهة قد أجابت دعاءك ... فإننا لم نترك يوما دون اجتماع هنا في مقره.
أحدهم :
هذه فرصة فريدة هيهات أن تسنح فرصة تعادلها.
آخر :
حقا إننا إن لم نفر ببغيتنا ونتمكن من القضاء على الطاغية، فقل علينا وعلى رومه السلام ... لقد أقبل الشريف المقنع الذي نعرفه جميعا ولا يجرؤ على ذكر اسمه.
المنظر الثاني (يدخل المقنع)
المقنع :
طاب ليلكما يا سيدي.
الاثنان :
طاب ليلك أيها الشريف.
المقنع :
عما قليل يصل سوبريوس فلافيوس وسولبيسيوس أسير.
أحدهم :
علمت أن سولبيسيوس أسير مريض وقد يتعذر عليه الحضور.
المقنع :
التقيت به منذ هنيهة ولا بد من حضوره.
آخر :
سمعت أنيوس لوكان الشاعر يقول إن في اجتماعنا في قصر قيصر خطرا عظيما.
المقنع :
إن الشعراء يعيشون في الخيال، وهو يخشى أن يكتشف أحد أمرنا وهذا أمر مستحيل. من نحن؟ نحن سوبريوس فلافيوس وسولبيسيوس أسير نائبان منتخبان عن الشعب الروماني، وأنيوس لوكان شاعر الإمبراطور ونديمه وبلوتيوس لانترنوس قنصل روماني، وأنتما فلافيوسيفينوس وأفرانيوس نيتكانوس عضوان في مجلس الشيوخ، وكل من ذكرت من عظماء الدولة، ولهم حق دخول القصر في أي وقت شاءوا بنص الدستور وبأمر الأمير.
آخر :
ولكن يوجد اثنان غيرنا.
المقنع :
أما أنا فلا أحضر إلى هنا إلا في محمل على أعناق العبيد ، وللمحمل ستور تخفيني، وأما الآخر سيدنا ومولانا كايوس بيزو المرشح للإمبراطورية، فلا يراه أحد وهو ملازم قصره كما أجمعنا رأينا.
آخر :
ألا تخشى جاسوسا أو مخبرا. فقد علمنا أن شاطرا منهم يقتفي أثرنا، وأن له أعوانا يمدونه بأخبارنا، وهو يعمل منفردا دون الشرطة الرسمية.
المقنع :
إن الجواسيس والمخبرين الذين يخشى أمرهم يصحبون نيرون أنى جل، وأما خدم القصر فكلهم في قبضة يدي، على أن اجتماعنا في مكان آخر قد يلفت الأنظار وينبه الأذهان أكثر من لقائنا في القصر.
آخر :
يروى عن طبيريوس الجبار أنه كان يقتل كل من يلقاه في قصره بدون علمه أو بدون إذنه، وكان يقول ليس في رومه مكان أفضل للمؤامرة على الإمبراطور من قصر الإمبراطور ذاته.
المقنع :
حقا لقد كان طيبريوس ... هاكما رفاقنا (يدخل كل من باب ويتبادلون التحية ويجلسون)
أيها الأشراف والنبلاء بلغتني اليوم رسالة تنبئ بقرب عودة الطاغية؛ لهذا أرى أنه قد آن الآوان للاتفاق على وسيلة للقضاء عليه. إن معايبه وذنوبه وجرائمه أمست لا تعد وفي بقائه على عرش رومه مذلة لنا وحطة في شرفنا.
أحدهم :
بل إن في ذلك خطرا على حياتنا وأموالنا وأعراضنا يتهددنا في كل لحظة.
المقنع :
وقد انضم إلينا منذ جلستنا الأخيرة توليوس ستيسيوس أحد رجال البلاط وسرناريوس بروكوليوس الضابط الشهير وأنطونيوس ناتاليس صديق الطاغية وفنيوس روفوس.
كلهم :
فنيوس روفوس! قائد الحرس البريتوري؟
المقنع :
نعم فنيوس روفوس بعينه.
أحدهم :
ألا ترى بين هؤلاء من قد يخون دعوتنا؟
المقنع :
باركت فيكم الآلهة! أتحسبون يا سادتي أن واحدا منا أو من هؤلاء الذين ذكرت يضع يده في أيدينا ليتآمر على قيصر حبا في رضانا أو طمعا في بدرة مال نجود بها عليه؟ إن لكل منا نحن المتآمرين غرضا نسعى إليه، فسيدنا ومولانا كايوس بيزو من أشرف بيوتات المجد وأجدر الناس بالإمارة طامع، وحق له أن يطمع، في عرش رومه. وهذا المطمع وحده كاف لانضمامه إلينا وأنتما أيها النائبان (يشير إلى سوبريوس سولبيسيوس)
مدفوعان بدافع حب الوطن وحب الخير لرومه، وأنت أيها الشاعر (إلى أنيوس)
يسوقك حقدك على الطاعنين؛ لأنه ضيق عليك سبل المجد وأمر بمراقبة شعرك ومنع نشر ديوانك؛ لأنك لم تعترف له بالتقدم عليك، وأنت أيها القنصل النبيل (إلى بلوتيوس)
يأبى عليك مجد آبائك وشرف نفسك أن تعيش في ظلال الظلم، ففي عروقك تجري دماء الأبطال الأول، وأنتما أيها الشيخان الجليلان (إلى فلافيوس وأفرانيوس)
تعلمان ما يشعل نار الحقد في قلبيكما على ذلك الطاغية الذي لم يحترم بيتا ولم يصن عرضا. أما أنا فلو ذكرت لكم كل ما يدعوني للتآمر عليه لقضينا الليلة دون أن نصل إلى غايتنا من هذا الاجتماع، فلا تدهشوا إذن يا سادة إذا أتيتكم غدا بأسماء غير هذه، إن الأرض والسماء والهواء والنار لو استطاعت لتآمرت عليه.
أحدهم :
إن الصواعق تنقض والسفائن تغرق والقبور تبعثر، ألا يكفي هذا دليلا على غضب الآلهة؟
آخر :
إن ما تقوله حق لا يقبل الشك، إنما دهشتنا ناشئة عن خوفنا من الخيانة.
المقنع :
أصبت ... إنني أشدكم حذرا، وحيث قد وكلتم لي أمر انتخاب الأعضاء وقبولهم فلا تخشوا شرا (ينظر)
لقد أقبلت حليفتنا الجديدة.
آخر :
نحن مقتنعون بصدق نظرك.
المنظر الثالث (تدخل امرأة مقنعة.)
المقنع :
أيها السادة أقدم لكم السيدة أبيكاريس امرأة شريفة بمبدئها ومقصدها، محبة لوطنها مخلصة في أقوالها حازمة في فعلها.
المرأة :
أيها الأشراف والنبلاء، الواقفة بين أيديكم جارية ليس لها من شرف المحتد ما يجعل لاسمها في نفوسكم هيبة، ولكن قلب المرأة موضع سر الآلهة، وقد جعلت الآلهة من قلبي معبدا لحب الوطن. انظروا إلى وجهي (تكشف عن وجهها)
إنني في مقتبل العمر وعلى نصيب وافر من الحسن، وأستطيع أن أعيش سعيدة بحب الرجال لو رضيت، ولكنني وقفت شبابي وحسني على محاربة الظلم. إنني أضحي بحياتي في سبيل رومه، إن صوتي الضعيف قد يصل إلى قلوبكم ويفعل ما لا يفعل صوت قائد عظيم أو أمير كريم؛ لأن صوتي خارج من أعماق قلبي، ولأن الإخلاص رائدي ولأن فؤادي خلو من المطامع، فلست أرمي إلى العرش أو إلى المال أو إلى المجد ، إنما أرمي إلى غرض واحد وهو إنقاذ الوطن من الطاغية نيرون. وقد علمت باجتماعكم من حيث لا خطر يتهددكم فصحت عزيمتي على أن أمثل بين أيديكم وأضع روحي تحت تصرفكم، فمروا بما شئتم في هذا السبيل.
المقنع :
أيتها السيدة النبيلة، ليس للمرأة مفخرة بغير قلبها، وقلبك كبير وغرضك سام ونفسك عالية وعواطفك شريفة، حديثك كقطر الندى جدد في نفوسنا ما جدد، وقد فكرت أثناء خطبتك التي ستبقى ما بقيت لغتنا، في أن نعهد إليك بأمر الاستيلاء على أسطول ميسنيوم الذي يقوده القبطان فولوسيوس بروكيلوس. لقد كان هذا القبطان لدى مقتل أجربين بحارا، وقد اشترك في الجناية، فكافأه نيرون بمنصبه الحالي ولكنه غير راض عن هذه المكافأة.
أبيكاريس :
سأسعى في هذا السبيل من غداة غد، ولست أسأل عن الغرض، إنما لكم أن تسألوني عن التنفيذ ... لقد أحييتم آمال نفسي وأدعو لكم أن تحيي الآلهة نفوسكم. إن في موتي حياتي ما دام جهادي في سبيل رومه (تخرج) .
أحدهم :
لم أر امرأة أصدق منها لهجة!
آخر :
ولا أقوى منها قلبا.
آخر :
ولا أسمي غرضا.
المقنع :
قد نخون بعضنا بعضا، ولكن هذه المرأة تبقى كتوما إلى آخر نسمة من حياتها ... قد آن أوان عودة نيرون، فلنبارح هذا المكان للاتفاق على خطتنا (يخرجون) .
أحدهم :
لدينا الآن ثلاث خطط؛ أولاها أن يقتل الطاغية وهو يغني على الجمهور في محفل عام، والثانية أن ننتهز فرصة خروجه للنزهة ليلا فنشعل النار في القصر، ثم نأخذه على غرة وهو بلا حرس ولا حاشية، والثالثة الخطة التي أوكلنا أمرها إلى تلك الفتاة.
المقنع :
أليس لدينا خطة أخرى؟
أحدهم :
لقد تعود الطاغية أن ينزل في أحد قصور سيدنا كايوس بيزو في أرباض بابا، ويكون إذ ذاك بغير حرس ولا حاشية، ويستطيع أحقر الأرقاء أن يخمد أنفاسه وهو في سكره.
آخر :
إن سيدنا ومولانا يأبى علينا هذه الخطة، إن نفسه أرفع من أن تقبل إهراق دم ضيفه على مائدته وفي بيته حتى ولو كان الدم دم قيصر. أتؤذون كايوس بيزو في ضيفه ؟ أنسيتم كرم الرومان؟
أحدهم :
صدقت أن عاصمة الدولة هي أليق مكان بالقضاء على الظالم. إن رومه مهد الحرية فلا يصح أن تحرم من مشهد مصرع الطاغية، إن الرجال الذين يبذلون نفوسهم في سبيل الوطن ينبغي لهم أن يتموا عملهم على مرأى ومسمع من سائر أهل الوطن.
المقنع :
إنني أرى أن ننتهز فرصة الاحتفال بالألعاب العامة في عيد سريس، وقد تعود نيرون أن ينزوي في قصره في ذلك العيد، فيستأذن عليه رفيقنا لاترنوس الشجاع الحازم ثم يدنو منه كمن يلتمس مرحمة أو شفاعة ثم يجثو أمامه علامة الخضوع حتى يبلغ قدميه فيقلبه رأسا على عقب، فإذا حاول النهوض منعه وحينئذ نهجم جميعا ونقضي عليه بخناجرنا.
سيفنيوس :
أريد أن أكون أول من يطعن بخنجري الذي استحضرته من معبد إلهة القوة في إتروريا، فها أنا أحمله حتى أقضي به حق الحرية.
أحدهم :
لقد طال عليه القدم وعلاه الصدأ.
سيفنيوس :
الليلة يشحذه رقيق جديد اشتريته منذ بضعة أيام، وهو أدنى من وثقت بهم من خدمي؛ لما أرى فيه من الطاعة والذكاء.
المقنع :
ما رأيكم في هذه الخطة؟
الجميع :
موافقون.
المقنع :
أما سيدنا ومولانا كايوس بيزو، فيكون في ذلك الوقت في هيكل سيريس نفسه حتى يحضر إليه فينوس ورفاقه ليأخذوه إلى معسكر الحرس البريتوري، فيخطب فيهم وينادى به إمبراطورا على رومه.
الجميع :
ليسقط الظالم. ليهلك نيرون الطاغية وليحي بيزو ولتحي الحرية!
المقنع :
والآن يخرج كل واحد من باب، وحذار يا سادتي من الاجتماع في الطريق (يخرجون) .
المنظر الرابع (تسمع أبواب وأصوات وجلبة ويدخل نيرون باحتفال عظيم وعلى رأسه أكليل الغار ومعه الحاشية.)
نيرون :
ألم أقل لكم يا سادة، إن الشعب الروماني شديد الغيرة، لقد عز عليهم أن يحظى أهل نابولي بسماع صوتي ومشاهدة تمثيلي قبلهم، وهذه المظاهرة تدل على ذلك. إنهم فرحون بعودتي وساخطون لحرمانهم من فني، ولكن فرحهم يربو على سخطهم.
أحدهم :
ليس في الإمكان أحسن مما كان.
آخر :
لقد جمعت الآلهة سائر الفنون في شخصك.
نيرون :
لقد كنت تعبا من وعثاء السفر على أنني أستطيع أن أبلغ من الإتقان مدى أقصى مما شاهدتم، ولا تحبطوا همتي بهذا الثناء، بل شجعوني واطلبوا المزيد، إن في هذه الحنجرة أنغاما لم يسمع لها مثيل في الكون ولكل مجتهد نصيب. لقد أنهكت قواي، ولكنني جنيت الثمرة التي كنت أرجوها. والآن أشكركم يا سادة، قد آن لنا أن نستريح من تلك السياحة المجيدة. وستكون حجتي إلى أثينا أحفل من هذه وأبهى.
رسول :
يحيا قيصر!
نيرون :
ما وراءك؟
رسول :
غريب عن رومه عليه سيماء اليسار والعظمة، يريد المثول بين يدي قيصر.
نيرون :
فليقابل أيبافروديت كاتم أسراري.
رسول :
أبى إلا أن يلقاك بذاتك؛ لأن لديه أسرارا ذات شأن لم يشأ أن يفضي بها لأحد سواك.
نيرون :
ولكنني قادم من السفر وحنجرتي متعبة.
رسول :
قال إن أبطأت في لقائه فرت الفرصة.
نيرون :
إذن فليدخل ولكن إلحاحه يريبني. فتشوه أولا لعله يكون حاملا سلاحا خفيا. اعلموا أن حياتي منذ اليوم ليست لي إنما هي لأبناء المستقبل؛ لأن حنجرتي ...
تيجلان :
سأقف على حقيقة حاله ثم أعود به.
نيرون :
حسنا تفعل (يخرج تيجلان ثم يعود بالرجل. ينظر إليه نيرون شزرا) .
نيرون :
ما وراءك أيها الغريب؟ أراك مرتديا ثيابا أفريقية، أمن مصر أنت؟
الغريب :
كلا بل أنا من قرطاجنة يا صاحب الجلالة.
نيرون :
ما الذي تريد من لقاء قيصر؟
الغريب :
إن لدى سرا عظيما، لا أبوح به إلا على انفراد.
نيرون :
هذه حاشيتي ولا يخفى على أحد منهم شيء من أسراري.
الغريب :
إذا أمر قيصر عدت أدراجي دون أن أبوح بكلمة مما أنا حامل.
نيرون :
تيجلان هل حييت هذا الضيف؟
تيجلان :
لقد وفقت في تحيته فلا خوف عليه من الانفراد بك.
نيرون :
إذن يا سادة اسمحوا لنا بالانفراد (يخرجون)
تكلم لا يسمعك أحد سواي.
الغريب :
يملك عبدك أرضا واسعة الفضاء في قرطاجنة، وقد عثرت بها على كهف عميق، فلما نزلت إليه ألفيته مملوءا بالقطع الضخمة من الذهب الخام، ورأيت فيه أعمدة من ذلك المعدن النفيس تعلو على أعمدة هذا القصر، فلما رأيت ذلك الكنز العظيم كدت أجن من الدهشة والفرح، فثبت نفسي إلى أن أفقت من غشيتي ثم بادرت إلى إخفاء مدخل الكهف وعدت إلى منزلي تنتابني الحيرة وتتناهبني المخاوف، فنمت فرأيت فيما يرى النائم شيخا وقورا فسألته عن حقيقة هذا الكنز لعلي أهتدي بحكمته، فقال لي: اعلم أن ديدون ملكة فينيقيا لما فرت من صور وأسست مدينة قرطاجنة، دفنت ثروتها في أعمق بقعة من الأرض؛ خشية أن يطمع فيها أمراء نوميديا. فقلت له: ولمن يكون ذلك الكنز الدفين؟ فأجابني على الفور: إنه لسيدك ومولاك نيرون إمبراطور رومه ليزداد مجده ويعظم شأنه ويكون أغنى ملوك الأرض. هذا هو السر يا مولاي، وقد جئت أضع تحت أقدامك تلك الثروة التي حبتك بها الآلهة منذ القدم، ولا أريد أن يكون لي فيها نصيب ويكفيني رضاك.
نيرون (ينهض) :
مرحى! مرحى! ما أكرمك أيها الغريب وما أشد وفاءك! إن إمبراطور رومه لا ينكر الجميل. ستكون وزيرا لي. أتظن هذا الأمر سرا ينبغي كتمانه.
الغريب :
خفت أن يبادر إلى الكنز أحد فيسلبه شيئا فشيئا.
نيرون :
تخشى أن يسرقوا كنزي، أيجرؤ أحد على أخذ مالي؟ أيسرق ذهبي وأنا في رومه؟! لقد صح نبأ لوكاست وصدق المنجمون. لقد تكهنوا لي بثروة طائلة أنالها. فلتكن تلك الثروة على يديك.
الغريب :
برئت ذمتي واستراح ضميري، فالسر سرك والمال مالك.
نيرون :
إلي يا سادة، أطلقوا أصوات المنادين في المدينة، وبشروا شعب رومه بالخير العميم، طالما ناءوا بالضرائب، وفجعوا من مصادرة أموالهم في مصلحة الدولة. ليتهم صبروا، فإن نجم نيرون في صعود. لقد وجدت الكنز الذي كنت أبحث عنه. هاكم الذهب الذي كنت أنشده. إن الثروة الطائلة التي أريدها مدفونة على مسيرة يوم واحد من رومه، لقد جعلت هذا الغريب ... ما اسمك أيها الحبيب؟
الغريب :
كاسيليوس باسوس القرطاجني.
نيرون (مستطردا) :
لقد جعلت السيد كاسيليوس باسوس الروماني أمينا على خزائني مدبرا لبيت المال ووزيرا لديوان الدخل والخرج ... تيجلان اخلع عن هذا القنصل الروماني ثيابه الأفريقية ولفعه بحلة أرجوانية، وأمر أن يرفع له تمثال في هيكل المشتري وأن يؤرخ يوم ميلاده في التقويم واهتفوا أيها السادة (يهتفون معه)
ليحي كاسيليوس باسوس ... مروا رجال الأسطول أن يعدوا سفائن خفيفة لتقل سبائك الذهب من قرطاجنة إلى رومه، وافتحوا حدائقي للشعب وأولموا وليمة كبرى، ومروا أن تقام الصلاة في الهياكل، ومروا الشعراء أن ينظموا القصائد في هذا المعنى، إن الآلهة لم تكتف بما منحتني من المجد والقوة، فأمطرت علي سبائك الذهب. أرأيتم حسن حظي؟ أرأيتم بركتي؟ أرأيتم علو نجمي. سطروا صحيفة بأسماء الأشراف الذين قعد بهم الدهر. سأمنح كلا منهم ما يغنيه وأسرته جيلا بعد جيل. سأهدم هذا القصر وأشيد مكانه قصرا دعائمه ذهب. سأصنع لنفسي تماثيل من ذلك المعدن النفيس. سأضرب نقودا جديدة باسمي وصورتي كلها من الذهب. مروا بمصادرة نقود الفضة والبرونز فليست رسومه بعد اليوم في حاجة إليها. الذهب شعارنا منذ اليوم. وأنت يا تيجلان وهبتك مائة ألف قطعة من الذهب كذلك أنت يا بترون، انقلوا هذا الخبر السار إلى الإمبراطورة بوبيا واطلبوا إليها أن تتفضل بالحضور لتشاركني في فرحي. واأسفاه على أن أعدائي ماتوا قبل أن يعلموا بهذا الخبر فيزدادوا غيظا على غيظهم، من لي بإخبارهم في قبورهم أن نيرون أصبح أغنى أهل الأرض كما هو أعظم متفنن تحت السماء (تسمع أصوات من تحت القصر) .
الشعب :
بشرى لقيصر! ليحي قيصر! نريد الألعاب والحدائق.
نيرون :
هل نشرتم الخبر؟ ها هو الشعب ينادي ويهتف سأخرج لهم هذه المرة. (يطل من الشرفة ويسمع الهتاف بصوت عال)
لقد مات الفقر. سأوزع عليكم الذهب. لقد وجدت الكنز الدفين. طيبوا نفوسا وقروا عيونا. سأنشئ لكم حمامين أفخر من حمام كاراكلا (تدخل بوبيا ويضمها إلى صدره)
زوجتي المحبوبة لقد فرجت الأزمة وزال الضيق.
بوبيا :
لازال نجمك في صعود وحظك في سعود.
نيرون :
سأضع لك ولابنتنا تماثيل من الذهب.
بوبيا :
إن تخليد ذكرك هو أعظم ما تصبو له نفسي.
نيرون :
أيبافروديت أيها الكاتب الحاذق، ها هي الإلهة أولما ربة الحساب والأعداد قد أمطرت أرقاما لا نهاية لها. عليك بإعداد دفاتر ضخمة تقيد فيها قيمة الذهب الذي عثرنا عليه. دون ديوانا جديدا وسمه ديوان الكنوز وانتق عشرة أو عشرين أو ثلاثين من أمهر الرياضيين ليكونوا تلاميذ إقليدس بل أيقظ إقليدس من رقاده، إن عظامه لتطرب في قبرها من ذكر هذه الأرقام.
المنظر الخامس (نيرون - مليكوس (الذي هو لوسيوس) - سيفنيوس - ناتاليس)
رسول :
يحيا قيصر.
نيرون :
ما وراءك؟
رسول :
رجل بالباب يريد أن يمثل بين يدي جلالتك.
نيرون :
علي به لعله اكتشف كنزا آخر (يخرج الرسول ويعود بالرجل) .
مليكوس :
مولاي! إن لدي سرا أريد أن أفضي به إليك.
نيرون (بسرعة للرجل) :
هل اكتشفت كنزا فقد غاض المال في خزائني.
مليكوس :
كلا بل اكتشفت ما هو أكبر شأنا من الكنز. اكتشفت مؤامرة!
نيرون :
ماذا تقول؟ ... اتركوني مع هذا الرجل وتبقى الإمبراطورة وتيجلان (يخرج الجميع مندهشين) .
نيرون :
تكلم الآن بإيضاح ولا تخف شيئا.
مليكوس :
تزييت بزي رقيق فاشتراني سفينيوس، وكسبت ثقته، وبالأمس حضر إلى دار سيدي السيد أنطانيوس ناتاليس وخلا به زمنا طويلا، فلما انصرف أخذ سيدي يدون وصيته ثم ختمها وأمر بإعداد عشاء ممتع، وأعتق على المائدة عددا كبيرا من أرقائه وأعطى من استبقاه في الرق عطايا من المال، وكان السرور باديا عليه على غير عادته، ثم أخذ يقبل زوجته وأولاده بشغف وانفعال كأنه يودعهم؛ فتبدو عليه الكآبة إذ ذاك ثم يعود إلى ما كان عليه من الانشراح المصطنع، ولما أن نهض عن المائدة، ونام أهل البيت دعاني إليه وأمرني أن أعد أربطة لتضميد الجراح ولفائف لقطع النزيف، ثم سلم إلي ذلك الخنجر وأمرني أن أشحذه وسمعته يقول كمن يناجي نفسه: تباركت الآلهة التي أبقت على هذا الخنجر.
نيرون (باضطراب) :
ما رأيكم؟
تيجلان :
يعتقل سيفنوس ويستحضر فورا.
نيرون :
قم أنت بهذا العمل (يخرج تيجلان) ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر. مجد عظيم ومؤامرة جسيمة (إلى مليكوس)
أيها الثعلب العتيق حذار أن يكون بلاغك كاذبا. إني أعاقب المفتري عقاب الجاني. احذر أن يكون طمعك في مرضاتي دافعا لك على هذا البلاغ. إن إذاعة هذا الخبر مضرة بسمعة الإمبراطور والدولة.
مليكوس :
هاكم الخنجر الذي تسلمته من سيفنيوس لشحذه، وقد وقع كل ما رويته وأنا مصمم على بلاغي.
نيرون :
حسن سنرى إن كنت كاذبا فستلقى عقاب الكاذبين، وإن كنت صادقا فلك عندي جزاء عظيم (يدخل تيجلان وخلفه سيفنيوس الذي تبدو عليه الدهشة عند مشاهدة رقيقه الخائن) .
نيرون :
أيها السيد سيفنيوس أتعرف من هذا؟
سيفنيوس :
هذا رقيق جديد اشتريته.
نيرون :
أيها الرقيق لوسيوس أتعرف من هذا؟
مليكوس :
هذا سيدي سيفنيوس.
نيرون :
إن رقيقك يتهمك بالتآمر على قتلي، ويؤيد دعواه بهذا الخنجر الذي أمرته بشحذه.
سيفنيوس (بعد إطراق طويل) :
إن هذا الخنجر أثر مقدس ورثته عن آبائي، وقد احتفظت به تخليدا لذكراهم، وكان في غرفتي إلى أن سرقه هذا الرقيق.
نيرون :
هل حررت أمس وصيتك وختمتها؟
سيفنيوس :
تعودت التغيير والتبديل في نص وصيتي، وكلما عدلت فيها أعدت تحريرها وختمها بغير قيد للأيام والمواقيت.
نيرون :
هل أعتقت عددا من أرقائك أمس، ومنحت سواهم منحا كبرى من المال، وكنت تقبل أهل بيتك بشغف وانفعال كأنك تودعهم؟
سيفنيوس :
لقد عودت أرقائي الكرم، فما هذه بالدفعة الأولى التي أعتقت فيها من أعتقت ووهبت ما وهبت، أما تقبيل أولادي فأمر فطري ولم أعلم أنه دليل أو قرينة على الإجرام.
نيرون :
لقد أسرفت في نفقة بيتك وأعددت عشاء فاخرا.
سيفنيوس :
يعلم الناس والجان أنني لا أدخر وسعا في إتقان ما يقدم على مائدتي، ولدي طاه إغريقي أدفع له ألفي درهم في العام.
نيرون :
هل أعددت أربطة ولفائف لتضميد الجراح وقطع النزيف؟
سيفنيوس :
لا علم لي بهذا.
نيرون :
إذن تنكر ما ينسب إليك ذلك الرقيق من تآمرك على مولاك؟
سيفنيوس :
إن التهمة كاذبة والمبلغ جاسوس دنيء، أعوزته الحجة فاخترع تلك القرائن وليس لديه على صدق ما يقول أقل دليل، فضلا عن أنه فاسق فلا تقبل شهادته.
نيرون (إلى مليكوس الذي هو في الحقيقة لوسيوس) :
ما قولك في دفاع مولاك؟
مليكوس :
يسأل عن اجتماعه بأنطونيوس ناتاليس.
نيرون :
لا بد أن تحقق هذه المسألة على انفراد ... تيجلان علينا بأنطونيوس ناتاليس (يخرج تيجلان)، (إلى سيفنيوس )
هل التقيت بأنطونيوس ناتاليس؟
سيفنيوس :
إنه صديقي وكثيرا ما ألتقي به.
نيرون :
ماذا دار بينكما من الحديث في اللقاء الأخير؟
سيفنيوس :
تحدثنا عن عيد سريس وحفلة الألعاب العامة، وذكرت له أنني لا أستطيع مشاهدة هذه الألعاب وأفضل قضاء العيد في داري.
نيرون :
هل هذا كل ما دار بينكما؟
سيفنيوس :
لا أذكر غير هذا الحديث (يدخل تيجلان ومعه أنطونيوس ناتاليس) .
نيرون :
متى التقيت بصاحبك هذا لآخر مرة؟
ناتاليس :
لا أذكر يا مولاي.
نيرون :
يقول إنكما التقيتما أمس في منزله.
ناتاليس :
نعم لقد نسيت.
نيرون :
أي حديث دار بينكما؟
ناتاليس :
تكلمنا في أمور شتى.
نيرون :
مثلا؟
ناتاليس :
مجلس الشيوخ.
نيرون :
وغيره؟
ناتاليس :
وعن سياحة جلالتك المباركة إلى نابولي وقدومك السعيد.
نيرون :
ألم تذكر شيئا عن حفلة الألعاب العامة في عيد سريس؟
ناتاليس :
كلا يا مولاي كلا لم يدر بيننا هذا الحديث.
نيرون :
تذكر جيدا.
ناتاليس :
لم تذكر تلك الحفلة بشيء مطلقا.
نيرون :
يقول رفيقك إنها كانت موضوع حديثكما دون سواها.
ناتاليس :
كلا كلا لقد خانته ذاكرته.
نيرون :
الآن ظهر الحق. إن اختلافكما نقمة عليكما ... تيجلان قيدهما بالحديد وعذبهما أو يعترفا (يستحضر الحديد وتستحضر آلات التعذيب) .
ناتاليس (وقد خارت قواه) :
أريد الاعتراف على شرط العفو؛ لأنني واقف على تفصيل المؤامرة وملم بها وأستطيع أن أخدم التحقيق.
نيرون :
تكلم إذن ... من رأس مؤامرتكم؟
ناتاليس :
كايوس بيزو المرشح للعرش وسنيكا رأس الفتنة، والمحرك لنا رجل مقنع لا يعرفه أحد.
نيرون :
ما شأن سنيكا؟
ناتاليس :
ليس بيزو إلا آلة في يد سنيكا؛ لأن الحكيم هو الطامع في عرشك دون سواه، يريد أن يكون فيلسوف رومه وملكها في آن واحد.
نيرون :
اكتب يا تيجلان كايوس بيزو والحكيم سنيكا (إلى ناتاليس)
ومن أيضا؟
ناتاليس :
وسيفنيوس وسبريوس وأنيوس لوكان والمرأة أبيكاريس.
نيرون :
ومن أيضا؟
ناتاليس :
إن الرجل المقنع يحمل بيانا بأسمائهم.
نيرون :
ومن من رجال الجيش أو الحرس البريتوري؟
ناتاليس :
قيل إن فريقا من الضباط قد انضم إلى الجماعة، وسمعت اسم فينوس روفوس همسا.
نيرون :
ومن أيضا؟
ناتاليس :
إذا ذكرت أمامي أسماء غير هذه، أو رأيت وجوها فلعلي أذكر ذويها لساعتي.
نيرون :
سيفنيوس لقد شهد عليك شاهدان؛ رقيقك ورفيقك، ألا تزال مصرا على الإنكار؟
سيفنيوس :
الاعتراف أنفع. اكتبوا عدا من ذكر كنكتيانوس وسينو.
نيرون :
والرجل المقنع؟
سيفنيوس :
رأيته ولا أعرفه، ولعل سواي يدلك على حقيقة أمره.
نيرون :
ومن أيضا؟
سيفنيوس :
لا أعرف غير هؤلاء.
نيرون :
اكتب أسماءهم وأرسل في طلبهم جميعا دون الأولين، وابعث إلى بيزو وسنيكا من ينبئهما بأن سرهما عرف ومؤامرتهما افتضحت، وأن الأفضل لهما أن يموتا لساعتهما!
المنظر السادس
رسول :
مولاي! إن بالباب قبطان أسطول ميسنيوم، يريد المثول بين يدي جلالتكم.
نيرون :
علي به (يدخل القبطان)
ما وراءك يا كليسيوس بروكليس؟
بروكليس :
إن امرأة تدعى أبيكاريس وأظنها معتقة، حاولت أمس الاستيلاء على قلبي، فلما استسلمت لها أفضت إلي برغبتها في الاستيلاء على الأسطول للإيقاع بقيصر.
نيرون :
وأين تلك المرأة؟
بروكليس :
أحضرتها مقيدة وهي في حراسة بحارين بباب القصر.
نيرون :
علينا بها وانشر الجند في أنحاء رومه ... سدوا سبلها بالخيل والجند، وانشروا الحرس البريتوري في شوارعها وأزقتها، وهددوا كل عابر سبيل بالقتل واقتلوا كل من يبدي مقاومة عليكم بالإرهاب. إن الدولة وحياة الإمبراطور في خطر. افتحوا أبواب السجون وسلوا سيوفكم من أغمادها، وانصبوا آلات التعذيب، فقد آن أوانها (تدخل المرأة) .
نيرون :
أيتها المرأة أبيكاريس، يتهمك القبطان فوليوس بروكلوس بأنك حاولت الاستيلاء على أسطول مسينيوم.
أبيكاريس :
ومن يكون فوليوس بروكلوس؟
نيرون :
هو قبطان ذلك الأسطول الحاضر لدينا الآن.
أبيكاريس :
إن هذا البحار قاتل، ويداه لا تزالان ملطختين بالدماء، ولا تقبل شهادة جان على امرأة بريئة، ثم انظر أيها الإمبراطور أي خير في الاستيلاء على أسطولكم؟
نيرون :
تقصدين الإيقاع بي؟
أبيكاريس :
إن رجلا أعظم من كل رجل في رومه قد استعان بالبحر والأسطول وبمئات من الرجال، ولم يستطع أن يوقع بامرأة، فكيف بي وحدي أستطيع الإيقاع بك أيها الإمبراطور؟
نيرون :
الاعتراف أو التعذيب ... ستعذبين أيتها المرأة.
أبيكاريس :
إن التعذيب لا يخيفني ما دمت أقول الحق.
نيرون :
أين روفوس رئيس الحرس؟ (يحضر روفوس)
ابعث إلى سنيكا ... قد آن له أن يموت، وخير له أن يكون مصرعه بيده لا بيد سواه (يبدو اضطراب في الحاضرين. يدخل تيجلان وخلفه أعضاء المؤامرة فيزداد الهرج والمرج وينظرون جميعا شزرا إلى فنيوس روفوس) .
تيجلان :
الشاعر أنيوس لوكان. السيد سبريوس ... السيد ... السيد ...
نيرون :
مرحى مرحى يا سادة! من المخلص من شعبي إذا كنتم قادة المؤامرة؟ ومن يكون لي سواكم؟ كلكم عظيم وكلكم صديق. هل فعلت بكم ما فعل يوليوس قيصر ببروتوس وسنيا؟ أم سلبت رومه حريتها وحقوقها؟ أم سقت الشعب سوق الأنعام لتشييد هرم أو تحويل نهر؟ هل هتكت أعراضكم أو سلبت أموالكم؟ هل انتهكت حرمة الأرباب أم أغلقت في وجوهكم أبواب المجد؟ هل اضطهدتكم أو خنت وطنكم؟ ... إن الآلهة تعلم وأنتم تشهدون أن رومه لم تحظ بمن هو أعدل مني وأرحم. لقد ظلمتموني وغدرتم بي. إن الغدر وخيم العاقبة.
أبيكاريس :
لقد فعلت كل هذا!
نيرون :
صمتا يا امرأة ... أيها القائد روفوس باشر تحقيق التهمة مع كل على انفراد، ودون أقوالهم في سجل لتكون حجة عليهم.
سيفنيوس :
ابدأ بي أيها القائد، فأنا أول المتآمرين وقد اعترفت بعد رفيقي ناتاليس، دقق في تدوين قولي ولا تخن أمانة التحرير (الكل ينظرون إليه بدهشة) .
روفوس :
أيها المتهم سيفنيوس أكمل اعترافك.
سيفنيوس :
لا يعرف سواك من تفصيل هذه المؤامرة أكثر مما تعرف، وتستطيع الآن أن تظهر إخلاصك لعرش أميرك بالاعتراف.
بعض المتهمين :
تكلم يا فنيوس روفوس، أنت تعرف أكثر منا (يبدو على روفوس اضطراب شديد) .
نيرون :
ما لك قد اضطربت أحقا ما يقولون؟ كاسيوس اقبض على القائد وكبله بالحديد (يتم هذا الأمر) ... إذن أباشر التحقيق بنفسي وأنت يا سبريوس فلافيوس.
سبريوس :
أتظن أيها الأمير أن رجلا مثلي تعود خشونة الحرب وشجاعة الجند، يجتمع إلى نفر من المخنثين أمثال هؤلاء الذين اعترفوا بجرمهم قبل أن يمسهم أقل أذى؟
نيرون :
تدعي الشجاعة وأنت أجبنهم. ألم تقسم لي يمين الطاعة؟ لقد ساءك اعترافهم عليك.
سبريوس :
أتجرؤ على ذكر يمين الطاعة وأنت لا تعرف ما هو القسم؟ اعلم أنه لا تجب طاعة لمثلك. لقد جاء حين من الدهر على جيشك وكل جندي فيه يود لو يبذل نفسه في سبيلك، وكنت إذ ذاك صبيا محببا محترما، ثم أبغضناك منذ رأيناك جانيا تقتل أمك وخائنا حين تشين سمعة زوجك ثم تقتلها بغير ذنب ولا علة، واحتقرناك مذ جعلت من نفسك سائقا للخيل في حلبة السباق، وممثلا على مرأى ومسمع من الجمهور، ومجرما لا يرضي غريزته الشيطانية إلا إحراق المدائن، وعاقا تقتل أستاذك بغير دفاع، وسلابا نهابا لا يقف طمعك في مال الأمة عند حد.
نيرون :
سأذبحك.
سبريوس :
إنك قادر على إهراق دمي، ولكنك عاجز عن إخماد صوتي.
نيرون :
أنت يا سمبسيوس أسير لماذا تآمرت على قتلي؟
سمبسيوس :
لأن في القضاء على حياتك قضاء على الشر.
نيرون :
وأنت أيها الرفيق العزيز لوكان، ألست نديمي وشاعري، هل أدركتك غيرة من نظمي؟ ماذا تقول الأجيال القادمة إذا علمت أن لوكان الشاعر تآمر على مولاه نيرون؟
لوكان :
إن أمي هي التي حسنت إلي التآمر على قتلك ... قاتل الله الأمهات!
نيرون :
بالوالدة إحسانا حتى ولو كانت سببا في هلاكك.
أحدهم :
أنت أحق بهذه النصيحة من سواك، ولكن وقتها قد مضى لأنك لا أم لك (يدخل رسول) .
رسول :
لقد بلغنا رسالة جلالتك إلى الحكيم سنيكا.
نيرون :
قص علي بالتفصيل كل ما حدث له.
رسول :
قال لأصحابه الذين كانوا حوله: ترون أيها الرفاق عجزي عن شكركم. إنني أترك تاريخ حياتي نموذجا تنسجون على منواله، وهو أثمن ما لدي فاعتزوا به. لقد حاولت أن أكون مثال الفضيلة والصداقة والإخلاص. فبكى الحاضرون وهموا بتقبيله، فقال لهم: أين مبادئ الفلسفة وأين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا بعد كيف تقابلون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟ هل كانت قسوة نيرون مجهولة لديكم؟ لقد قتل أمه وأخاه ولم يبق له إلا أن يقضي على أستاذه ومشيره.
نيرون (مقاطعا) :
فلسفة وكلام فارغ. أكمل حديثك.
الرسول :
ثم ضم زوجته إلى صدره وقبلها قبلة الوداع، ثم أمر ففتحت شرايينه فلم تقطر دما، فأعددنا له جرعة من الساج، فقال وهو في النزع: وافرحتاه إنني أموت بالكأس التي مات بها سقراط. وأمر فنقلناه إلى حمام البخار فأخذ يرش أرقاءه بالماء، ويقول: ها أنا أتوضأ إكراما للمشتري إلهي ومنقذي من آلام الحياة.
نيرون :
هذه جملة جميلة. لقد عرف كيف يموت.
أبيكاريس :
ليتك تتلقى عنه هذا الدرس الأخير، فتريح العالم من شرك.
نيرون :
تيجلان، خذ هؤلاء جميعا واقطع رءوسهم ... أما هذه المرأة فاقطع لسانها قبل إعدامها ... أما لوسيوس صاحب الفضل في إذاعة هذا السر فقد اتخذته أمينا على حجرتي.
أبيكاريس :
إن لسانك أحق بالقطع من لساني؛ لأنك لم تقل الصدق يوما.
سيريوس :
أما وقد حم القضاء في أنيوس سنيكا، فاعلم أنه بريء، وسوف تعلم براءته إذا علمت من هو الرجل المقنع.
نيرون :
وما قولك في شهادة ناتاليس؟
سبريوس :
إن الذي وشى به بنفسه طمعا في رضاك وخوفا من عقابك، لا يضن على سواه بالوشاية.
ناتاليس :
أهذا ثمن اعترافي وخدمتي للعرش؟
أحدهم :
لقد خنت رفاقك عبثا.
لوكان :
أستحلفك بآلهة الشعر ... ألا تربطنا حرفة الأدب؟ (يخرج المتهمون المتآمرون على نيرون) .
المنظر السابع (نيرون يدق نحاس الاستدعاء.)
رسول :
مولاي!
نيرون :
ادعوا جميع رجال القصر وأعضاء مجلس الشيوخ (إلى تيجلان)
وأقيموا معالم الأفراح وانصبوا أقواس النصر، وقدموا الضحايا للإلهة إيزيس المنقذة، فقد نجوت ونجت المدينة الرومانية وسلمت أغنى وأجمل حنجرة في العالم (إلى لوسيوس)
أما أنت أيها الصديق المخلص، فقيصر عاجز عن شكرك. إنني مدين لك ببقائي. لقد خاطرت في سبيلي بحياتك، ولكن لا يهدأ بالي إلا إذا وقع الرجل المقنع.
لوسيوس :
مولاي (يدخل رجال القصر ومجلس الشيوخ) .
نيرون :
هنا في رومه في عاصمة ملكي، وبين رجال الحاشية والبلاط، تغرس بذور مؤامرة جهنمية وتنمو ولا ينقذني من خناجر أعدائي الحاقدين الطامعين في عرشي الناقمين على عهدي ...
أحدهم (مقاطعا) :
عهد العدل والرخاء والمجد الخالد!
نيرون (مستطردا) :
لا ينقذني من هؤلاء الجاحدين إلا رجل صغير القدر، ليس قاضيا ولا خطيبا ولا قنصلا ولا عضوا في مجلس الشيوخ، إنما دفعه إلى اقتفاء أثر أعدائي حبه لي وتفانيه في الإخلاص لعرشي.
أحدهم :
كلنا ساهرون على سعادة جلالتكم.
نيرون :
لا ريب في أن الموت في نظركم من صنوف السعادة. إن كلا منكم لاه عن خدمة العرش بخدمة ذاته. إنكم تحبون أنفسكم أكثر من حبكم إياي، مع أنكم تستمدون حياتكم وهناءكم وقوتكم مني.
لوسيوس :
كان المتآمرون يجتمعون هنا في القصر.
نيرون (لرجال القصر) :
حقا يا سادة، لقد بلغت عنايتكم بي مبلغا عظيما، وبلغ حرصكم بحيث كنتم تبيحون للمتآمرين الاجتماع هنا في قصري، لتكون المؤامرة تحت إشرافكم العالي!
أحدهم :
مولانا.
نيرون :
مولاك كاد يكون نهب الخناجر لولا هذا البطل.
رسول :
القبطان بالباب.
نيرون :
هذه أخبار الكنز لقد أنستنيه المؤامرة. ليدخل (يدخل أنيستوس) .
أنيستوس :
مولاي!
نيرون :
ما وراءك؟
أنيستوس :
وصلت أخبار من أفريقيا.
نيرون :
ما قيمة الكنز؟ وكم يقتضي من الوقت لنقله؟
أنيستوس :
لا حاجة بنا لحساب الوقت.
نيرون :
كيف؟ ولماذا؟!
أنيستوس :
الكنز حديث خرافة وباسوس القرطاجني نصاب وملفق ماهر.
نيرون (بضعف وتخاذل) :
الكنز خرافة وباسوس أمين الخزائن الإمبراطورية ملفق ماهر!
أنيستوس :
وقد اختفى ولم نقف له على أثر. فإننا أخفينا الأخبار حينا لنعتقله ونقف على حقيقة أمره، فذهب تنقيبنا أدراج الرياح.
نيرون :
لوسيوس.
لوسيوس :
مولاي!
نيرون :
جعلت حياتك وقفا على البحث عن باسوس القرطاجني، فإن لم تأتني به قطعت رأسك.
لوسيوس :
سأفعل يا مولاي، إنما أنا في حاجة إلى المال.
نيرون :
خذ هذا السوار وبعه في السوق.
لوسيوس :
سوار قيصر.
نيرون :
نعم ... لقد خلت خزائني من الذهب والفضة، ولم يبق لي إلا تلك الحلي.
لوسيوس (لا يأخذ السوار) :
إن لدي من سابق عطائك ما يكفيني (يقبل يده)، (لنفسه بصوت منخفض)
خزائن نيرون خاوية! هذه بداية نهايته (يخرج) .
نيرون (إلى تيجلان) :
ما رأيك لقد أحيينا الآمال في قلوب الشعب، ووعدنا بتوزيع الأرزاق وإقامة الألعاب.
تيجلان :
هؤلاء الشيوخ والأعيان أغنياء، إن ابتزاز أموالهم أفضل من إخلاف وعودك للشعب الروماني.
نيرون :
لا سيما وأنهم لم يبذلوا مجهودا في كشف المؤامرة.
تيجلان :
والولايات قد أتت من الضرائب الأخيرة، ولا بد لنا من تركها حينا بغير مطالبة.
نيرون :
لقد استنزف تشييد قصر الذهب معظم ما في الخزانة.
تيجلان :
سيقضي تشييد رومه بعد إحراقها مالا كثيرا.
نيرون (إلى الشيوخ والأعيان) :
أيها السادة تذكرون جميعا إحساني إليكم.
الجميع :
كيف ننسى جمائل قيصر.
نيرون :
وقد اقتضت حال الدولة أن يبذل كل منكم نصف ما يملك ليصرف في الشئون العامة.
أحدهم :
نصف ما نملك؟ (يحدث هرج) .
نيرون :
ألا يرضيكم هذا؟ إذن ليكن كل ما تملكون رهن خزائني.
أحدهم :
كلا يا مولانا ليس قولنا احتجاجا إنما استصغارا للطلب. إننا نهب الكل عن طيب خاطر.
نيرون :
حسن ... إذن يكفي النصف مؤقتا ريثما يصل الكنز الدفين من أفريقيا. إن الأخبار تنبئ بخير جزيل ستملأ كنوزي رومه ذهبا (إلى تيجلان)
مر بعض الموظفين المكلفين بالحساب بحصر أموال هؤلاء السادة، وفرز نصيب الخزانة في أقرب فرصة.
تيجلان :
يتم هذا فورا، وإذا وجدنا عقارا لا يمكن قسمته؟
نيرون :
يقوم ويدفع لنا صاحبه نصف ثمنه وإلا يباع مزايدة.
تيجلان :
ومن يخفي لدى الإحصاء عينا أو منقولا؟
نيرون :
يعاقب بالقتل بدون محاكمة. موافقون أيها السادة؟
الكل :
موافقون من أعماق قلوبنا.
المنظر الثامن
رسول :
الأمير أنيستوس (يدخل ويسلم إلى نيرون خطابات فيفضها ويقرؤها ويبدو عليه تغير عظيم) .
نيرون (إلى الأعيان والشيوخ) :
نيرون يحييكم (يخرجون) ، (إلى تيجلان وأنيستوس)
لقد ثارت جيوش إسبانيا بقيادة جالبا، وجيوش الغال بقيادة فندكس، وجيوش لويزتانيا بقيادة أوتون، وجيوش أفريقيا بقيادة كلوديوس، ولم يبق لنا مخلصا إلا فرجينوس.
تيجلان :
إن هذه الأخبار ذات شأن عظيم.
نيرون :
أين سنيكا الحكيم؟ أين بوروس؟ أين بترون؟ بل أين فضلى الأمهات؟ إن رأيا من واحد من هؤلاء كان كفيلا بإنقاذنا من هذا المأزق. لقد ذهب المخلصون النابغون المدبرون، وبقيتم أنتم أيها العجزة. إن هذه الأخبار ذات شأن عظيم. إنني أعلم عظم شأنها، ولكنني أريد تدبير أمور الدولة.
تيجلان :
إن عقولنا القصديرية لا تصل إلى ما يصل إليه عقل جلالتك الذهبي.
نيرون :
يا لكم من ضعاف تضرون في الشدة ولا تنعمون في الرخاء.
رسول :
رسول من الغال.
نيرون :
ليدخل.
رسول (يقدم خطابا) :
البريد الأخير.
نيرون (يكفهر وجهه) :
هذا ما أذاعه القائد فندكس في طول البلاد وعرضها أيها الشعب عبثا تحاولون الوقوف على علة خراب وطنكم. إن علة الخراب في رومه والجاني هو أنيوباربوس، فإنه هو الذي أضاع حقوقكم، وأشقى بلادكم وأفقر شعبكم، وهو الذي نشر ألوية الحداد على بيوتكم بأن انتزع شبابكم وشيوخكم بالقتل ظلما تارة، وبالنفي طمعا في المال طورا. إن هذا الطاغية لا يهاب شيئا لأنه الوحيد والأخير في بيت قيصر؛ فلا يخشى مزاحما ولا مقاوما وقد أطلق لنفسه العنان، واستباح كل مظلمة في عاصمة ملكه وفي الولايات التي شقيت في عهده المكفهر، ليس أميركم أميرا إنما هو ممثل ومهرج ومغن يحاول إطراب العاطلين من أهل رومه، ولا يستطيع إلى ذلك سبيلا لعجزه ورداءة صوته، فكيف تحلونه بألقاب العظماء من القياصرة والقواد؟ إنه أحق بأن يدعى أديب دارست لأنه استباح قتل الوالدين. ولم يستقبح تدنيس فراش الأم، لا تحسبوا أنني أرشح نفسي للسيادة عليكم، إنما أرشدكم إلى عظيم ذي أصل ملكي امتاز بشجاعته وقوة خلقه، ألا وهو الأمير جلبا قائد جيوش إسبانيا، إنه رجل لا يشغله الغناء ولا يستميله التمثيل، وقد أظهر ...
نيرون (وقد أشرق وجهه) :
كفى وجدت حلا لهذه المعضلة. لقد أخطأت إذ جعلت لها شأنا، كيف يستطيعون خلعي ألا يكون ذلك بالحرب؟
تيجلان :
طبعا.
نيرون :
فلنحارب إذن، السيف أصدق أنباء من الكتب.
أنيستوس :
ولكن جيوش رومه محتاجة للمال والسلاح والتدريب، وجيوش الولايات التي تقاومنا لا يعوزها شيء مما ذكرت.
نيرون :
هذا ما كنت أريد الوصول إليه. علينا يإعداد الجيوش ولا نستطيع إعدادها إلا إذا فرضنا ضرائب جديدة.
تيجلان :
للدفاع عن الوطن والعرش.
نيرون :
والمدينة الرومانية.
تيجلان :
وحياة الإمبراطور نيرون العظيم هذه أعظم دعوة.
نيرون :
ابعثوا إلى مجلس الشيوخ بهذه الكتب، وبلغوه أنني أطلب عقاب فندكس على قذفه في حقي بصفتي متفننا.
أنيستوس :
ومعدات الحرب؟
نيرون :
اجمعوا المال أولا، ثم أكثروا من شراء آلات الموسيقى؛ لأن للأنغام أثرا في نفوس المحاربين فتشجع جيشنا وتثبط همة أعدائنا.
أنيستوس :
والجند؟
نيرون :
اجمعوا ما استطعتم من أقوياء الأرقاء، وادعوا القبائل الرحالة المقيمة حول العاصمة.
أنيستوس :
إن هؤلاء وأولئك لم يتعودوا حمل السلاح ولا خوض غمار المعارك.
نيرون :
سيخلع عليهم ثيابا زاهية تبهر أبصار أعدائنا. إن ثياب الجندي إذا كانت فنية تفعل بالعدو ما لا تفعله الشجاعة والعلوم الحربية. اجمعوا من تستطيعون من هؤلاء ثم أعدوا لي أربعمائة راقصة وقصوا شعورهن بحيث يصرن كالغلمان واجعلوهن حرسا لي.
أنيستوس :
أيكون هذا الجيش كفيلا بالحرب والنصر؟
نيرون :
إنك أبله ... لن نحتاج للحرب، إنني إذا ما وطئت قدمي أرض الغال، سأظهر لأهل هذه الولاية أنني أعزل، ثم أبكي لهم فتنهمر دموعهم على محاجرهم ويلقون بأسلحتهم تحت قدمي، وننشد جميعا نشيد السلم والانتصار.
تيجلان :
لقد ذهبت آمالنا أدراج الرياح! فقد فاز فندكس في موقعة فاصلة ونودي بجالبا إمبراطورا.
نيرون :
إني أستنجد بالشعب الروماني.
تيجلان :
إن الشعب الروماني هائج لأن السفن التي تحمل المؤن لم تعد من صقلية ومصر، وقد مضى على ميعاد عودتها أكثر من أسبوع، فالقحط بالمدينة والحرب على الأبواب.
نيرون :
ما الحيلة إذن؟
تيجلان :
لا بد لنا من حل سريع (يسمع صوت الشعب من أسفل) .
نيرون :
والشيوخ والأعيان؟
تيجلان :
أبوا أن تقاسمهم ثروتهم، فقد وقفوا على سر الكنز، وعلموا أنه كان وهما وتلفيقا ونشروا هذا الخبر في الشعب.
نيرون :
احرقوا رومه من جديد، وأطلقوا الوحوش الضارية على المدينة والنار تأكلها، وادعوا الشيوخ والأعيان لوليمة كبرى، ودسوا لهم السم في الدسم فيهلكوا عن بكرة أبيهم ولا يستطيعوا خلعي.
أنيستوس :
إن هذه الخطط محفوفة بالمخاطر في حالتنا هذه.
نيرون :
لا تترددوا (يخرج تيجلان) . لا أظن الدنيا تضيق بمتفنن مثلي. إنني إذا أرغمت على التنازل عن العرش سأرحل إلى الإسكندرية فأحترف التمثيل والغناء في تلك المدينة العريقة في الفنون الجميلة والذوق الرقيق.
المنظر التاسع (يدخل تيجلان)
تيجلان :
لقد تجمهر الشعب عند الكابيتول، وعقد السناتو جلسة استثنائية، وأذاعوا بلاغا.
نيرون :
ماذا جاء في بلاغهم؟
تيجلان :
إنك عدو الوطن، وقد حكموا عليك بالإعدام !
نيرون (يقع على الرض) :
بالإعدام علي أنا كلوديوس قيصر؟ (يدخل رجل مقنع) . المقنع! المقنع! اقبضوا عليه ... اعتقلوه ... تيجلان ... أنيستوس (يتحركان) .
المقنع :
لست منذ اليوم كلوديوس قيصر، إنما أنت دوميثيوس أنيوباربوس، خائن الوطن وقاتل أمك وأخيك. لقد حكم عليك بعقوبة الخيانة!
نيرون :
وما تكون تلك العقوبة؟
المقنع :
يطاف بك عاريا ثم تجلد حتى تموت.
نيرون :
ومن تكون أنت أيها المقنع؟ لقد ألحقت بي أضرارا لا تعد، وها أنت تشهد مصرعي (يزوغ أنيستوس وتيجلان) .
نيرون :
لقد ذهبا دون أمري!
المقنع (يكشف عن وجهه) :
أنا بالاس.
نيرون (راكعا) :
بالاس؟ عزيزي بالاس، اذكر العهد القديم، ارحمني إكراما لأمي.
المقنع :
لم ترحم أحدا.
نيرون :
لا أريد أن أموت.
المقنع :
لقد أعدت لك لوكستا بأمرك ما ينقذك في مثل هذا الوقت، فسارع بتناوله.
نيرون :
نعم، ولكن قواي خارت ولا أستطيع تناول السم بيدي.
المقنع :
أحضر كل من يعاونك على تناوله (يبعث برسول فيعود بأكتيه وأيبافروديت وسبوروس) .
أكتيه :
مولاي!
نيرون :
لست مولاك ولا مولى أحد ... لقد انتهى كل شيء وهجرني كل من كان بي لائذا ... لقد فر من وجهي الأصدقاء والأعداء معا. وهذا بالاس السيد بالاس الأمير بالاس أتى بك.
بالاس :
لتعاونيه على الموت.
نيرون (يسقط ويأخذ بعض الوسائد ويدق رأسه في الجدران) :
الموت! الموت! (يسمع صوت الشعب هائجا) .
بالاس :
لقد أزف الوقت وحان حينك.
نيرون :
أكتيه توسلي إليه ... سبوروس ... أيبافروديت.
أكتيه :
ليتني مت قبل هذا! ليتك قتلتني كما قتلت أمك وامرأتيك أوكتافيا وبوبيا ... (إلى بالاس)
سيدي لا تطل تعذيبي بتعذيب هذا الأمير.
بالاس :
طالما أذاق الناس كأس الردى، فليذوقنها مرة.
نيرون :
وإذا لم أجرع السم؟
بالاس :
أسلمك إلى الشعب فيوقع بك عقاب الخونة.
نيرون :
الجلد حتى الموت ... أنقذني ... أتوسل إليك (تسمع أصوات) .
بالاس (مترددا) :
لذ بالفرار ... إنني أنقذك إكراما لأمك.
نيرون (فرحا) :
شكرا لك ولفضلى الأمهات.
المشهد الأخير (طريق خلوي فيه بيت مهجور هو بيت فارون. أشخاص هذا المشهد نيرون، أيبافروديت، معتق أول، معتق ثان، سبوروس، أكتيه وكلهم متزيون بأزياء غريبة ونيرون مقنع.)
نيرون (متعثر في سيره ) :
أين نحن الآن يا أيبافروديت؟
أيبافروديت :
لقد وصلنا إلى بيت فاون يا مولاي.
نيرون :
أيستطيع المارة اكتشافنا؟
أيبافروديت :
يسترنا الجبل المقدس، ونحن في درب غير مطروق.
نيرون :
مهما ندر المرور فإنها طريق يقصدها السابلة.
أيبافروديت :
لقد لجأنا إليها مضطرين ريثما يصح عزم جلالتك على أمر تقصده.
نيرون :
لم يبق لي إلا الموت ... أين أكتيه؟
أكتيه :
مولاي!
نيرون :
إلي أتوكأ عليك (تقرب منه فيتوكأ عليها) ... انظري ما وصلت إليه حال أعظم متفنن في المدينة الرومانية.
أيبافروديت (لمعتق أول) :
خير له أن يصمم على الموت، إن في حياته تعذيبا له.
معتق :
وخطرا علينا.
سبوروس :
لماذا نتردد في الإشارة عليه بذلك؟
أيبافروديت :
إنه جبان ولن تطاوعه يده على قتل نفسه (تسمع أصوات وجلبة) .
نيرون :
إلي يا أيبافروديت. يا سبوروس يا لوسيوس، ما تلك الأصوات؟ ألم أقل لكم إن السبيل غير مأمونة؟ (يظهر جند على رأسهم ضابط) .
أيبافروديت :
الأولى أن تتمارض وأن لا تجيب إذا سئلت.
ضابط :
أيها المجدون في السير من أين وإلى أين؟
أيبافروديت :
من نابلي إلى رومه.
ضابط :
إذن تجهلون ما حدث في المدينة المقدسة.
أيبافروديت :
لم نبلغها بعد فنقف على أخبارها.
ضابط :
لقد سقط نيرون الظالم، ونودي بالأمير غالبا إمبراطورا.
أيبافروديت :
وماذا وقع للإمبراطور القديم؟
ضابط :
فر وها نحن نقتفي أثره لننفذ فيه حكم مجلس الشيوخ (نيرون يرتجف)
من هذا الذي معكم؟
أيبافروديت :
هو أبي شيخ أدركه المرض، فوقفنا به قليلا ريثما يفيق من غشيته.
ضابط (يدنو منه) :
إنه مقنع.
أيبافروديت :
أمرنا الطبيب ألا نعرضه للضوء والهواء.
ضابط :
إذا عثرتم بنيرون فاقبضوا عليه، وإذا قاومكم فاقتلوه فقد أهدر دمه، وجعلت لمن يقطع رأسه جائزة عشرة آلاف درهم.
معتق :
عشرة آلاف درهم؟
ضابط :
أليست جائزة حسنة؟ لعلك تفوز برأسه وتستحق الجائزة. والآن أودعكم.
أيبافروديت :
مع السلامة (ينصرف الضابط والجند) .
معتق أول :
جائزة عشرة آلاف درهم؟
معتق ثان :
إنها جائزة حسنة، ولكن أنى لنا أن ننالها؟
معتق أول :
الأمر سهل.
لوسيوس (الذي كان يتسمع إلى حديثهما) :
حذار أيها الدنيئان أن تفكرا في شيء من ذلك، فإننا نحمي قيصر للحظة الأخيرة من حياتنا.
نيرون (ينهض) :
أيبافروديت.
أيبافروديت :
مولاي!
نيرون :
إن الشوك أدمى قدمي، وتلك الحفر التي أقع فيها دقت مفاصلي دقا. وها هي ملابسي قد تمزقت من أغصان الشجيرات النامية على جانبي الطريق.
أيبافروديت :
أسمعت حديث الضابط؟
نيرون :
سمعت كل شيء وأرى الموت أفضل لي من الحياة.
أيبافروديت :
لقد بلغنا فاون حيث يمكنك أن تستريح من وعثاء السفر. سأدخل الدار فأفحصها لعلها لا تليق بإقامتك أو لعل بها مانعا.
نيرون :
افعلي ما بدا لك (يدخل الجميع ما عدا نيرون وأكتيه)، (نيرون مستطردا)
لقد دخلوا جميعا وتركوني وحيدا.
أكتيه :
تشجع يا مولاي ها أنا بجانبك.
نيرون :
ماذا أرى هناك في ظل الجبل؟
أكتيه :
لا شيء.
نيرون :
ها هي أمي، إنها تناديني ألا تسمعين صوتها؟
أكتيه :
لا أرى شبحا ولا أسمع صوتا.
نيرون :
لقد رمتك الآلهة بالعمى والصمم. وهذا بريتانيكوس يحاول الصعود على العرش. وها هي بوبيا، لقد حضروا جميعا إلى هذا المكان ليزيدوه إيناسا أو وحشة ... أوكتافيا أوكتافيا أيضا يحييها سنيكا ويبتسم، يا لك من حكيم جاهل!
أكتيه :
مولاي.
نيرون (يفيق) :
أكتيه أريد جرعة ماء.
أكتيه :
لا ماء في هذا المكان.
نيرون :
أرى الماء في تلك البركة.
أكتيه :
إنه ماء آسن لا يصلح للشرب.
نيرون :
لا بد لي من الماء ... إن في جوفي نارا مشتعلة (يلقي بقبائه ليقي أقدامه فعل الشوك، ثم ينبطح ويأخذ الماء بكفه ويشرب ثم ينهض، وينظر إلى السماء ويستطرد قائلا)
هذا آخر عهد نيرون بالشراب (يجلس ينقى قباءه من الشوك) .
أيبافروديت :
مولاي!
نيرون (بانزعاج شديد) :
ما وراءك ... لقد أزعجتني ... إنني فقدت شجاعتي وأصبحت أخاف من لا شيء.
أيبافروديت :
إن الغرف مغلقة ولا يمكن الدخول إليها.
نيرون :
إذن لا سبيل إلى البقاء.
أيبافروديت :
لا بد لنا من البحث عن مخبأ آخر (يظهر سبوروس) .
سبوروس :
مولاي!
نيرون :
ما وراءك يا أخي؟
سبوروس :
منشور من فاون.
نيرون :
اقرءوا ما به.
سبوروس :
لقد أعلن مجلس الشيوخ أنك عدو الوطن، وأن البحث عنك متواصل ليوقعوا بك عقاب الخونة.
نيرون (ينهض) :
عقاب الخونة بي أنا كلوديوس قيصر؟
سبوروس :
ما أنت بكلوديوس قيصر، إنما أنت دومتيوس أينوباربوس، خائن للوطن ومحكوم عليك بالإعدام كما يعدم الخونة!
نيرون :
وكيف يعدم الخونة في قانون الرومان؟
سبوروس :
يطاف بك في الأسواق والميادين عاريا، ثم تجلد حتى تموت.
نيرون :
لا أزال قادرا على الفرار، أسافر إلى غابة لاريس، فإذا بلغتها دنوت من بحيرة متورن، ومن هناك أبحر في سفينة ما إلى صقلية أو مصر.
سبوروس :
ومن ذا الذي يسهل عليك سبيل الفرار؟
نيرون :
أنتم.
سبوروس :
كلا لن تفر ونحن نضيق عليك الخناق.
نيرون :
ولماذا؟
سبوروس :
لنسهل عليك الموت.
نيرون :
الموت؟ إذن كلكم تنتظرون موتي وترغبون فيه. لقد هجرني كل الناس. لقد تخلى عني الأصدقاء والأعداء.
سبوروس :
نعم كلنا نريد أن تموت وسنموت معك.
نيرون :
إذا صدقتم فالموت أفضل ... أيبافروديت... أكتيه ... لوسيوس.
معتق أول :
الأولى لنا أن نربح الجائزة.
معتق ثان :
إنني لا أجرؤ على قتله، وأولى بنا أن نرشد عنه الباحثين (يجريان) .
لوسيوس :
إن هذين المعتقين لاذا بالفرار ليرشدا عنك الباحثين.
سبوروس :
الأولى أن تعجل بالموت ... إنك باخع نفسك لا محالة.
أكتيه :
الأفضل لك يا مولاي أن تموت، تشجع!
نيرون (يأخذ خنجرا ويضعه على قلبه مترددا) :
أليس من العار أن أجبن عن قتل نفسي وقد لفظتني الحياة؟ ... لقد عشت عيشة مشينة ولن أموت ميتة الجبناء. أيها الكون لقد أضاعوا عليك أعظم متفنن (يسمع صوت خيل) .
نيرون :
أكتيه!
أكتيه :
مولاي.
نيرون :
أقسمي بالآلهة أنك لا تسلمين رأسي لأحد، وأن تحرقي جسدي قبل أن يدركه العطب (يضع الخنجر على عنق نفسه. يدخل سبوروس) .
سبوروس :
لما تمت بعد! ما أجبنك! (يضغط سبوروس على يد نيرون فيغور الخنجر في عنقه، ويقع على الأرض ويحاول قطع النزيف، يدخل قائد) .
قائد :
هذا نيرون! ... لقد قتل نفسه.
نيرون :
ألم تقسموا يمين الطاعة؟ (يقع ميتا) .
قائد :
لقد عفا عنه الإمبراطور الجديد.
أكتيه :
لقد جاء العفو بعد الأوان. (ستار) (الأهرام في 11 سبتمبر سنة 1918
الساعة 12 ونصف صباحا
محمد لطفي جمعة)
في سبيل الهوى
عام 1925
الفصل الأول (حوادثه تقع في ملعب للقمار بالقاهرة.)
المشهد الأول (عبد المجيد - حافظ)
حافظ :
ألم يكن لنا مناص عن دخول هذا الجحيم؟ انظر كيف يتبصرون كأن في وجوهنا سيماء الغرباء، أو كأن في رفاقهم علامة لا تخفى!
عبد المجيد :
إنني لا أستطيع العثور بابن عمي إلا في هذا الجحر. فهو مأواه ما بين الساعة العاشرة قبل الظهر ونصف الليل، وقد أخبرتك أن والدته قد شارفت على الهلاك دون أن تراه، فأرسلت في طلبي لأهديها إلى مكانه، فلم أر بدا من الحضور إليه؛ لأن أخته العذراء، وهي التي أنوي زواجها، لا تستطيع البحث عنه في تلك المغاور.
حافظ :
ليتني ما صحبتك، فإن نفسي مضطربة وقلبي واجف من هذه السحن الشيطانة، ومن تلك الأيدي السراقة التي تمتد إلى مال الغير مدفوعة بنفوس أشعبية! انظر إلى تلك الهالة من دخان الطباق أكاد أختنق لصعوبة استنشاق الهواء.
عبد المجيد :
على رسلك يا دكتور حافظ، أليس هذا الجحيم أو الغار أو الجحر كما تسميه معرضا من معارض الحياة الحقيقية؟ كيف يكون الرجل فكره وخلقه بدون الوقوف على شرور العالم ومصائبه؟ أتكفيك مشاهدة الناس في العيادة أو على مقروعة الطريق وهم بين مجد ومتمهل لا يبدو على وجوههم أثر لما في نفوسهم؟ ألا تحتاج للنزول معهم إلى حومة الوغى الحقيقية؟ هذا هو ميدان حياة الأشرار والبائسين. هذا مصرع السراق والطامعين. هذا ملجأ الجناة والمجرمين هذا ملعب القمار!
حافظ :
كل له رأي، وأنا لا أحب هذه الأماكن، ولكن أين ابن عمك مختار هذا؟
عبد المجيد (ويشير بيده إلى مختار) :
هو هذا الشاب المكب على اللعب إكباب العالم الطبيعي على منظاره واللوذعي على كتابه والمتفنن على تمثاله، إكبابا لا يقطعه الوقت مهما أزف، ولا تفيقه من غشيته حاجة الجفون إلى الكرى، ولا التواء الأحشاء من ألم الجوع، ولا جفاف الحلقوم من الظمأ، ولا هم الأسرة المسكينة المؤلفة من امرأتين ضعيفتين لا حول لهما ولا قوة وهو أملهما الوحيد؛ لأن تلك الأكوام من الذهب الوهاج، وتلك الأكداس من صكوك المصارف قد شغلت كل ذرة من عقله ونفسه، واستولت على إدارة جهازه العصبي تتصرف فيه كيف تشاء، فلا العين تغمض ولا البطن تسغب.
حافظ :
واحر قلباه على هذا الشباب النضير! هلا دنوت منه وأخبرته بما وراءك؟
عبد المجيد :
فطالما جربت ذلك ولم أفلح.
حافظ :
ومتى ينهض؟ بل متى يفيق من تلك الغشية؟
عبد المجيد :
عند نهاية اللعب إن كان رابحا، ولدى إفلات آخر درهم من يده إن كان خاسرا، فهيا بنا نجلس في هذا الركن نرقب حركات القوم وسكناتهم، فلعل لنا في ذلك عبرة وعظة!
حافظ :
الأمر لك! ولكن هلا حدثتني عن هؤلاء الأشخاص شيئا، فإن في ظاهرهم ما يريبني.
عبد المجيد :
إنك مرتاب في أمرهم لأنك تراهم لأول مرة. أما أنا فسبق لي مشاهدتهم والوقوف على كل جديد من شئونهم؛ لأنني أعرفهم فردا فردا.
حافظ :
هلا أفضت علي بشيء من علمك؟
عبد المجيد :
أترى هذا البك الحسن البزة والهندام. إنه مراب كبير، ولكن كغيره من المرابين فقد يربح في ساعتين ما لا يربحه أشباهه في عامين، هذا هو داود بك الشهير يا صاح، وطريقته أن يحل بهذا الملعب محفوفا بفرقة من جن البشر وزبانية الدنيا بين وسيط يحبب اللعب إلى الأغرار وفاتنة تفتن العقل في الليل وتفني المال في النهار.
حافظ :
ولكن ما سبيله إلى الربح الذي ذكرته؟
عبد المجيد :
إنه ينزل بالملعب وقد اكتظت جيوبه بالسندات والصكوك ومبينة أقدار القروض وقيمها بدون اسم المدين. فيتصيد بفضل وسطائه ووسيطاته من الأوغاد والغواني من كتب لهم الشقوة على يديه، ولا يزال يحاربهم برجاله من الشطار حتى يخسروا ما معهم، فإذا أصابتهم تلك الخسارة تنبهت فيهم غرائز الطمع والغيظ والأخذ بالثأر؛ فبعضهم يخرج هائما على وجهه كالمأخوذ وقد حصر همه في الحصول على المال، ولو من وراء جريمة، وبعضهم يقع في حبائل صاحبنا فيقرضه العشرة بخمسين والخمسين بمائتين!
حافظ :
ألا يخاطر هذا المرابي بإقراض من يلقاه لأول مرة؟
عبد المجيد :
لله ما أطيب قلبك وأسلم نيتك يا دكتور ! إنه لا يقرض إلا من يثق بثروتهم وقدرتهم على دفع أضعاف ديونه، وهو يعلم عن حدود ضياعهم وأثمان ديارهم وقيمة محصولات أراضيهم ما لا يعلمون، وقد يوقع أحدهم على عقد رهن أو بيع وهو يظن أنه يوقع على صك بسيط، وهكذا فقدت أسرة حسام الدين باشا كل ثروتها على يد هذا الشاطر الذي يحتمي وراء حيل القانون.
حافظ :
وهذا؟
عبد المجيد :
هذا شاكر بك المقاول الشهير سابقا، وهو الذي مارس ألف حرفة وحرفة ولم يتقن واحدة منها، وبدأ في مائة مشروع ولم يوفق إلى إتمام مشروع واحد، ولعله الليلة يحاول النجاح في مشروع سلفة من داود بك!
حافظ :
ومن يكون هؤلاء الشبان؟
عبد المجيد :
جمال بك ونصرت بك من أولاد الذوات، أولاد المال والفراغ والشباب، ولكل منهم حديث يضحك الثكلى.
حافظ :
وهذه الطائفة من الأروام؟
عبد المجيد :
الخواجة مافرو مدير المحل، بالاماري وسيط ووظيفته التغرير باللاعبين، وهذه أنيتا إحدى صنائع داود بك. أما هذا الفج الذميم فهو جريجوري المصارع الشهير، ووظيفته كوظيفة رفيقه بندكتو مقاومة الشرطة وضرب اللاعبين المفلسين عند اللزوم.
حافظ :
يا لطيف! ألا يوجد من يكبح جماح هؤلاء الأشرار، ويضرب على أيديهم بعصا من حديد، أين العدل؟
عبد المجيد :
ما دامت في أيدي الشبان تلك الحكة التي تقاومهم، وفي نفوسهم تلك القرحة التي لا تبرأ، وما دام بعض الأغنياء مثل المرحوم عمي والد مختار وآباء هؤلاء الشبان يهملون تربية أولادهم ويتركون لهم ثروة طائلة بغير رقيب ولا مرشد؛ فلن نجد لهذا النظام المحكم تبديلا، على أن هؤلاء الأنذال يتركون اليتامى والأرامل يتعثرون في أذيال الفاقة ولا يعودون إلى صوابهم إلا بعد الخسارة والإفلاس فهم جديرون بتلك الوحوش الكاسرة التي تمص دمهم، وتنهش لحمهم، وتضرب عليهم الذلة والمسكنة باللسان تارة وبالعصا أخرى!
حافظ :
يا للهول! إن بدني يقشعر من صوت الذهب الذي يلعبون به، لم أسمع له رنينا مزعجا كهذا الرنين. انظر إلى تلك الأنوف المصفرة، وتلك الزفرات المتصاعدة، وتلك الأيدي المرتجفة، وتلك اللفافات من الطباق التي لا تطفأ .
عبد المجيد :
هذا تشخيص بيولوجي أنت به أعلم ... بل انظر إلى داود بك وأنصت إلى حديثه فهذا أوقع. اجلس على هذه المائدة؛ لئلا تلفت حالنا أنظار الرقباء، إنهم هنا في غاية التيقظ.
المشهد الثاني (داود بك - شاكر بك)
شاكر :
ليلتك سعيدة يا داود بك.
داود :
سعيدة فقيرة المسألة عندي سيان!
شاكر :
لماذا أليست الأمور على ما يرام؟
داود :
كلا لم أصرف إلى الآن صكا واحدا.
شاكر :
ومع ذلك فإن المكان حافل بالبكاوات المعلوم أمرهم لدى سيادتكم!
داود :
لقد وقع اختياري على هذا الشاب، ولكن إلى الآن لم يتمكن منه أحد من أبطالنا حتى ولا الملعونة أنيتا.
شاكر :
هذا نصرت بك، أنا أعرفه جيدا هل تود أن أقدمه إليك؟
داود :
لا ... لا اعمل معروف، اتركني وشأني لئلا تتلف علي خطتي. بالله يا شاكر بك لا تتداخل فيما لا يعنيك.
شاكر :
آه ... أنا بودي أن أؤدي لك خدمة فوق العادة.
داود :
لا وحق رأس والدك، أد لي خدمة تحت العادة بكونك تتركني وشأني.
شاكر :
طيب أنت حر. ولكن ممعكش قرشين؟
داود :
لا يا حبيبي اعتقني، أنت تأخذ ولا ترد!
شاكر :
والله العظيم أدفع لك.
داود :
بس ما تحلفش وتلفت نظر الناس إلينا، أنت حقنة عاوز كام خليني أخلص منك.
شاكر :
عشرة جنيه.
داود :
هو هو! ولا عشرة ريال أنا افتكرتك عاوز ثلاثة أربعة شلن.
شاكر :
طيب هات خمسة جنيه.
داود (يخرج من جيبه سندا وقلما) :
إمضاءك الشريف هنا مطرح أصبعي.
شاكر :
تمضيني على كام؟
داود :
بس امضي.
شاكر (يقرأ) :
عشرة جنيه وتعطيني خمسة يا اخي لا هو انا منهم.
داود (بهدوء) :
طيب بلا إمضاء وبلا دفع خد لك ريال وحل عن أكتافي.
شاكر :
طيب هات ثمانية وأنا أمضي لك، الحوجة وحشة.
داود :
والله ما ادفع غير ستة، عاوز عاوز منتش عاوز على كيفك؟ العايز أهبل!
شاكر (بغيظ) :
طيب هات سبعة وأنا أعرفك بصاحبنا.
داود :
قلت لك اعتقنا.
شاكر :
طيب دلوقت تشوف مين يجيء به لك (يوقع ويأخذ النقود ويزوغ) .
داود (لنفسه ويضع الورقة في حرز) :
أهو سند أحسن من قلته، يمكن يخبط له خبطة يكسب فيها، من يعرف حظ أمثاله.
المشهد الثالث (بالاماري - داود)
داود :
شد حيلك يا بالاماري ياسو! مالك الليلة مخستك؟
بالاماري :
يا حبيبي الولد معه فلوس كتير، لسه مجاس معلس أما يجي كسوره أنا بجيبه أنا مش مخستك لكن كل حاجة بالأصول.
داود :
والبنت أنيتا مش نافعة الليلة.
بالاماري :
أنيتا مين وغيره مين. واحد يلعب وفكره في واحد مرة، أنت لسه مش عارف يا داود بك واحد جدع يفتكر في واحد مرة لما يكون عنده ارش في جيب بتاع إحنا. مفيش ارش مفيش فكر زي دي في جيفا لبس بتاعه (يحاول الانصراف) .
داود :
رايح فين (يقدم له سيجارة) .
بالاماري :
أنا حلف شوية على الطاولة يجي له في وشه يمكن يغير الزهر بتاعه (ينصرف. إشارات بين عبد المجيد وحافظ تدل على تفاهمهما) .
المشهد الرابع (شاكر - نصرت)
شاكر :
مش سعادتك نصرت بك ابن المرحوم سعادة نصرت باشا؟
نصرت :
أيوه يا أفندم.
شاكر :
الله يرحمه، والوالد كان صاحبي كثير كنت سعادتك لسه صغير.
نصرت :
صحيح أوه ده لازم قبل ذهابي إلى مونبليه.
شاكر (يقدم كارت) :
شاكر مقاول اختصاصي.
نصرت (يأخذها) :
تشرفنا (يبحث)
أنا نسيت البورت كارت ومع ذلك اسمي معروف عندك.
شاكر :
طبعا أشهر من نار على علم، أظن كذلك يا منبيه، سعادتك بتجرب الزهر.
نصرت :
والله الزهر مش كويس كثير الليلة.
شاكر :
الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا ومع ذلك (يدنو من داود بك)
سعادتك متعرفش داود بك كان من أصحاب المرحوم الوالد الأخصاء (إلى داود)
بونصوار إكسلنس.
المشهد الخامس
داود (ممتعضا) :
بونصوار يا سيدي (ثم يغير لهجته) .
شاكر :
أقدم لسعادتك سعادة نصرت، بك نجل المرحوم نصرت باشا صديقك الحميم (يعمل لداود إشارة بعينه) .
داود :
تشرفنا يا أفندم حصلت البركة، المرحوم الباشا كان أعز أصدقائي، المحروس البك بيجرب زهره.
نصرت :
تشرفنا يا أفندم، أنا مش عادتي أخسر زي الليلة (شاكر يهمس في أذنه)
صحيح؟
شاكر :
والله صحيح مش كده يا داود بك ؟
داود :
إيه يا أفندم.
شاكر :
إذا كان سعادة البك، لا سمح الله ولا قدر، يحتاج لشيء على شان يسترد اللي خسره من الأونطجية دول مش سعادتك مستعد؟
داود :
بكل ممنونية بكل ممنونية، هو أنا في ديك النهار لما أعمل شيء يبسط نجل أعز أصدقائي!
نصرت :
والله أنا عاوز مش كثير! أما صدفة غريبة أنا أشوف حضرته كثير ولكن ما حصلش بيننا معاملة. أما صدفة غريبة.
شاكر (إلى داود) :
أنا أحسن وألا الأروام بتوعك أحسن؟
داود :
اتفضل (يخرج نقودا)
ميه ... ميتين ... ثلثمائة؟
نصرت :
لا لا أو ميه بس.
داود (يمد له المال) :
تفضل.
نصرت :
كده من غير إمضاء ولا حاجة؟
شاكر :
مفيش تكليف ومع ذلك تكفي إمضاء صغيرة على سند بسيط، معك يا داود بك ورقة؟
داود :
بس على إيه (يخرج من جيبه اللازم)
مفيش تكليف الخير واحد، وسعادة الباشا فضله علينا والجيب واحد.
شاكر :
هات بس انت، البك ما يقولش حاجة دي حقوق مدنية، هي العبارة إيه دي المسألة فالصوا أمال لو كانوا ألف جنيه.
نصرت (يتناول الورقة والقلم) :
وادي إمضا!
داود (يلهف الورقة) :
ربنا يخليك يا سعادة البك، إحنا تملي في الخدمة.
نصرت :
مرسي، أما أروح أحسن البنت دي عمالة تشاغلني من الصبح، يا ترى عاوزة إيه، مش جميلة يا بيه؟
داود :
دي مثل القمر، ومع ذلك استنا دنا برده أعرفها، هي بتشبه علي، على ما سعادتك تعمل برتيتة أكون كلمتها لك، والله وتبقى ليلة بيضا بعد ما بطلنا الحاجات دي.
شاكر :
بعد ما شاب يا داود بك (يتغامزون) .
نصرت (يصافحهما) :
إيه والله يا أفندم.
الاثنان :
إيه والله يا مونبيه.
المشهد السادس (شاكر - داود)
شاكر :
أنا وألا الأروام بتوعك، ما قلت لك دي حاجة عاوزة فكر وتوفيق، مش تيجي بالجهجهون.
داود (ينقلب بلؤم) :
أظن حتقول إنك انته اللي جبته، وأنا حاطط عيني عليه من الصبح!
شاكر :
حاطط عينك عليه؟ يا نهار أسود حتحمرق بهذه السرعة يا داود بك، والله تبقى ليلة مأطرنة والعارف لا يعرف.
داود :
بتهدد حضرتك ؟
شاكر :
لا الأحسن هات الكمبيالة اللي أمضيتها لك من سكات، وهات فوقها أربعة جنيهات وخلينا حبايب.
داود :
ابلعني يا اخويه اشفطني!
شاكر :
ليه هو أنا ما قريتش الكمبيالة والا إيه، تدي الولد ميت جنيه نصهم زي ما انت راسي وأمضيه لك على ثلثمائة، ومش عاوز تديني عشرة جنيه يا نهار الشوم. احسبها الميه سدس، هو لازم تأخذ انت المايه ألف والسمسرة المايه صفر والا إيه.
داود :
ما كان أغنى فؤادي! خد يا سيدي أدي كمبيالتك ووريني عرض اكتافك.
شاكر :
لا وحياة أولادك، الأربعة جنيه قبل الكمبيالة.
داود :
علي الطلاق من بيوتي الأربعة ما أدفع غير اثنين جنيه، هو انت عاوز تنهب.
شاكر :
طيب هات ما دام حلفت والأيام بيننا (يمشي) .
داود :
جتك داهية وانت حمه. الواد كان جي لوحده راح هو انحشر لي. أما ألف يمكن تنفك العاقة دي باين عليها ليلة معقدة.
حافظ :
لو كان نصرت قرأ السند ووجد تلتمية بدل الميه جنيه اللي قبضتها.
عبد المجيد :
يعتذر داود بأنها غلطة بسيطة والغلط مردود خصوصا في مثل هذه الظروف.
المشهد السابع (نصرت - مافرو - جرسون (صامت) - جاسبير)
مافرو :
سعادة البك. إن شاء الله مبسوط الليلة، إزاي الزهر بتاع إنت؟
نصرت :
والله يا خواجة مافرو كومس كوما.
مافرو :
ماليش كله يجي كويس في الآخر يا أخمد (يحضر جرسون صامت)
هات اثنين وسكي بالصودة سبليت شوبس (يذهب ثو يعود بالطلب)
واحد ويسكي ماركة ودكوفر أحسن من كل ماركة.
نصرت :
أفوتر سانيته.
مافرو :
الفوتر. سي سي (يعيد الخادم الطلب بإشارة من مافرو)
يقولوا في البلد بتاعنا أول كاس علشان السلام والثاني علشان الكلام (يشربان. يعاد المشروب) .
نصرت :
أنا غايته أشرب كاسين أو ثلاثة بالكثير. أنا ما أحبش إلا الكونياك من أيام ما كنت في فرانس.
مافرو :
شامبا كونياك بتاع البلد بتاع إحنا أحسن من كلو كونيباك، علشان في البلد بتاع إحنا فيه كثير إنب في السكة.
نصرت :
كمان فيه في فرانس عنب كثير.
مافرو :
أحمد هات إزازة شامبا أبو ثلاثة نجمة وافتحه (يدنو جاسبير )
البنت دي كويس أنا شايف بيبص لسعادتك (يشير إلى جاسبير بالدنو من نصرت فيدنو ويحضر المشروب ويشربان) .
نصرت :
لكن دي مش قد كده. أنا كنت أعرف بنات في فرنسا (يقبل أطراف بنانه رمز الإعجاب)
رينيه ومارت ونيللي لاجنجويست ولاموم وابوزيه (يشربان) .
مافرو :
أنا كمان وأنا زي حضرتك عرفت كثير ستات (يشير إلى جاسبير بالسرقة فيسرق جيب صاحبنا)
أنيتا وجورجيت وماريكا وكوستانتينا (يسمع من مائدة الملعب)
بنكوريان نيقابلو أف من الزهر زهر دون أنا بخت زي بعضه، نهايته شيل فلوسك يا سلام أما حتة لعبة!
مافرو :
سعادتك يقوم شوية يجرب زهره حضرتك تشرف آخر الليل في إسفنكس بار، هو بار خصوصي بتاعنا فيه أوركسترا كويس كل حاجة كمان مشروب كويس كل حاجة.
نصرت :
ميرسي.
مافرو :
أنا كما غيرت الكروبيه علشان يغير الزهر شويا (يقف جاسبير ويحل محل الكروبيه الموجود) .
المشهد الثامن (حافظ - عبد المجيد)
حافظ :
طبعا أنت رأيت هذه الأشياء كلها عدة مرات، فبالله قل لي ماذا يحدث بعد الآن، إن هذا الملعب عالم مصغر، أرأيت كيف يسرقون هذا المغفل جهارا؟
عبد المجيد :
إن الرواية لم تتم. ألم تر كل هذه الطيور الجارحة وتلك الوحوش الكاسرة التي تعيش من لحمه ودمه؟
حافظ :
ألا يشعر؟
عبد المجيد :
إنه محجوب النظر مشلول الإرادة معقود اليد واللسان، كأنه مسخر لآكليه بفعل السحر، اسمع وانظر هذا الخواجة سمطان المقامر المتفنن المقول عنه إنه يربح ما يريد ولا يجرؤ لاعب على الوقوف في وجهه.
المشهد التاسع (سمطان - شاكر)
شاكر :
كنت فين وطريقتك فين قبل ما أخسر الثمانية جنيه؟
سمطان :
عزيزي أنا هنا تحت أمرك في الوقت اللي تريده.
شاكر :
احكي يا سيدي طريقتك.
سمطان :
أنا كنت من أغنى الناس، وقد تعلمت في مونتكارلو سر المكسب والخسارة وكسرت البنك مرتين! آه مونتكارلو! أنت لا تعرف عنها إلا اسمها، ولكن على الأقل أنت أفضل من غيرك؛ لأنك تقامر وتفهم في القمار. عزيزي اعلم أن المقامرة أمر غريزي في الإنسان تظهر في جميع أعماله وأقواله.
شاكر :
عجيب ... أنا كنت فاهم المسألة مسألة فلوس فقط.
سمطان :
كلا ... تكون مخطئا ... انظر حولك إلى أصغر الأشياء وأكبرها ترى المقامرة في كل زمان ومكان. ترى الحظ الحسن والحظ الرديء. ترى الزهر الناهض والزهر النائم. ترى المخاطرة والمجازفة في كل شيء. الزواج ضرب من ضروب اليانصيب، والامتحان بالمدارس والتجارة والسياسة، والمحاكم ذاتها يا عزيزي وهي ديار العدل ومهبط القضاء فيها الحظ الحسن والرديء؛ فمن الناس من يكسب القضية ومنهم من يخسر كله بارتيته.
شاكر :
أما فلسفة صحيح، طيب وإيه العمل دلوقت؟
سمطان :
لو كان معي نقود لكسرت البنك كما فعلت في مونتكارلو ... آه.
شاكر :
حيث إنك عالم بفنون اللعب إلى هذه الدرجة، فما الذي يمنعك عن الربح العظيم؟
سمطان :
المسألة مسألة شانس. أنا جربت كثير بختي في الأسود والأحمر.
شاكر :
أظن طلع بختك أسود.
سمطان :
شوية كده وشوية كده.
شاكر :
طيب لما كسرت البنك في مونتكارلو وديت فلوسك فين أنت اللي جعلت الدنيا كلها قمار في قمار؟
سمطان :
ذهبت من حيث أتت، إنك لا تعرف مونتكارلو ولا تعرف الهاي لايف حالما تصل إلى مونتكارلو ترى من جمال المشاهد ما ينسيك فراديس بابل المعلقة؛ فيسحرك المنظر البديع وينقلك إلى عالم الوهم والخيال.
شاكر :
ده إيه ده وصف بهيج يا أخي، يا ريت كنت غني جدا لأسافر وياك على مونتكارلو دي.
سمطان :
آه من رؤية الذهب والفضة والبنك نوت تنتقل بسرعة البرق من يد إلى يد، ما أحلى منظر وجوه اللاعبين الصفراء وعيونهم الشاخصة وخدودهم الشاحبة وجباههم التي تتصبب عرقا وأياديهم المرتجفة! ما ألذ حاسة الرعب المستولية على جمعنا ونحن لا نسمع إلا رنة الذهب وصراخ المنادين هلو ... هلو!
سمطان :
من فضلك سلفني شلن أجرب بختي.
شاكر :
خذ الريال الفاضل بقى، العب شركة كل واحد نص!
المشهد العاشر (حافظ - عبد المجيد)
حافظ :
هذا أفصح منك في الوصف وأبلغ.
عبد المجيد :
هذا سمطان الشهير أستاذ فنون القمار كما ذكرت لك، إنه يربح كل ليلة ما يكفيه.
حافظ :
ولكننا رأيناه يقترض شلنا من صاحبنا.
عبد المجيد :
هذا شلن البخت؛ فإنه من قواعده أنه لا يلعب إلا بنقود مقترضة.
حافظ :
هذه أسرار وعجائب.
عبد المجيد :
ها هو مختار قد قام، إنه لا يرانا ولكنه سيحضر إلينا حتما.
حافظ :
ما أشد اصفرار وجهه واضطرابه!
عبد المجيد :
أظنه فقد كل شيء، إذا حاول الاقتراض منك فلا تقرضه، مسألة الاقتراض عند المقامر الخسران طبيعية ممن يعرف وممن لا يعرف، ولا تظهر في حضرته هذا الانقباض ريثما نبلغه رسالة أهل منزله.
المشهد الحادي (مختار - عبد المجيد - حافظ)
مختار :
أوه أنت هنا.
عبد المجيد :
من أول الليل نتفرج وننتظرك للسلام عليك.
مختار :
معك نقود.
عبد المجيد :
على الحديدة يا حظ. هل خسرت؟
مختار :
كل شيء.
حافظ :
إلا الشرف.
مختار :
دع عنك هذا القول (إلى عبد المجيد)
لم تقدمني إلى حضرته.
عبد المجيد :
صديقي الدكتور حافظ اختصاصي في الأمراض ال...
مختار :
تشرفنا. هل معك نقود يا دكتور من غير مؤاخذة.
حافظ :
كنت أود ولكنني تركت كيس النقود في البيت.
مختار :
إذن إيذنا لي في الانصراف، لعلني أستطيع الاقتراض من غيركما؛ لأنه يلزمني مصاريف كثيرة على العيد فإن البنت طالبة كسوة شيك.
حافظ (إلى عبد المجيد همسا) :
ألا تخبره؟
عبد المجيد (إلى حافظ همسا) :
دعه الآن (إلى مختار)
أية البنات تقصد؟
مختار :
يا أخي ألا تعلم أنني من زمن طويل تركتهن جميعا إكراما لها.
عبد المجيد :
عهدتك يا مختار تأنف أن تشم الزهرة إذا رأيت صديقك قد شمها قبلك، وتأبى أن تشرب الماء من الكأس التي يكون غيرك قد سبقك إلى الشرب منها أمامك، وهاتان مسألتان لا دخل فيهما لغير حاستي الشم والذوق، فكيف تحتمل وأنت الفتى النبيل والشاب المترف الظريف أن تقبل على امرأة من هذا القبيل يشترك فيها كل حواس النفس والجسد، وأنت تعلم أنها لعبة كل فتى ومورد كل طالب، وعلالة كل سفيه، وأنها لم تصل إليك إلا بعد أن تجاوزت مئات من الناس مثلك، ولعبت بها أيدي ألوف من الرجال دونك؟!
مختار :
إن وجيدة خاصة لي دون سواي، وهي لا تلقى أحدا ممن ذكرت، وأنا أعرف أسرتها جد المعرفة، ولا أسمح لغيرك بمثل هذا الكلام المر.
عبد المجيد :
هذا تحسين الشيطان، ولو كان قولك حقا لما زاد قدرها في نظري، فإنك لا ترد منها على أدب، ولا تأنس فيها إلى لطف، ولا تشعر في جنبها بشيء من مودات النساء ولطف المنزل، وإنها أمامك آلة صماء لا تقع عينها منك إلا على موضع الجنيه الأحمر وبئست تلك صحبة ينفر منها طيب الوجدان وساعة لا يبقى منها من الإنسان سوى الحيوان.
مختار :
أنت مبالغ ودائما تهول في المسائل البسيطة، ومع ذلك أؤكد لك أن وجيدة ليست كغيرها من النساء، وهي جديرة بأن أقدم لها كل ما تطلب، وأضحي في سبيل رضاها كل شيء (حافظ يظهر عدم الموافقة) .
عبد المجيد :
ألا ترى إلى أين تقودك حاجتك إلى المال إرضاء لشهوات تلك المرأة، ولو لم تكن متعلقا بأهداب حبها الفاسد لعشت بسعادة متمتعا بالثروة الطيبة التي خلفها والدك (حافظ يظهر الموافقة) .
مختار :
عبد المجيد أنا مش عاوز درس ولا نصيحة من فضلك خلينا نتكلم في حاجة تانية.
عبد المجيد :
الأمر لك، سأصمت، ولكن تلطف مع الدكتور فهو اختصاصي في أمراض ال...
مختار :
تشرفنا ولكن إن شاء الله ما نحتاجش إليه.
عبد المجيد :
من يدري ما دمت منغمسا دائما هنا وهناك!
حافظ :
المسألة بسيطة كل ما في الأمر أن هؤلاء النسوة مملوءات بالأمراض المعدية والأدواء القتالة الخبيثة، وقد يلهو الشاب ساعة في سكرة طيشه وصباه ثم يعقبها ندامة وحسرات تدوم إلى الأبد، وبلوى العمر وضياع الصحة وفساد النسل وخطر الموت العاجل والانحطاط السريع، والإنسان لا يغره الجمال والصحة والنظافة الظاهرة.
مختار (بضجر) :
شكرا لكما على هاتين الخطبتين البديعتين، والحق أقول لكما أنني أعلم ما تقولان حق العلم، وأشعر بأنني أمثل دورا خطرا في رواية محزنة، وطالما ساورتني الهموم والآلام النفسية من تلك الحياة المضيعة.
حافظ (بتأثر) :
مسكين.
عبد المجيد (له) :
إنني أسمع منه هذا الكلام كل ليلة (إلى مختار)
بهذه المناسبة هل مضى زمن طويل دون رؤية المنزل وأهله؟
مختار :
لماذا؟ هل حدث أمر مزعج؟ إنني منذ أسبوعين لم أطرق باب البيت وأنا كما ترى.
عبد المجيد :
مفهوم. فقط أظن أن والدتك مريضة فافرض أن البيت جامع وزره مرة في الأسبوع.
مختار :
هل هي في حالة خطرة يا دكتور؟
حافظ :
لست الطبيب المعالج.
المشهد الثاني عشر
نصرت :
حرامي خطاف. طلع الورقة. غشاش.
سمطان :
معلوم عنده حق ياتريشه.
شاكر :
اللعب كله بايظ ترنشير!
جاسبيرو :
أوعك تضرب أنا بعدين أحطو سكينة في بطنك.
نصرت (يضربه سكينة) :
حطها في بطنك انت يا حرامي أنا أوريك (يضرب نصرت من خلف) .
مافرو :
يا أحمد اطفي النور. بنديد كتو. حريجوري أفانتي.
شاكر :
يا شاويش. أنا أوريكم (يضرب)
آه يا لصوص (ضوضاء وجلبة وضرب ويتقدم الفتوات من نصرت وشاكر، تطفأ الأنوار ويتجه الناس نحو الأبواب ويسمع صوت صفارة) .
مختار :
ياله بنا يا جماعة نزوغ من هنا، أحسن المسألة حميت.
حافظ :
عملتها في يا عبد المجيد، ننفد من أين؟
عبد المجيد :
ما تخفش هات إيدك.
حافظ :
توبة من دي النوبة.
شاكر :
يا شاويش. آه يا اولاد ال... الكيس فيه خمسين جنيه ورق وعشرين فضة وساعة وكتينة ذهب. (ستار)
الفصل الثاني (غرفة جلوس في منزل مختار.)
المشهد الأول (أم مختار - أخته)
الأم :
عجبا لأخيك مختار يا عزيزتي بهية، كأنه بلا بيت يأوي إليه!
الأخت :
إنه يا أماه بلا قلب أو إن له قلبا خلت جوانبه من حبنا نحن اللتين نعيش لأجله، وإلا فما فائدة البيت إذا كان خاليا من الحب؟
الأم :
لو كنت أعلم مكانه لسعيت إليه بنفسي وعلمته درسا لا ينساه.
الأخت :
إن حبك يخيل لك ذلك، والحقيقة أنك تنتظرين رؤيته بفارغ الصبر. على أنني حسب إرادتك أرسلت الخادم كما كلفتني إلى منزل ابن عمي عبد المجيد، ورجوته إن هو رأى مختارا عرضا أن يذكره بنا، ولم أشأ أن أكلفه بمقابلته خصيصى. ولكنني واثقة أنه سيبذل قصارى الجهد في البحث عنه وإرساله إلينا اليوم.
الأم :
بارك الله فيك يا بنيتي، الله يعلم أنني لم أقصر في تربية هذا الصبي، ولكن النار تخلف الرماد، من كان يظن أن أباه يرزق مثله؟ على أنني بعد خيبة أملي فيه لا أرى لي إلا أملا واحدا فيك وفي حياتك المستقبلة، فإنني أريد أن أراك قبل موتي زوجة صالحة سعيدة، وحيث إنك ذكرت ابن عمك فأنتهز هذه الفرصة وأسألك رأيك فيه وأنت ترينه في كل صباح ومساء، وكلما أزور دارهم تسألني أمه عنك وتطلبك عروسا له، وقد خاطبتني في هذا الأمر أمس.
الأخت (بخجل) :
إنني لن أتزوج قبل أن يتزوج أخي مختار.
الأم :
إذن سيطول انتظارك؛ لأنني لا أظن هذا الغر يريد الزواج قريبا، بل يجب أن يبقى مخلوع العذار طالما كان في العود ماء يجري، على أن العادة والعرف على عكس ما تقولين فهو الخليق بتأخير زواجه حتى تتأهلي أنت.
الأخت :
أريد أن أبقى حتى أصير من العوانس؛ لأنني لا أريد أن أتزوج وأتركك وحدك. من ذا الذي يخدمك وينظر في شئونك ويرعاك في شيخوختك كما رعيتنا في طفولتنا وصبانا؟ (تقبل يدها) .
الأم (تغرورق عيناها بالدموع وتقبلها في خدها) :
حبيبتي بهية، لا فض فوك وبارك الله فيك. إنني أريد أن أزوجك من رجل شريف فاضل، وأفرح بك قبل موتي، وأراك ولو يوما واحدا ست بيتك سعيدة بزوجك وأولادك، وكنت أود أن أرى أخاك كذلك (تبكي)
متمتعا بالحياة الزوجية الطاهرة، كما كانت آماله في فتوته ولكن الأقدار شاءت غير ذلك.
المشهد الثاني (مختار - أمه - أخته)
مختار :
صباح الخير يا جماعة (يقبل يد أمه ويقبل يد أخته فيقبلانه) .
الأم (تحاول كتم عواطفها) :
ما الذي حدث حتى تذكرت والدتك وأختك، حقا إن النهار لا يصلح للجري وراء المسرات!
مختار :
بالله يا نينة كفي عن توبيخي، فإنني كنت في غاية المشغولية أؤكد لك بارول دونير!
الأخت :
وهل هذه المشغولية تقتضي وصل الليل بالنهار؟ أي ديوان وأية مصلحة بل أي ملهى يبقى ساهرا إلى الصباح ثم يستمر من الصباح حتى المساء؟
مختار :
بهية! ما أفصحك اليوم! يا بختك قلبك خالي.
الأخت :
أنت أنت ذو القلب الخالي، أما قلبي أنا فمشغول بحب أمي وأخي الذي لا يحبنا، وتذكار ألمي وآمال المستقبل، ولكن قلبك هو الخالي من حب أعز الناس إليك، ومشغول بحب السهر وعشرة أولاد الحرام وبنات الهوى.
مختار :
هل هذه خطبة منك أيضا؟! يا لها من مصيبة! خطبة من عبد المجيد بل محاضرة طويلة بأدلة وبراهين و...
بهية :
إن عبد المجيد ابن عمنا من خيرة الشبان، ولا يعرف إلا بيته وشغله، وقائم بواجباته خير قيام، وليتك مثله، إذن لكنا كلنا سعداء.
مختار :
الله الله هذا دفاع عن عبد المجيد! هل جد شيء يقتضي هذا التحمس وهذه المقارنة؟
الأم :
جرى كل خير، أختك تقول الحق فلم يغضبك؟ أتنكر أن عبد المجيد رجل تام الرجولة، وجدير بأن ينسج على منواله كل الشبان.
مختار :
وأنت أيضا يا أماه! لا بد أن يكون في المسألة سر عميق. أنا أعلم أن عبد المجيد لم يكن يشغل المكان الأول في قلبكما.
الأم :
ليس في الأمر سر، ولم يحل عبد المجيد ولا غيره محلك من قلبنا، ولكن عبد المجيد أظهر شهامة واستقامة في كل الظروف التي احتجنا إليه فيها، وربما ارتبطنا قريبا برباط غير رباط القرابة؛ فإن أختك صارت عروسا تستحق الزفاف (يظهر خجل شديد على بهية) .
مختار :
صحيح بهية صارت بهجة البيت وست البنات، ولكن قبل البت في أمر زواجها لا بد من أخذ رأيي؛ لأنني شبه ولي أمرها، فأنا مثلا أعارض في هذا الزواج!
الأم :
لأي سبب؟ ألحسن أخلاقه وسيره المستقيم؟
مختار :
لو عرفتما أين كان أمس ما أظهرتما هذا الميل الشديد إليه، وما دافعتما عنه بهذا الاهتمام.
بهية (بقوة وضحك) :
نعرف يا سيدي أنه كان يبحث عنك، ووالدتك هي التي كلفته بذلك، أكنت تريد أن يبحث عن بيك مثلك في جامع سيدنا الحسين أو في تكية النقشبندي؟!
مختار :
صحيح يا بهية أرسلت لعبد المجيد يبحث عني؟
الأم :
قلت له إن كنت تعثر بمختار فذكره بنا يمر ببيته ويزرنا، ولو في كل أسبوع مرة، كأنه بيت أبيك جامع أو كنيسة.
مختار :
عبد المجيد لا يدرك النكتة، ولذلك قالها لي ببساطة فاستغربت هذه العبارة.
الأم :
لا لوم عليه، فأنا التي كلفته بذلك، لعلك يا ولدي تعود إلى رشدك، على أنك لا بد تعبان وفي حاجة إلى الطعام.
مختار :
جدا جدا، لم أذق طول الليل إلا واحد سندوتش.
الأم :
ليس عندنا من هذا الصنف الإفرنجي ولكن عندنا أكل بيتي. يا بهية كلفي الخادم بتحضير الطعام لأخيك.
بهية :
حاضر يا نينة، البنت عارفة دائما أن سيدها مختار يعود إلى المنزل على آخر رمق.
مختار :
أوصيها وأنا أعدك.
بهية :
بماذا؟
مختار :
بعدم المعارضة في الزواج.
بهية :
بلا مسخرة يا أخي (تخرج مسرورة) .
المنظر الثالث (خادم - الأم)
خادم :
الست زينب فواز.
الأم :
خليها تتفضل من زمن طويل ما رأيتها. وبهية تفرح بها كثيرا (تخرج الخادمة وتدخل الست زينب، الأم تنهض وتقبلها، ويدنو مختار ويقبل يدها) .
المنظر الرابع (زينب - مختار - الأم)
زينب :
ما شاء الله يا مختار بك، مضى علي زمن طويل لم أقابلك فيه. إن شاء الله تكون بخير وعافية.
مختار :
الحمد لله.
زينب :
إنني أقرأ الجرائد ولا أجد لك مقالة ولا خطبة كما يكتب كثير من الشبان الذين في سنك المهتمين بشئون وطنهم.
مختار :
لا أميل إلى الكتابة والتحرير؛ لأنه طبعا يوجد كثيرون أقدر مني على الإنشاء.
زينب :
ليست المسألة مسألة إنشاء ولا تحرير، ولكن كل إنسان، لا سيما الشبان، لا بد أن يهتم بالشئون العامة.
الأم :
يا ليته يهتم فقط بشئونه الخصوصية، أنت يا ست زينب لست بالغريبة عنا، وأقرب إليه من خالته، ويصح أن يقول لك يا والدتي؛ لأنك حضرت ولادته، أنا متأسفة إذا أخبرتك إن أمور ابنك مختار ليست على ما يرام.
زينب :
سبق أن شكوت لي مرارا من اعوجاجه، ولكن الظروف لم تسمح لي بمقابلته ومحادثته بصفة جدية.
الأم :
لعل هدايته تكون على يديك.
مختار :
والله أنا مجتهد أكون مستقيم، ولكن الظروف لا تسمح وإن شاء الله ...
زينب :
وبعد يا مختار، ألا تريد أن تعدل عن طريق النساء التي أنت سالكها. أما آن لك أن ترعوي؟ إلى متى هذا الضلال؟ أنا أعلم أنك مسوق في طريق الشر وملقى في تيار الهوى بدون إرادتك وعلى الرغم من نفسك، وقد أمسيت أسير شهواتك ولا تملك لخلقك قيادا، وأعلم أن العلم لا يصلحك ولا الوعظ يهديك، حتى ولا أبوك يقوم اعوجاجك إذا قدر الله له البعث من مرقده.
مختار (بابتسام) :
إذن ماذا يا تيزتي، إذا كنت تعلمين ذلك فما فائدة التعنيف والنصح؟
زينب :
لأنني أعرف الداء والدواء، وأعلم أنه لا يصلحك إلا فتاة فاضلة تتزوج منها؛ فتطلقك من قيود الشر وترزق منك بطفل ترشدك يداه الصغيرتان إلى طريق السعادة.
الأم :
هذه كانت حال أبيك قبل زواجنا، فإنه كان مثلك ملقيا حبله على غاربه لا يعرف للحياة معنى، ولا يذوق للعيشة البيتية طعما، فلما صار له بيت وزوج وأطفال تغيرت أفكاره وتبدلت أحواله، وهذا ما أرجوه لك.
زينب :
الزواج للشبان أهم شيء.
مختار :
دعينا من الزواج يا خالتي.
زينب :
ماذا تقول يا ولدي؟ رحم الله من قال: خلقهما الله ذكرا وأنثى وأوصى باقترانهما ما أوصى، وجعل الحب عروة الزواج الوثقى، وجعل القلب له مأوى يسعد به ويشقى، ويموت به ويحيا، وهو الحب الذي ينبه النفس من الكرى فتأنس من الجمال نارا تذكى فوجدت على النار هدى.
مختار :
الله الله إذا كانت النصائح كلها على هذه الوتيرة فلا بأس.
زينب :
إن البنت تنشأ في بيت أبيها زهرة جمال موجودة لقطفها، وثمرة غبطة وهناء ترجو قدوم جانيها، حتى إذا اكتمل جمالها، واستتم هلالها، ودنت قطوفها؛ تعرضون أنتم الشبان عنها، وتفوتونها وقد خلقتم لها وخلقت لكم، وانصرفتم تجرون وراء سواها من بنات الليل وفتيات الحانات، وتدوسون ذلك الجمال البريء وتلك المحاسن الطاهرة بتغاضيكم وإهمالكم، كما يدوس الصائد أزهار الربى الزاهية وراء طير يطارده وقد لا يصيده، وإذا صاده فقل أن يكون فيه نفع أو فائدة.
مختار :
يا خالتي، وأين الفتاة التي تليق بي، وأنا كما تعلمين من طلاب الكمال في كل شيء؟ أتظنين أنني لا أشعر بصحة قولك وسلامة رأيك، أو أنني اندفعت في تيار الهوى لمجرد السرور واللهو؟ أين الفتاة المتحلية بالصفات التي ذكرت.
زينب :
ملء بيوت آبائهن، حظهن في النهار النظر، وفي الليل الفكر، وهن يشعرن بحب تضيق به صدورهن ولا تنطلق ألسنتهن، ويظهر الغرام من عيونهن ولا يقدرن أن يبدينه بأفواههن، وينادين الشباب أمثالك بجمالهن ولا يجرؤن أن ينادينهم بقولهن، فلما لا يسمع نداؤهن ولا يجاب سؤلهن يبقين كالوردة الناضرة يظهرها الجمال ويخفيها الخجل، وتقر في مكانها كالحمامة الهائمة تدفعها غلة الظمأ فتردها رهبة الوجل.
مختار :
يا خالتي، إنني لا أزال في مقتبل العمر، ولا أريد أن أتزوج الآن؛ لأن الشباب فسيح أمامي وآمالي أعظم فسحة.
زينب :
إنك مخطئ يا ولدي، إذا كنت تنتظر الشيخوخة وهذا هو الوقت الذي ينبغي لك فيه أن تذكر العهد الذي أخذته عليك الطبيعة عند ميلادك، أي عذر لك في أن تترك السعادة الدائمة ولذة ذلك الحب النقي المستمر لتجري وراء أمنية زائلة تعود عليك بالأمراض والشقاء، وتتعلق بكل فتانة خادعة تقودك معها إلى مهاوي العار وحضيض الذلة والهوان ثم لا تلبث أن تعقبك من فاسد قربها هجرا طويلا ويتبعك كاسد جمالها وزائف حبها؛ فتشتري بعفتك وآداب نفسك وصحتك ومالك ثمنا قليلا تنتظر الشيخوخة! فمتى يعبث في رأسك طلائع الشيب وعبثت بك يد العجز والكبر وتخرمت جسمك البالي أمراض النساء وعاهات الغواية والفحشاء؛ تلتمس من مصونات المنازل وفتيات الطهارة والآداب ضحية بريئة طاهرة، تقدمها على مذبح أمراضك، وتشركها في ما لم تجن به شيئا من غوائل العلل والأدواء، وتجعل نصيبها من عواقب مرضك وعاهاتك وهي المصونة في خدرها، والخالية النفس عن أميالها وأهوائها؛ نصيب التي صرفت أيام صباها في التهتك والفحشاء، وأرضت لنفسها عناق الشهوات في ميادين الخلاء والبذاء، ثم تجني بعد ذلك على أولادك تلك الجناية القتالة التي يشاركون بها أباهم في شقائه، وهم لم يشاركوه من قبلها في شيء من ملاذه، وهذه حال لو تأملها القلب القاسي لأصبح رقيق الشعور والإحساس فكيف لا يتأملها الظرفاء أمثالك .
مختار :
إنني أريد أن أتزوج ولكن على شرط أن تكون فتاة متعلمة متحررة متيقظة إلى حوادث الدهر، آخذة من كل شيء بطرف، حتى لا أعاشر جمادا أو آلة صماء أو حيوانا أبكم لا يفهم عواطفي ولا يقدر آمالي وأفكاري. هذه صفات لا نجدها في غير من ذكرت من النساء رغما عن الذم والتعيير والاستهجان وأن الحياء يعوقني عن الإسهاب في حضرتك.
زينب :
رحم الله والدي الذي كان ينشد قول الشاعر!
علموهن الغزل والنسج والرت
ق وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخ
لاص تجزي عن يونس وبراءة
تهتك الستر بالجلوس أمام الس
تر إن غنت القيان وراءه
مختار :
هذا كلام مضى عهده وانقضى زمنه، وهيهات أن نكتفي نحن شبان هذا الزمان بمثل تلك الترهات.
زينب :
إذا كنت تدعو هذا القول ترهات فلا سبيل إلى إقناعك بما فيه نفعك وفائدتك. ومع ذلك كيف تلوم المصرية على جهلها، إن كانت جاهلة، وعلى قلة إلمامها بطرق العشرة وآداب اللياقة ووسائل المعيشة الحديثة؟ فقد حكم الدهر لكم أيها الشبان بقوة مطلقة وعيشة مستقلة وسيادة كاملة سدتم بها على الدنيا وحكمتم أنفسكم بأنفسكم وحكمت الأقدار على الفتاة بعكس ذلك من التقيد بأهلها والتعلق بأحكام والديها وذويها، والاحتباس في خدر من العفة والخجل هو أشد الخدور صيانة وأوثق السجون تقييدا، فهل ينبغي لكم أيها الرجال أن تستعملوا تلك السلطة المطلقة في ظلم هذه الخلقة الضعيفة المقيدة؟ وهل يليق في عرف الإنسانية التي وضعت شرائعها لحماية الضعيف من القوي ووقاية المظلوم من قبضة الظالم أن تسمح بهذا الظلم الذي حكمت به الطبيعة كما حكمت لسواه فمنع الرجل كل ظلم طبيعي سواه ولم يرد أن يتلافاه؟
مختار :
الآن دخلنا في تحرير المرأة وبحث الحجاب والسفور.
زينب :
سم كلامي ما شئت، وأطلق عليه الوصف الذي تريد، ولكن اعلم علم اليقين أنكم تطلبون زوجات مهذبات، وأنتم تتركون الفتيات الطاهرات يفنين شبابهن في الخدور يعضلهن والد قاس أو أخ جاهل فتذوى محاسنهن كما تذبل زهرة الربيع.
الأم :
إذن لقد أحسنت بتصميمي على زواج بهية.
مختار :
كل يغني على ليلاه.
زينب :
تطلبون بيوتا آمنة مطمئنة وعيشة منزلية هادئة سعيدة، وواحدكم إذا تزوج يعامل زوجته كأقل خادم، وإذا نظر إليها بثغر باسم فإن قلبه مبتعد عنها وهو في قبضة سواها، تطلبون فتيات متأدبات يصلحن لتهذيب الخلف الصالح وأنتم تعرفون الحب الصحيح إلى غيرها ممن لا تستحق من بنات الهوى وفتيات الأزقة والحانات، وتلقون الكلام الذي يخرج من صميم أفئدتكم كالجواهر وكان يكون فيه أعظم سعادة وتهذيب لفتياتكم على أقدام نساء بغايا يدسن عليه بعد انصرافكم كما يدسن على جواهر أفئدتكم في حضوركم، إنك وأمثالك تفرون من الفتيات الطاهرات فتحملونهن من نقضكم وإخلاف وعودكم ظلما جديدا فوق ما ظلمتهن به الأيام، وتعزون الفتيات الساقطات بابتذال أموالكم وغرامكم فتزيدنهن طغيانا وضلالا في سبيل التهتك والابتذال يعود عليكم جميعا بالمذلة والخسران يا ولدي. إنني توجهت إليك بهذا الكلام لعلمي بأن والدتك تريد أن تبوح به وزيادة، ولكن يخونها حبها إياك وخوفها إغضابك، وأرجو أن لا تحقد علي إنما أردت صلاحك لأني أعزك كأحد أبنائي.
المنظر الخامس (تدخل بهية فتقبل يد الست زينب فتقبلها ويتحادثان خفية.)
بهية (لوالدتها) :
الأكل جاهز.
الأم :
قم يا مختار تبلع بلقمة تعد إليك قواك التي فقدتها في السهر.
مختار :
طبعا سآكل وأنام مباشرة، أرجو أن لا يوقظني أحد لأن دماغي صارت كالطبل.
بهية :
مكتوب على ورق الخيار.
مختار :
نعم يا ست بهية؟ تفضلي بالجلوس هنا فتسمعي درسا طويلا مفيدا كالذي سمعته من خالتي زينب هانم.
بهية :
استح يا مختار.
مختار :
يا خالتي تفضلي على بهية بشيء من الكلام اللطيف الذي سمعته الآن.
الأم :
لعلك وعيت شيئا مما سمعت.
مختار :
الأزهار ذبلت على أقدام النساء ... الضعيف والقوي والظالم والمظلوم وهكذا بقيت في رأسي بضع كلمات سأكررها تلذذا بها إلى أن أصل إلى غرفة الطعام (يضحك ويحاول الخروج ويقبل يد خالته زينب) .
الأم :
يا خسارة التعليم فيك!
المنظر السادس (مختار - خادم) (يدخل الخادم)
الخادم :
سيدي عبد المجيد بك في الجنينة.
مختار :
عبد المجيد بك (ناظرا إلى والدته وأخته)
الظاهر أن حماته تحبه (إلى أخته):
لا مؤاخذة هذا مثل سائر أنا لا أقصدها خليه يتفضل (يخرج الخادم) .
المنظر السابع (بهية - مختار)
بهية :
وإن كنت تقصدها، أي شيء في ذلك؟ ولكن المهم إنك تعرف تقابله.
مختار :
طبعا لا يليق في أودة السفرة، وإن كان ابن عمي ونسيبي في المستقبل ولا يوجد تكليف بيننا ولكن التقاليد العمومية لا تسمح.
الأم (تنهض) :
نخرج من الصالون لأنني أريد أن أخلو قليلا بالست زينب هانم. وقابل ابن عمك هنا (تخرجان) .
المنظر الثامن (مختار - بهية)
مختار :
والأكل؟ هل راحت عليه الفرصة؟ خسرنا كل شيء حتى الغدا.
بهية :
سأرسل إليك الخادم يعد لك مائدة صغيرة (تخرج) .
مختار :
لا بأس (لنفسه):
أما كلام السيدة زينب مؤثر وجميل، ولكن من يقرأ ومين يسمع، والله لو كانت صغيرة لكنت اتجوزتها، آه لو عرف الشباب وآه لو قدر المشيب، يا ليت زرعوها ما خضرتش.
المنظر التاسع (عبد المجيد - مختار - خادم صامت)
عبد المجيد :
أرجو أن لا تكون زيارتي مزعجة.
مختار :
كلا إنك يا ابن عمي تسليني وتفرج همي، فأهلا بك وسهلا، إنني وجدت والدتي بحال من السخط والأسف لم أشهد لها مثيلا، كذلك وجدت السيدة زينب فواز فألقت إلي كلاما طويلا.
عبد المجيد :
لا شك أن تعذرها وتفهم سبب سخطها، إنني يا أخي مختار لا أدعي إدراك الأشياء أفضل منك، ولكن أظن أنه يحسن أن تنظر قليلا فيما حولك (يدخل الخادم بالأكل ويضعه في مكان) .
مختار :
ولكن ليس لي من حياتي الحاضرة مخرج، فهل أعيش وحيدا بلا معشوقة ولا زوجة في عزلة تامة عن الناس، لا أختلط بهم إلا إذا اضطرتني الأحوال، ولا أعاشرهم إلا فيما تقتضيه ضرورات الحياة (يبدأ بالأكل بشراهة) .
عبد المجيد :
هذا أفضل من أن تعيش في حضن معشوقة متقلبة الأطوار متعددة الرغائب، تبغضك وتخدعك بحبها الكاذب لا ترى منك إلا موضع الدرهم والدينار، ولا تلتمس فيك إلا أسباب المنفعة.
مختار :
كيف أعيش في ظلال قران شرعي أرتبط فيه بامرأة تقدمها لي الأقدار في غلاف لا يفض إلا ليلة الزفاف، كأنها سر من أسرار الدهر مرهون بأوان لا يعرف حتى يذاع في وقت معلوم؟
عبد المجيد :
هل ضمنت حياة العائلة في حضن والدتك وأختك؟ هب أن والدتك، لا قدر الله توفيت، وافرض أن أختك تزوجت فإنك لا تنوي أن تعضلها.
مختار :
طبعا لا (بمعنى أنه فاهم) .
عبد المجيد :
فهل تنوي أن تعيش عيشة الوحدة والانفراد؟ أما رأيي فلا؛ فإنني عانيتها في الصعيد بعد وفاة والدي ردحا من الزمن؛ إذ كنت مشغولا بأعمال تصفية التركة، وكنت أثناءها أعلل النفس بقرب نهايتها، وأمني القلب باستبدالها بما هو خير منها. كنت يا أخي أدخل غرفا خالية خاوية وألتمس في أركان البيت وجها بشريا فلا أجد، وأتسمع طول ليلي صوتا إنسانيا فلا يستأذن على سمعي.
مختار :
والخدم الذين كانوا عندك.
عبد المجيد :
الخدم! إن كان عندي خدم فما أنا لهم إلا سيد يهاب ويخشى ولا يحب. يطمعون بماله ولا يطمع في إخلاصهم، أبقى معززا ما دمت مالك ناصية المال، ومكرما ما دمت راضيا أن أسرق جهارا، وأن تنتهك حرمة بيتي في غيبتي، وأن يغتابني من أقدم له الخير بيدي.
مختار :
إنها إذن عيشة مرة (يأكل) .
عبد المجيد :
يا لها من عيشة! مائدة لا يزينها وجه باش، وأركان لا تردد ضحكة. طفل سعيد أو امرأة محبة. ساعات طويلة تمر علي خارج الدار، ولا من يسأل عني ولا يحمل لي هما غبت أو حضرت، تقدمت أو تأخرت سلمت أو مرضت ... كل كل أنا عارف أنك هالك من الجوع.
مختار :
وكيف وجدت صبرا على هذه الحال (يأكل) .
عبد المجيد :
إذا لم يطاوعني صبري يوما وخرجت بحق عن جادة الحلم والأناة، رأيت وجها عبوسا ويدا تمتد طالبة ذاك الحساب. أجر وعمل؛ إذ لا صداقة ولا حب ولا مجال للكلام أو العتاب بئست تلك الوحدة، ولو كانت تضيئها مصابيح العلم والحكمة. بئس ذلك الانفراد ولو كان حولي مائة أو مئات من الناس؛ إذ إنني أكون دائما غريبا بينهم، وما أفظع الوحدة في الائتناس المأجور!
مختار :
لماذا لم تتخذ معشوقة؟
عبد المجيد :
معشوقة، امرأة تظهر لي حبها ريثما تملك عنان نفسي ثم تتخلى عن كل شيء إلا مالي، فإنها تعرفه وتحبه دائما، وتطلبه في كل وقت ولا تنس حقوقها عليه، ولا تحب أن تحرم من لقائه، وقد تخدعني الساعة والساعتين ريثما تحصل على المال. المال الذي تكنزه لليوم الذي تنوي فيه هجري لأنها منذ اليوم الأول من لقائنا تحسب حساب هذا اليوم. فرصة سانحة تنتفع بها على قدر الاستطاعة! معشوقة متقلبة الأطوار متعددة الشهوات مرت قبل أن وصلت إلي بألف رجل وعرفت أخلاق عدد لا يحصى، ووضعتني في الفريق الذي أنا منه حسبما أوحى إليها تقسيمها أنواع الرجال.
مختار :
اجعلها في بيتك بغير زواج؛ فلا تستطيع أن تخدعك.
عبد المجيد :
بيت كاذب وسعادة كاذبة وزواج كاذب وحب كاذب، وعناية لدى المرض كاذبة وفرح لدى السلامة كاذب، وبسمة لدى اللقاء كاذبة، ووعد بالبقاء على الحب كاذب، ونظرة دلال لدى الوصل كاذبة، آه آه أكاذيب مكدسة، كل شيء كاذب حتى ذلك الطلاء الذي تجمل به وجهها لدى المساء، وذلك الثوب الذي تتحلى به عند القرب مني، كلا، وهذا أيضا مؤلم جدا. قد أحبها عفوا فتتركني بغير سبب سوى زهدها في أو رغبتها في تعذيبي لتسلبني مالي، أو الحصول على رجل آخر تصنع به ما صنعت بي، أأرضى أن أكون ككرة القدم يلعب بها الصبي ويقذف بها إن شاء، سواء أأصابت غرضا أم لم تصب؟ كلا إن هذا لا يستطاع أيضا، بل إنه لا يستطاع مطلقا.
مختار :
لم يبق إلا الزواج فلنبحثه قليلا، إنني أتكلم بكل حرية وبقطع النظر عن الأشخاص. القران الشرعي بامرأة لا تعرفك ولا تعرفها، تحبك ولا تحبها، لم ترك ولم ترها، أصبحت بأمر الشرع أهلا لك وأصبحت لها بعلا. صارت بحق العقد جزءا منك لا يفصله إلا الموت أو الطلاق، ولكن كيف هي وكيف يكون خلقها أصبورة هي على الشدائد أم طائشة تغلبها حوادث الدهر على إرادتها؟ أقادرة هي على تدبير ذلك المنزل؟ أتكون مصباح بيتك الذي يضيئه بعد ظلامه أم تكون ظلمة بيتك التي تسوده بعد نوره؟ أتكون عونا على الدهر معك أم عونا مع الدهر عليك؟ أتكون حربا لك على حوادث الزمان أم تكون للزمان حربا عليك؟ أتكون خصبة ذات نسل أم عاقرا لا تلد؟ وإن كنت أنت عاقرا فهل تنغص عيشتك لأنها لم ترزق منك غلاما أم تصبر صبر الكرام حتى يتم الله نعمته عليكما بنسل صالح؟ أوديعة هي أم جافة الطبع؟ أتعنى بك في مرضك أم تعود إلى أهلها؟ أهلها أهلها كيف تكون أخلاقهم؟ ألها أخ فاسد شرير ينغص عيشكما ويطالبك صباح مساء بحقوق أخته، وإن لم يكن لها حقوق؟ أم لها أم تتآمر معها عليك؟ أم والد طامع يتاجر بابنته؟ وأهلك تكون حالهم مع الزوجة أغيرة وحسد ونميمة واغتياب؟ أشقاق دائم وشجار لا ينتهي؟ أشاكية للقريب والبعيد بغير حق؟ يا رباه ما أشد حيرتنا في الحياة!
عبد المجيد :
إنني قد خرجت من هذه الحيرة ووصلت إلى حل يسعدني.
مختار :
قد أفهم تلميحك، ولكن بعد كلامنا بحرية مطلقة لا أستطيع أن أدخل معك في التفصيلات.
عبد المجيد :
ولكن أموافق أنت على هذا المشروع؟
مختار :
إن والدتي أدرى مني بهذا، وأقدر على الجواب.
عبد المجيد :
وإذا أجابت والدتك بالقبول؟
مختار :
فلا أخالف لها رأيا.
عبد المجيد :
أشكرك يا ابن عمي (يقبله)
وأعدك أنني أبذل كل شيء في سبيل سعادتكم.
مختار :
إنك يا ابن عمي الحبيب رأيتني في حالة واحدة منتقدة وهي المقامرة، ولكن لي لذات أخرى تعوض علي أحزاني.
عبد المجيد :
إنك ترى فيها محاسن وهي شرور ومصائب تقضي على المرء في أيام محنته أن قد يرى حسنا ما ليس بالحسن. (ستار)
الفصل الثالث
المنظر الأول (مختار - عبد المجيد - عبده)
عبده :
اتفضلوا يا سعادة البهوات.
مختار :
فين ستك يا عبده؟
عبده :
هي هنا بس في الحمام.
مختار :
طيب اديها خبر واعمل لنا قهوة زي بتاعة امبارح.
عبد المجيد :
اعمل فنجان واحد بس، أنا ما اشربش قهوة (يخرج عبده ) .
المنظر الثاني (مختار - عبد المجيد - عبده (صامت))
مختار :
والله عشرة الدكتور حافظ مش حتعود عليك بخير، برده ميكروبات وجراثيم وانتقال العدوى.
عبد المجيد :
لأ سبنا من العدوى ولكن الوساخة.
مختار :
يا سيدي خليها بلدي.
عبد المجيد :
إنت اللي تسوي الهوايل في بيتك إذا رأيت شيء عليه غبار تغضب وتخانق، تجي هنا وتقبل كل ما يقدم إليك، الشخص الناظك لازم يكون ناظك في كل شيء.
مختار :
وإذا جلسنا في قهوة مش برده بتشرب في فنجان ما تعرفش أصله ولا فصله، ولا حالة اللي شرب منه قبلنا بخمس دقائق ولا فين اتغسل، كذلك لوكاندات الأكل والحلاق وحكيم العيون وحكيم الأسنان وفوط الحمام البلدي، كل دي حاجات عمومية ومعرضة للكلام اللي بيقوله الدكتور حافظ.
عبد المجيد :
وكلها بالطبع أشياء مضرة ولازم الإنسان يفتح عينه جدا.
مختار :
والله برده وإن كنت أنا مليش حاجة في العلوم زيك، ولكن الإنسان إذا افتكر في الدنيا دي يقول يمكن يجي يوم يبقى فيه كل شيء عمومي. ما ديك شايف العبادة في أماكن عمومية والتعليم عمومي والمعالجة عمومي والأكل عمومي والتياترات عمومي والصور المتحركة عمومي، ركوب الترامواي عمومي، السفر في البر والبحر عمومي.
عبد المجيد :
دي فكرة خطرة يا مختار، ويمكن يغلط الإنسان في تطبيقها أو يبالغ في تفسيرها.
مختار :
أديك برده فهمت من غير ما أقول أنا (يضحك)
تعرف إني مبسوط جدا من وجودك معي، علشان بس تعذر أخوك. دلوقت تشوف الجمال والخفة والذوق، دلوقت تتجنن يا سي عبده، لأ وإيه ده وده كله من الظاهر، فما بالك بالحب الحقيقي والعشرة الغرامية وأوقات الخلوة؟!
عبد المجيد :
أنت مسكين يا مختار، أنا حضرت معك لأحاول هدايتك؛ لأنني عاهدت نفسي على إقناعك بتحويل سكنك، على أنني أعذرك لأن الحب الذي أنت مصاب به هو مرض يعمي ويصم، قد تكون تلك المرأة أقبح النساء خلقة وأقلهن أدبا وأبعدهن عن رقة الشمائل، ولكنك ترى رذائلها فضائل ومعايبها محاسن، عين الرضا عن كل عيب كليلة.
مختار :
بس بأه بلا كلام فاضي بلا شعر (يدخل عبده بالقهوة فيشرب مختار)
الله أدي قهوة العصاري المكيفة والا بلاش (يخرج عبده)
اسمع يا عبد المجيد، لما خلوت بوجيدة بدأت أشرب خمرا هي تشرب كذلك. وكنت بين كل كاس وأخرى أشعر نحوها بميل شديد وأحاول نسيان أهلي وأسرتي وشرفي وصحتي، وتحدثني نفسي أنه ليس في الحياة إلا هذه المرأة، ووجودي بدونها عدم، ولما بدأت تسكر أغمضت جفنيها واستسلمت للرقاد فاسترخت مفاصلها، وكنت كلما يخطر ببالي أمر أهلي وأمر المستقبل أجتهد في طرد تلك الأفكار السوداء عن نفسي حتى لا تكدر صفوي، ثم قامت وخلعت ثيابها ولبست للنوم ثوبا من الحرير الأحمر، ونامت فنمت إلى جنبها، وقبلتها قبلة حارة، فأحسست أن نفسي تطير شعاعا، ثم شعرت بسعادة غريبة. غرفة النوم المقفلة والليل الهادئ وضوء المصباح وقنينة الخمر ووجيدة في السرير؛ كل تلك الدواعي هاجت عواطفي هياجا شديدا.
عبد المجيد :
لقد غابت نفسك عن جسمك في تلك الساعة المشئومة؛ فانتصر الحيوان الكامن فيك وخرج طالبا شهوته الدنيئة. إن أمثال تلك الساعة هي التي تنسيك كل شيء وتجعلك لا تخشى عواقب فعلك، فلا تذكر دينا ولا أدبا ولا صحة، ولولا ضعف إرادتك ما تركت تلك الدواعي تتغلب على فكرك وتصغر في عينيك الفقر والمرض وضياع الشرف وهلاك الأسرة.
مختار :
آه يا ابن عمي، أنت تحكم على ما لم تحط به خبرا. لو أنك ذقت لذة ساعة من تلك الساعات! إنني كنت أملأ الكأس وأدنو منها فأشرب وأقبلها، ثم أسقيها فتشرب وهي بين النوم واليقظة، ثم أقول لنفسي: يا لله! هل بين النساء اللاتي خلقن من عهد حواء إلى الآن امرأة أجمل منها؟ كلا! كل شيء فيها جميل! في نومها وفي يقظتها في سكرها وصحوها ... وما زلنا كذلك حتى الصباح، ولم أنم حتى أشرقت الشمس فغلبني التعب والغرام والخمر والعبق المحيط بنا.
عبد المجيد :
ألم تنظر إلى وجهها في الصباح؟ وهل وجدت فيه من المعاني ما وجدت وأنت تتخبط تحت تأثير الليل والخمر؟ ألم تنظر إلى وجهك الأصفر الحيواني في المرآة ؟ ألم تر فيه آثار الضعف والخطيئة؟ ألم تذكر إذ ذاك أيام حياتك الأولى إذ كنت فتى تتيقظ بنشاط وصحة؟ ألم تبك ألما وخجلا من حاضرك؟ هل أصبحت أسير شهواتك فلا تستطيع الفرار منها؟ يا مختار ألا تذكر أمك وأختك؟
مختار :
رغما عن فلسفتك وهمومي وأحزاني، أقول لك إن قلبي في يد تلك المرأة. إنني أسيرها جسما وروحا، لقد سئمت الحياة إلا بجوارها، وكرهت الناس ما عداها. يقولون إن الحب الطاهر هو وحده القوي الشديد الذي يملك العواطف ويأسر النفوس، أما الحب النجس فتشتعل به النفس أمدا ثم تنطفئ شعلته. فلماذا أحبها أكثر من كل إنسان وأكثر من كل شيء؟ لقد سبب لي حبها الاندفاع في المقامرة والخمر وجفاء أهلي، هل حبها ذنب جرني إلى هذه الذنوب كلها؟ نعم نعم أنا أحبها فلا بد لي من رضاها ولو نسفت الجبال وجفت البحار، ولو أمسيت فقيرا معدما، ولو سألت الناس كسرة خبز. إنني مدفوع بعوامل أقوى من الفقر وذل السؤال والعقل والصبر والفضيلة، وأقوى من كل شيء فيا أسفي ويا حسرتي! (يبدو عليه التأثر.)
المنظر الثالث (عبده - شفيقة)
عبده (من الخارج) :
الست مش هنا يا ست شفيقة، بقول لك يا سلام ما تبقيش كده.
شفيقة :
وانت مالك يا جدع، خليني أخش أشرب لي فنجان قهوة واستنا الست (يدخل عبده) .
المنظر الرابع (عبده - مختار)
عبده (لمختار وصاحبه) :
اتفضلوا خشوا جوه الأودة على ما تنزاح البلوا دي.
مختار :
مين دي؟
عبده :
دي شفيقة المصرية الشهيرة بتاعة زمان.
مختار :
عاوزة إيه؟
عبده :
بتنجم وتفتح الورق وتسترزق من كده.
مختار :
ما تخليها تيجي يا واد يا عبده.
عبده :
بعدين تطلب فلوس.
مختار :
وماله أنا بدي أشوفها؛ لأني سمعت عليها وسمعت إنها كانت أدب أهل زمانها وأظرف الستات.
عبده :
اتفضلي يا ست شفيقة.
المنظر الخامس (تدخل امرأة شقية الحظ حقيقة ومنظرها يدل على الفقر الشديد بعد نعمة.)
مختار :
أهلا وسهلا (بتأثر) .
شفيقة :
أهلا بك يا بيه. لو كنت عارفة حضرتكم هنا ما كنتش دخلت، قطعت عليكم المجلس .
مختار :
إن وجودك يسرنا.
شفيقة :
وجودي دلوقت يا بيه ما يسرش ولكنه يحزن. وفي هيأتي وحكايتي عبرة للستات؛ علشان كده أحب أزورهم، واللي أعزه منهم أحكي له تاريخي؛ أنا كنت أجمل واحدة في الأزبكية، وكانت مصوغاتي سيرتها في فم كل الناس، وكان المشاهير يجو علشان يسمعوا صوتي ويجالسوني وينبسطوا من كلامي. وأديني ضيعت كل شيء، ولا ليش من الدهر لا بنت ولا ولد ولا حلتيش حاجة، وأصبحت عبرة، وأصبحت مذهولة، ربنا ما يورنيش فيكم ردي (تبكي ويبدو التأثر على الاثنين) .
عبده :
ياله بقا يا ست شفيقة مش وقته، البهوات جايين ينبسطوا والا جايين يتعكننوا، ربنا يخلي أهل النظر، إنت برده ست العارفين.
عبد المجيد :
اخرج بره يا ولد مالكش شغل، شايف يا سي مختار بس خلي بالك.
مختار :
أنا مليش جلد أسمع كلامها. آدي آخرة الجمال والفساد.
شفيقة :
يا ريتني لقيت راجل يوكلني لقمة عيش بدقة ويصونني في منزله.
مختار :
كل الناس كانوا يتمنوا رضاك.
شفيقة :
ولكن ما حدش كان عاوز يجوزني، كلهم عاوزين يتمتعوا شوية ويروحوا لحالهم.
عبد المجيد :
يا ريتك لحقت نفسك يا ست شفيقة.
شفيقة :
الشباب شعرة من الجنون، الدنيا فتانة والدهر غدار، طول الواحدة منا ما هي شابة وحلوة ومصيغة تظن أن الحال يدوم كده إلى ما شاء الله؛ الناس تفهم حالتنا قبل إحنا ما نفهمها، يروح شبابنا وجمالنا في نظرهم، واحنا لسه حلوين وصغيرين في نظر أنفسنا، والمراية اللي نطل فيها كل يوم ما توريش الفرق (يخرج مختار نقودا ويمد يده بها إلى شفيقة) .
شفيقة (تبكي) :
اللي مكتوب على الجبين تراه العيون.
مختار :
خدي يا ست شفيقة.
شفيقة :
إحسان ... يادي الفضيحة!
عبد المجيد :
لأ، هدية (يخرج نقودا هو أيضا) .
عبده :
ربنا يخلي البهوات، ادعي لهم بقه يا ست شفيقة (عند ذلك تسمع غوغاء وضحك وكلام بصوت عال) .
عبده :
ست شفيقة، الست خارجة من الحمام، وانت عارفة طبعها لما بتشوفك بيحصل لها كدر (تهم المرأة بالانصراف) .
عبد المجيد :
امشي يا ولد بره. لازم تقابلها دي عاوزاها في شغل ضروري (لنفسه)
هذا هو المنظر الذي أنتظره مقارنة بين الحاضر والمستقبل؛ وجيدة الجميلة الصبية الغنية المرغوب فيها، وشفيقة الذميمة العجوز الفقيرة المهجورة المطرودة.
المنظر السادس (تدخل وجيدة في ثوب جابونير كيمنيو وشعرها مفكوك، فتضحك عاليا عندما ترى الشابين وتجلس ثم تستبين شفيقة التي لا تدنو منها، فتسلم عليها ويبدو انقباض عليها.)
وجيدة :
أهلا وسهلا ست شفيقة، إنت هنا من الصبح لو كنت عارفة كنت خرجت من بدري، شربت القهوة والا لسه؟
شفيقة :
شربت يا ست، ربنا يخليك ويخلي البهوات.
عبد المجيد :
الست شفيقة كانت بتحكي لنا تاريخ حياتها.
مختار (له) :
ما تكدرهاش يا عبد المجيد (لوجيدة)
حضرته ابن عمي.
عبد المجيد (له) :
لا، وهي المسألة فيها كدر؟
وجيدة (لعبد المجيد) :
تشرفنا يا أفندم. لا يعني سمعت تاريخ حياتها وعارفاه وادي حال الدنيا. واد يا عبده.
عبده :
نعم يا ست.
وجيدة :
هات الجزلان من تحت المخدة (يدخل الغرفة) .
شفيقة :
البهوات ربنا يخليهم سبقوك قدموا لي ... هدية.
وجيدة :
طيب وأنا مالي وماللبهوات دي عادة (يعود عبده وتأخذ منه وتخرج نقودا) .
شفيقة :
ربنا ما يقطعلكيش عادة (تعزم على النهوض) .
وجيدة :
ابقي تعالي.
شفيقة (تنهض بحالة محزنة) :
إن شاء الله (تسلم على الجميع وتخرج) .
عبد المجيد :
مسكينة الولية دي منظرها يقطع قلب الجماد. فين النهارده من امبارح دي شفيقة المصرية المشهورة اللي صورها على علب الكبريت، وتقاتل الشبان علشانها، واغتنى من ورائها الخواجات أصحاب قهاوي الرقص، وبنوا من وراها أساطيل، دي موعظة كبرى لأمثالها.
وجيدة :
آدي حال الدنيا، ومع ذلك انت تفتكر حضرتك إن احنا مرتاحين لحالتنا والا راضيين بها؟ ولكن ده وعد لازم نستوفاه، وأنا ساعات لما أشوف ست شفيقة اللي كانت هنا أقول في نفسي بكره أبقى كده، وأروح من بيت لبيت وأشحت ولا حدش يسأل علي (تبكي) .
مختار (يطيب خاطرها ويقول لعبد المجيد) :
كده يا أخي، ما قلت لك من الصبح إنها ما تتحملش الانفعالات دي.
وجيدة (تضحك ضحكة عصبية) :
لا ... لا أنا كده تملي بعد الحمام، وعلشان كده أحب أشرب كاس كونياك زي ما قال لي الدكتور ... عبده هات قزازة المارتيل اللي فوق البوريه، وكأس نضيف يمكن كأس الكونياك يفوقني (يعود عبده بالمطلوب تفرغ)
في صحتكم (تشرب) .
مختار :
أنا حاخد كاس واحد أنا كمان، علشان تأثرت قوي.
عبد المجيد :
أيوه انت تلاقي ألف عذر للشرب قبل المغرب.
وجيدة :
بلاش يا مختار، أحسن ابن عمك مش عاوزك تشرب، أنا مشفتوش إلا النهارده، ولكن باين عليه جد.
مختار :
يعني إيه وأنا مش جد؟
وجيدة :
أيوه أيوه طبعا. قصدي إنه ما يحبش يشرب ومش عاوزك كمان تشرب.
مختار (يشرب) :
ده ابن عمي مش عاوزني أعمل حاجات كتير.
وجيدة :
أظن مش عاوزك تعتب البيت ده، عنده حق، أنا قربت أحبك، ومين عارف يجرى إيه بعدين يا هل ترى تجوزني.
مختار :
ليه لأ؟
عبد المجيد (لنفسه) :
الله الله المسألة وصلت لحد كده!
وجيدة :
ما تبصش لحالتي هنا، أنا أصلي طيب، أنا أبويا الحاج حسن الجزايرلي على سن ورمح، اللي كان تاجر مشهور في إسكندرية وفلس، ولما فلس همومه كترت، فاتعلم الشرب علشان يسكن حزنه، وكانت والدتي تقول له ربنا بكره يصلح أحوالنا، وحافظ أنت بس على صحتك، والحكيم كان ينصحه ولكن ما نفعش فيه كلام حد منهم، وفضل يشرب لحد بعيد عنك ما انشل ورقد في الفرش، وبالحق والدتي ما قصرتش في الصرف والعلاج والحكما والأدوية، ولكن كله راح في الهوا. وفضل أبويا راقد في الفرش ثلاث سنين، أنا فاكرة الأودة والسرير اللي كان نايم فيه، وشايفاه أصفر ونحيل دلوقت كأنه قدامي، وفي إيده كتاب ولما يحس إن حد دخل الأودة يرفع نظره بشويش ثم يحقق في وش الداخل وبعدين يرجع تاني زي ما كان مذهول وساكت، وكان وجهه جميل وله دقن بيضة، ويظهر إن عقله ضعف من الشرب والمرض (تشرب كاس كونياك) .
مختار :
القصة دي مؤثرة بلاش دلوقت.
عبد المجيد :
بالعكس دي حكاية مهمة خليها تفتكر أمواتها.
وجيدة :
إنت عاوز تسمع، أنا أحكي لك انت، وخلي مختار يغير.
مختار :
لا أنا عاوز أسمع أنا كمان، بس انت بتتأثري يا حبيبتي.
وجيدة :
طيب اسمعوا انتو الاثنين ... لما طال المرض على والدي وقطعنا الرجا من شفاه، والدتي الأخرى خست واصفرت، وكان لي أخت أكبر مني، بقت تخرج تتفسح واستضعفت والدنا لما شافته مريض ما يقومش وتقريبا ما يفهمش، ووجدت نفسها حرة تفعل ما تريد. وكانت اتجوزت قبل ما يرقد وجوزها مات وورثت فيه قرشين واشترت عربية وعاشت واحدة ست صبية وغنية وعازبة ومش مخلفة، وفي يوم من الأيام جابت لنا في البيت جدع اسمه إبراهيم، حليوة وعياقة، وقالت إنه خطيبها وأخيرا اتجوزها فعلا، ولكن يظهر إن الزواج طفى نار الحب فمصمصها من القرشين اللي ورثتهم من زوجها، وتركتنا احنا ووالدها في غاية الاحتياج، وكانت والدتي نفسها عزيزة، وكان عمري سبعتاشر سنة وكان جوز أختي الجديد تملي يعاكسني ويقدم لي هدايا في السر، وفضل يغويني ويضحك على عقلي إلى أن وصل لغايته ... وفي يوم فاجأتنا أختي وعملت فيه اللي ما يعمل وطلبت أن يطلقها فهددها فعلا بالطلاق، فخافت وانتهت المسألة بالصلح على شرط انهم يسيبونا ويعزلوا، كل ده حصل ووالدنا المسكين راقد في الغرفة ولا يدري اللي جرى في منزله، أخيرا ما طولش عليكم مات والدي وضاقت الدنيا بنا، فجيت أنا ووالدتي على مصر فالخواجة أنطون صاحب الألدرادو فرح بي وعلمني الغنا، وتوتة توتة فرغت الحدوتة (وتضحك ضحكة عصبية كأنها بكاء) .
عبد المجيد :
طيب عاوزة تجوزي مختار إزاي بعد ده كله؟
وجيدة :
أنا بضحك، يعني هو يرضى، كان أولى الجدع اللي عرفني وأنا بكر، ومع ذلك مين يعرف يمكن واحدة مثلي تصون نفسها وتعرف نعمة الزواج أكتر من ألف واحدة ثانية.
مختار :
أنا أتمنى أجوزك بس لو يرضى العذول.
وجيدة :
دخلنا بقي في الهزار. أنا ما عمريش حكيت تاريخي لحد غيركم، يعني ما فيش واحدة مننا راضية بحالتها، ولا حد منا عايش في الهم ده بكيفه.
المنظر السابع (يدخل عبده)
عبده :
يا ست، الخواجة أنطون مشيع الشيخ بحر.
وجيدة :
قوله مش نازله الشغل الليلة، علشان تعبانة قوي وأهو الحكيم قاعد عندي (لعبد المجيد)
اعمل انت حكيم لما اخبي الكونياك (تخبيه) .
عبد المجيد :
يعمل مختار أحسن (يخرج عبده ثم يعود ومعه الشيخ بحر، وهو شخص ستري أو مطيب وهيأته مضحكة نوعا) .
الشيخ بحر :
أسعد الله التماسي على أسيادي البهوات، طول الليل وأنا بقاسي من فراق الأحبة.
وجيدة :
جتك إيه يا شيخ بحر (تضحك) .
بحر :
جتني بوسة من اليد الطرية (تعطيه يدها)
ثم بعد ذلك الخواجة الهالك يسأل مكارم الست أن تتفضل على التخت؛ لأن الناس في الانتظار، ولو قعدوا لحد ما يشقشق النهار!
وجيدة :
أنا عيانة، سلم على الخواجة، وقول له واديك شايف اثنين حكما جنبي.
بحر :
أنا العليل وانت الطبيب، واللي جرح عنده الدوا، طيب يا ست سأبلغ الرسالة لأنطون ابن الغسالة اللي حقه يقفل القهوة ويستعوض الله في ثمن الزجاج، ما دامت وجيدة الأقمار متعكرة المزاج.
وجيدة (تضحك) :
كتر خيرك (تعطيه نقودا) .
بحر :
خيرك علينا عندي للبهوات لادن زي الفل (يخرجه ويفرق)
ثم من بعد ذلك أسعد الله التماسي يا ست الكل.
وجيدة :
يسعد مساك (يخرج)
أما أقوم بقى ألبس هدومي أحسن الليل دخل، مش حتتعشوا عندي؟ أنا أحب أكل الحاتي.
عبد المجيد :
أنا أستأذن.
وجيدة :
جرى إيه؟
مختار :
خليه يروح أحسن مالوش عادة يسهر (يخرج عبد المجيد ووجيدة تقع بين ذراعي مختار) . (ستار)
الفصل الرابع (عيادة طبيب الأمراض الزهرية.)
المنظر الأول (طبيب - مريض أول)
طبيب :
إنني أفحص البول كل يوم، وأجعل العلاج حسب حالة الميكروب قوة وضعفا.
مريض أول :
إنني لا أزال أتألم كثيرا خصوصا إذا تيقظت ليلا وشعرت بحاجة لل...
طبيب :
مفهوم ... مفهوم هذا أمر طبيعي. إننا لا نزال في الدور الثاني للعلاج ومع ذلك ...
مريض :
لو كنت أعلم متى يتم شفائي بالضبط إذن لا أكون رجلا إذا لم أجزل مكافأتك.
طبيب :
ليست المسألة مسألة مكافأة، ولكن للشفاء أدوارا مثل أدوار المرض، ومع ذلك ...
مريض :
مع ذلك ماذا؟
طبيب :
كان يمكنني أن أشفيك في وقت قصير جدا إذا كنت ...
مريض :
أنا مستعد لدفع أي مبلغ ...
طبيب :
دع عنك المبالغ، إنما إذا كنت تحتمل حقنة نترات الفضة فإن العلاج مضمون وسريع. ولكن يوجد كثيرون من المرضى لا يحتملون ألمها.
مريض :
أنا أحتمل أي ألم في الدنيا! هل الألم شديد جدا؟
طبيب :
طبعا لأن المادة كاوية للغاية، ويعقب العلاج بها ضيق في القناة وانتفاخ في بعض الجهات، والتهابات شديدة مؤلمة، ولكن نتيجتها ليست خطرة.
مريض :
أنا مستعد لأن أحتمل أي ألم في الدنيا، ولكن هل هذه الالتهابات مؤلمة جدا؟ جدا بحيث ...
طبيب :
طبعا مؤلمة قد يتعسر عليك التحرك من الفراش بضعة أيام، وقد تتألم إذا انحبس البول كما هو المنتظر في تلك الحالة.
مريض :
إذا لم يكن هناك خطر فأنا مستعد؛ لأنك يا دكتور لا تتصور مقدار الآلام البدنية والمعنوية التي أشكو منها؛ إن الآلام البدنية المتقطعة أتحملها بشيء من الجلد، لأنني تعودتها وأصبحت أعتبرها جزءا من حياتي اليومية التعسة، على ما في هذا الاعتبار من الشقاء والحسرة، ولكن الشيء الذي أصبحت لا أحتمله هو الآلام المعنوية.
طبيب :
مفهوم ... مفهوم (يظهر علامات ضجر) .
مريض :
تصور يا حضرة الدكتور، إنني إذا مشيت في الطريق أشعر كأن كل الناس تعرف حقيقة مرضي، وإذا حدق بي أحد المارة أطأطئ رأسي حالا، وأقول في نفسي هذا طبيب قد اكتشفني وهو يحتقرني لأني مريض، وإذا صدرت من أحد الناس إهانة لي اضطررت لمعانقته خشية أن يعيرني بمرضي، مع أنه قد يكون أجنبيا عني ولم يقع عليه نظري قبل ذلك الوقت.
طبيب :
مفهوم ... مفهوم (بضجر) .
مريض :
وخصوصا إذا رأيت امرأة كائنة من كانت، فإن الغضب حينئذ يملك نفسي ويخيل إلي أنها جديرة بانتقامي؛ لأنها تمثل جميع بنات جنسها، بما فيهن تلك التي سببت لي تلك الآلام. ومع ذلك فإنني كنت أحبها ولا أزال أحبها إلى الآن ولكنني أخاف أن أدنو منها لئلا ...
طبيب :
مفهوم ... مفهوم، أرجو أن تخبرني إذا كنت صممت على استعمال العلاج الشديد الذي تكلمنا عنه، وهو يضمن لك الشفاء السريع مع بعض الألم بدون خطر، أم تفضل أن تستمر على العلاج العادي.
مريض :
أنا مستعد لاحتمال أشد الآلام ما دام ليس هناك خطر، ولكن الانتفاخات والالتهابات وانحباس البول، ألا يمكن أن ينتهي هذا العلاج بالموت ... لأن الست والدتي ...
طبيب :
كلا إنه ينتهي دائما بالشفاء، إلا إذا استجدت مضاعفات.
مريض :
مضاعفات! غير الانتفاخ والالتهاب؟
طبيب :
كل علاج عرضة للمضاعفات، ولا يستطيع أي طبيب أن يتقيها، ولكنه يحسب حسابها ويعالجها.
مريض :
كل هذه المصائب والأخطار مقابل لذة دامت أقل من بضع ثوان. تصور يا حضرة الدكتور كيف كانت حالتي، والعياذ بالله، لو أصابتني قرحة من المرض الذي لا أريد أن ... يا لطيف! إذن كانت الست والدتي ... ومع ذلك أنا لم يحصل لي مثل هذا الشيء في فرنسا، فقد كنت أتعلم الفنون الجميلة في مونبليه وتولوز، وكنت طبعا كما لا يخفى على فطنتك ...
طبيب :
مفهوم ... مفهوم (يتحرك نحو الباب)
أظن أن الأفضل أن تستمر على العلاج العادي؛ فإن حالة أعصابك على ما يظهر لا تسمح بالطريقة الأخرى. إلى غد في مثل هذه الساعة.
مريض :
أنا مستعد لاحتمال أشد الآلام ... لأن الست و...
طبيب (يفتح الباب) :
مع السلامة (يخرج) .
المنظر الثاني (تمرجي صامت - طبيب - شاب)
طبيب (يدق جرسا فيظهر التمرجي بالباب) :
غيره بالدور (يختفي التمرجي)، (لنفسه)
هذا المريض حمى ولكنه معذور (يدخل شاب لطيف الهيأة)
تفضل يا أفندم، اجلس هنا.
الشاب :
عفوا يا دكتور أنا أسمع باسمك؛ لأن شهرتك واسعة جدا.
طبيب :
إن شاء الله أستطيع أن أؤدي لحضرتك الخدمة اللازمة.
الشاب :
المسألة بسيطة ولكن يهمني جدا ...
طبيب :
مفهوم ... مفهوم.
الشاب :
مسألة دقيقة للغاية. ولكن لا داعي للخجل ...
طبيب :
طبعا ... تفضل دعني أفحصك أولا!
الشاب :
دعني أتكلم أولا ... منذ بضعة أيام شعرت بحكة في ... وخصوصا في جانبي الصماخ، ثم شعرت كأن هناك شيئا يؤلمني من الداخل، فوجه هذا نظري إلى ذلك المحل مرارا عديدة في وقت قصير، ثم وجدت أن البول صار متكررا، وبعد ذلك بيومين أو ثلاثة حصل التهاب وانتفاخ، ثم صرت أرى سائلا كريها، ثم شعرت باحتراق في البول وكنت إذا حدث ليلا ...
طبيب :
مفهوم ... مفهوم الحالة معلومة لدينا، اسمح لي ...
الشاب :
من فضلك كلمتين؛ فإنه حصل عندي تعقيد في المحل وألم في المثانة.
طبيب :
ألم تشعر بشيء من البرد والحمى ...؟
الشاب :
نعم شعرت أمس بالحمى وبضعف عام وانحطاط في سائر أعضاء البدن، وبالي في غاية الاضطراب والقلق، وهذا سبب حضوري.
طبيب :
المسألة بسيطة لا تستدعي الاضطراب ... ويوجد في البلد عشرات الآلاف مصابون بهذه الحالة شبانا وكهولا ... ونساء.
الشاب :
عشرات الآلاف! إنني أظن نفسي أنا الوحيد. عندما أسير في الطريق أشعر ...
طبيب :
مفهوم ... مفهوم بأن الناس تحتقر جنابك وأنهم يعلمون حقيقة علتك.
الشاب :
تمام يا دكتور، كأنك مريض مثلي.
طبيب (يتبسم) :
هذه أعراض معلومة لدينا.
الشاب :
أريد أن أخلص من هذا الداء مهما كلفني ذلك ... لأنني موظف بالحكومة ولا أستطيع أن أعانيه أكثر مما عانيت.
طبيب :
ألم تعالج نفسك بشيء؟
الشاب (يخرج من جيبه زجاجة وحقنة) :
أرشدني أحد أصدقائي إلى صيدلي ماهر فأعطاني هذا العلاج، فاستعملته ولكنه زادني ألما واضطرابا، ناهيك بما يصيبني من الخوف لإخفاء هذه (العدة)
في البيت وفي الديوان.
طبيب :
لقد أخطأت في استعماله ومع ذلك فأحسن ما يعمل الآن هو فحص السائل بالميكروسكوب للتأكد من وجود الجونوكوكس نبسر.
الشاب :
أين يوجد هذا؟
طبيب :
جونوكوكس اسم الميكروب ونبسر هو العالم الذي اكتشفه.
الشاب :
فهمت.
طبيب :
فأفضل ما يمكن عمله الآن هو فحص السائل وترك العلاج بالحقن، والالتجاء لبعض الجرع التي تقلل الالتهاب وتخفف حموضة البول، وبعد ذلك ببضعة أيام إذا تأكدنا من وجود الميكروب نقاومه بالحقن اللازمة. وفي الوقت نفسه ينبغي لك أن ترتاح راحة تامة وتقلل من المشي والحركة العنيفة، وأن تحتمي على قدر الطاقة. تفضل خلف هذه الستار واترك في آنية عندك أثرا من ذلك السائل (يتوارى الشاب ويأخذ الطبيب يكتب في دفتر أمامه ثم يدخل إلى حيث الشاب ليفحصه) .
المنظر الثالث (مريض أول - تمرجي) (يدخل مريض أول وخلفه التمرجي.)
مريض أول :
فقط أريد مخاطبة الدكتور في كلمة لأنني نسيت أسأله عن نظام الأكل ؛ لأن الست والدتي ...
تمرجي :
يا أفندي من فضلك ممنوع الدخول في غير دورك هنا محل أسرار.
مريض أول :
طبعا طبعا كلنا نعرف ذلك، ولكن الست والدتي كانت قالت لي ...
تمرجي :
يا سيدي تخرب بيتي إذا كان حضرة الدكتور يراك في محل العيادة وهو مشغول مع مريض آخر.
مريض أول :
طيب ها أنا خارج، ولكن خذ لي إذن بالمقابلة قبل المريض الآتي ... ومع ذلك نظام الأكل أجعله مثل أيام مونبليه ... أحسن فكرة لأن الست والدتي ... (تمرجي يسحبه بلطف فيخرج ثم يخرج المريض من وراء الستار وخلفه الطبيب ويكتب الطبيب ورقة.)
المنظر الرابع (شاب - طبيب)
شاب :
كم تريد يا دكتور؟
طبيب :
نتفق على أتعاب المعالجة فيما بعد، اسم حضرتك؟
شاب :
عنايت حسني، وموظف بقلم الضرائب، عمري ثلاثون سنة وغير متزوج، وقاطن بحارة مغن بشارع الشيخ داود قسم السيدة (الطبيب يدون في دفتر) .
طبيب :
تشرفنا، تفضل بالمرور بعد ثلاثة أيام، واستعمل هذا الدواء من اليوم (يعطيه تذكرة)
وامتنع عن أكل اللحوم الحمراء والمواد المهيجة والحريفة وعن شرب المنبهات، وابتعد عن السهر على قدر الطاقة.
شاب :
متشكر يا دكتور.
طبيب :
اغسل يديك، وإياك أن تلمس عينيك أو فمك أو أنفك، أو عيني أحد في المنزل أو فمه أو أنفه عقب فحصك؛ فإن الميكروب إذا كان موجودا ينتقل ويسبب عدوى مؤلمة لمن يصيبه في تلك الأماكن.
شاب :
كثيرا ما فعلت ذلك، فما العمل؟
طبيب :
احترس من الآن واغسل يديك دائما بليزول أو ما يقوم مقامه من المطهرات، واغسل عينيك وفمك دائما بمحلول البوريك، ولا تخالط أحدا خصوصا السيدات والأطفال.
شاب :
متشكر يا دكتور.
المنظر الخامس (طبيب - عبد المجيد - مختار)
طبيب :
أهلا وسهلا (يصافحهما)
إنني لم أركما من زمن طويل. من ليلة تعرفي بحضرته (مشيرا إلى مختار)
في محل اللعب.
مختار :
صحيح.
طبيب :
الأيام تجري بسرعة أكثر من ستة شهور الآن.
عبد المجيد :
تقريبا.
طبيب :
إن حضرته مشغول بالحياة العالية والتمتع والسهر فأنا أعذره إذا لم يجدد مودتنا، ولكن أي عذر لك أنت؟ أنت طليق لا يشغلك شيء من ملاذ هذه الحياة.
عبد المجيد :
إن ملاذ الحياة لا تشغل، ولكن همومها هي التي تشغل، ومع ذلك فإننا لا نريد أن نضيع وقتك الثمين؛ لأن عندك في غرفة الانتظار عدد عظيم من الزائرين، كان الله في عونك.
طبيب :
هل رأيتهم؟ إن منظر المرضى غير مبهج، خصوصا هذا النوع من المرضى، لعل ابن عمك لم يتكدر. لو علمت بمقدمكما لاستقبلتكما في مكتبي هل تودان الانتظار قليلا ريثما أفرغ من العيادة ثم ننصرف معا؟ نصف ساعة على الأكثر.
عبد المجيد :
هذا غير ممكن.
طبيب :
لماذا؟
عبد المجيد :
لأننا زائران في استشارة طبية.
طبيب (بدهشة) :
ما هي؟
عبد المجيد :
إن ابن عمي مختار بك ...
طبيب :
آه ... من أي شيء يشكو؟
عبد المجيد :
هو يظن أنه لم يسمع نصيحتك في تلك الليلة الأولى، فعاقبته نجمة الصباح بأكثر مما يستحق، ولكن هل أتكلم مكانه إنه شديد الخجل، وكان يريد زيارة طبيب آخر خجلا منك.
طبيب :
اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش. ومع ذلك ليس في الأمراض ما يدعو للخجل، الأفضل أن يتكلم مختار بك (متلطفا بابتسام)
إننا كلنا شبان وأصدقاء، وما يحصل له اليوم حصل لنا بالأمس أو سيحصل لنا غدا.
مختار :
إن لطفك يا دكتور ذهب بكثير من الوحشة التي كانت تقتل نفسي، ولكن شعوري بما جنيت يكاد يقضي علي القضاء الأخير.
طبيب :
ما هذه المبالغات؟
عبد المجيد :
إن ابن عمي يظن أن صديقته أساءت مكافأته.
طبيب :
إن الأمراض التي أعالجها ربما كانت مخيفة في الأجيال الوسطى، ولكنها صارت الآن أمراضا عادية، فلا يخشاها الناس لا لأنها تغيرت أو تحولت، بل لأننا صرنا على يقين من أمرها، وصارت محاربتها من أهون الأمور علينا.
مختار :
إن صدق ظني فقد يكون مرضي شر الأمراض.
طبيب :
قد لا يصدق ظنك وقد تكون متوهما، لأن تشخيص هذه الأمراض من أصعب الأمور على الطبيب الاختصاصي نفسه، فما بالك بالشخص الذي يظن نفسه مريضا.
عبد المجيد :
لقد قلت له قد يكون مخطئا، فلم أتمكن من تهدئة خاطره ، ويقول إنه يشعر شعورا باطنيا.
طبيب :
إن هذه الأمراض وخصوصا أخطرها لا يوجد بغتة ولا يظهر بدون إنذار، وكثيرا ما يزورني شبان متوهمون بأنهم مصابون ويقصون علي من أخبارهم أشكالا وألوانا، وكل قصصهم أوهام تولدت فيهم من خوفهم أو من كلام طبيب لا ضمير له.
عبد المجيد :
أظن الدكتور يعرف حالا بمجرد ...
مختار :
ولكن قل لي يا دكتور على فرض صحة ظني، فهل هناك أمل في الشفاء؟
طبيب :
كيف لا ... طبعا إن أفضل واسطة هي صيانة النفس عن الإصابة، ولكن إذا كان الأمر قد وقع فالعلاج موجود، حقيقة توجد بعض الحالات الخبيثة التي تحدث إذا كان المصاب بكرا.
عبد المجيد :
أظن أحسن شيء هو الفحص.
طبيب :
إذا تفضل مختار بك.
مختار (لنفسه مضطربا) :
إنني أريد أن أرجئ هذه اللحظة على قدر ما أستطيع، ليتني زرت طبيبا آخر يكاد الخوف يقتلني والخجل يقضي علي.
عبد المجيد :
لا تتردد يا مختار، الأمر أهون مما تظن، إن الدكتور صديقنا.
طبيب :
تفضل واذكر لي شيئا عن حالتك باختصار، ثم اسمح لي بفحصك.
مختار :
إنني منذ بضعة أسابيع أشعر بضعف وانحطاط في قواي البدنية، وكل من يعرفني يقول لي إنني أصفر اللون، وأنا أحسب الاصفرار من كثرة السهر، ولكنني أشعر أيضا بكآبة دائمة، ولا لذة لي في نوم ولا طعام وتعاودني حمى خفيفة ويسرع نبضي في بعض الأحيان.
طبيب :
هل تشعر بأوجاع في بعض أعضاء بدنك؟
مختار :
في عامة جسمي وخاصة في الليل، فإنه يتملكني صداع قتال، وأشعر بأوجاع عصبية بين الأضلاع وفي الظهر والساقين، كأنني أشعر بقدوم نجار يدق عظمي ومنشار ينشر أعصابي.
طبيب :
هل تنام؟
مختار :
نادرا ... انظر إن كل من يراني يلفت نظري لهالتين ... الهالتين الزرقاوين تحت العينين أظنهما من الأرق، وفوق ذلك أشعر بألم شديد في العين وخصوصا ليلا، وأخاف الضوء وتفرز عيني دموعا غزيرة جدا.
طبيب :
شيء غريب! هل تذكر أنك شاهدت أثرا؟
مختار :
منذ أسابيع قبل حدوث الحالة التي وصفتها لك، أظن أنني رأيت أثرا صغيرا مستديرا، ولكنني لم أعلق عليه أهمية؛ لأنه لم يكن يؤلمني ولم يزعجني، ثم زال تماما.
طبيب :
هل تذكر أن هذا الأثر كان قاسيا كالغضروف أو لينا رخوا.
مختار :
لم ألاحظ قسوة الأثر، ولكنني أذكر جيدا أنه كان مستديرا كفلقة الحمص، ولم يكن سطحه غائرا، بل ناعما لماعا؛ وهذا الذي صرف ذهني عنه وجعلني أظنه التهابا بسيطا، وقد سألت الإنسان الذي ذكره ابن عمي عبد المجيد فأكد لي مقسما بأنه سليم من سائر العاهات البدنية، ولم أتعود منه الكذب.
طبيب :
إن وصفك دقيق جدا يا مختار بك، وأرجو أن لا ينطبق التشخيص على هذا الوصف، أما الإنسان الذي ذكرته فيندر أن يصدق هو وأمثاله في مثل هذه الأحوال، وقد يكون كل هذا وهما أو أثرا من كتاب قرأته أو تشخيص طبي سمعته، وهو باق في ذهنك بغير انتباهك. هل شعرت بتورم في الغدد اللمفاوية في جزء من أجزاء بدنك؟
مختار :
لا أعرف ما هي الغدد اللمفاوية.
طبيب :
الحق بيدك. هل تذكر أنك لمست عنقك وتحت أبطك وطي كوعك، فوجدت أشياء متجمدة مثل البندق تحت أصابعك؟
مختار :
لا أتذكر (يلمس نفسه)
قد يكون.
طبيب :
تفضل خلف هذه الستار (ينهض وينظر إلى عبد المجيد ويتبادلان التأثر) .
عبد المجيد :
تشجع الأمر أهون مما تظن. إن العلم الحديث لم يترك للأمراض سلطانا على الإنسان (يخرج مختار) .
المنظر السادس
عبد المجيد :
ما رأيك يا دكتور حافظ؟
طبيب :
إن بعض المرضى يشخصون أدواءهم أفضل من تشخيص الطبيب، وهذا المسكين منهم.
عبد المجيد :
أمريض هو؟
طبيب :
لا أستطيع أن أجزم، ولكنه أرجح ذلك جدا، ألا يزال في صحبة تلك المرأة التي كان لا يبرح دارها، ثم حصل بينهما شقاق لخيانتها ففارقها، ثم ظهر المرض فقابلها ثم افترقا فراقا حقيقيا منذ شهرين؛ إذن هي سبب هلاكه إذا كان مريضا، إن الأجسام التي كجسم ابن عمك تذبل وتذوب بسرعة من تأثير هذا المرض؛ ألا تراه نحيلا ذاويا. إذا كان في جسمه أثر من النفاط الأحمر فقل عليه السلام.
عبد المجيد :
اعمل جهدك .
طبيب (ناهضا) :
هل أنا محتاج لتوصيتك؟!
عبد المجيد :
هذا أشأم ما حدث لهذا الفتى المسكين، يا ويل أخته وأمه المسكينتين! إن من يقع في أحبولة هذا الداء لا ينجو. دكتور! ...
طبيب (ملتفتا) :
خيرا؟
عبد المجيد :
أرجو أن لا تقفه على الحقيقة إذا كان مريضا.
طبيب :
لا أستطيع ... لا بد أن يعلم كل شيء، لا أقدر أن أخفي عنه من أمره شيئا إذا كان السفلس يخفى عن المصاب به فأي الأمراض إذن يعلم أمره؟! اطلب مني كل شيء إلا هذا؛ لأنه منذ وطئت قدماه عيادتي فقد أسلم نفسه لي، وأصبحت عنه مسئولا أمام ضميري وأمام العلم.
عبد المجيد :
إنني أخشى عليه إذا علم الحقيقة.
طبيب :
ليس اللوم علينا ولا عليه، ولكن اللوم على التربية الناقصة، إن العلم الحديث يدعو أولياء الأمور أن يعلموا كل راشد من أولادهم كل ما يتعلق بوظائف الأعضاء. إن نصف مصائب البشر راجع إلى الجهل والخجل والحياء الكاذب. هذبوا العقول ... علموا الحقائق ... اتركوا التهويل والإيهام ... قولوا بالشيء لمجرد اعتقادكم بصحته.
عبد المجيد :
الحق بيدك، ولكنني أؤكد لك أنه إذا كان مريضا ووقف على الحقيقة فقد يقتل نفسه، خصوصا وأنه لا يستقر على حال منذ قطعته تلك المرأة، وقد تغيرت أخلاقه تماما، وصار مدمنا وهو لا ينقطع عن الشراب ليلة.
طبيب :
سأحاول جهدي تلطيف حالته.
عبد المجيد :
دعنا نتفق على عبارة تقولها لي إذا كان مريضا، ثم دعني أخاطبه.
طبيب :
فليكن، ولكن اعلم أنه لن يبرح عيادتي دون أن يعلم حقيقة مرضه.
عبد المجيد :
أنا أتولى ذلك في حضرتك. اذكر لي عبارة نتفق عليها.
طبيب :
إذا قلت لك إن الورد أزهر في هذا الأوان.
عبد المجيد :
في أي شهر نحن؟ مايو ... لا بأس.
طبيب :
فاعلم أنه مريض، وإن لم أقل شيئا فلا خوف عليه.
عبد المجيد :
حسن ... اتفقنا (يخرج الطبيب)
لقد أصاب الدكتور ... لا يعقل أن يخرج المريض وهو متوهم أنه سليم. بئست التربية التي لا تنير عقل الشبيبة، لو أن الحكومة عممت العلوم الصحية والأدبية ونشرتها بين الفقراء والأغنياء، ما وقع أمثال مختار في هذا الداء الوبيل، أين الكتب والنشرات التي تعلم الناس ماهية الأمراض وخبثها وسوء عواقبها وطرق مجانبتها والوقاية منها؟ أين صراحة الوالدين في التربية وحسن عناية المجتمع التي تكفل شجاعة المريض وتحثه على عرض نفسه على الطبيب للعلاج؟ ما زلنا وراء المعتقدات الكاذبة حتى ضل معظمنا، لا خير في رجل يستقيم خوفا من عذاب النار، الخير كل الخير في رجل يستقيم لاعتقاده بأن الفساد ضرر على الهيأة البشرية، ولا فضل لامرئ يترفع عن الدنايا لذاتها؛ لأن في ترفعه واجبا نحو بني الإنسان عامة ونحو نفسه خاصة، ترى ماذا تكون نتيجة ذلك الفحص؟ إن قلبي مضطرب ونفسي واهمة، إن نفسي تحدثني أن مختارا مريض ... ها هو الطبيب قادم نحوي. لقد انتهى الفحص (يدخل الطبيب وعليه علامة انقباض بسيط) .
عبد المجيد :
ماذا وجدت؟
طبيب :
الورد أزهر.
عبد المجيد :
أي ورد؟
طبيب :
ألم نتفق؟
عبد المجيد :
أمريض هو ...
طبيب :
ومرضه خبيث. أمر عجيب يندر وجود هذه الحالة، ولكن كلما كان البدن قويا وسليما قبل العدوى كلما كان فتك الداء به ذريعا. إن الميكروب بذار وبدن العليل تربته، وتربة ابن عمك صالحة جدا لنمو ذلك البذار المشئوم.
عبد المجيد :
كيف تركته؟
طبيب :
يلبس ثيابه بين الرجاء والخوف.
عبد المجيد :
هل أخبرته بكل شيء؟
طبيب :
كلا إنما قلت له فقط إنها عدوى بسيطة وتحتاج لعناية شديدة.
عبد المجيد :
والحقيقة؟
طبيب :
مرة ... لأنه مريض في الدرجة الثانية، ولكن لم يظهر على بدنه النفاط الوردي، وقد خففت هياجه لأنني وجدته في غاية الانفعال، بعكس حالته الأولى التي كان عليها هنا!
عبد المجيد :
وهل يطول العلاج؟
طبيب :
إن حالته تدل على أن سير المرض متقلقل متغير، وأعراضه لا ضابط لها، فأعراض الدرجة الثانية بعضها ظاهر ومعظمها كامن، وهذا وجه الخطر؛ لأن سم الداء قد انتشر في عموم البدن بواسطة الأوعية اللمفاوية الدموية والشعرية، ولما تجد لها إلى الآن مخرجا أو مظهرا سوى الحالة النفسية المنزعجة التي رأيتها.
عبد المجيد :
وما العمل؟
طبيب :
نقفه على الحقيقة ملطفة، ثم نبدأ بالعلاج العادي.
عبد المجيد :
وهل حياته في خطر؟
طبيب :
إنه يشكو من التهاب في قزحية العين، وهذا الالتهاب خطر جدا على وظيفة البصر، والذي يخيفني أكثر من كل شيء ضعف صاحبنا؛ فقد يتمكن منه الداء فيصيب جلده وعظام عضلاته وجهازه الهضمي ودورته الدموية وكذلك حالته العصبية، فقد يصاب مجموعه العصبي بعد ذلك بوقت لا ضابط له وتصل الإصابة إلى المخ؛ فتتلف الأنسجة والخلايا وتظهر عليه أعراض أفظع الأمراض العقلية وهو الشلل العام.
عبد المجيد :
يا لهول ما تروي؟ أتحل هذه المصائب كلها بشاب كمختار؟
طبيب :
لقد رأيت من هم أنضر شبابا وأبهى جمالا وأصح بدنا، وقد فعل بهم هذا الداء الوبيل الذي عده القدماء بحق وباء الإنسانية؛ ما تقشعر من هوله الأبدان. إن الطبيعة تسير على قوانين معينة.
عبد المجيد :
إن الطبيعة قاسية ظالمة؛ إذ جعلت لتلك اللذة الطفيفة ذلك العقاب الأليم. إن العقوبة أكبر وأشر من الجريمة أتوسل إليك أن لا تقفه على كل تلك الفظائع.
طبيب :
لا تخف سأخفف عنه ويل المصاب.
مختار (داخلا في غاية الاضطراب) :
لقد وقفت على كل شيء وعرفت هول مصيبتي.
طبيب :
هل كنت تتسمع؟ أخطأت، إن الحديث كان يتناول أحوالا غير حالتك.
عبد المجيد :
هدئ روعك. إن لكل داء دواء.
مختار :
إلا ذلك الداء الذي يفني الجسم ويخطف البصر، ويذهب بالعقل في بضع سنين أو بضعة أشهر.
طبيب :
لقد عالجت مرضى في حالة أشد خطرا من حالتك وشفيتهم.
مختار :
والتهاب القزحية؟
طبيب :
قد يقف الداء عنده بالعلاج السريع الشديد.
مختار :
وإصابة المخ والنخاع؟
طبيب :
قد لا تحدث بتاتا.
مختار :
إن علمك أيها الصديق عظيم، وكرم أخلاقك أعظم.
عبد المجيد :
لنبدأ بالعلاج حالا!
طبيب :
دون شك، المبادرة خير من الإبطاء.
مختار :
أمهلوني ليلة ويوما ريثما أفيق مما أصابني، خذ أيها الطبيب أتعاب عيادتك (يخرج مالا) .
طبيب :
إنني أتقاضى أتعابي بعد الشفاء (يخرج مختار مسرعا وخلفه عبد المجيد في غاية الاضطراب بدون تحية الطبيب) .
المنظر السابع
طبيب (لنفسه) :
ما أشقى حظ الإنسان! لقد خلق ليفنى في خدمة شهوتين شديدتي البأس؛ الجوع والحب، فما زال معظمنا يتفانى في سبيل المال خشية الفقر حتى يغنى، وما زال أكثرنا يجثون أمام الزهرة ويضحون لها بزهرة شبابهم ويحرقون أمام هيكلها الفاتن نضرة الصبى بخورا، أو يسهرون على عبادتها لياليهم المشتعلة ويسودون بذكراها العذبة المعذبة أيامهم المضطربة (يطرق)
أراني في احتياج إلى جرعة من شراب منبه ... (يشرب ثم ينظر في الساعة)
الساعة السابعة (يدق الجرس فيدخل مريض أول) .
المريض :
أفندم أرجو عدم المؤاخذة، أنا مستعد لاحتمال أشد الآلام على شرط أن لا يكون هناك خطر؛ لأنك لا تتصور يا دكتور مقدار آلامي المعنوية.
طبيب (متنبه كمن كان في غيبوبة) :
مفهوم ... مفهوم (يحاول يخرجه من الباب) .
المريض :
مستعد لاحتمال أشد الآلام على شرط ... (ستار)
الفصل الخامس (في حانة إسفنكس بار.)
المنظر الأول (مختار - قدري)
قدري :
وعلى هذا يا أنسي يكون قد تم الاتفاق. جمال الزهر في أكمام الهوى لأن بدائع الريحان تشتم من نسمات ظرفك، ما لي أراك سابحا في عالم آخر غير العالم المادي.
مختار :
إن نفسي حزينة ولا يدخلها السرور.
قدري :
هذا كلام لا يقال يا تمام؛ لأنه بمجرد ظهور بدرك في هذا الأفق فلا بد من أن يشرق، إن المواقف المادية في أكمل المواقف.
مختار :
ولكنك تفضل الخيال على سائر المواقف المادية.
قدري :
لا يا أنسي، إن الخيال فقط وسيلة للوصول للمواقف المادية.
مختار :
لا أفهم بل سمعتك كثيرا تقول إن المواقف المادية توصلنا إلى الخيال.
قدري :
هذا مستحيل يا أنسي فإن هذا الخيال (يخرج قرطاسا به حبوب ويتناول منها)
والخيالات التي أمامنا من قنب وخشخاش وخندريس كلها خيالات توصلنا إلى حقيقة واحدة، وهي الموقف المادي الأكبر وهو المعلوم لديك يا أنسي.
مختار :
ولكن إذا تأملت لوجدت أن الموقف المادي ذاته هو من الخيالات.
قدري :
المواقف تختلف يا تمام! وإرضاء النفس عبارة لو وصفت في الكتب كانت أخت المستحيل في المعنى، ومرادف النجم في البعد، وشبه الكبريت الأحمر في الندورة والقلة، وإن شئت فقل إرضاء النفس كلمة تقال ولا تخال حتى يصاغ من الخاتم خلخال!
مختار :
بالعكس يا صاحبي إن إرضاء النفس سهل، ولكن الصعب إرضاء الجسد.
قدري :
الجسد والروح شيء واحد يا أنسي، فقط اختلاف في الأسماء والحقيقة لا تتغير، والذي يصرف أيامه في الصبابة والغزل على سبيل التجربة غير الذي يضحي بتجاربه على مذبح الصبابة والغزل.
مختار :
وما قولك فيمن لم يتمتع بالصبابة ولم يصل إلى التجارب؟
قدري :
ضاعت عليه الدنيا والآخرة يا أنسي والأفضل له أن يتوفى.
مختار :
وهذه حالتي ورغبتي.
قدري :
تريد أن تموت! حاشا للشباب النضر والكرم الصميم والفضل الفياض. إنك إذا أردت أن تموت فإن ملك الموت يتردد دون أن يقضي لبانتك، ومع ذلك من يدري الموت أقرب لنا من حبل الوريد.
مختار :
إسبيرو هات دور (الجرسون يسمع ويذهب لإجابة الطلب) .
قدري :
إنما أنا الذي أريد أن أموت، ولكنني لا أريد أن أموت قبل أن أحب.
مختار :
إن الحب سهل يا قدري وتستطيع أن تلمسه في كل مكان وزمان، ولكن لا تقع كوقعتي (يحضر الجرسون إسبيرو الخمر) .
قدري :
إنني لا أريد الحب الذي تعنيه، إنما أريد الحب الذي ذاقه أنطنيوس من كليوباترة، لا أريد أن أموت قبل أن أذوق من لذته ما تذوقه ذلك الجبار الذي استهان بالمجد في سبيل قبلة من فم معشوقته.
مختار :
أما أنا فليس لي أن أتطلب شيئا مما تتمنى؛ لأن قلبي قد أغلق بابه وأصبحت لا أشتهي شيئا (يشرب كأسا من الخمر)
لقد كنت يوم شرف الحب قلبي بأول زياراته منذ سنتين ابن ثماني عشرة سنة؛ أي في زهرة العمر، وقد أخذت تنفتح أوراقها لنسيم الصبابة وندى الغرام وفي فجر الشبيبة وقد أخذت تبدو من أفقه شمس الحياة فتنير له ما تقدم وما تأخر من الأيام (يشرب)
وقد أسعدني الدهر بحب تلك المعشوقة الحسناء، فكانت بين ذراعيها أول كلمة همسها فمي من كلمات الهوى، وعلى عنقها الأبيض أول قبلة وضعتها شفتاي من قبلات العاشق الولهان، وفي قلبها أول نقطة سكنها قلبي من نقط غرامه أو نقط دمائه، وفي حبها لي أول مرآة رأيت بها وجه حبي، وتمثل لي خيال قلبي كما أحب أن أتمثله وأراه، ولقد خلت من شدة حبي إياها وفرط هيامي بمحاسنها أنني لا أتأخر عن القران بها راضيا (يشرب خمر ويحقن مورفينا)
وقد بذلت في سبيل هواها كل شيء؛ فقد ماتت والدتي في غيبتي، وتهدم بيت أبي وتخرب (بصوت منخفض)
وأصابني داء من أشد الأدواء، بل هو شرها جميعا على أن حبيبة قلبي ومنتهى آمالي وملاك صبوتي وغرامي كانت تخدعني وتسخر مني؛ فأنكر لذلك قلبي وشعرت كأن جارحة نزلت بصدري وأن وترا رنانا قد انقطع من عود حياتي (يشرب خمرا) .
قدري :
ألم أقل لك يا همام، إنني لا أريد أن أموت قبل أن أتذوق حب الجبابرة للملكات. إن الحب الذي من قبيل حبك خدعة وخيانة، وكل عاشق لمثل محبوبتك إنما هو لعبة وفكاهة، وأنا الذي أتمثل دائما:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن
عليك شجا في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك اللبان فإنها
لغيرك من خلانها ستلين
وإن أقسمت لا تنقض العهد والهوى
فليس لمخضوب البنان يمين
مختار :
ما أشد ندمي على ما فات! وما أقل اكتراثي بما هو آت!
قدري :
أكبر دليل على جهل الإنسان وضعف عقله، ندمه على ما يفوته من متاع الدنيا وحرصه على ما لديه منه وطمعه فيما لم يقع له. لو أنه فرغ من الندم والحرص والطمع وحصر فكره في تأمل حاله برهة فلربما تغير (يشرب) .
مختار :
كيف يتغير الإنسان وأنت تقول إن الإنسان لا يتغير؟
قدري :
فلربما تغير وجه الأرض وتحولت أحوالها. انظر أيها المخلوق (يقف ويخاطب شخصا خياليا)
إلى ما قبلك تر ماضيا طويل المدى لا تدركه العقول (يجلس)
ثم أعد البصر إلى ما بعدك تر مستقبلا طويل اللبس لا يحيط به إلا ذراك، وما حياتك بين هذا الماضي السحيق وذلك المستقبل العميق إلا ثانية لا تكاد لقصرها تدقها ساعة، بل هي بالنسبة للوقت كالنقطة فرض خيالي يقرب الحقيقة للإفهام ، ووهم لا وجود له في الحقيقة (في هذه الأثناء يكون الشاعر مصغيا جيدا لما يدور في هذا المجلس ويتكلم الندمان فيما بينهم همسا) .
مختار :
أنت مبالغ يا قدري في هذه التقديرات، أتظن الماضي بعيدا جدا والمستقبل سحيقا للغاية؟
قدري :
الماضي هو الأزل يا أنسي، والمستقبل هو اللانهاية.
مختار :
ومن يدريك أن المستقبل ليس قريبا جدا، ولكن قبل كل شيء يحسن التفاهم عن حقيقة المستقبل، ألا يمكن أن يكون مستقبلنا قد انتهى؟
قدري :
أي إننا نعيش الآن فيما وراء المستقبل؛ أي في العدم في الفناء.
مختار :
نعم في العدم والفناء.
قدري :
إذن فلنشربن كأسا في صحة العدم (تضرب الأوركسترا أنغاما مارش فنبر
MARCH FUNEBRE ) ... العدم يتكلم يغني ألا تسمع أنغام الغناء؟! (يبدو عليه هياج فيجلس ويخرج دفترا عتيقا، ويأخذ يدون فيه أشياء ويبدو على وجهه اضطراب) .
المنظر الثاني (يدخل عبد المجيد والطبيب فيلتقيان بمختار وجها لوجه، فلما يراهما لا يظهر عليه أقل اهتمام بهما، فيجلسان بجواره ثم يظهر كأنه تنبه فجأة.)
مختار :
أهلا بابن عمي، أنت الذي حضرت ساعات أمي الأخيرة، هل كان موتها مؤثرا؟ ماذا تريدون مني؟ هكذا حصل أمر الله، أنا أعظم الناس مصابا بها كما كانت هي أعظمنا مصابا بأبي، ولكن أنا الذي شربت غصة الاثنين معا، ولا أزال في ريعان الشباب. ولم أذق للحياة طعما بل سأذوق طعم الموت قبل طعم الحياة.
حافظ :
إنك تخطئ كثيرا لو خطر ببالك الأمر الذي نشير إليه من طرف خفي، ما دامت الحياة أمامك فسيحة.
قدري (متنبها بعد الكتابة ويضع دفتره في جيبه) :
أهلا بكم يا سادة، لقد أشرقت أقماركم في هذا الأفق، فحق للحمل أن ينصرف، أنا الحمل ولكن مولدي في زحل ومعبودتي الزهرة.
مختار :
صديقي قدري شاعر فيلسوف فاضل.
قدري :
من كان فاضلا كان مثلي فاضلا عند قسمة الأرزاق (وينهض يأخذ كأسه بكل احتراس ويجلس منفردا) .
المنظر الثالث
عبد المجيد :
الآن يا مختار وقد حدث ما حدث بعد وفاة المرحومة والدتك (كثيرون من الجالسين يصغون إلى الحديث ويبدو عليهم ذلك) .
طبيب :
الأفضل أن ننصرف من هذا المكان أو نرجئ الحديث إلى وقت آخر؛ لأن الحاضرين يسمعون كلامنا.
مختار :
لماذا ننصرف من هذا المكان؟ هذا إسفنكس بار يا جناب الدكتور أشهر محل في مصر يدخله العظماء والكبراء فهذا البرنس وحيد الدين (يشير بيده إلى شخص صامت)
وذلك مدير بنك فيلبار، وهذا حسني بك شاعر الملك وحوله ندماؤه الشيخ مصطفى الجمل صاحب جريدة المخلاة ... على أنني أقول لكم بحرية إن هذا المكان أفضل من غيره، وهذا الوقت هو أفضل الأوقات، فلربما لا يتيسر لنا لقاء آخر.
عبد المجيد :
ألست مقيما في القاهرة؟
مختار :
ربما سافرت.
عبد المجيد :
إلى أين؟
مختار :
سياحة بعيدة يا ابن عمي وسفرة طويلة جدا؛ لأنني أمسيت لا أهتم بأحد ولا أهتم بشيء.
طبيب :
لماذا؟
مختار :
لأنني أصبحت بلا أمل في الحياة، لا أمل في السعادة ولا أمل في حياة الأسرة، ولا أمل في الصحة والشباب.
طبيب :
إنك لا تزال في مقتبل العمر.
مختار :
أنت تعلم نهاية حياتي، وكيف يكون رجل مثلي بعد قليل كائنا بغير فكر ولا إرادة. إنني أشعر من الآن كأن نور العقل ينطفئ شيئا فشيئا. أشعر كأن رأسي علبة فارغة من كل شيء، وأشعر في بعض الأحيان كأنها ممتلئة بأكثر ما تسع من الهواجس والمخاوف، وفي كثير من الأوقات أحاول الهرب من نفسي.
طبيب :
كل هذه حالات تعتريك من الإدمان. لا أخفي عليك، إنك مريض. ولكن لو اعتنيت بنفسك فلا تشعر بشيء مما تصف.
مختار :
هل نسيت الكلام الذي قلته في عيادتك لعبد المجيد، هذا من سنة ونصف.
طبيب :
ولو أنك قضيت السنة ونصف في مداراة الداء ومكافحته، لم تكن الآن لتشكو مما أنت فيه.
مختار :
على أنني يا حضرة الدكتور قد قرأت ... آلام ورتر وأعجبتني خاتمة ورتر المسكين. إنه كان مثلي.
طبيب :
هذا لا دخل له في الطب.
مختار :
قد لا يكون له دخل في طب الأجسام. ولكن له دخلا في طب النفوس. إن النفس المريضة مثل نفسي كالزجاجة التي كسرت. لقد صادفتني الخيبة في كل شيء.
طبيب (لعبد المجيد على انفراد) :
إن ابن عمك مصمم على الانتحار.
عبد المجيد :
إنك ابن عمي لم يصل بك الجهل والكفر إلى هذه الدرجة، ألا تخاف الله ألا تخشى يوم الحساب؟!
مختار :
إنك يا ابن عمي مع سعة علمك واستقامتك لا تزال طفلا في الحياة، إن الشاب الذي أصبح مثلي لا يخاف شيئا؛ لأنه لا يعرف شيئا لقد خبت في كل شيء، في المدارس، وفي الحياة المنزلية، وفي الحب، وفي القمار، حتى الحب خبت فيه.
عبد المجيد :
إن أختك لو علمت بهذا لا شك تموت حزنا عليك وحينئذ ...
مختار :
لا يتم الزواج بينكما. كل من في الوجود يطلب صيدا، وأنا أطلب الخروج من هذا الوجود الذي كثرت فيه الحبائل والشباك.
طبيب :
هدئ روعك واعلم أننا كلنا عرضة للسفر يا مختار بك، وحيث إنك تريد المحادثة هنا وفي هذا الوقت، فعبد المجيد يريد أن يخاطبك في موضوع الخطبة التي تمت بينه وبين شقيقتك المصونة.
مختار :
أنا لست ممانعا في شيء بل أريد لها السعادة.
طبيب :
ولكن السيدة لا تريد أن يتم قرانها بدونك، وأنت لا تزور بيتك وهي لا تريد الخروج من البيت بالرغم من الخراب الذي حل به، ولا يقوى أحد على إقناعها بغير ما تعتقد وتريد، وهي من فرط حزنها مرضت وأصبح على وجهها من آثار السقم والذبول ما لا يخفى على ناظر، وقد يكون من وراء مرضها الموت السريع.
مختار :
الموت السريع! الموت السريع كلمة ما أحلى وقعها في نفسي! وما أجمل رنينها في أذني! لأنها مجمع آمالي ومطمع مآربي. الموت السريع هو يا سيدي الطبيب الخروج من هذا العالم الضيق بآلامه وهمومه وأمراضه وغدره وخداعه إلى ذلك العالم الواسع الرحيب الذي هو الفناء.
طبيب :
اسمع يا مختار بك، إنك متطرف في أحزانك مثل تطرفك في التماس مسراتك. الأفكار السوداء التي تجول في نفسك وليدة ساعتها، ولا تلبث أن تزول وأنا الكفيل بعلاجك وشفائك من جميع أدوائك إذا وثقت بي واعتمدت علي.
مختار :
تعالجني من هذا ؟ أم من هذا؟ أم من ذلك؟ أم من هؤلاء؟ (يشير إلى الخمر وإلى رأسه وإلى علبة مورفين.)
طبيب :
أعالجك منها جميعا ... ولكن الآن تذكر إن احتملت ما أنت فيه فإن أختك لا تحتمله؛ إنك رجل ذقت من الحياة حلوها ومرها، ولكنها عذراء طاهرة بريئة، وقد نكبت في أبيها وأمها، وفي سعادتها المنزلية بفقدك وهي لا شك تفكر في سوء حالتها وتتمنى لنفسها ما تجده في أمثالها الفتيات من لذة الصبابة وسعادة الحب والقران. فماذا يضرك لو تكرمت عليها بهذه السعادة وسررتها بزهو الحب، وسهلت لها إتمام الزواج بخطيبها عبد المجيد، وهذا لا يكلفك شيئا.
مختار (يبكي بصوت مكتم) :
آه ... لقد خسرت كل شيء حتى هذا الأمل الأخير. إنني سأموت قريبا قريبا جدا ولا أجد من يبكي علي، ولأني اقترفت جناية كبرى؛ جناية على نفسي وعليها وخيانة لوالدي ولها.
عبد المجيد :
إذن صحيح ما سمعنا؟
مختار (دون أن يرفع وجهه) :
ماذا سمعت؟
عبد المجيد :
أنك ستزوج أختك من داود بك بدون رضاها؛ لأنك قبضت منه مبلغا ضخما بددته على مائدة القمار وفي حجر البغايا ...
مختار :
صحيح.
عبد المجيد :
الخطبة التي عقدناها في حياة والدتك، هل نسيتها؟
مختار :
نسيتها ونسيت نفسي.
عبد المجيد :
أترضى أن تكون أختك بهية زوجة لذلك الفاجر الذي بلغ أرذل العمر، وبنى بأكثر من ست نساء على ما بلغنا.
مختار :
ولكنه دفع مبلغا ضخما بصفة نشان، وسيدفع مبلغا أضخم.
عبد المجيد :
إذن أختك سلعة تباع وتشترى. ألم أكن أنا سأدفع مهرا.
طبيب (بغيظ) :
يا لها من جناية لا توصف! ولكنها جناية لا تعاقب عليها القوانين.
المنظر الرابع (يدخل داود بك رجل أشيب خليع متصاب وهو الذي كان بالفصل الأول.)
داود :
بنصوار مختار (يرفع مختار نظره ولا يتكلم) .
قدري (عن بعد) :
داود بك، أسعد الله مساءك، كلمة من فضلك (يحاول داود الجلوس مع مختار بصفاقة) .
مختار (لداود) :
كلم قدري (بعد أن ينظر داود لوجه عبد المجيد والطبيب اللذين يبدو عليهما اشمئزاز ينصرف) .
عبد المجيد :
من هذا ستزوجها؟ وتقول لي يا دكتور حافظ إن أملك فيه لم يضع. إذن أنا الذي فقدت كل أمل في الحياة وينبغي لي أن أموت.
طبيب :
تموت! ماذا تقول يا رجل؟ هل الحياة هينة في نظرك إلى هذا الحد؟ أنت أيضا ميال للانتحار، المسألة إذن وراثية.
عبد المجيد :
أية حياة تعني بعد الذي ترى وتسمع؟!
مختار :
جناية كبرى وخيانة عظمى.
عبد المجيد :
هل وكلتك أختك عنها لتبيعها لهذا؟
قدري :
انظروا إلى هذا الوغد ... السافل المنحط (مشيرا إلى داود) .
طبيب :
هيا بنا فإنهم يتشاجرون.
عبد المجيد :
هيا بنا مختار! قم معنا.
مختار :
انتظراني بالباب قريبا (يخرجان متأثرين ويستمر قدري في المشاجرة) .
قدري :
يظن أنني أقترض منه نقودا فيعلنني سلفا بأنه «بطل التسليف» إنه كف عن الاقتراض بالفوايظ الفاحشة بعد ظهور القانون الجديد. يا مرابي! يا شيخ متصابي!
المنظر الخامس
داود :
جارسون إسبيرو، ارميه بره (جرسون ينظر صامتا) .
نديم :
هذا لا يليق إن الكمال لا يقتضي. إننا كلنا إخوة على بساط المساواة الأنيق الجاري على الشر ندمان مهما تكن الحال لا يصح جرح إحساس رجل أديب.
داود :
عندك حق، ولكنه مفلوك ولحوح.
نديم :
إن الفلاكة ليست عارا، ولكن العار هو النصب واقتناء الثروة الطائلة من الطرق الدنيئة.
داود :
إنك تعرض بي.
نديم :
ما تطولش لأن صدري ضيق وأنا حافظك تمام.
داود :
إسبيرو ارمي ده بره (ينظر الجرسون صامتا) .
نديم :
تعالى يا سي قدري عند سعادة البيك.
قدري (للشاعر الصامت) :
هذا ذنبي لأنني رأيت بدرك في هذا الأفق ولم أجالسك. رزأني الله بهذا المذنب.
نديم :
إنه أفظع من كوكب مذنب.
قدري :
مع الفارق.
نديم :
وما هو؟
قدري :
الكوكب المذنب ينذر بالدمار وينير الأفق، ولكن هذا ينذر بالدمار من غير نور (ضحك شديد) .
المنظر السادس
نصرت (لداود) :
كل الناس تكرهك شايف!
داود :
ومن تكون أنت أيضا؟
نصرت :
الآن تنكرني ولا تتذكرني.
داود :
أمر غريب.
نصرت :
ليس أغرب من السندات والصكوك المزورة التي استغويتني حتى حصلت على توقيعي عليها.
داود :
لاحظ يا أفندي إن كلامك يعرضك لعقاب القانون، هذا يعد قذفا وخدشا بالشرف يقلل من قدري في نظر أبناء وطني.
قدري :
إحم.
شاكر :
إحم إحم.
نصرت :
لأنك يا حبيبي تحب دائما التقليل من ثروة أبناء وطنك لحساب خزانتك العامرة.
داود :
ولكن يا أفندي هل خاطبتك الليلة؟
نصرت :
لا ولكنه تار قديم. كل صغير يكبر وكل مجنون يعقل.
المنظر السابع
شاكر :
أظن سعادة البيك لا يتذكر سعادتك.
داود :
أرجوك يا سي شاكر أن تتركني.
شاكر :
فقط أذكرك أنك تقول إنك أحسن صديق للمرحوم والد سعادته.
نصرت :
هذا يكون من شقائي.
داود :
أبدا والله، ما أعرفه ولا رأيت وجهه.
شاكر :
يا داود بك ليلة أول سند في محل اللعب.
داود :
أنت دائما ورائي.
نصرت :
الآن لا تعرفني ولا تعرف والدي.
شاكر :
حاجة في نفس داود قضاها.
داود :
لو استشهدت بجميع الأحاديث والحكم والأمثال من جميع الكتب، لا يمكن أعطيك ولا دانق واحد.
شاكر (لنصرت) :
أنا أشهد معك على كل ما جرى. الحمد لله ستجد شهودا أصحاب ذمة، لا بد من إحالة الدعوى على التحقيق.
نصرت :
أنت الذي عرفتني به.
شاكر :
بحسن نية. الواحد منا يأخذ أخاه أو ابنه للسفر فيدهمه القطار، وأنا كذلك قدمتك لهذا الوابور.
نصرت :
بمجرد حصولي على المبلغ في أول هتور.
شاكر :
في استطاعتي أن أجد لك حالا من يقدم لك ما تحب.
نصرت :
تفضل بنا ناخد شيء بسيط (يجلسان) .
المنظر الثامن (يدخل سمطان بحالة عرج وإفلاس.)
سمطان :
هلو! شاكر بك حماتك تحبك، ذي ما بنقول عندنا بالشام.
شاكر :
دا انت اللي حماتك تحبك لأنك داخل علينا اتفضل.
سمطان :
باين عليك كسبان إن شاء الله.
شاكر :
اجتهدت كتير ومع ذلك يا خواجة كل مساعي ذهبت هباء، أنا طلعت عيني في تطبيق حسبتك على الروج ونوار مطلعتش مضبوطة أبدا.
سمطان :
شوف يا حبيبي دي مسألة سستيم. أنا دارس عنها كتير. وأعطيتك واحد كمينزون. يمكن يخل معك وما يخل معي 824 في 9 و825 لازم يطلع ويمكن الشنص بتاعك تجي قبل العدد و5 ولكن نادر والمسألة مع ذلك فيها سر.
شاكر :
سر إيه ما دام المسألة حسبة بسيطة؟
سمطان :
لا كل لعيب منا له لفتة يد ونظرة. حاجة زي ما تقول إلهام في الوقت المناسب أجت الشنص أو ما أجت أدي الكلام. ومع ذلك تقدر تقعد معاي شوية وأنا أعطيك كمنيزون آخر من السستيم نفسه.
شاكر :
تأمر بأي مشروب؟
سمطان :
ما بتحرز وسكي وكوفر الماركات التانية ماتوفقنيش.
شاكر :
هات واحد وسكي وكوفر بالميه.
سمطان :
لا من فضلك بالصودا. من فضلك ورقة وقلم رصاص (يخرجها له وينحني. نصرت وسمطان وشاكر على الطاولة للنظر في الرسومات التي يضعها سمطان ويتكلمون همسا) .
المنظر التاسع
مختار :
عبد المجيد! خرج هو وصديقه الدكتور. ترك الطبيب أعظم مريض بدون معونة.
قدري :
هل ينتقل الحمل في دور السرطان (يحضر إليه) .
مختار :
ما أحلى الحياة لمن يستطيع التمتع بها!
قدري :
أي خير في هذه الحياة الدنيا وعلام تحب وترتمي؟! فيفني المرء في التعلق بأهدابها ما يستطيع وما لا يستطيع من القوى، ويا ليته يبقى بها سعيدا ولو إلى مدى. إنما يمارس فيها الأذى، ويلبس فيها لباس الضنى، ويشرب كأس الحمام مرغما، ثم يسكن الأجداث كغيره ممن مضى.
مختار :
أراك شديد اليأس والنفور من الحياة مثلي، على أنني كنت أحبها ... الحياة فرقت بيننا في المسار وجمعتنا في الشقاء (إلى الساقي)
إسبيرو دور كوكتيل باليبرمنت (يذهب ليعود بالمشروب) .
قدري :
إسبيرو في اسمه معنى الحياة أم معنى الأمل؟ (بصوت منخفض)
إسبيرو ألا ترى لونا للحروف الألف أصفر والسين بنفسجي والباء أحمر قاني والراء أخضر (يحضر إسبيرو بالكوكتيل ويضعه)
الراء أخضر. وهذا العفريت أخضر أيضا ولكنه مسجون في تلك الأقداح، حتى إذا انطلق وأسلم رجليه إلى أفواهنا ورءوسنا أغرب في الرقص والغناء.
مختار :
طبعا إنه عفريت أخضر ذو أجنحة، فلنبادر إذن إلى قص أجنحة هذا الشيطان (يشرب) .
قدري (بعد أن يشرب نصف القدح) :
انظر، عفوا أيها المخلوق الناقص العاجز، إنك لا تستطيع النظر.
مختار :
أنظر إلى أي شيء؟ (بذهول) .
قدري :
أنا لا أخاطبك إنما أخاطب الحظ، ولكنني تذكرت.
مختار :
تذكرت ماذا؟
قدري (يشرب) :
تذكرت أن الحظ كالعدل أعمى .
مختار :
الحظ كالعدل أعمى! حقا الحظ أعمى.
قدري :
فقد يرزق المستغني أقوات أمة ويحرم المحتاج قوت عيلة، وقد ينجو الهجام الأهوج ويهلك الحريص المتأني، وقد ينال الراقد سعي الجد ويجني المجد جزاء الخامد، وقد يفوتنا ما نرجو ويجيئنا القدر بما لا نشتهي.
مختار :
القضاء والقدر والمقدور والمصادفة والحظ والدهر والزمان والأحداث.
قدري :
تلك أسماء متعددة لقوة لا نعلمها، أما الاسم الأهم فهو إسبيرو كوكتيل!
مختار :
لما كان أبي في النزع دخلت عليه ليودعني الوداع الأخير ... كلام ... إن الميت لا يتكلم ولا يعي ... أوهام ... كيف ينصحني وهو في غيبوبة الموت؟!
قدري :
غيبوبة الموت ليست ألذ من التي أنا بها الآن، غير أنني الآن أتكلم والميت لا يتكلم.
مختار :
الغرفة كانت رائحتها لا تطاق من كثرة الأدوية!
قدري :
رائحة الموت (تعزف الموسيقى أنغام محزنة) .
مختار :
ولكن الطبيب الاختصاصي أشار علينا بالمورفين؛ لأنه يقلل الآلام وكانت وجيدة قد حببتني في المورفين لكن ليس بهذه الدرجة.
قدري :
المورفين! لا تذكر حسناته لعدو ولا تكتمها عن حبيب. أعظم دواء لا سيما يا أنسي.
مختار :
هذا ما قاله الطبيب إنه أعظم دواء لداء الحياة. وعلى هذا صممت على تجربته.
قدري :
ولكن لا بد من مقدار كاف. جرام على الأقل.
مختار :
جمعته البركة في بعض أصدقائي من الأطباء وبعض الصيادلة خمسة سنتي في خمسة سنتي.
قدري :
يكون المجموع عشرة سنتي.
مختار :
وهكذا يا حظ (ويخرج الحقنة ويملؤها جيدا) .
قدري :
هل عقدت النية على التجربة الآن؟
مختار (يشرب خمرا ويضحك) :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحد (يحقن نفسه تبدو عليه علامة نشاط)
اضربوا نغمة الوداع (ثم يسقط على الأرض ميتا فيحدث اضطراب ويزدحم الجالسون حول مختار ويحضر صاحب المحل منزعجا) .
المنظر العاشر (يدخل عبد المجيد والطبيب.)
عبد المجيد (يرى الازدحام) :
ماذا جرى؟ ماذا جرى؟
قدري :
لقد خسرنا أظرف شاب.
عبد المجيد :
مختار! ابن عمي أخي ... دكتور انظر ... اعمل جهدك لإفاقته ... الأفضل نقله إلى المنزل لنمرضه.
حافظ (يدنو ويفحص مختارا جيدا وينهض وعليه علامة التأثر ظاهرة) :
انقله إلى المنزل ولكنه لن يفيق.
عبد المجيد :
اعمل جهدك.
حافظ :
إنه جثة لا حراك بها (يبكي عبد المجيد ويأخذ الناس في الانصراف باضطراب ماعدا قدري فإنه يجلس بجواره ويبكي) .
صاحب المحل :
الليلة مسك شرب كتير من كل ليلة، مين يدفع الخساب؟ دي مش كويس يا ناس مش خرام عليكم تموتوا في مخلي وتخسروا الاسم بتاعي. مش عندكم بيت تموتوا فيه، دلوقت مش مختار بك بس اللي مات دي كمان قسطندي مافرو وإسفنكس بار. (ستار)
يقظة الضمير
سنة 1935
الفصل الأول (المنظر في غرفة جلوس في منزل برعي بك والد ملكة بمصر القاهرة.)
المنظر الأول (عبد الحكيم - برعي)
عبد الحكيم :
إني وإن كنت فقيرا ... ولكنني أمت إليك بحبل القرابة ... وأود أن أقوي هذه العلاقة بالنسب ... وليس الفقر عارا يا عمي ... وإن كان في عرف بعض الناس عارا فهو بلا ريب عار طارئ ... ولا يشين الناس إلا المعايب ... وقد قضيت زهرة الشباب في تحصيل العلم ... وعن قريب أنال ما أبغي من المال والشهرة ... وسيكون لي شأن كبير في عالم الطب والمال ... ولن تندموا على مصاهرتي ومساعدتي. وإني أعاهدك على أن أذكر جميلك طول حياتي وأبذل كل جهدي في سعادة ابنتك ملكة هانم التي بلا ريب وعلى ما أظن ...
برعي بك :
مفهوم ... مفهوم يا عبد الحكيم يا بني. أنا لا أنكر أنك شاب مهذب ومجتهد وأنك ستصل حقا بعد قليل إلى ما تحب. وهذا شيء يسرنا بوصف كوننا قرباء ولو قرابة بعيدة، ولكن مسألة النسب يا ولدي مسألة فيها نظر وقد تكون مستحيلة لجملة اعتبارات؛ أولا: المسألة المالية ... صحيح أنني لم أتعلم في المدارس العليا ولكنني رجل عملي. زواجك الآن من ملكة يقتضي صداقا وجهازا وحفلة زفاف ونفقة منزل، فمن يقوم بهذه الميزانية المهولة كلها؟ ثانيا المركز الاجتماعي ولا تؤاخذني، أين عبد الحكيم الطالب بمدرسة الطب ابن المرحوم يوسف أفندي زهدي (بازدراء)
من الآنسة ملكة هانم بنت برعي بك البقلي وحفيدة سعادتلو عبده باشا ناظر خاصة جنتمكان سعيد باشا ؟
عبد الحكيم :
طبعا يا عمي ... يا سعادة البك أعرف كل هذا ولكن ...
برعي :
ثالثا ألا تعرف بلا مؤاخذة أن ملكة هانم بنتي أصبحت من عهد قريب محط أنظار كثيرين من الأعيان الراغبين في مصاهرتي؟ ... وكلهم أغنياء ومشاهير ومكانتهم كمكانتنا في العز والجاه ... وبالطبع نحن أميل إلى مصاهرتهم ...
عبد الحكيم :
ولكن يا عمي، يا سعادة البيك، كل هذه الاعتبارات تافهة.
برعي :
تافهة؟ أشكرك يا بني.
عبد الحكيم :
عفوا أريد أن أقول غير جدية.
برعي :
إذن هي في نظرك اعتبارات هزلية!
عبد الحكيم :
لا سمح الله لا أقصد هذا. إنما أعني أنها تزول أمام كرم أخلاقك وحسن نيتك ورغبتنا الأكيدة في هناء كريمة سعادتك ... فقد يقوم الحب مقام الغني والجاه. ولا تنس تناسب أعمارنا واختلاطنا منذ نعومة أظفارنا وتبادلنا الأفكار والآمال، وتطلعي منذ أدركت قيمة الحياة إلى الاقتران بها لأبذل في سبيل سعادتها كل شيء حتى حياتي ذاتها. ولا تنس يا عمي ...
برعي :
متذكر ... متذكر ... ومتفق معك، ولكني أخالفك في مسألة الحب. هذا كلام تفرنج يا ولدي. والزواج الذي يبنى على الحب قصير الأجل ... وهيهات أن يثمر ثمرة صالحة. أما الزواج الذي يبنى على المصلحة فهو الزواج الحقيقي؛ لأن الحب ذاته عمره قصير. أما المصلحة فحبالها طويلة ... وأنا يا ولدي من أصحاب المصالح الحقيقية، وأحب أن أدافع عنها في كل سبيل من سبل الحياة حتى في الزواج. وفضلا عن ذلك فمن يدريك أن ملكة تحبك؟ وإن كانت تحبك فمن يدريك أنها لن تحب زوجها الذي سأختاره لها؟ وبعد أن تذوق طعم السعادة الزوجية تنساك ولا تعود ذكراك في ذهنها إلا كالحلم البعيد.
عبد الحكيم :
تنساني كالحلم البعيد ...
برعي :
وكذلك أنت تتزوج من غيرها وتنساها ... وهذه حال الدنيا ... المال زينة الحياة ثم البنون يا ولدي.
عبد الحكيم :
يا عمي إن حياتنا ليست سلسلة نسيان كما تظن، وليس المال كل شيء في الحياة ... ارحم شبابنا.
برعي :
ارحم أنت بنتي وماليتي (بصوت منخفض) .
عبد الحكيم :
لم يبق على الامتحان الانتهائي سوى بضعة أشهر ... فأتخرج وأنجح في الجراحة نجاحا عظيما ... وأصير مثل الدكتور ظيفل باشا والدكتور رامز بك.
برعي :
لا يا سيدي! لا يوجد أمامك إلا وظيفة طبيب مركز ... تتنقل من مركز الدر إلى كوم حمادة ومن البداري إلى الصف ... والمرتب معلوم، وفوق هذا وذاك انتقالات الليل وتفتيش المصلحة وتشريح الجثث والأمراض المعدية.
عبد الحكيم :
سأكون بإذن الله طبيب امتياز يا عمي، وأسافر مرسلا للتخصص كما وعدني مدير المدرسة والأساتذة.
برعي :
عليك نور! فضلا عن الأسباب المتقدمة. رابعا (بانتصار)
هل تظن أنني أزوج بنتي ممن ينتظر سفره إلى أوروبا؟ فهل تتركها تترمل في غيبتك قبل انقضاء شهر العسل؟ أو تصطحبها وترسل إلي تستنجد المال بالتلغراف، وتقول: بنتك مريضة وبنتك تطلب مصاريف وبنتك حامل وبنتك ولدت توأمين!
عبد الحكيم :
إن أسوأ افتراض بين الافتراضات التي في فكرك أفضل من القطيعة بيننا يا عمي. فأتوسل إليك!
برعي (ينهض) :
أظن يا عبد الحكيم أفندي يا ابني أن المجلس قد أخذ حقه. والمجلس استوفى من جميع وجوهه، ومع ذلك فإن المسألة لا تحتاج إلى المناقشة (يهم بالقيام) .
عبد الحكيم :
إذن ترفض مصاهرتي وتطردني من مجلسك! هل هذا ما أوصاك به والدي في أيامه الأخيرة؟ ألم تقل له إنك ستكون لي والدا ومعينا ومرشدا وصديقا؟ ألم يخدمك والدي طول حياته في كل ما عاد عليك بالمنفعة، ولم يسألك جزاء ولا شكورا؟
برعي (بضجر) :
متذكر ومتشكر (يتأثر قليلا ويتردد)
الله يرحمه ويحسن إليه الفاتحة إلى روحه (يتمتم باسطا يديه وعبد الحكيم يتمزق غيظا) .
عبد الحكيم :
من رحمة الله أن ترحم أنت شبابنا وحبنا ... ومن الإحسان أن تفي بعهدك لأبي فتكون لي والدا وحما، ولعل هذا الزواج يكون فاتحة خير عميم عليك جزاء برك بوعدك لذلك الصديق المتوفى.
برعي :
ومع ذلك أنا مدين من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. جميع أطياني مرتهنة للبنك العقاري والدين من دأبه ينفر النوم ويورث الأرق ... فضلا عن أنني لم أبع القطن حتى الساعة. حقا إنه عندي ثمانمائة قنطار سكالاريدس وزاجوراه وأشموني، ولكن ما الفائدة إذا لم أبعها فتبقى مختزنة ... لقد عرضوا علي سعرا جيدا. ثمانية وثلاثين ريالا فرفضت، وأنا الآن بين اليأس والرجاء وأخشى أن أكون قد ضيعت الفرصة. ولكن القطن صاعد وأعطيت بيانا وأصدرت أمرا إلى وكيلي طنطاوي أنه إذا عرض عليه سعرا أربعين ريالا فليبع. هذه حقا مجازفة. ولكن لعل في المجازفة بركة ...
عبد الحكيم :
ولكن مشغوليتك يا عمي بالقطن لا تنافي تفكيرك في مستقبلنا نحن الاثنين.
برعي :
سبحان من أودع في كل قلب ما أشغله من الديون والرهن لفرصة بيع القطن بأعلى سعر ممكن إلى التفكير في سعادتك. بالله عليك يا ولدي لا تحرج صدري (يدخل الخادم) .
المنظر الثاني
الخادم :
ساعي التلغراف.
برعي (بلهفة) :
تلغراف.
الخادم :
ها هو (يقدم رسالة البرق) .
برعي (يفضها بلهفة ويقرأ) :
بعنا القطن كأمر سعادتكم بأربعين ريالا. وكيلكم طنطاوي ... (يطوي الرسالة)
باع بأربعين ريالا فقط مع أن القطن في صعود! لعنة الله عليك يا طنطاوي. ومع ذلك أنا الذي أذنت له بذلك. لا بأس (كأنه يحادث نفسه في مناجاة)
ستة آلاف جنيه ... يكاد الثمن يسدد الأقساط فنفيق من الأزمة ولو قليلا. ومع قليل من التدبير وعقد قرض صغير أستطيع أن أشتري الخمسين فدانا التي يملكها منصور أغا بشرنقاش، فإني من زمن طويل أصبو إلى وضع يدي عليها.
عبد الحكيم (بخوف وتردد) :
مبروك يا عمي. أهنئك من صميم فؤادي!
برعي (بغيظ) :
شكرا لك. المسألة لا تحتاج إلى التهنئة. فماذا يكون تسديد القسط وشراء بضعة أفدنة. هل هذا مال؟ هل هذه أطيان؟ لقد مضى وانقضى زمن الكسب والثراء.
عبد الحكيم (في نفسه) :
ما أشد مطامعه!
برعي :
ومع ذلك فإن هذه فرصة انتهزتها وفائدة استحققتها!
عبد الحكيم :
إن شاء الله تدعوك هذه الفرصة للعطف علينا.
برعي :
مؤكد مؤكد ... غير أنني مشغول الآن جدا بهذه الصفقة ... وبلا ريب سأنظر بعد قليل في مسألتك (لنفسه)
لعله يكتفي بهذا الوعد وينصرف.
عبد الحكيم (مستبشرا) :
أحقا ما تقول يا سعادة البك؟ زادك الله خيرا وسرورا.
برعي (بغيظ وتصميم) :
ولكن أنا أقول لك منذ الآن أن تيأس تمام اليأس من إتمام هذا الزواج الذي تتمنى.
الخادم (وهو لم يزل واقفا بخوف) :
ساعي التلغراف يا سعادة البك منتظر على الباب.
برعي (يتغير) :
منتظر! ماذا ينتظر؟ قل له لا يجوز إعطاء مكافأة بأمر الحكومة (يقرأ على الغلاف)
لا يجوز دفع شيء لحامله.
الخادم :
لا يا سعادة البيك. هو ينتظر الإيصال.
برعي :
آه الإيصال. هذا شيء آخر! أين الإيصال؟
الخادم :
مع التلغراف ذاته.
برعي (يجد الإيصال في الغلاف) :
ها هو (يمهره بإمضائه)
قل للساعي يا حبذا كل يوم رسالة كهذه (يخرج الخادم) .
عبد الحكيم (منتهزا فرصة السرور الطارئ) :
طبعا يا عمي الآن تستطيع أن تعطف علينا قليلا، فالبركة في المجازفة كما قلت لنا عند تمام صفقة القطن.
برعي :
ألا تزال تتكلم في الحب والزواج والحب والسعادة؟ هذا عجب عجاب ... لماذا أنا في شبابي لم أعرف شيئا اسمه حب أو عواطف أو سعادة؟ وطول حياتي في الأرض والطين والزرع والتوفير. صدق من قال: من السماد للسداد.
عبد الحكيم :
الدنيا تغيرت والأفكار أيضا تحولت وتبدلت.
برعي :
أستحلفك بالله أن لا تحرج صدري. ومع ذلك سأقول لك شيئا شريطة أن لا تتأثر.
عبد الحكيم :
عفوا يا عماه.
برعي :
أنا لا يحق لي أن أقوله، ولكن الدين النصيحة. مهما يكن علمك ومهارتك فلن يكون لك شأن يذكر.
عبد الحكيم (بدهشة وغيظ) :
لماذا؟ ... لماذا؟
برعي (مبتسما) :
ألم أحذرك من التأثير والانفعال؟!
عبد الحكيم :
طبعا لم أكن أنتظر هذه الصدمة.
برعي :
طيب! طيب! لا لزوم إذن للكلام.
عبد الحكيم :
لا! بعد هذه المقدمة لا بد أن أعرف مقصودك من هذا الكلام الأخير.
برعي :
قصدي يا ولدي أن أقول لك إن كل شيء في بلدنا هذا يحتاج للتوصية والاختلاط بالطبقة العالية، ورحم الله من قال: إذ لولا الوساطة لما كان الموسوط. أفهمت؟ ومن كان يتيما فقيرا فهيهات أن يخترق الصفوف المكتظة بطلاب المراكز والمال والشهرة والمناصب العالية.
عبد الحكيم (يتحمس) :
العلم والذمة يتغلبان على كل شيء.
برعي :
يمكن العلم والذمة يتغلبان على كل شيء بعد عمر طويل، وبعد أن يفني العالم ذا الذمة والاستقامة. ومع ذلك فإذا بلغت المال والشهرة فأنا مستعد لتزويجك من بنتي ملكة هانم وإن كانت تزوجت فأنا كفيل أيضا أن أرغم زوجها على الطلاق.
عبد الحكيم (بصوت منخفض) :
يا لطيف ما هذه الذمة؟ وما هذا الضمير؟!
برعي :
ومع كل هذا، فإنه توجد ألف بنت أفضل وأجمل وأغنى من ملكة، فيمكنك أن تختار من بينهن من تشاء.
عبد الحكيم (بيأس وألم) :
حسن جدا يا عماه والشكر لك.
برعي :
عبد الحكيم! لا مؤاخذة ولا غضب. الدار دارك وملكة أختك، وإذا هيأت لك الأقدار أن تختار عروسا أخرى من أسرة نعرفها فأنا لا أتردد في مساعدتك. فعمتك تخطبها وربما دفعت الصداق الذي أستطيعه، وأقمت لك معالم الأفراح التي تليق بكرامتك.
عبد الحكيم (بذعر) :
أفراح؟ ... أية أفراح؟
برعي :
لا بد من ذهابي إلى البنك قبل إغلاقه، وأريد أن أرسل إلى طنطاوي رسالة برقية. فهو بلا شك ينتظر الرد. أستودعك الله الآن. وكف عن الأماني التي لا فائدة فيها. والتعقل والثبات أولى بك. الزعل مرفوع والزواج ممنوع والرزق على الله (يضحك ويخرج تاركا عبد الحكيم في حيص بيص. يجلس عبد الحكيم مفكرا وحزينا ويسود المسرح سكون عميق، وبعد قليل تسقط أمامه وردة من داخل المسرح فيتناولها وينظر إليها، ثم يرفع بصره بثبات فتدخل ملكة على مهل في ثياب الخروج ومعها زهور وكتب، ثم تدنو منه وتحادثه بتلهف) .
المنظر الثالث
ملكة :
ماذا جرى؟ هل قبل؟ لقد رأيته ذاهبا منذ هنيهة فتقابلت سيارتي بسيارته أمام القصر العيني.
عبد الحكيم :
لقد خاب كل رجاء يا ملكة.
ملكة (بذهول) :
كيف؟! ألم يقبل؟! ألم تستطع إقناعه؟
عبد الحكيم :
لقد عييت في محادثته، ولم أدخر وسعا في استجلاب رضاه.
ملكة :
أنت عبد الحكيم الفطن ... الشجاع الفصيح ... الحلو الحديث لم تقدر على إقناع والدي ... الضعيف الغير متعلم!
عبد الحكيم :
إن ضعفه وجهله - اعذريني - هما سببا عجزي عن بلوغ مأربنا ... بل سبب ضياع أملنا في سعادة الحياة.
ملكة :
عجبا! على أن أبي هذا أطوع لأمي من بنانها ، بل هو لا يعصي لها أمرا ... ولا يخالف رأيها أبدا، لا سيما منذ اشتدت عليها وطأة الداء ... فإنه يخشى على حياتها إن هو خالفها في أمر تريده. إن أمي تحبني وقد تعمل على بلوغ سعادتي. فلنلجأ إليها، ولكن اعلم يا عبد الحكيم أنها هي الملجأ الأخير ... فإن خاب أملنا معها فلا سبيل إلى تحقيق أمانينا.
عبد الحكيم :
وهل تظنين أن أمك توافق على زواجنا؟!
ملكة :
لا أستطيع الجزم بذلك فإنها كوالدي من الطراز القديم، ولكن أملي منوط برقة قلب الأم فهو أبدا أقرب إلى الحنان والشفقة من قلب الوالد. فإن وافقت فلعلها تنجح حيث فشلنا وتقدر على ما عجزنا عن إتمامه.
عبد الحكيم :
هل أنت واثقة من حنانها وشدة عطفها عليك؟ وهل تستطيعين ...؟
ملكة :
ماذا؟ ... تكلم.
عبد الحكيم :
أن تبوحي لها بحقيقة أمرنا إذا اقتضت الحال ذلك!
ملكة (مضطربة) :
هل وصلت بنا الشدة إلى هذا الحد؟ ... أيصبح زواجنا الشرعي رهن الفضيحة والعار؟ (تبكي)
إنني أفضل الموت على ما نحن فيه.
عبد الحكيم :
الموت! ... الموت! ... ونحن في أولى مراحل الحياة!
ملكة :
إذن بماذا تشير علينا للخروج من هذه الورطة؟ ... إن الوقت يأزف ... والخطر يزداد ويتحقق ... ولا أكتمك أنني أفضل استعجال العاصفة على الاستنامة للأماني العذبة ... فما دامت الصاعقة منقضة حتما فالأفضل أن نستعجلها قبل الأوان دون رهبة أو وجل.
عبد الحكيم :
عزيزتي ملكة! ... ملكتي العزيزة! ... أستحلفك بحبنا الطاهر أن لا تزعجيني عليك ... لا تيأسي من رحمة الله.
ملكة :
رحمة الله! ... حبنا الطاهر! ... ما أعذب وقع هذه الألفاظ على أذني في هذا الوقت الحرج! الحب الطاهر (تضحك بتهكم)
كان هذا الوصف صحيحا منذ ثلاثة أشهر؛ أي قبل فصل الربيع الذي أزهر فيه البنفسج.
عبد الحكيم :
نعم نعم حبنا الطاهر. فإن اتصالنا كان وسيلة للاتصال بالروح. التسليم واسطة والحب الحقيقي غاية تبررها. هكذا خلق الإنسان ضعيفا تلهو به الطبيعة وتلعب وتسخره فيما تشاء وهي لا تشاء إلا أمرا واحدا هو أعظم الأشياء وأقدسها. لأجل هذا أريد أن أقف حياتي على تحقيق أمنية الطبيعة فيما حكمت به بينك وبيني، وهذا التحقيق لا يكون إلا بالزواج.
ملكة (مضطربة) :
عبد الحكيم! ... عبد الحكيم ...
عبد الحكيم :
حبيبتي ملكة.
ملكة (تستجمع شجاعتها بجد وقوة) :
اعلم أن هذه الأمنية قد تحققت ... (تجهش بالبكاء وتسقط على الأرض فتنتثر الأزهار والكتب على البساط فيبادر إليها عبد الحكيم فيسندها حتى تستفيق وتجلس) .
عبد الحكيم :
حبيبتي.
ملكة (كمن تتذكر أمرا) :
اسمع يا عبد الحكيم، إنني تركت والدتي عند دكان أكتير تاجر الجواهر بشارع المناخ؛ لأستطيع أن أخلو بك هنا برهة، ولكنها لا تلبث أن تعود، وأنا أريد أن أحادثك في أمر ذي شأن (يزداد اهتمامه)
سأفضي إلى أمي بكل شيء ثم أحادث أبي لأقف منه على حقيقة أفكاره، فإذا علمت أن لا أمل لنا في الزواج سأترك هذا المنزل.
عبد الحكيم :
تتركين هذا المنزل؟! ... ماذا تقولين؟ ... أنت فتاة صغيرة ... تتركين دار أبيك! ... كيف تقدمين على هذا؟
ملكة :
طبعا إنني قادمة على أمر كان خطيرا منذ ثلاثين سنة ... أما الآن فهو من بسائط الأمور ... ولكنني في حالة تحتاج إلى البعد عن الأهل ... لأنني لا أريد أن أقترف جناية ... أفهمت؟
عبد الحكيم (بألم وحسرة) :
نعم فهمت ... واحسرتاه ... ولكن إلى أين تذهبين؟
ملكة :
أذهب إلى مكان معلوم لدي ... لأنه لا يوجد سوى مكان واحد يمكنني أن ألجأ إليه دون أن يعلم مقري أحد.
عبد الحكيم :
حتى أنا؟
ملكة :
سنرى.
عبد الحكيم :
ولكن والدك ... هل يكف عن البحث عنك واستقصاء أخبارك؟
ملكة :
سأكتب إليه خطابا يقطع عليه خط البحث والاستقصاء.
عبد الحكيم :
وأمك المسكينة المريضة التي يكاد يقضي عليها داء القلب المكين ... ألا يصعقها قرارك؟! ألا تخشين على حياتها من شدة الحزن عليك؟
ملكة :
لقد ذكرت أمي وقلبها المريض ... تكاد تقتلني من شدة الوجد عليها ... ولكن إذا كان في قلبها حنان فسوف تساعدنا على الزواج ... فلا تكون ثمة حاجة إلى الفرار.
عبد الحكيم :
ومن أين لك ال...؟
ملكة :
تقصد المال.
عبد الحكيم (يطأطئ الرأس باكيا) :
نعم ...
ملكة :
عندي هذا السوار، وهذه الخواتم ... وفي الحاجة القصوى هذه الحلية المعلقة بتنديف وهي تساوى في مجموعها خمسمائة جنيه ... وقد قدرت ثمنها اليوم ... ولم تدرك أمي مقصدي.
عبد الحكيم :
ليس لي في هذه الخطة مكان ... فكأنك لم تفكري بي.
ملكة :
أجل! أنت أصل هذه الخطة وعلتها وسببها (يسمع نفير سيارة)
إلى اللقاء يا حبيبي، واترك لي الميدان خاليا وها هي والدتي قادمة سأخلو بها (يدنو منها ليقبلها ثم يتراجع ويأخذ يدها ويقبلها، فتلتقط زهرة من الباقة التي انتثر عقدها وتعطيه إياها في صمت، فتنحدر الدموع من عينيها، ويخرج باضطراب فتشيعه ببصرها ثم تتبعه بضع خطوات فيلتفت إليها ولا يتمالك نفسه فيعود إليها فتسرع إليه فيقبلها فترتمي بين ذراعيه، فيخرج مسرعا وتتهالك على مقعد في حزن شديد) .
المنظر الرابع (تدخل الأم في انزعاج يسير.)
الوالدة :
أين كنت يا حبيبتي؟ لقد انشغلت عليك منذ افترقنا لدى تاجر الجواهر بشارع المناخ ... فانتظرتك ربع ساعة عند بائع السجاد ... فقد ظننت أنك تشترين كتبا فرنسية ... فلما طال الوقت ظننت أنك افتقدتني ... فلما لم تجديني عدت إلى الدار بمفردك ... ولو أنني عدت ولم أجدك فلشد ما تكون حيرتي إذا سألني عنك أبوك في غيبتك ... حبيبتي أرجو أن لا يحدث مثل هذا في المستقبل ... فإنني أعهد فيك العقل والحكمة والمحافظة على كرامتنا ... ما بك؟ لماذا لا تجيبين؟ (تتناول يدها فتجدها دافئة)
ما بك؟ ... كأنك كنت في مغطس ماء حار! ... وعينيك أراهما محمرتين! ... ووجهك محتقن! (باضطراب)
ماذا أصابك يا ملكة؟ (تنظر حولها باضطراب)
وهذه الكتب ... والأزهار المنتثرة ... ماذا جرى؟
ملكة :
جرى أنني رأيت الشخص السمين ... الذي ترغبون في زواجي منه في سيارته مع والدي.
الوالدة :
ربما لا يكون هو ... وحتما ليس هو من تقصدين ... لأن مرعشلي بك ليس مفرطا في السمن كما تقولين ... حقا إنه رجل وسط ولكنه متناسب القوام.
ملكة :
لا داعي يا أماه لإخفاء الحقيقة عني ... فإن عيني لا تخطئ ... وقد تأكدت من سيارته ... بعددها ... ولونها ... وهي التي كان والدي يعود بها منذ أيام ... وقد تأكدت من وجهه.
الوالدة :
ربما لم يكن هو.
ملكة :
فلنفرض أنني أخطأت في رؤيته ... لأنه شخص أجنبي عنا ... فهل يجوز أن أخطئ أيضا في رؤية والدي؟!
الوالدة :
لا ... ولكن لوالدك أصدقاء كثيرين ... لا يبعد أن يكون بعضهم بادنا.
ملكة :
إلا هذا ... فإنه هو الشخص الذي سمعت ذكره ... أليس قلب الإنسان يدله فينفر من المصائب وأهلها؟
الوالدة :
مصائب، ماذا تعنين بهذا القول يا ملكة؟ لا يجوز لك أن تصفي خطيبك الذي ارتضاه أبوك بهذا الوصف البشع ... ألا تعلمين أن للألفاظ فألها وشؤمها؟ إلي يا حبيبتي ... إلى صدرك أمك الحنون ... ونامي في حجري كما كنت تفعلين طفلة.
ملكة :
لا ... لا يا أماه ... أنا لا أستطيع أن أعود طفلة ... بل لا أطيق الآن صبرا على شيء.
الوالدة :
لا يليق بك أن تستسلمي إلى الحزن واليأس ... فلعل هذا الخطيب الذي لم ينل رضاك - بافتراض أنه هو الذي أبصرت به في السيارة مع أبيك - إذا تأهل بك يسعدك خيرا من أي شاب من شباب هذه الأيام ... بل ثقي أن زوجا كمرعشلي بك يخلص لزوجته إخلاصا عظيما جدا بشرط أن تحسني معاشرته وتعرفي كيف تتحكمين فيه وتتصرفي في شئونه.
ملكة :
أتحكم فيه ... وأتصرف في شئونه؟ أنا لا أريد زوجا من هذا النوع؛ لأن الزواج في نظري يجب أن يكون مظهرا للعيشة الراضية باتفاق الزوجين معا ... لا أن يكون تحكما، ثم إني أصارحك القول يا أماه، لقد كنت أنفر من هذا الشخص وأبغضه في سريرتي، أما الآن فلا بد لي أن أجاهر ببغضي إياه، ونفوري من الزواج منه، بل من مجرد ذكر اسمه، وأنا واثقة من أنه لن يحدث وفاق بيننا أبدا.
الوالدة (بتؤدة بعد أن سمعت ابنتها وتأكدت من تعنتها) :
هوني عليك يا حبيبتي، هذه هي عادة البنات قبل الزواج؛ يظهرن النفور والتقزز، ولكن بعد الزفاف يهون كل أمر عسير، فتتساهلين قليلا في أفكارك ... وهو أيضا يسعى في رضاك بكل ما لديه من قوة ومال ... وشيئا فشيئا يحل الوفاق محل النفور وتملك السعادة قلبك ... وهل أنت في حاجة إلى مثل هذا النصح من والدتك؟ ألا تجدين ألف نصيحة فيما تقرئين من الكتب الإفرنجية، لا سيما كتاب ألفريد موسيه؟
ملكة (تضحك بحزن على الرغم منها) :
ألفريد موسيه يا نينة! ليس في كتبه شيء من هذا القبيل ... وليس فيها ما يبرر للوالدين أن يرغما ابنتهما على الزواج من شخص ثقيل لا تحبه لمجرد كونه غنيا أو عاقلا أو موزونا ... والزواج الذي يتم على هذه الصورة يكون تجارة لا عشرة شرعية شريفة ... والبنت التي يضغط عليها ... فإما تلجأ إلى الفرار، وإما إلى الانتحار.
الوالدة (بذعر وانزعاج) :
لو صح قولك هذا إذن لخربت كل البيوت ولم يتم زواج واحد ... وإن كان هذا القول صحيحا في أوروبا فهو لا ينطبق علينا في مصر ... وإن كانت كل بنت تتشدد كتشددك هذا فلن يعقد على واحدة من البنات.
ملكة :
ولكن أنت والدتي ... لا بد أن تكوني أحببت والدي ... وقد أخبرتني أنه لم يكن إذ ذاك في مصاف الأغنياء ... وقد عشتما عيشة سعيدة ... ولم تقصري في واجبك نحوه ... كما أنه لم يغضبك ... ولم أسمع منك قط ثناء على تفيدة هانم التي تزوجت من شكري بك لأجل أطيانه ... ولم تطر يوما سميرة هانم التي سددت ديون زوجها للستر على حقيقة أمرها ... ولم تذكري يوما بخير بنت خورشيد بك تلك التي باعت بنتها وفية للشيخ حمودة طمعا في تغيير وقفية السلانكلي.
الوالدة (بشيء من الحدة) :
أنت دائما متطرفة ... بل متهورة ... هل سبق لي أن وصفت لك هؤلاء السيدات أنهن من الملائكة أو القديسات؟ ... ثم ماذا يجدي هذا الحوار فيما تقولين في حالتنا هذه؟ لقد تم الأمر أو كاد ... فماذا أنت فاعلة؟ (تتردد عندما ترى انزعاج ملكة)
أنا لا أقول لك هذا القول ليبلغ اليأس من قلبك مبلغه كلا، إنما أريد أن تتساهلي. إنك لا تزالين في عنفوان الشباب وما ترينه الآن حسنا قد ترينه بعد قليل ليس بالحسن، وربما ينقلب مرعشلي بك الذي لم يرقك منظره اليوم فيحوز رضاك ويصير أفضل الأزواج.
ملكة :
أفضل الأزواج! ... أتهزلين يا والدتي، كيف ذلك وهو قريب إلى أبي في عمره؟! أنا الآن في الثامنة عشرة من عمري ... وأبي في منتصف العقد الخامس، فإذا ما بلغت أنا الثلاثين صار زوجي في حدود الستين ... فكيف يكون هذا الشيخ أفضل الأزواج؟!
الوالدة :
افترضي أن عمره كما تصفين ... فهذا في الحقيقة أفضل لك لأن الفرق بينكما في السن سيجعله دائما طوع إشارتك؛ فيقدرك حق قدرك، ولا يجد مجالا للدلال عليك كما لو كان فتى في مقتبل العمر مشغول بجماله وشبابه.
ملكة :
النتيجة الحاسمة يا والدتي! ... مرعشلي بك هذا لن أتزوجه! لن أتزوجه. أبدا. أبدا. أبدا. مهما تكن العاقبة.
الوالدة :
يا بنت! ... اسمعي لعلك تكسرين بهذا الرفض قلبين؛ قلبي وقلب أبيك.
ملكة :
وإذا تزوجت منه فحتما سأكسر قلبين أيضا ... قلبي وقلب آخر.
الوالدة (باهتمام) :
قلب آخر ... فلمن يكون هذا القلب الآخر؟!
ملكة :
قلب عبد الحكيم! ... ومن حيث إننا بلغنا هذا المدى ... فأنا أخبرك أنني أحبه وهو يحبني ... ولا بد لنا من الزواج.
الوالدة :
أنت تحبين عبد الحكيم؟!
ملكة :
نعم ... وأكثر من هذا أيضا.
الوالدة :
أتقولين هذا في وجهي؟ أكثر من الحب! إذن ماذا يكون أكثر من الحب؟
ملكة :
فليكن ما يكون ... لقد قلت وأرحت ضميري ... فافهمي كيف تشائين.
الوالدة (تضرب وتضع يدها على قلبها ويصفر وجهها) :
آه. آه. لقد عاودتني الآلام، شكرا لك. هذا جزاء تربيتنا ورعايتنا (تحاول النهوض فتخونها قوتها فتتأثر ملكة وتدنو منها وتساعدها على النهوض، وتسيران بتؤدة نحو الباب ثم تعود ملكة بمفردها فتفكر قليلا ثم تنهض بقوة كمن صحت عزيمتها على أمر مهم؛ فتلمس زر الكهرباء لاستدعاء الخادمة) .
المنظر الخامس (تدخل نعيمة)
الخادمة :
سيدتي.
ملكة :
أريد أن أفضي إليك بأمر ذي بال.
الخادمة :
تفضلي يا سيدتي مري.
ملكة :
أنا مسافرة فورا من هنا ... سأترك بيتنا هذا بعد قليل إلى مكان لا يعرفه أحد سوانا أنت وأنا.
الخادمة :
لماذا يا سيدتي؟ ... بعدا للشر الذي يدعو إلى هذا الرحيل المفاجئ.
ملكة :
سأخبرك بكل شيء بعد برهة ... إنما الآن عليك بإعداد ما أحتاج إليه من ثياب ... خذي الحقيبة الوسطى التي يأخذها أبي في سفره إلى الوجه القبلي وضعي فيها ما تستطيعين من الثياب البيضاء التحتانية وملابس الخروج والكتب الصغيرة التي تجدينها في غرفة نومي و...
الخادمة (تتردد) :
لو علمت والدتك بهذا فربما تلقى حتفها ... فإنها مريضة ولا تستطيع فراقك طرفة عين.
ملكة :
لا بأس ... لقد فكرت في هذا.
الخادمة :
وكيف يتسنى لي البقاء في البيت دونك؟ فلا بد من اكتشاف الأمر بعد حدوثه ونسبته إلي؛ فتصبح جريمة فرارك معلقة في عنقي.
ملكة :
لا تخشي شيئا في هذا السبيل. ألا تحبينني؟ ألست كأختك الصغرى؟
الخادمة :
أحبك! كيف؟! ... إنني أفديك بحياتي (تبكي بإخلاص) .
ملكة :
كفكفي دموعك الآن لئلا يفتضح الأمر ... أسرعي في تنفيذ ما طلبت إليك (تخرج الخادمة ثم تعود بعد قليل) .
الخادمة :
سيدتي، إن والدتك تشعر بضيق شديد في التنفس، وقد أشارت بيدها لأدعوك.
ملكة (تتردد) :
حسنا ... سأوافيها ريثما تعدين أنت ما كلفتك بإعداده (تخرج ملكة من الباب الأمامي) .
الخادمة :
يا حبيبتي يا سيدتي الصغيرة، ترى ماذا جرى لها؟ (يدخل الخادم.)
الخادم :
أنت هنا والحاجة ماسة إليك ... دائما تكلمين نفسك.
الخادمة :
ماذا أصابك؟
الخادم :
أصابني الجوع متى نتغدى؟ ألا تخاطبين الطاهي؟ هل نسيتمونا؟
الخادمة :
هل نتغدى قبل أن يحضر سعادة البيك ويتغدى هو؟
الخادم :
إنني لم أفطر ... ولم أتناول طعاما من ساعة التلغراف.
الخادمة :
تلغراف! أي تلغراف؟
الخادم :
تلغراف القطن.
الخادمة :
حسن جدا، عد إلى مكانك وسيصل إليك الغداء فورا (تخرج نعيمة ويتلكأ الخادم قليلا ثم يخرج. تدخل ملكة وتجلس) .
ملكة :
الحمد لله على أن حالتها لم تكن شديدة ... فلعل ذلك كان يعوقني عن تنفيذ خطتي التي اعتزمتها ... (تسمع أصوات في الخارج)
هذه خطوات أبي يسير نحو غرفة والدتي ... ترى هل تفضي إليه بما علمت مني؟ أم تحفظه لذاتها؟ هل أعدت نعيمة كل شيء؟ إن كل ساعة تدنيني من الخطر ... فقد فهمت من كلام والدتي أن الأمر قد تم أو كاد (تدخل نعيمة) .
ملكة :
هل تم كل شيء كما طلبت إليك؟
الخادمة (بصوت خافت) :
نعم.
المنظر السادس (يدخل الوالد فتقطع حديثها وتخرج الخادمة مسرعة وتنهض ملكة لاستقباله .)
الوالد (بحدة وغضب ) :
لقد أخبرتني والدتك بكل شيء ... فلا فائدة في إعادة الحديث، ومهما تكن جريمتنا في نظرك فإنها لا تعادل جزءا من ألف مما سمعت وعلمت. إن عصيانك عن الزواج جريمة لا تغتفر.
ملكة :
إذن يا والدي إذا كنت قد حكمت بأن عصياني جريمة لا تغتفر، فما فائدة الحديث بيننا؟
الوالد :
أنا لم أحكم عليك ... بل أنت التي قضيت على نفسك ... حقا إنه لا يوجد أحد سواي يستطيع التصرف فيك (تشمئز ملكة اشمئزازا ظاهرا عند سماع كلمة التصرف)
ولكنني لا أريد أن أنتفع بسلطتي عليك ... ولو أنني أردت إهانتك وإرغامك ما كنت بذلت كل ما بذلت في تربيتك ... ولادخرت ما أنوي على تنفيذه لدى زواجك ... فإنني سأقيم لك معالم الأفراح وأجهزك جهازا فخما يداني جهاز الأمراء ... وأهدي إليك صنوفا من المصوغ والحلي ... نعم إن البلد يشكو من أزمة وأنا أخشى الحسد ... ولكنني مصمم على هذا كله في سبيل سعادتك.
ملكة :
ليست الأفراح والجهاز مقصودة لذاتها، إنما هي وسيلة لسعادة الزوج.
برعي :
وهل قلت لك غير ذلك، مرعشلي بك رجل غني، وكل بنات الأعيان تود لو تزف إليه. رجل غني جدا، وليس مدينا لأحد وأطيانه خالية من الرهن، وإيراده كبير وقد أتاه الله بسطة في الجسم وفي الرزق، وربما في العقل أيضا.
ملكة :
يا والدي، أنا ملك لك فتصرف بي كما تشاء.
برعي :
هكذا الطاعة وإلا فلا. إنك تشرحين الصدر بهذا القول الجميل.
ملكة :
إن مسألة الأفراح والجهاز والجواهر لا أكترث لها في مثل هذه الظروف، وأقل شيء يرضيني إذا كان يرضيك.
الوالد :
بارك الله فيك من فتاة كأمك وأبيك لا تهمك سوى المصالح الحقيقية. آه لو عرفت (يتقرب إليها وتبدو عواطفه القطنية)
صفقة القطن التي تمت لنا اليوم إذن لفرحت. صحيح أن البيك الذي رأيته معي اليوم هو مرعشلي بك بعينه وليس أحد سواه. رجل يزين مجالس الرجال ويحل كبرى المعضلات وتوقيعه في البنوكة لا يرد، واسمه كالذهب الإبريز. غني جدا.
ملكة :
ولكن يا والدي ثق أنه من المستحيل علي أن أقبل هذا الزواج.
الوالد (يبغت ويذهل) :
إيه! مستحيل! مستحيل تقبلين زواجك من مرعشلي بك!
ملكة :
نعم مستحيل (بحزم)
نعم مستحيل.
الوالد (يتهيج ويحتد) :
احذري هذا الكلام. لقد صبرت كثيرا فاتقي غيظ الحليم. إن البنت التي تخرج عن طاعة والديها تطرد من المنزل وتحرم الميراث.
ملكة :
إذا أمرتني بالخروج من المنزل فإنني لا أعصي لك أمرا.
الوالد :
أنت إذن مجنونة يا ملكة! ماذا جرى لك؟
ملكة :
هذا قول والدتي بعينه. إني حقيقة مجنونة وأقبل منكما هذا الوصف على الرأس والعين، وأترك لكما وحدكما كمال العقل وحسن التصرف في الأمور.
الوالد (يعود إلى شيء من الهدوء) :
اسمعي يا ملكة يا بنتي يا حبيبتي، أنت بنتنا الوحيدة ونريد أن نفرح بزفافك قبل أن نموت.
ملكة :
تستطيعون أن تفرحوا بزفافي لو أردتم أن أكون أيضا أنا فرحانة.
الوالد :
نريد أن نفرح بك في دار زوج يلائمك ويكون كفؤا لك في الجاه والمال. مرعشلي بك غني جدا وزوج نادر المثال، وقد قرأت معه أمس الفاتحة.
ملكة :
وأية جريرة لي في ذلك؟
الوالد :
فإذا عدلنا عن إتمام الزواج يكون تفسير الأمر خادشا لشرفنا ولشرفك. نحن ربيناك وأنفقنا عليك دماء مهجتنا وتعهدناك حتى صرت تقرئين روايات فكتور هوجو، ولم ندخل على قلبك الحزن في يوم من الأيام.
ملكة :
ولا أنا أدخلت الحزن على قلبيكما. إنما يدخل الحزن في قلبي إذا تزوجت بدون رغبتي.
الوالد :
إن زوجك يبيع حياته في سبيلك. طبعا إنه ليس جميلا جدا، وليس في عنفوان الشباب، وليس من أتباع الطراز الحديث، ولكنه مثل بقية الأعيان الذين من طبقته منذ أصاب الرتبة الثانية مع لقب بيك، وضع العمامة واتخذ الطربوش وصار بيك وحلق لحيته.
ملكة :
وكان حضرته أيضا من ذوي العمائم واللحى.
الوالد :
وماذا عليه في ذلك؟ يوجد الآن في مصر باشوات من ذوي العمائم واللحى، وعن قريب يصير باشا ويأخذ رتبة ميرميران.
ملكة :
حتى لو صار ملك الملوك أو سلطان السلاطين، فإنني لا أريد أن أكون ملكة بجانبه.
الوالد :
عجايب! مرعشلي بك يساعدنا في بيع الأقطان، ويضمنا في البنوك خير ضمان، وله قصر في المنيرة وسيارتان فيا بنتي ...
ملكة (تقاطعه) :
أعرف كل هذا ولكن مستحيل أن أتزوج منه أبدا.
الوالد (بغيظ) :
إذن ممن تريدين أن تتزوجي؟
ملكة :
ليس الأمر في حاجة إلى السرعة، وربما كان التأجيل أفضل.
الوالد :
التأجيل أفضل! كيف ذلك؟ ماذا تقولين؟ (بتهكم)
إذن تقبلين أن تتزوجي من عبد الحكيم فورا!
ملكة :
لا بأس إني أقبل ذلك بكل سرور.
الوالد (ينفجر) :
آه يا خاسرة يا عصية! هذا أبعد من أن تناليه، ولو لم يبق في الدنيا سواكما، فلن تتحقق لكما هذه الأمنية، وهذه حرب بيننا قد أعلنتها عليكما (تدخل الأم صفراء الوجه ضعيفة النفس، تلهث وتستند إلى الأثاث وتجرر أذيالها) .
الأم :
ماذا جرى يا بيك؟
الوالد :
البنت عقلها طار وأظهرت العصيان، فلا بد أن تفارق منزلي منذ هذه الساعة.
الأم (تخور قواها وتجلس) :
وامصيبتاه ... آه.
الوالد :
اخرجي ... اخرجي إلى حيث تشائين.
ملكة :
سأخرج حالا حسب أمرك.
الأم :
ملكة حبيبتي ... بنتي.
ملكة (تدنو منها) :
أستودعك الله يا أماه (فتقبض أمها على يدها) .
الأم (للوالد) :
كيف تقول يا بيك هذا القول؟
الوالد :
اتركيها تذهب. النار ولا العار. موتها أفضل من عصيانها (تتخلص ملكة من يد والدتها وتقصد الباب) .
الوالدة :
ملكة ... ملكة ... (تنهض وتحاول الكلام فلا تستطيع فتسقط على الأرض مغشيا عليها) . (ستار)
الفصل الثاني
المنظر الأول (المنظر في قاعة استقبال بفيلا بحدائق القبة وبها تليفون.)
الخادم :
ألو! ألو! ... سنترال 23056 من فضلك مستعجل جدا ... مشغول! من ساعة ... دقي يا مدموازيل من فضلك! ... ألو! من؟ ... أنا إدريس بمنزل سعادة مرعشلي بك ... الدكتور فتحي بك موجود ... من فضلك يشرف حالا بمنزل مرعشلي بك بحدائق القبة ... نعم؟ الدكتور مشغول ... ابنه مريض جدا ... نعم ... نعم ... حاضر بالعجل من فضلك بجوار الفيلا المزدوجة بالسيارة على الأكثر عشر دقائق من باب الحديد. منتظرين سعادة الدكتور (يترك التليفون، وتدخل الخادمة) .
الخادمة :
الطبيب سيحضر يا إدريس؟
الخادم :
لا، الدكتور فتحي لا يمكنه الحضور لأن ابنه مريض جدا بحلقه ... يظهر أنه دور مرض حلق الأطفال مثل ابن سيدنا ... ربنا يسلم.
الخادمة :
ما العمل إذن؟
الخادم :
الدكتور فتحي بك ملازم فراش ابنه، فضلا عن أنه لا يستطيع أن يزور أحدا خوفا على أولاد الناس من العدوى.
الخادمة :
طيب، فليدلنا على طبيب آخر.
الخادم :
عمرك أطول من عمري! قلت له ذلك فقال إنه سيرسل إلينا أحد زملائه المشهورين. طبيب اختصاصي في أمراض الحلق والأطفال.
الخادمة :
عظيم جدا. يجوز أن يكون ذلك من حظ أسيادنا، ويكون شفاء سيدي الصغير على يديه. سأخبر سيدتي بذلك.
المنظر الثاني (يدخل الزوج مرعشلي بك وبيده جريدة يقرأ فيها.)
الزوج :
الموحد بستين جنيها. نزول لم يسبق له مثيل! لو لا سمح الله! لا سمح الله ألف مرة وأردت أن أبيع أسهمي لخسرت في طرفة عين ألوفا مؤلفة. يا لطيف من الاضطرار (يلتفت فجأة للخادم)
ماذا تعمل هنا يا إدريس؟
الخادم :
كنت أتكلم في التليفون مع الطبيب، كما أمرتني سيدتي الهانم.
الزوج :
وماذا قال لك؟
الخادم :
سيحضر توا بالسيارة.
الزوج (كأنه يناجي نفسه) :
وهذه نفقة جديدة ومصاريف بدون فائدة. كل شوكة صغيرة تدخل في قدم الصغير يستدعى الطبيب وتحسب على العيادات والزيارات. لا أدري لماذا لا نترك هذه الأشياء الصغيرة على جانب الله سبحانه وتعالى. الولد يشكو من ألم في حلقه آمنا وصدقنا. لو أنه تمضمض بعصير الليمون والملح يشفى بإذن الله، وعلى الله الشفاء.
الخادم :
لكن الدكتور فتحي بك نفسه لن يحضر. إنما سينوب عنه طبيب آخر اختصاصي.
الزوج :
كلهم أحذق من بعضهم. اختصاصي وامتصاصي المسألة ترجع لزيادة العيادة والسلام. ومع ذلك استدعاء الطبيب أفضل. نعمل ما علينا عمله والله يفعل ما يشاء ... أتمم عملك أنت يا إدريس.
المنظر الثالث (تدخل الزوجة منزعجة.)
ملكة :
ألم يحضر الطبيب إلى الآن؟ ما سبب تأخيره؟
مرعشلي :
لا تأخير ولا شيء. لا لزوم للانزعاج.
الخادم :
الطبيب سيحضر فورا يا سيدتي.
مرعشلي :
اخرج أنت يا إدريس وانظر ما وراءك من الأعمال (يخرج الخادم)
هدئي روعك. الاضطراب لا يعود بفائدة. إن شاء الله تأتي العواقب بالسلامة .
ملكة :
ولكن يا بيك لا يجوز الإهمال في أمراض الأطفال. أنت لا تشعر بكل ما أشعر به، أنا الأم، نحو هذا الطفل.
مرعشلي :
لماذا؟ ألست أنا أيضا والدا؟ ولكن الله وضع الصبر في قلبي والحلم في صدري والإيمان في فؤادي. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، يا هانم.
ملكة :
نعم نعم ... أنا لا أنكر عليك هذا البرود. عفوا قصدت الفتور والتجلد ولكنني أغبطك عليهما. بيد أنني لا أستطيع أن أرى ابني في هذه الحالة ثم أجلس مكتوفة الأيدي.
مرعشلي :
قالوا في الأمثال: درهم وقاية ...
ملكة :
خير من قنطار علاج. هذا مثل صحيح صادق، ولكننا وقعنا في هذه الورطة فما العمل؟ (يسمع نفير سيارة) .
الخادم :
سيارة الطبيب يا سعادة البيك. الدكتور حضر (يخرج الخادم) .
ملكة :
الحمد لله.
مرعشلي :
نعم ... ولكن ليس الدكتور فتحي بك هو الذي حضر وهو طبيب العائلة.
ملكة :
لماذا؟ وأين إذن الدكتور فتحي؟
مرعشلي :
الدكتور فتحي بك ابنه مريض وهو مشغول به، وأرسل آخر اختصاصي بدلا منه.
ملكة :
عجبا! وأنا للأسف لا أرتاح إلا للطبيب الذي يعرف مزاج الولد منذ نشأته إلى الآن (تقصد التليفون) .
مرعشلي :
سيان يا سيدتي، ربما يكون مقدم الطبيب الجديد خيرا من يعلم! وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم (يدخل الخادم) .
الخادم (بسرعة) :
الدكتور يا سيدي.
مرعشلي :
تفضلي يا هانم إلى الحرم، ودعيني أخاطبه أنا أولا.
ملكة :
ولكن يا بيك هذه حالة استثنائية. يجب علي أن أقابله لأصف له حالة الولد من أول شعوره بالمرض منذ أول أمس إلى الآن.
مرعشلي :
أنا أقوم مقامك خير قيام.
ملكة :
أنا أخشى أن يكون المرض ...
مرعشلي :
لا سمح الله. فقط ادخلي.
ملكة :
اسمح لي بإذنك أن أكلمه، ولو من وراء حجاب.
مرعشلي :
إذا احتجنا إليك دعوناك لمحادثته كما ترغبين (تتردد ثم تهز كتفيها متألمة ثم تخرج ببطء)
زوجة متعلمة ونبيهة وذكية لا يمكن منع هذه الأفكار عن عقلها. العلم نور يا أفندم.
المنظر الرابع (يدخل الطبيب بمعطف كبير وبيده شنطة صغيرة.)
عبد الحكيم :
طاب ليلك يا بيك . هنا الطفل المريض ... عفوا ... الدكتور فتحي أخبركم طبعا بالتليفون.
مرعشلي :
أهلا وسهلا بك يا دكتور العفو! أنت والدكتور فتحي سيان. الله يجعل الشفاء على يديك.
عبد الحكيم :
أين المحروس نجلك؟ هل الحرارة عالية؟
مرعشلي :
الحرارة؟ جنابك مرتد هذا المعطف الضخم، ولكن في الخارج برد شديد طبعا.
عبد الحكيم (يتردد وقد أخذ يخلع المعطف) :
قصدت حرارة المريض.
مرعشلي :
آه ... السخونية!
عبد الحكيم :
هل قستم الحرارة؟
مرعشلي :
هل هو أخذ بردا؟ سأخبرك في الحال (يلمس زر الكهرباء لاستدعاء الخادم. يدخل الخادم)
خذ المعطف من جناب الدكتور وسر قدامه إلى غرفة سيدك الصغير.
المنظر الخامس (يفعل إدريس ما أمر به.)
الخادم :
حاضر يا سيدي (يخرج هو والطبيب خلفه) .
مرعشلي :
الحرارة! أنساها في كل مرة. في السنة الماضية أخطأت مثل هذه المرة والله عجيب كلام الأطباء. اصطلاحات غريبة. وماذا تفيد معرفة الحرارة؟! أنا شخصيا أسخن وأبرد في اليوم عدة مرات. ومع ذلك فإن صحتي جيدة ولم أحتج في حياتي إلى أي اختصاصي. صدق من قال: من عاش بالحكمة مات بالمرض. لكن كيف يسقط الموحد هذا السقوط المريع؟ إذن المركز المالي مزعزع والبلاد في خطر من أزمة شديدة. سنة 1907 لا أعادها الله ولكن في تلك السنة لم يهبط الموحد مثل هذا الهبوط (تدخل الخادمة) .
المنظر السادس
الخادمة (بلهفة) :
سيدي.
مرعشلي (كمن ينتبه من غفوة) :
خيرا.
الخادمة :
سيدتي الهانم تبكي بكاء شديدا حارا في غرفتها وحالتها سيئة جدا.
مرعشلي :
هي دائما كذلك تزعجها أتفه الأشياء. مزاج عصبي. أما أنا فالحمد لله مزاج ليفي. ومع ذلك هدئيها وانصحي لها بالصبر. الصبر مفتاح الفرج. الطبيب حضر كطلبها فلا حق لها في البكاء. اذهبي وأخبريها بما سمعت مني (تخرج) .
المنظر السابع (يدخل الخادم)
الخادم :
الدكتور يسأل عن أمور كثيرة لا أعرف الجواب عنها. وهو يطلب ممرضة ليلية في الحال، وأعطاني عدد تليفون مستشفى رعاية الأطفال، فتفضل سعادتك بمخاطبته.
مرعشلي (باكتراث) :
يظهر أن المسألة معقدة وطويلة وستحتاج إلى دور طويل. يا إدريس ادع الست هانم (يخرج الخادم )
أتاك ال... يا تارك الصلاة. ممرضة ليلية وممرضة نهارية سنرى ... لكن الموحد هبط هبوطا شنيعا جدا.
المنظر الثامن
ملكة (تدخل وخلفها إدريس وبيدها منديل مبلل بالدموع وأثر البكاء ظاهر عليها) :
طبعا طبعا وبكل سرعة (تقصد التليفون)
ألو! ... ألو! ... 1417 ألو (تنتظر وتضرب الأرض بقدميها علامة الاستعجال والضجر)
ألو ... مستشفى رعاية الأطفال. نحن هنا منزل مرعشلي بك بحدائق القبة. بجوار الفيلا المزدوجة. مطلوبة لدينا ممرضة للقيام على طفل مريض (تختنق بالعبرات)
نعم ... سيارة ... لا مانع من ذلك.
مرعشلي (بصوت منخفض) :
هاكم سيارة ثانية. ونظام عيشة خاص بالممرضة، ولا بد من ممرضة نهارية أيضا. لست أدري والله لماذا هبط السند الموحد هذا الهبوط الشنيع في هذه الأحوال السيئة.
ملكة (ملتفتة إليه بغتة) :
سعادتك طبعا لم تشرح للطبيب حالة الصغير شرحا كافيا. لا بد له من الوقوف على جميع الأعراض بالتفصيل.
المنظر التاسع (تدخل الخادمة)
الخادمة :
الدكتور يريد التكلم بالتليفون مع مصلحة الصحة.
مرعشلي :
يتفضل طبعا (ثم يتنبه الزوج للمفاجأة، ولكن تكون فرصة تنبيه الهانم قد فرت فيدخل الطبيب مسرعا ويفاجئ الزوجة ملكة هانم وجها لوجه قبل أن تتمكن من الخروج؛ فيقف برهة قصيرة جدا وتعروه دهشة لا يدركها الزوج، ثم يسير الدكتور قدما إلى التليفون. وتحصل للزوجة هزة شديدة للمباغتة فتتغير هيأتها وتخور قواها وتنظر إلى زوجها فتجده مبهوتا، ولكنه لم يلحظ شيئا مما جرى أمامه فتتجلد ثم تقصد مقعدا فتجلس عليه متهالكة) .
عبد الحكيم (في التليفون بصوت متهدج) :
ألو ... ألو 2650 مصلحة الصحة. ألو ... أنا دكتور عبد الحكيم أريد مخاطبة الطبيب المقيم ... نعم نعم الدكتور النوبتجي بسرعة حالة مستعجلة (تهم السيدة من المقعد وتتسمع) .
الزوج :
يا ست هانم لا يليق بك هذا الانزعاج. إن شاء الله تأتي العواقب سليمة.
ملكة :
عفوا يا بيك. أعطيني قلبك. كيف أستطيع أن أمنع نفسي؟
عبد الحكيم :
دكتور نجيب ... بونسوار ... سأرسل إليك أنبوبتين من حدائق القبة منزل (ويلتفت خلفه ليعلم الاسم) .
مرعشلي :
مرعشلي بك. بجوار الفيلا المزدوجة.
عبد الحكيم :
مرعشلي بك بجوار الفيلا المزدوجة. طبعا منتظر النتيجة. السيارة ستقوم فورا (يخرج الساعة من جيبه وينظر فيها)
طبعا حوالي الساعة 11 أنا منتظر ... لا يمكني ترك المريض، فضلا عن أن المسافة طويلة والجو غير ملائم والحالة مهمة تقتضي العناية ... يجوز ... غير متأكد ... على أن الأعراض تدعو للشك الشديد ... ألو ... ألو ... وإن كانت النتيجة إيجابية أرسل إلي كمية من المصل المضاد، فربما كان الذي معي لا يكفي (يقفل التليفون ويلتفت خلفه للخروج)
أرجو سعادتك أن تأمر الخادم باستدعاء سائق سيارتي.
الزوج :
وهو كذلك (يدنو من زر الكهرباء ولكن إدريس يكون على مقربة فيدخل فورا)
ادع سائق سيارة سعادة الدكتور.
الخادم :
حاضر يا سيدي (يخرج) .
ملكة (لزوجها بصوت متأثر وعزم أكيد) :
عن إذنك يا بيك، اسمح لي أن أخاطب الدكتور (فيصمت الزوج ولا يخبر جوابا من شدة المباغتة، فيشير بيديه إشارة العجب والقبول والاستسلام ويتناول الجريدة يقرؤها)
يا جناب الدكتور (تخنقها العبرات) .
الدكتور (بتأثر شديد) :
سيدتي الهانم أنت والدة الطفل المريض؟ (يدخل سائق السيارة مصلحة الصحة للدكتور نجيب، يناوله صندوقا صغيرا مغلقا)
على جناح السرعة. وقت وصولك خاطبني بالتليفون فربما أحتاج إليك. خذ نمرة التليفون.
الخادم :
1807 زيتون (هنا تبكي الزوجة بصوت منخفض) .
الدكتور :
وإذا كانت النتيجة إيجابية فاستحضر معك مصل (يخرج السائق دون أن يتكلم) .
ملكة :
إذن الحالة دفتريا؟
الدكتور (بعد صمت قليل) :
أخشى كثيرا أن يكون كذلك، ولكن تشجعي يا هانم، ليست كل الحالات خطرة. أخبريني بالتفصيل عن الحالة (يسمع صوت بكاء طفل وضوضاء فتحاول السيدة الإسراع إلى الدخول فيمنعها الطبيب بإشارة من يده)
لا لزوم يا سيدتي لدخولك. هل خاطبتم الممرضة وطلبتموها؟
ملكة :
نعم ... أنا بنفسي.
الدكتور :
لقد اتخذنا الآن كل الاحتياطات اللازمة. أرجو أن لا تنزعجي. وترك المريض الآن أفضل من مضايقته.
ملكة :
أمس حوالي الظهر رأيت عبد الحكيم ...
الدكتور :
هذا اسم المحروس؟
ملكة :
نعم ... نعم ... رأيته ذابلا وشديد التعلق بي؛ بحيث لا يريد مفارقتي ثم رأيت وجهه محتقنا جدا، فقست حرارته فإذا هي ثمانية وثلاثون وخطان، وفي العصر بدأ يشكو ضيقا في حلقه ويتكلم كثيرا. ورأيت في عينيه العزيزتين (تبكي)
بريقا لم أتعوده (تنتحب فيهتز عبد الحكيم وتسقط من عينيه الدموع فجأة، ولكنه يسارع إلى التجلد فلا يبدو عليه شيء) .
مرعشلي (لنفسه والجريدة في يده) :
والممتاز أيضا 49 جنيها. سهم قيمته كالذهب الإبريز، بل هو والموحد أكسير السندات المالية يهبط إلى النصف (يتبادل الدكتور والسيدة نظرات ذات معنى) .
الدكتور :
تصفين الأعراض وصف طبيب. لا بد أنك قرأت في أحد الكتب؟
مرعشلي :
حقا تقول يا جناب الدكتور، فإنها دائما تقرأ في الكتب وتسير بآراء الأطباء.
الدكتور :
حسنا تفعل يا سيدي (يسمع نفير سيارة فيبغت الزوج لحرصه) .
المنظر العاشر (يدخل الخادم)
الخادم :
الممرضة حضرت. الست الممرضة (تدخل الممرضة فورا دون انتظار الإذن بالدخول) .
الممرضة :
بونسوار يا هانم. سعيدة يا بكوات.
الدكتور :
الآنسة ...
الممرضة :
حافظة عبد المجيد.
الدكتور :
من مستشفى رعاية الأطفال؟
حافظة :
نعم يا أفندم بتوصية من المستشفى.
الدكتور :
تفضلي.
ملكة :
إدريس ... كلف نعيمة أن ترشد الآنسة إلى غرفة الفراندا لتخلع ثياب الطريق وتبدلها بثياب العمل (يخرج إدريس وخلفه حافظة)
هل تظن يا دكتور أن حالة عبد الحكيم ...؟
الدكتور :
لا تدعو الآن إلى القلق الشديد، ولكنني ... جئت في الوقت المناسب (يخرج ورقة ويكتب بسرعة وبدقة)
في الوقت المناسب جدا (تعود الممرضة بثيابها البيضاء والطبيب مكب على الكتابة والزوجة تنظر إليه بانفعال مزدوج)
تفضلي يا مودموازيل حافظة كل التعليمات اللازمة، ولا داعي لدخول أحد وأعدي وعاء الليزول بباب الغرفة كالعادة، وشددي ما استطعت. والحالة تهمني جدا وأنا موجود معك هنا، ونفذي كل شيء كما بينت لك في الورقة (تتناول الورقة) .
حافظة :
لك ذلك يا دكتور (تخرج) .
ملكة :
حضرتك باق معنا؟
الدكتور :
أظن يا هانم الحالة لا تسمح بانصرافي الآن.
مرعشلي (بصوت منخفض) :
كم يكون يا ترى أجر هذه العيادة الطويلة في ليالي الشتاء؟ لا بد أن يكون لها تعريفة خاصة تفوق كل حساب (للدكتور بصوت مسموع)
مرحبا بك يا دكتور. الخير في التأخير.
الدكتور :
اسمحا لي أن أدخل قليلا إلى غرفة المريض العزيز.
مرعشلي :
تفضل مع مزيد الشكر (يخرج الدكتور)
والله إنه طبيب عالم لطيف الخلق جدا. أظرف بكثير من الدكتور فتحي بك؛ لأنه شاب والشباب أقرب إلى السرور والملاطفة لما يزهق من الجمهور. لكل شيء أوان. ربما يصير هذا الطبيب في المستقبل متكبرا لا يطاق ... تتبع الشهرة والغنى. آه نسيت أن أنهي إليك خبرا في غاية الأهمية.
ملكة :
ما هو؟ هل يوجد شيء أهم مما لدينا؟!
مرعشلي :
أوراق الدين الموحد والممتاز هبطت.
ملكة :
أرجو يا بيك (تظهر مللا وضجرا وتدير وجهها) ...
مرعشلي :
أرجو المعذرة. أنا مخطئ. ومع ذلك ها أنا ذاهب لآخذ لي سنة من النوم. أسعد الله مساءك (ينهض) .
ملكة :
نوم سعيد إن شاء الله (بتهكم)
وأحلام الهناء (تتناول كتابا صغيرا وتبدأ تقرأ فيه ثم يدركها التفكير العميق فتبقى ساهمة تنظر إلى النار في الموقد، وكأنها تستعيد ذكرى الماضي فيدخل الدكتور ببطء كمن يبحث على شيء ويكون قد نسي قلما وورقا على المنضدة)، (ملكة ناهضة)
دكتور (بصوت منخفض مكتم وهي تلتفت ذات اليمين وذات الشمال)
عبد الحكيم ...
عبد الحكيم :
سيدتي (بصوت منخفض)
ملكة ... أين البيك؟
ملكة :
دخل لينام فترة قصيرة.
الدكتور :
في مثل هذه الليلة؟!
ملكة :
وفي أشد من ذلك ... البركة فيك أنت أيها العزيز.
الدكتور :
من كان يظن أننا نلتقي على هذه الصورة بعد هذا الفراق الطويل؟
ملكة :
خمس سنين ... من ديسمبر سنة 1907 إلى ديسمبر سنة 1912.
الدكتور :
تاريخ لا ينسى ... الأيام تمر مسرعة.
ملكة :
لقد تغيرت حياتي.
الدكتور :
وحياتي أنا أيضا.
ملكة :
رحمة الله على من كان سببا في عذابنا.
الدكتور :
طبعا كان والدك يرغب في ضمان سعادة مستقبلك. هذا واجبه وحقه.
ملكة :
وهل كانت ثروته غير كافية؟
الدكتور :
ثروته لنفسه أحسن الله إليه. لم يكن اشتراكيا.
ملكة :
بل كان قصابا فذبحني (يسمع نفير السيارة فيبغت الاثنان)
هذه هي النتيجة حتما!
عبد الحكيم :
لا تحاولي أن تعلمي شيئا. دعيني أقم بواجبي (يبدو عليه الجد وينهض. ويدخل الخادم ومعه سائق السيارة وبيده خطاب وطرد صغير فيتناولها الدكتور ويقرأ الخطاب)
اسمحي لي أن أدخل إلى المريض، ابقي أنت هنا، وإن أردت أن تلجئي إلى مضجعك فلا بأس (يخرج الخادم والسائق) .
ملكة :
ألا أصحبك إلى فراشه؟ إنني شجاعة وسترى شجاعتي، وقد ازددت شجاعة بوجودك ... لأنني أعلم مقدار عناية الوالد بولده.
عبد الحكيم :
ماذا تقولين؟ عناية الوالد؟
ملكة :
نعم بولده (يسرع الدكتور إلى الداخل دون أن يلتفت إليها أو يتكلم)
هل أخطأت فيما بحت به؟ لعل هذا الخبر يملك عليه مشاعره فيلهيه عن عمله ليتني لم أبح ... هل أذهب إليه وأنقض ما قلت لساعتي. ولكن كيف هل يصدقني؟ إني أكاد أجن. لقد كانت حياتي مع هذا الزوج البليد جحيما. ولم أشعر يوما ما بسعادة الزواج التي كان يمنيني بها أبي سامحه الله. لقد ضحى بي على مذبح مطامعه. ولكنه لم يعش ليجني ثمرات جنايته علي أنا وحيدته العزيزة. وهاك ولدي العزيز الوحيد المبرد لحياتي الشقية التي أعاني آلامها من يوم الزفاف إلى الآن، في خطر الموت بذاك الداء الوبيل (تركن رأسها إلى يدها وتنظر إلى النار وكأنها تتأمل، ولكنها تغلب على أمرها من شدة التعب؛ فتغمض عيناها فترة ثم تهب فجأة وقد عاد الطبيب) .
عبد الحكيم (برفق) :
ملكة. عبد الحكيم ابنك أنت.
ملكة :
وابنك أنت أيضا.
عبد الحكيم :
ابني أنا!
ملكة :
نعم ابنك أنت أيضا ... لماذا تتعجب؟!
عبد الحكيم :
وهذا الرجل السمين الذي كان هنا. الذي دخل لينام!
ملكة :
طبعا زوجي الذي أرغمني والدي على الزواج منه بعد فراقنا بأيام. ولكن طمني أولا. هل ولدنا في خطر؟
عبد الحكيم :
خطر. نعم في خطر.
ملكة :
واولداه ... (تكاد تسقط) .
عبد الحكيم :
ولكن اطمئني، أنا باق هنا حتى الصباح. سأبذل أقصى مجهودي والله تعالى يأخذ بيدي. سيأخذ بيدي. أنا أفديه بحياتي. وأنقذه لك ... ولي.
ملكة :
وكيف تركته الآن؟! ... قل لي كيف تركته؟
عبد الحكيم :
لقد أعطيته الحقنة الأولى وأنتظر النتيجة. سأخبرك بعد قليل. وكيف أسميته باسمي؟
ملكة :
ليذكرني بك وليكون على مثالك. ولسيعدني باسمه وصورته في هذا الوسط الكريه.
عبد الحكيم :
لي عندك طلب واحد.
ملكة :
ما هو؟
عبد الحكيم :
أن لا تبكي وقللي من انفعالك واشربي جرعة من زهر البرتقال بمغلي الزيزفون. وأريحي نفسك بالنوم ولو قليلا.
ملكة :
أنا أنام. حاشا أن أنام وولدي على هذه الحال. إن قلب الأم ...
عبد الحكيم :
وقلب الوالد ... أنا أطمئنك.
ملكة :
حبيبي عبد الحكيم.
عبد الحكيم (بصوت منخفض) :
أنا.
ملكة :
أنت وهو ... انظر إلى عجائب المصادفات. نحن نتقابل بعد وداعنا الأخير هنا! وفي بيت رجل أجنبي وبجانب ولدنا المريض. من كان يظن؟
عبد الحكيم :
القضاء والقدر. إنني متفائل بهذا اللقاء.
ملكة :
وكيف جئت بديلا من الدكتور فتحي بك؟
عبد الحكيم :
محض مصادفة. محض اتفاق عجيب. ابنه مريض باحتقان في اللوزتين، وكان يخشى ذلك الداء فاستدعاني فزرته وطمأنته، ورأيت أن يلاحظ ابنه، وفي هذا الوقت جاءت إشارة التليفون منكم. فرجاني أن أحل محله.
ملكة :
لعل الله يريد هذا اللقاء. وأين عيادتك؟
عبد الحكيم :
التليفون 7777 أربع سبعات. لا تخطئها الذاكرة.
ملكة :
والبيت ... (تدخل الممرضة) .
المنظر الحادي عشر
الممرضة :
انتهت الربع ساعة يا دكتور.
عبد الحكيم :
حسن جدا. سأذهب إليه. يمكنك أن تستريحي قليلا هنا بجوار السيدة (بصوت منخفض للممرضة)
طمئنيها ما استطعت (يخرج) .
ملكة :
كيف حاله الآن؟
حافظة :
إنه نائم نوم العافية.
ملكة :
نائم. لا تطمئنيني بالكلام العذب. اصدقيني بشرفك.
حافظة :
الحق أن الحالة شديدة، ولكن الدكتور الذي لم أره قبل الليلة ماهر جدا، ولم يسبق أني رأيت علاجا كعلاجه أو عناية كعنايته، يظهر أنه يعالج المرضى بطريقة حديثة.
ملكة :
والحرارة، هل هبطت؟
حافظة :
أظنها هبطت خطين ومع ذلك فإنها الآن لا تهم (تتقدم الزوجة نحو زر الكهرباء وتلمسه، فتدخل نعيمة) .
ملكة :
هل أعددت عشاء للآنسة؟
الخادمة :
أجل يا سيدتي، إنه معد.
ملكة :
هاتي هنا فتأكل الآنسة وأنا أتحدث إليها.
الخادمة :
لك ذلك يا سيدتي (تخرج) .
ملكة (إلى حافظة) :
وأنت متخرجة من القصر العيني؟
حافظة :
نعم من عهد الدكتور شكري باشا رحمه الله.
ملكة :
كان ماهرا؟
حافظة :
جدا. لم يكن يدانيه مدان في أمراض النساء (يدخل إدريس بالطعام ويضعه على منضدة ثم يخرج) .
ملكة :
تفضلي.
حافظة (بتعفف) :
لم أكن أريد هذا التكليف في الساعة الثانية بعد نصف الليل.
ملكة :
لا تؤاخذينا فقد تأخرنا عليك. اسمحي لي أن أدخل قليلا عند الولد.
حافظة (وقد بدأت تأكل) :
لقد شدد الدكتور علي أن لا يدخل عليه أحد.
ملكة :
سأراقبه عن بعد دون أن يشعر بوجودي ...
حافظة :
لا لزوم لذلك وقد طمأنتك.
ملكة :
أنا أصدقك، ولكن ليطمئن قلبي دقيقة واحدة ثم أعود.
حافظة (بتردد وتسامح) :
الأمر لك تفضلي (تنهض الهانم ببطء وفي وجهها نظرة غريبة، وتقول للممرضة وهي خارجة) .
ملكة :
إلى اللقاء. كلي بهناء وسرور.
حافظة :
قلب الأم. الحمد لله على عدم الزواج. العذوبة عذبة.
المنظر الثاني عشر (يدخل الزوج وهو لابس معطف الراحة - روب دي شامبر - مهرولا وهو يفرك عينيه؛ فترتبك حافظة قليلا وتمتنع عن الطعام.)
حافظة :
عفوا يا سعادة البيك.
مرعشلي (ينظر إلى المائدة بغيظ ثم ينظر إلى وجه الممرضة فيبتسم) :
العفو ... العفو ... تفضلي! أتأكلين في هذه الساعة المتأخرة؟
حافظة :
السيدة شددت علي وألحت فلم أستطع مخالفتها، وقالت إن عملي يستلزم كفاية الغذاء، ثم إني سأسهر بقية الليل مع أنني تعشيت في الساعة الثامنة.
مرعشلي :
أوتجوعين بعد العشاء؟! هل استطعت أن تهضمي؟
حافظة (بخجل) :
لقد ضغطت السيدة علي وأجبرتني ...
مرعشلي :
هذا عمل في محله (يجلس على مقربة من الممرضة)
أما أنا فإذا تعشيت عشاء دسما كهذه الليلة فيدركني الأرق؛ فإنني لم أوشك أن أضع رأسي على الوسائد حتى رأيت رؤى مفزعة.
الممرضة :
كابوس!
مرعشلي :
هو هو بعينه ... كابوس، ثم شعرت هنا (يشير إلى معدته)
بالتهاب كأنه صاروخ من النار!
الممرضة :
خذ مزيجا من أملاح سيدلتزاو بيكربونات الصودا.
مرعشلي :
كربونات! لا لزوم لذلك. إن الأكل سينحدر حالا. لقد أخذت مرة هذه الكربونات وحصل لي شيء فظيع منها.
حافظة :
ماذا حصل لسعادتك؟
مرعشلي :
جعت جوعا شديدا جدا فأكلت (يضحك) .
حافظة (تنظر إليه باستغراب وتضحك) :
بالهناء والشفاء ... سعادتك والد المحروس الصغير على ما أظن؟
مرعشلي :
إي نعم ولي الشرف. أليس ولدا لطيفا جديرا بوالده؟
حافظة :
السيدة الهانم مشغولة جدا عليه.
مرعشلي :
وأنا أيضا، ولكن أنا مسلم أمري إلى الله (يلمح الجريدة فيلتقطها ويقرأ فيها قائلا)
إلا الموحد. الموحد الذي اشتريته باثنين وثمانين ونصف ينزل إلى ستين، وإلى تسعة وخمسين. يا له من خراب! دين الحكومة ينزل إلى هذا الدرك الأسفل!
حافظة (بدهشة) :
ما هو الموحد يا سعادة البيك؟
مرعشلي :
سهم من الأسهم.
حافظة :
سهم! أي سهم؟
مرعشلي :
سهم من الأوراق المالية اسمه في الجريدة بورصة الأسهم والسندات والأوراق المالية فهو في البورصة.
حافظة :
آه ... الآن فهمت.
مرعشلي :
فهمت ... والله شيء لطيف.
حافظة :
ما هو الشيء اللطيف يا بيك؟
مرعشلي :
منظرك يا حضرة الست الحكيمة يفرح النفس ويبهج القلب الحزين.
حافظة :
أنا لست طبيبة، إنما أنا ممرضة فقط.
مرعشلي :
كل الممرضات والقوابل يغضبن إذا لم يقل لهن طبيبات، وبعضهن تضيف إلى اسمها لقب أفندي. إلا أنت. وهذا يدل على حسن أصلك. شرف الله قدرك.
حافظة :
اسمح لي يا سعادة البيك. فإن الدكتور في حاجة إلي (تنهض)
طاب ليلك يا سيدي البيك (تخرج بسرعة) .
مرعشلي :
ممرضة ظريفة تحبب إلي المرض والعياذ بالله.
المنظر الثالث عشر (يدخل الدكتور فيبغت إذ يرى مرعشلي بك.)
مرعشلي :
أهلا وسهلا جناب الدكتور.
الدكتور :
صح النوم ... الحالة الآن جيدة والحمد لله.
مرعشلي :
البركة في همتك. أنا مطمئن مذ رأيتك. نرجو المعذرة يا جناب الدكتور نحن أقلقناك في ليل الشتاء.
الدكتور :
عفوا ... إن واجبي يقضي علي بذلك في كل وقت.
مرعشلي :
لو كنت طبيبا ما أقلقت نفسي في مثل هذا الوقت (لنفسه)
لقد أخطأت فإن هذا يكبر من شأن العيادة. أنا دائما أقترف مثل هذه الأغلاط وأدفع ثمنها غاليا.
الدكتور :
ولكن حياة الناس الذين وضعوا فيك ثقتهم، ماذا أنت فاعل بها؟
مرعشلي :
يجوز أن يلفحني البرد فيصيبني مرض يقضي على حياتي. وقد لا أنجح في معالجة المريض فنموت نحن الاثنين معا.
الدكتور :
إذن تذهب في سبيل الواجب الإنساني.
مرعشلي :
الواجب الإنساني لا. اعمل بي جميلا ودعني بعيدا عن الواجب الإنساني نحو ثلاثين عاما مقبلة.
الدكتور (مبتسما) :
ومع ذلك فإنك يا سعادة البيك ذهبت مع أسوأ افتراض. ولم تحسن ظنك لا بالعلم ولا بالقدر.
مرعشلي :
يجوز أن أنجح في شفاء المريض وأمرض أنا ...
الدكتور :
يجوز أن تشفي مريضك ولا تصاب بسوء وتفيد أصدقاء، كما أرجو أن يحدث في حالتي هذه الليلة.
مرعشلي :
في غاية اللطف! جنابك تعمل في مصر من مدة طويلة على ما أرى.
الدكتور :
منذ سنة فقط.
مرعشلي :
حضرتك نشأت في الأرياف، في الغربية مثلا.
الدكتور :
كلا يا بيك أنا نشأت وتربيت في القاهرة؛ لأنه لا يوجد مدرسة طب في الأرياف ولا في الإسكندرية ذاتها.
مرعشلي :
صحيح. مسألة التعليم العالي غابت عن فكري. ولعلك أيضا تعلمت في باريس أو في فرنسا.
الدكتور :
لا! تعلمت في مصر وسافرت إلى أوروبا للتخصص في أمراض الأذن والأنف والحنجرة في لندن عاصمة إنجلترا.
مرعشلي (باكتراث) :
كان يجب عليك فتح عيادة في القاهرة فورا لتتبوأ مكانتك التي تستحقها.
الدكتور :
إن بعض أمور خاصة بغضت إلي الإقامة في القاهرة. فأقمت في الإسكندرية فترة من الزمن عقب عودتي من أوروبا ثم جئت إلى القاهرة.
مرعشلي :
لا بد لنا من تقدير عملك حق قدره، ولا تغيب عنا أهمية عملك الجليل في علاج ولدنا بهذه الهمة.
الدكتور :
عفوا. أنا مكلف كما أخبرتك من زميل، وفي مثل هذه الحالة لا أسمح لنفسي بتكليف المريض بشيء.
مرعشلي (بفرح شديد) :
والله نعم الأخلاق الطاهرة. طبعا أفندم صنعة شريفة جدا حتى ولو أن جنابك قضيت الليل بطوله لا تقبض أجرا.
الدكتور :
طبعا هذا واجبي. بيد أن المرة الأولى لا تحتسب.
مرعشلي :
هكذا العلم وحسن الذوق وإلا فلا. الله يطمئنك كما طمأنتني.
الدكتور (بدهشة) :
على أي شيء اطمأننت يا بيك؟
مرعشلي :
على ولدنا العزيز عبد الحكيم. إنما كنت أريد أن أطمئن أيضا على الموحد من اثنين وثمانين ونصف إلى ستين. أكاد أجن. هذا هبوط يقصم الظهر.
الدكتور :
غدا يصعد! إن غدا لناظره قريب (تدق الساعة ويبدو الشفق من نافذة) .
مرعشلي :
الساعة الخامسة صباحا. هذا هو النهار. لا بد لي من صلاة الفجر حاضرة (ينهض)
المنزل منزلك (ينظر إلى الجريدة)
بين غمضة عين وانتباهتها. أسعد الله صباحك يا دكتور. يا حبذا لو ينفع الطب في الأسهم.
الدكتور :
أسعد الله يومك (يخرج الزوج)
حقا إنها معذورة. كيف استطاعت أن تعاشره كل هذه السنين؟ أية ثمرة ترجى من هذا الزواج المشئوم؟ إن معاشرة مثل هذا الشخص تحتاج إلى قدر وافر من البطولة.
المنظر الرابع عشر (تدخل ملكة وقد تولاها الضعف والذبول، ولكن في عينيها بريقا غريبا وتبدو كأنها تقاوم الضعف بهمة لا تعرف الكلال.)
ملكة :
أنت هنا بمفردك (تدنو منه بعطف لتحادثه فيبتعد عنها) .
الدكتور :
نعم. سعادة البيك صعد ليصلي الفجر حاضرا. اسمحي لي هنيهة (يخرج مسرعا كأنه يريد التخلص من الحديث) .
ملكة (لنفسها) :
لقد أخبر الممرضة أن النتيجة الحاسمة تظهر في الساعة الخامسة. وها هي الساعة الخامسة ولكنني لا أجرؤ على سؤاله (تدنو من زر الكهرباء فتدخل نعيمة)
أعدي لهم طعام الأفطار (تخرج نعيمة) .
الدكتور (يدخل مسرعا وعليه علامة الفرح) :
بشرى.
ملكة :
هل نجا؟
الدكتور :
لقد فات الخطر.
ملكة :
شكرا لك ... شكرا لك (تضحك قليلا ثم تبكي وتجلس على مقعد فيدنو ليسندها ثم يعود) .
الدكتور :
ولكنه يحتاج إلى العناية. غدا يبدأ في التحسن الظاهر، ولكن النقاهة طويلة ودقيقة.
ملكة (تفتح عينيها) :
شكرا لك يا عبد ... (تدخل حافظة ولكنها لا تلحظ ولا تسمع شيئا) .
الدكتور :
ما ورائك يا آنسة؟
حافظة :
المحروس فتح عينيه وطلب ماما.
الدكتور :
لا بأس يمكنها أن تذهب إليه الآن قليلا.
ملكة (إلى الممرضة) :
هل طلب ماما فقط؟
حافظة :
نعم ... وهل يحق أن يطلب سواها؟ (تبتسم بمعنى.)
ملكة :
ألم يطلب بابا أيضا؟ (وتنظر إلى الطبيب.)
حافظة :
لم أسمع (تبتسم)
سوى كلمة ماما.
ملكة :
هو غلطان ... لا بد أن يرى ماما وبابا. أليس كذلك يا دكتور؟
الدكتور :
طبعا هذا يكون أفضل وأتم (ينظر إلى ملكة محذرا) .
ملكة :
إذن هيا بنا نحن الاثنين ما دام البيك نائما فنكون معا بجانبه ماما و...
الدكتور :
الطبيب المعالج ... (ستار)
الفصل الثالث (في صالون في منزل مرعشلي بك بحدائق القبة غير الصالون الذي جرت به حوادث الفصل الثاني.)
المنظر الأول
مرعشلي (بحدة) :
يا نعيمة ... يا بنت ... يا إدريس ... يا جمعة ... أين الغداء؟ الساعة الآن الثانية بعد الظهر ولم تعدوا الغداء؟! إلى متى ... إلى متى؟ (يدخل إدريس) .
إدريس :
الغداء حاضر يا سيدي في غرفة المائدة (تدخل نعيمة) .
مرعشلي :
غرفة المائدة! لم تزدد بتعدد الغرف إلا وبالا وتعبا وإسرافا في النفقات. أنا لا أطيق كل هذه المصاريف (الخادمان يتغامزان، وتدخل ملكة)
أين الغداء؟ أنا لا أريد أن أنتقل من هنا فلتكن المائدة ها هنا.
ملكة :
ماذا جرى يا بيك؟ أفي كل يوم شقاق وشقاء وشجار بغير سبب؟ الغداء معد من الساعة الواحدة.
مرعشلي :
طبعا ... طبعا إن هذا الشجار سببه الارتباك في حياة الأسرة، والبيت في فوضى بسبب كثرة الخدم ... وكثرة الخدم توجب زيادة في النفقات. وصيفة لحضرتك ومربية للولد، وطاه وصبي وخادم السفرة وبواب وبستاني وزوجته. كل هؤلاء الأشخاص لهم مرتبات وأكل ونوم وكسوة في الأعياد، ونحن اثنان لا ثالث لنا.
ملكة :
لا ثالث لنا! والولد هل نسيته؟
مرعشلي :
ولد صغير كالبعوضة ... الخدم أكثر من السادة. ومع هذا فلا خدمة ولا راحة بال ولا اقتصاد.
ملكة :
هل هذا هو الذي يغضبك ويخرجك عن طورك وحلمك؟ هذه حياتي التي نشأت عليها. وأنت تعلم ذلك جيدا.
مرعشلي :
حياتك التي نشأت عليها؟ ولكن اللبيب من دار مع الزمن، والدنيا أزمة والقطن في هبوط. وكذلك الموحد لم يصعد كما كنت أظن!
إدريس :
الغداء معد يا سعادة البيك.
مرعشلي :
طبعا طبعا ... أعددتم الغداء بعد هذا الإلحاح والطلب. إنه غداء في غاية الغلاء. الغداء ... ألست أنا دافع الأثمان الباهظة؟ لو أكلت في أعظم مطعم فلا أكلف عشر ما أدفعه هنا في منزلي.
ملكة :
يا بيك لا يليق بنا هذا القول أمام الخدم. إن الغداء ليس لك بمفردك، بل هو لجميع من بالمنزل.
مرعشلي :
هذه هي الطامة الكبرى والجرح الدامي دائما. فماذا يصيبني من هذا الغداء إلا النصيب الذي أستطيع أن آكله (يخرج غاضبا قاصدا غرفة الطعام) .
ملكة (باشمئزاز وازدراء لنعيمة) :
هذه حياة لا تطاق. تنغيص مستمر بسبب الغداء والعشاء (وتجلس مفكرة) .
نعيمة :
سيدتي لا تحزني. رحمة الله على سعادة البيك الكبير. ما كان أكرمه في منزله! قضيت في خدمتكم أكثر من عشر سنين، لم أسمع في أثنائها كلمة من هذا القبيل.
ملكة :
رحمه الله! رحمه الله ... تلك الرحمة الواسعة التي تدرك الجميع وتسع كل شيء. ألم يكن هو السبب في كل ما أعاني الآن من صنوف الشقاء ... أنا وأنتم؟ ألم يكن سبب ما نقاسي من عذاب وضيق وألم؟
نعيمة :
لم يكن يظن أن البيك على هذا الجانب من الحرص الشديد و...
ملكة :
القسوة التي لا حد لها ... انطقي.
نعيمة :
يا سيدتي أنا لا أستطيع الكلام.
ملكة :
تكلمي فأنت لست بالغريبة عن الدار وأهلها، بل لست غريبة علي ولا أجنبية عني.
نعيمة :
الحق يا سيدتي أن البيك ظالم نفسه وظالم من معه.
ملكة :
تأملي يا نعيمة، إنه لا يريد أن يدفع ثمن الدواء ولا الثياب!
نعيمة :
ولم نره يوما يحمل لعبة أو حلوى كما يفعل سائر الآباء! حتى أفقرهم.
ملكة :
سائر الآباء ... نعم لقد ألح علي أبي كثيرا، ولكنني قاومته إلى النهاية وصحت عزيمتي على ترك الدار، ولكن أمي - سامحها الله - هي التي أرغمتني بمرضها الذي كان يهدد حياتها على الوقوع في هذا الشرك. ولولا ما قاله الأطباء من أن حياتها في خطر، ولا ينقذها إلا زوال الهم الذي كان يشغل بالها، ما كنت الآن في هذا البلاء.
نعيمة :
ولكن يا سيدتي، ما سبب شكوى سعادة البيك؟ إنه دائما يشكو من المصاريف والنفقات والتبذير والإسراف. على أن البيت لا يكلفه ما لا يطيق ... ولكن ...
ملكة :
ولكن ماذا؟!
نعيمة :
ألم يترك سعادة البيك المرحوم الشيء الكثير من الأطيان والأموال في البنوك، كذلك المرحومة والدتك. ألم تترك مصوغا وجواهر وأموالا متوافرة؟
ملكة :
نعم ... ولكن ربما لا تعلمين أنه هو الواضع اليد على الأطيان والأموال. أما معظم جواهري وحليها فقد اشترى بها سندات الموحد، وجعلها باسمه بدون علمي (يسمع من الداخل صوت مرعشلي بك الزوج وهو يزمجر ويصخب فتضطرب ملكة والخادمة تخرج) .
مرعشلي (داخلا وفي عنقه فوطة السفرة) :
الغداء. أكل كثير وأصناف متعددة، وطبعا هكذا يكون العشاء. فأين يذهب كل هذا الطعام يا ترى؟ إنني أرتاب كثيرا في سلوك هذا الطاهي وصبيانه (يدخل إدريس) .
المنظر الثاني
إدريس (مترددا) :
سيدي.
مرعشلي :
ماذا تريد من سيدك؟ ألم تتغد أنت ومن معك؟
إدريس (بغيظ) :
الحمد لله! ولكن جماعة من الريف حضروا للمقابلة. السيد متولي والشيخ عبد الفضيل أبو الذهب.
مرعشلي :
آه (يظهر فرحا ثم يكتمه بغتة)
لا بد أنهما حاضران للاعتذار عن السداد أو لطلب إنقاص الإيجار بسبب عجز المحصول. فليحضرا لينظرا بأعينهما ماذا تكلفنا البيوت التي نفتحها وننفق عليها في القاهرة (يخرج إدريس وتخرج السيدة وبعد قليل يعود إدريس وخلفه الفلاحان) .
المنظر الثالث
مرعشلي (بتكلف) :
أهلا وسهلا بمشايخ العربان وأسياد البلد.
متولي :
الحمد لله على السلامة يا سعادة البيك (يجلسون جميعا ويخرج إدريس) .
مرعشلي :
خيرا إن شاء الله. لا بد أن تكونا قد أحضرتما جميع الأقساط المستحقة والمتأخرة بعد سداد الأموال.
عبد الفضيل :
البركة في سعادتك. طبعا أحضرنا الأقساط بعد سداد الأموال، ولكن البعض والبعض ...
مرعشلي (بحدة) :
ماذا تعني يا شيخ عبد الفضيل؟ أنا واثق في ذمتك!
متولي :
يعني البعض حضر والبعض تأخر ... وموعدنا بسداده الأسبوع القادم على الأكثر.
مرعشلي :
الأسبوع القادم. يا سلام! هذا لا يطاق. ألا تعلمان أنني مديون وأن الدائنين لا يرحمون والخواجات هنا في مصر لا يعرفون التأخير، بل يحتمون الدفع في المواعيد. وكل شيء هنا يحتاج إلى مصاريف. هل تظنان أن الملاك يكنزون؟ كل شيء منصرف أولا بأول، وهيهات أن يبقى لدينا شيء سوى النذر القليل.
أبو الذهب :
البركة في سعادتك.
مرعشلي :
ونفقات البيوت، ومرتبات الخدم ... والسيارة ... وكسوة الشتاء ... كل هذه آلات تشتغل ليلا ونهارا مثل وابور الطحين، تطحن في مالي.
متولي :
نحن أحضرنا اليوم ألفا وخمسمائة جنيه من أقساط أرض المرحوم برعي بك.
مرعشلي (بانزعاج) :
صه ... صه ... اخفض من صوتك يا رجل خشية الفضيحة ووقوعي في الملام ... (ينظر في الجهات الأربع)
لأن هذا المبلغ ضئيل جدا (يفرك أنامله كمن يهنئ نفسه ثم يمد يده ليقبض المال، وفي هذه اللحظة المباركة يدخل إدريس بالقهوة فيرى عملية القبض فيرتبك مرعشلي، ولكن الفلاحين لا يلحظون ارتباكه ويستمرون في العد بصوت مرتفع مع إظهار النقود، فينظر إليها وإلى إدريس شزرا، ثم يكلفه بترك القهوة بغضب ويعيد العد خشية الخطأ، ثم يضع النقود بفرح شديد في محفظته الضخمة ويضعها بتحفظ وحرص في جيبه الداخلي)
آه هذا قليل من كثير. إنما إن شاء الله في الأسبوع القادم ستأتي البقية.
أبو الذهب :
إن شاء الله البقية تأتي الأسبوع القادم.
متولي :
سنبذل غاية جهدنا.
مرعشلي :
غاية الجهد ... إذن لا أعطيكما صكا بالسداد حتى تحضرا البقية.
أبو الذهب :
بارك الله فيك يا سعادة البيك. لا يعلم أحدنا في أي وقت يموت ونحن آباء أطفال صغار وأرباب نساء وبيوت.
مرعشلي :
حسن ... حسن ... سأكتب لكما صك السداد معلقا على شرط الوفاء في آخر هذا الأسبوع.
متولي (بغضب) :
اكتب ما تشاء، فقد دفعنا لك والله يفعل ما يريد (يشربان القهوة بغيظ وهو يكتب الصك ثم يتلوه) .
مرعشلي :
استلمت أنا الموقع في أدناه مرعشلي بك حمد الله مبلغ (بصوت منخفض)
ألفا وخمسمائة جنيه مصري من أصل إيجار أطيان الست ملكة هانم، كريمة المرحوم برعي بك أبو النصر، بصفتي وكيلا للست المذكورة وحرمنا، وذلك من يد المشايخ عبد الفضيل أبو الذهب والسيد متولي متولي من ناحية سرياقوس، ولا يصير طرفهما خاليا إلا بعد سداد القسط الثاني والأخير وقدره ألف وخمسمائة جنيه، وذلك في مدة أسبوع يمضي من تاريخ هذا الإيصال (يمتعض الفلاحان ويتململان)
الإمضاء مرعشلي بك حمد الله وكيل الست ملكة هانم حرمه (يدخل إدريس لينقل صينية القهوة)
يا إدريس (يمد يده بالورقة فيأخذها متولي ويضعها في جيبه دون أن يقرأها)
يا إدريس ... اصحب المشايخ حتى الباب ... مع السلامة يا مشايخ العرب.
الاثنان :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (ينهضان ويقلبان نظرهما في أثاث الغرفة) .
مرعشلي :
وعليكما السلام (يخرج إدريس والفلاحون) .
المنظر الرابع (تدخل ملكة حزينة وتنظر إلى زوجها نظرة طويلة كأنها تستشف ما في نفسه، فيلتفت إليها مرعشلي ويجتهد في أن يلاينها ويغير مسلكه الذي سلكه في بداية هذا الفصل.)
مرعشلي :
طبعا مزاجك الآن صار أكثر اعتدالا من الصباح.
ملكة :
مزاجي أنا! ... إنه دائما معتدل (تدخل نعيمة وتهمس في أذن سيدتها) .
مرعشلي :
آه يا خسارة، دائما أسرار وأخبار وهمس ووسوسة ... ما وراءك يا نعيمة؟ تكلمي بصوت عال يسمعه الجميع. هل أنا أجنبي عن المنزل وأهله؟ (ترتبك نعيمة) .
ملكة :
يا بيك ليس هناك أسرار ولا وسوسة ... إنما نعيمة كثيرة الخجل.
مرعشلي :
ماذا تقولين يا نعيمة؟ ماذا تقول يا ست؟
ملكة :
لا شيء. فقط تخبرني بأن المعطف الذي خاطته مدام تيبو قد أنجزته وأرسلته مع فتاة من فتياتها. يا نعيمة، دعيها تدخل ومعها المعطف.
مرعشلي :
المعطف! ... أي معطف؟!
ملكة :
المعطف الذي طلبته منك بإلحاح منذ شهر أكتوبر، ونحن الآن في الشتاء.
المنظر الخامس
مرعشلي :
آه المعطف ... (تدخل الفتاة ومعها علبا كبيرة مربعة فتحيي الجميع بابتسام وتلاطفها ملكة، ثم تفتح العلبة وتظهر المعطف فتنهض لقياسه فتبدو ذات جمال وتنظر إلى نفسها في المرآة ويظهر المعطف مناسبا لها وليس به عيب، فتعيده إلى العلبة وعند ذلك تخرج الفتاة ورقة الحساب من العلبة، وتقدمها إلى السيدة فتنظر إليها مليا وتقدمها إلى البيك)
ما هذه الورقة؟ إنها مكتوبة باللغة الإفرنجية!
ملكة :
هي بيان الحساب.
مرعشلي :
آه الفاتورة ... طبعا معطف مثل هذا لا بد له من فاتورة كبيرة.
ملكة (تدير بصرها إلى الفتاة وإلى الزوج بخجل كمن تريد أن لا تطلع الفتاة على هذه المناقشة) :
طبعا الفاتورة، أي شيء غريب في الفاتورة. ومع ذلك فإن الثمن ليس باهظا. وأنت تعرفه من قبل.
مرعشلي :
ربما عرفته، ولكن معرفة الثمن قبل دفعه بمدة شيء ومعرفة الثمن عند دفع الشيء شيء آخر. فكم قيمة هذه الفاتورة؟
ملكة :
أحد عشر جنيها فقط.
مرعشلي :
أحد عشر جنيها! هذا نهب وسلب ... معطف بسيط كهذا (يقف وينشر المعطف بغيظ وازدراء فتنزعج الفتاة المرسلة من قبل الخياطة)
بأحد عشر جنيها، قطعة جوخ وقطعة حرير وبضعة زراير من الصدف وذراع من الفرو بأحد عشر جنيها! ما هذا؟ في أي زمن نعيش؟!
ملكة :
يا بيك لا لزوم لهذا القول الآن. ادفع أولا ثم نتكلم فيما بيننا. ثانيا لأنه لا يجوز تعطيل هذه الفتاة وتضيع وقتها في سماع مناقشتنا.
مرعشلي :
أدفع أولا طبعا! لأنني أنا الذي سأدفع ولا يوجد غيري يدفع هذه الفاتورة، وغيرها من الفواتير. على الأقل هذه فاتورة مكتوبة. ولكن تقدم إلي في كل يوم فواتير شفوية لا يعلم قيمتها إلا الله. هذا هو سبب شكواي وغضبي وغمي.
ملكة :
يا بيك ... (تغضب) .
مرعشلي :
ما علينا! ألا يمكن خصم شيء من هذه الفاتورة؟ (الفتاة تتضجر)
يا صبية يا مدموازيل، ألا يمكن خصم شيء عند الدفع فورا؟
الفتاة :
يا سعادة البيك لا علم لي ولا إذن لدي بذلك. إنما أنا أحمل البضاعة وأسلمها وأعود بالثمن المبين في الكشف كاملا.
مرعشلي :
جميع التجار وأرباب المخازن الكبرى تفرح عند الدفع فورا (يبتسم للآنسة)
لأجل خاطري تنزيل بسيط. خصم قليل. ولو ثلاثة جنيهات مثلا.
ملكة :
خصم ثلاثة جنيهات! كفى ... كفى يا بيك. هل تريد أن تدفع أو لا تريد؟ (يبدو عليها الغضب الشديد) .
مرعشلي (يقصد ركنا من الغرفة بحيث يكون أمام المرآة فيراه الجميع وهو لا ينتبه لذلك لشدة ارتباكه، ويخرج المحفظة الضخمة ويعد النقود ويقبض عليها بيده ويعود إلى وسط الغرفة) :
ها هي النقود (يبدأ بعدها بصوت مسموع)
الله واحد، ليس له ثان! ثلاثة ... أربعة ... خمسة (إلى أحد عشر. فتأخذها الفتاة بغيظ) .
الفتاة (إلى السيدة) :
شكرا لك يا سيدتي (تحيي وتنصرف) .
مرعشلي (للفتاة وهو على وشك الانصراف) :
عدي النقود مرة ثانية. حسب أوامر الشرع الشريف ربما أكون مخطئا في جنيه زدته أو نقصته (تخرج الفتاة دون اكتراث لكلامه الأخير) .
المنظر السادس
مرعشلي (ملتفتا إلى ملكة فإذا هي في غضب شديد) :
أنت دائما غضبى. لماذا هذا الغضب والعبوس؟ أنت بحمد الله عائشة في منزل جميل وعندك ملابس جديدة (يشير إلى المعطف)
وبيانو وفونغراف ... وزوج ...
ملكة :
زوج ... ماذا تقصد؟ أي زوج ؟
مرعشلي :
أنا ... طبعا أنا ولا فخر. زوج عاقل جدا يعرف قدرك. حقا إنني لم أتعلم بالمدارس ولكني أفهم كل شيء؛ في الزراعة والأسهم والفونوغراف، والجرائد ... فلماذا أنت دائما مطرقة؟ تفكرين كأنك تحملين هموم الدنيا بأسرها؟
ملكة :
من فضلك يا بيك! ربما كنت مشغولة.
مرعشلي :
مشغولة! بماذا؟ ابنك والحمد لله بخير وقد تعبنا كثيرا وأنفقنا كثيرا في المرض والنقاهة حتى شفاه الله. أنا أمامك زوج الدنيا والآخرة إن شاء الله بعد عمر طويل.
ملكة (تضحك بتكلف وغيظ) :
الدنيا والآخرة. يا لطيف يا بيك ألا تكفيك الدنيا؟ من فضلك يا بيك هل يمكنك أن تعطيني خمسين جنيها لمسألة ضرورية؟
مرعشلي (ينقلب غاضبا) :
خمسين جنيها! لماذا مسألة ضرورية؟ ليس عندي الآن.
ملكة :
عفوا لا تغضب. أريد نقودا من إيرادي الخاص.
مرعشلي :
من إيرادك الخاص! هل لك إيراد خاص؟
ملكة :
طبعا وأنت تعلم جيدا أن لي إيرادا خاصا وهو ريع الأطيان التي ورثتها عن أبي. وأنت تتسلمها منذ وفاته إلى الآن.
مرعشلي :
طبعا ليس بيننا خاص وعام. إيرادك إيرادي لأن المصالح مشتركة. من دفع ثمن هذا المعطف؟ ومن يدفع كل يوم مصاريف المنزل والخدم والحشم والنفقات الهالكة والمطلوبات النثرية التي لا يمكن حصرها؟
ملكة :
طبعا أنت لأنك ملزم بذلك. الزوج ينفق على الزوجة. افترض أنني لم أرث عن والدي شيئا مما ورثت من مال وعقار.
مرعشلي :
طبعا كنت تتزوجين من رجل من طبقة أقل من طبقتي. وهم كثيرون وتعيشين عيشة محدودة.
ملكة :
أنا الآن مثل من ليس لهم إيراد.
مرعشلي :
لماذا؟
ملكة :
لأنك أنت تستولي على جميع دخلي. وقد استوليت اليوم فعلا على ألف وخمسمائة جنيه من إيجار أطياني.
مرعشلي :
من ذا الذي أخبرك بذلك؟
ملكة :
لم يخبرني أحد، ولكني سمعتك بأذني تقرأ صك السداد بعد أن عددت النقود وتسلمتها ووضعتها في تلك المحفظة (تشير إلى جيبه الضخم) .
مرعشلي (يلين كالأفاعي) :
يا ست، كل شيء له لزوم. هل هذه النقود التي تسلمتها سأختزنها لنفسي؟ كلا إنما أدخرها لك وأستثمرها وأنميها.
ملكة :
إذن حاسبني من فضلك عن جميع دخلي، وأخبرني كم ادخرت لي وكيف استثمرت رأس مالي؟
مرعشلي :
أحاسبك! أهازلة أنت أم جادة فيما تقولين؟ هذا خروج. هذا نشوز هذا عصيان. أحاسبك! كلمة لم أسمعها من أحد طول حياتي!
ملكة :
ألست وكيلي في إدارة شئون ما أمتلك؟ إذا كانت هذه الكلمة لا ترضيك فلنا شأن آخر.
مرعشلي :
أي شأن آخر؟
ملكة :
أنت تعرف طبعا نتيجة الشقاق المستمر بين الزوجين. إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. فإذا كنت لا تستطيع معاشرتي بالجميل فالأولى لنا أن نفترق.
مرعشلي :
نفترق!
ملكة :
طبعا هذا هو أمر الشرع الشريف الذي تذكره دائما. لماذا أوجد الطلاق؟ هل سنه الشارع عبثا؟!
مرعشلي :
الطلاق للرعاع والأوباش. أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
ملكة :
هو أحب الحلال إلى الله في مثل هذه الحال.
مرعشلي :
الطلاق مستحيل. ثقي وتأكدي أنني لا أطلق أبدا، وأنك زوجتي في الدنيا وفي الآخرة.
المنظر السابع (يدخل الولد الصغير فجأة فيسكت الزوجان خوفا من سماعه موضوع المناقشة، فيلجأ إلى أمه فتضمه إلى صدرها وتقبله وتبكي، فينتهز مرعشلي هذه الفرصة وينسحب من الغرفة دون أن يشعر به أحد.)
ملكة (للولد) :
حبيبي ... ولدي ... نور عيني.
الولد :
لماذا تبكين؟ هل طلبت شكولاتة ولعبا من بابا ولم يحضرها لك مثلي؟ ماما لماذا لم يحضر لي الشكولاتة واللعب؟ هو دائما يقول سأحضر لك اللعب باكرا ولا يحضرها!
ملكة :
هو ينسى كثيرا يا حبيبي لأنه مشغول.
الولد :
وهل عمي الدكتور مشغول أيضا مثل بابا؟
ملكة :
نعم هو مشغول وربما كان أكثر من بابا
الولد :
لماذا إذن عمي الدكتور يحضر إلي اللعب والشكولاتة ولا ينسى؟ أين هو الآن؟ متى يحضر؟ أريد أن أراه. ماما أريد أن أراه. فلعله يحضر لي معه لعبا جديدة.
ملكة :
يا حبيبي عندك لعب كثيرة (تنادي)
يا نعيمة (تدخل نعيمة)
هات الحصان الأبيض والسكة الحديد.
الولد :
لا ... أريد الآن الدب الكبير والسيف (تخرج نعيمة وتعود باللعبتين المذكورتين فيلعب بهما الصغير ويلهو والأم تداعبه)
ما اسم هذا الدب يا ماما؟
ملكة :
اسمه الدب الأكبر.
الولد :
وما اسم هذا السيف؟
ملكة :
سيف ... سيف نابليون.
الولد :
وهذه السكة الحديد؟
ملكة :
سكة حديد حلوان (يسمع بوق سيارة، فتتسمع وتنفعل)
من يكون هذا القادم؟ (تنظر في ساعة اليد)
الساعة الرابعة. هذا يوم الجمعة. لا بد أن يكون الدكتور (تنهض) .
الولد :
لماذا تنهضين؟ ألا تلعبين معي؟
ملكة :
عمك الدكتور حضر يا حبيبي (تدخل نعيمة وعليها سيماء الفرح) .
المنظر الثامن
نعيمة :
سيدتي حضرة الدكتور (يدخل الدكتور عبد الحكيم ويقصد الطفل مباشرة) .
الولد :
عمي! ... عمي!
عبد الحكيم :
حبيبي عبده (يحمله ويقبله والولد يرد القبل بمثلها) .
الولد :
ماذا أحضرت لي؟
الدكتور :
أحضرت لك كل شيء (الولد يضع يده في جيب الدكتور ويخرج منها شكولاتة وصفارة وصورا؛ فيفرح الطفل ويقبل الدكتور ويجلس في حجره ثم يأخذ اللعب الجديدة ويضمها للعب القديمة، ويلهو بها فيخلو الجو للسيدة والطبيب) .
ملكة :
هل هذا يرضيك؟ أتقبل دوام هذه الحال؟ أنا وابني الذي هو ابنك نعيش بعيدا عنك في منزل رجل أجنبي عنا، دون أن أستطيع أن أخبر الصغير بحقيقة نسبه مع شدة نفوره من الآخر.
الدكتور :
وأي ملام أستحق أن توجهيه إلي بعد أن قاسيت في سبيلك ما قاسيت، ولا أزال حتى الآن أشعر بألم الصدمة التي أصابتني من أبيك. إنه كان وحده مسئولا. فقد أعماه الطمع الأشعبي عن حقيقة سعادتك، ولكن لا يجوز لي إلا أن أذكر محاسنه.
ملكة :
طمعه الأشعبي! ... لقد انقلبت الآية وصرت أنا فريسة لطمع هذا الرجل الثقيل. هل تظن أنه اغتال ثروتي ووضع يده على تركة أبي وأمي؟ وهو الآن مستول على جميع إيرادي بغير شريك أو حسيب؟
الدكتور :
هل هذا الرجل الغني الذي فضله أبوك علي لضخامة ثروته اغتال ثروتك؟
ملكة :
نعم، واليوم فقط استولى على أقساط إيجار أطيان والدي.
الدكتور :
ولماذا لا تطالبين بها؟
ملكة :
لا فائدة من المطالبة لشدة جشعه وحرصه، وقد ظهر لي الآن أن والدي كان ألعوبة في يد هذا الرجل فخدعه، ولم يكن ذلك التعس يحبني أو يهواني إنما كان يرمي إلى الاستيلاء على ثروتي ؛ لعلمه بأني وحيدة والدي وأنهما لن يعيشا إلى الأبد. وقد تم له ما أراد وتحقق له هذا الحلم الذهبي كما تحققت شقاوتي.
الدكتور :
إذن لا خروج لك من هذا المأزق إلا بالطلاق.
ملكة :
الطلاق ... لقد طلبته منه مرات عدة فكان طلبي يهتاجه فيظهر لي كالذئب الجائع أو النمر النهم، ويؤكد لي أن الطلاق مستحيل بكل قوته، حتى علمت أنه لست أنا الذي يحرص علي ولا يريد طلاقي، إنما هو لا يريد طلاق ثروتي. حتى لو علم علم اليقين أنني لا أحبه وأن الولد ليس ابنه، فقد لا يكترث لذلك.
الدكتور :
هل هذه سعادتك التي كان يسعى إليها والدك وهو يصدني ويطردني؟ ما أشد تهكم القدر! تأكدي يا ملكة أنني كنت مستعدا أن أضحي في سبيل حبنا بكل شيء؛ ما أملكه وما لا أملكه، بشبابي ... بحياتي ... بعلمي. وكنت واثقا أنني لو تزوجت منك لكنت الآن أعظم مما أنا عليه ألف مرة. فلا تندبي حظك وحدك بل اندبي حظينا معا.
ملكة :
ولكن الآن ... الآن يا عبد الحكيم يا أخي ... ما العمل؟ فلندع الماضي جانبا ما تدبيري؟ ... ما حيلتي؟ إنني في أشد ضيق ... بلغ بي اليأس مبلغا لا تكاد تصدقه. خمس سنين قضيتها في بغض وشقاء وشقاق لا تنتهي.
الدكتور (يتأمل) :
على أن ذاك الرجل لا يظهر لمن يراه بهذا المظهر المزري به.
ملكة :
إنك لا تعرفه كما أعرفه أنا؛ إنه كالحرباء يتلون بألوان شتى، ويظهر أمام كل إنسان بما يلائم غايته. وهو في عشرته كالأخطبوط حتى يكاد الواقع بين خراطيمه يظن أن لا خلاص له. حتى الولد الصغير قد نشأ نافرا منه لأنه لم ير يوما شفقة تغريه أو حنانا يجذبه. فهو يفتأ ينظر إلى الصغير شزرا ويحاسب في كل ما يتكلفه ويمانع في شراء أبسط الأشياء له.
الدكتور :
ولكن يا ملكة كيف قبلت منه في حياة والدك؟
ملكة :
نعم قبلت كما تقبل الحمامة ذبحها، ورضيت معاشرته كما يقبل القمري سجنه في القفص. وقد رفضت إلى أن كاد أبي ينفجر من الغيظ والكدر، ولكن أمي - سامحها الله - هي التي تنبأ الأطباء بشدة دائها ودنو أجلها فأرغمت على هذا الزواج بأمل شفائها أو على الأقل لتحسين حالتها وتخفيف وطأة الداء عنها ونجاتها من الخطر. فهل ألام إذن على أنني بذلت حياتي رخيصة وضحيت بشبابي وولدي وحريتي في سبيل إنقاذ تلك التي ولدتني وربتني صغيرة؟!
الدكتور :
كل ذلك جرى لك!
ملكة :
وأكثر منه ...
الدكتور :
وأنا لا أعلم به ...
ملكة :
طبعا لأنك استبحت لنفسك أن تنجو بها من تلك المشكلة؛ فبقيت خمس سنين ولا أخطر ببالك مرة، فلم أقف على أخبارك من أحد، ولم توافني منك طوال هذه المدة رسالة.
الدكتور :
لقد خشيت من شدة الألم ... وأنت لماذا لم تتحري ولم تسألي؟
ملكة :
لقد سألت عنك بعد أن أفقت من نكبة الزفاف، فلم يهدني إلى مقرك أحد؛ فكنت كالمجنونة أريد أن أراك. فتضاربت أقوالهم، فعلمت حينا أنك في الأرياف وحينا آخر أنك في الإسكندرية. وعلمت أيضا أنك سافرت إلى أوروبا.
الدكتور :
كل هذا صحيح، ولكن صورتك في كل هذه الأوقات العصيبة ... كانت أمامي ... وكانت ذكراك نبراس حياتي ... ونبرات صوتك وألفاظك العذبة لم تبرح عقلي وقلبي لحظة حتى تلك الفوتوغرافية الصغيرة التي أخذتها بيدي منك في القناطر الخيرية لم تفارقني طرفة عين.
ملكة :
وصورتك أنت أيضا لا تزال عندي، وكنت أطيل النظر إليها حتى إن الطفل لو تأملت ملامحه تجده أقرب إليك مني. فالناظر إلى وجه عبد الحكيم (بصوت مسموع يلفت الطفل)
يكاد يراك مصغرا.
الولد (ملتفتا فجأة عند سماع اسمه) :
ماما ... أية صورة تقصدين؟
ملكة (مرتبكة) :
الصورة التي أحضرها عمك الدكتور اليوم. الكارت بوستا.
الولد (يتناولها وكانت مهملة) :
ما هذه الصورة؟
ملكة :
هذه صورة بنت صغيرة تلعب مع عصفورها في الحديقة.
الولد :
ماما ... ماما أريد عصفورا كهذا.
الدكتور :
حبيبي ... عزيزي عبد الحكيم ... ولدي (يندفع نحوه ويحمله ويقبله فتغرورق عيناه بالدموع) .
الولد (بتأثر وجزع) :
عمي ... ماما لماذا يبكي عمي الدكتور؟
ملكة (وقد اغرورقت عيناها بالدموع أيضا) :
لأن له ولدا صغيرا لطيفا يشبهك تمام الشبه واسمه ...
الولد :
من هو؟ أريد أن أراه ... أين هو؟
ملكة :
هو في الإسكندرية يا حبيبي عند البحر.
الولد :
ما اسمه؟
ملكة :
اسمه كاسمك.
الولد :
عبد الحكيم مثل اسمي (يصفق بيديه علامة الفرح)
أريد أن أراه.
ملكة (تحمل الولد وتتقدم به إلى المرآة فتبدو فيها صورته منعكسه) :
انظر يا عبد الحكيم في هذه المرآة. يا نور عيني يا مهجتي.
الولد (ناظرا إليها) :
يا ماما ...
ملكة :
ماذا ترى؟
الولد :
فيها أنا ...
الدكتور (مطرقا ... ثم يتقدم إلى المرآة) :
هذه بالضبط صورة الولد الصغير الذي تريد أن تراه، وهو عندما يراني يقول لي يا بابا.
الولد :
أريد أن أراه ... (يجلس الدكتور ويسند رأسه بيده ويبكي) .
الدكتور (ناهضا) :
لا بد من الخروج من هذه الورطة البشعة ... دوام هذا الحال محال.
المنظر التاسع
الزوج (من الخارج بصوت جهوري) :
عظيم عظيم والله. فيه الخير سعادة الدكتور (يملك الاثنان حواسهما فلا يبدو عليهما شيء، أما الطفل فلا يزال متمسكا بها وعندما يدخل الزوج يضع الطفل خده على كتفها كمن يريد أن ينام خوفا)
هكذا ... هكذا عناية الأطباء وإلا فلا! السلام عليكم ورحمة الله (يحاول الدكتور النهوض لتحيته)
لا تقم من مكانك ... أقسمت عليك.
ملكة :
حضرة الدكتور سأل عنك عند حضوره، فلم أدر كيف أعتذر له؛ لأنك كنت خرجت فجأة مع أنك كنت تعلم بموعد زيارته. وكان ينبغي لك أن تكون في انتظاره.
مرعشلي :
المنزل منزله وأنا أخوه الأكبر والولد ابنه.
الدكتور (مبتسما) :
عفوا يا بيك ... هذا صحيح وواجب علي.
ملكة (تصرف النظر عن زوجها وتستمر في حديثها كمن كانت تتكلم في مسألة طبية) :
إذن ترى أن شربة الزيت شديدة في الشتاء يا جناب الدكتور، وتفضل المانيزيا بالينسون.
الدكتور :
طبعا، ولا بد من إعطائه زيت السمك مستحلبا، وفي فصل الربيع يعطى له البلاتول مع وجوب الرياضة اليومية.
ملكة :
ها هو سعادة البيك حضر، فاسمح لي حضرتك في الانصراف (تأخذ الولد وتخرج) .
الولد :
لا ... لا ... لا أخرج ... لا أترك عمي الدكتور.
الدكتور :
لا بأس يا حبيبي اخرج مع ماما إلى الفسحة.
الولد :
أريد أن أرى الولد الذي رأيت صورته في المرآة.
ملكة (بسرعة) :
نعيمة ... نعيمة ...
نعيمة (تدخل) :
سيدتي ...
ملكة :
خذي اللعب (تجمع نعيمة شتات اللعب وتنقلها، وتأخذ الأم ولدها بشبه عنف، والدكتور يداعبه ويلاطفه صامتا حتى باب الخروج) .
مرعشلي :
الولد والحمد لله قد أثمر فيه الجميل، وهو متأثر بمعروفك معه، ومنذ أن عالجته ومن الله عليه بالشفاء على يديك، وهو متعلق بك أشد من تعلقه بي أنا ...
الدكتور :
العفو يا بيك ... الأطفال يحبون الملاطفة ... وأنا لا أقصر في ذلك نحوهم.
مرعشلي :
تمام ... ولكني لا أعرف أن ألاطفه كما تلاطفه جنابك.
الدكتور :
إن معالجة الأطفال تحببهم إلينا ... وكل إنسان يشعر بألم إنسان آخر لا بد أن يعطف عليه، والعطف يولد الحنان ... والحنان يولد الحب.
مرعشلي :
هذه فلسفة، زادك الله ... أنا أحب أن أفهم مثل هذه المسألة وأقرأ الجرائد والروايات ... ولكن لا أزال أحتاج إلى سماع مثل هذا الكلام العذب. إنه حلو كالعسل ... ولا أتذكر أنني قرأته في أية جريدة أو كتاب.
الدكتور :
العفو ... هذا من حسن أدبك وتواضعك.
مرعشلي :
العفو ... أريد أن أنتهز هذه الفرصة وأسألك عن صحتي.
الدكتور (باهتمام مصطنع) :
أفندم ... كلي أذان صاغية.
مرعشلي :
منذ أيام أشعر بدوار وقد فقدت بعض شهية الطعام. وفي رأسي طنين كطنين الذباب.
الدكتور :
أظن هذا نتيجة عسر هضم بسيط.
مرعشلي :
لا ... لا ... عسر هضم. هذا يحصل لي من يوم نزول القطن وأيضا منذ هبوط الموحد. صحيح أن الموحد أخذ يستعيد قوته ولكن أين؟ من اثنين وثمانين ونصف ثمن المشترى إلى خمسة وستين.
الدكتور (بتململ) :
هذا تعكير مزاج يزول مع الزمن وصعود القطن والسندات (ينهض)
أرجو أن تأذن لي بالانصراف لأن لدي بضع زيارات ذات شأن.
مرعشلي :
العفو ضروري ... لأجل هذا (يضحك)
لم أستطع أن أدعو سعادتك لشرب الشاي معي. مع أن الساعة الخامسة.
الدكتور :
في الأفراح إن شاء الله (يتصافحان فيصحبه إلى الباب) .
مرعشلي (لنفسه) :
دكتور فصيح كأنه محام. كلام مرتب منظم كسلاسل الذهب يقوله برزانة وتؤدة، كأنه أمير ابن أمير (بأسف)
لماذا يا ربي المرحوم والدي لم يعلمني في المدارس؟ ولكن من يدري! هل كنت أفلح في المدارس وأتعلم بفصاحة مثلهم؟ شاعر بألم. يولد المحبة والمحبة تولد العواطف والعواطف تلد لا أدري ماذا؟ كأنها سلسلة نسب. هكذا الكلام وإلا فلا (ينظر في أرض الغرفة فيجد قطعة من الحلوى التي تركها الطفل)
هذه حلوى. خد الجميل محشوا باللوز (يزدردها)
ولكن من أتى بها إلى هنا؟ أنا لم أشتر شيئا من هذا ... يا نعيمة ... يا إدريس (تدخل نعيمة) .
المنظر العاشر
نعيمة :
أفندم
مرعشلي :
ناد السيدة بسرعة (تخرج نعيمة وبعد قليل تدخل ملكة) .
ملكة (بغضب) :
حضرتك تدعوني؟
مرعشلي :
حلاوة خد الجميل من أتى بها إلى هنا؟
ملكة :
أين هي؟
مرعشلي :
أكلتها (ثم يلتقط من الأرض غلاف الورق الذي كانت به الحلوى فتراه) .
ملكة :
هذه ليست خد الجميل إنما اسمها نوجاه.
مرعشلي :
نوجاه!
ملكة :
نعم نوجاه ... أحضرها الدكتور عبد الحكيم.
مرعشلي :
ولماذا نقبل من جناب الدكتور هذا التكليف؟
ملكة :
هو أخبرك أنه محب للأطفال؛ لأنه يعالجهم ويلاطفهم.
مرعشلي :
أنا وعدت الولد بإحضار الحلوى والشكولاتة. ألم يكن يستطيع الانتظار؟
ملكة (بغيظ مكظوم) :
طبعا ليس لديك الوقت الكافي؟
مرعشلي :
من الأنف صاعدا (يضع يده على أنفه) .
ملكة :
من الأنف صاعدا! ماذا تقصد؟ أي شيء يصعد من أنفك؟
مرعشلي :
الكلام صاعد من أنفي من شدة غيظي.
ملكة (تضحك جدا بعد أن تفطن لخطئه في فهم اللفظ الذي يريد أن يقوله) :
آه تقصد أن تقول من الآن فصاعدا ... تعني من هذا الوقت إلى ما بعد الآن.
مرعشلي :
بالله عليك ... أقسم بشرفي أنني كنت دائما أظنها من الأنف صاعدا ... ومع ذلك من الآن فصاعدا سأحضر له كل يوم ما أعد به من الحلوى، مهما يكبدني ذلك من المصاريف.
ملكة :
وأنا الأخرى من الآن فصاعدا ومن الأنف صاعدا لا بد أن أجد طريقة أدخل بها السرور على قلب عبد الحكيم، فيفرح فرحا شديدا بحيث لا يفارقه.
مرعشلي :
ماذا تنوين أن تفعلي له؟
ملكة :
ماذا تظن أنه يفرحه فرحا شديدا لا يفارقه!
مرعشلي :
تحضرين له شكولاتة ونوجاه.
ملكة (بعدم اكتراث) :
كلا!
مرعشلي :
إذن حلوى من مولد النبي.
ملكة :
ولا هذه أيضا.
مرعشلي :
حقا عجزت عن التخمين.
ملكة (بقوة وعزم) :
سوف أجعله يعرف أباه حق المعرفة، ويحبه من كل قلبه ولا يفارقه أبدا ليلا ونهارا.
مرعشلي :
آه ... هذا ما كنت أتمنى ... لقد أدخلت علي السرور، وقد نويت أن أسدد جميع أثمان مشتريات الشتاء ... أما أنت فخذي هذه (يخرج بتحفظ ورقة مالية)
الورقة ذات الخمسة جنيهات مصرية.
ملكة (ضاحكة بتهكم) :
احتفظ بها إلى أن يعرف الولد أباه ... (ستار)
الفصل الرابع (هذا الفصل تقع حوادثه في عيادة الطبيب عبد الحكيم. المنظر يستمر في غرفة العيادة نفسها وبها الأدوات التي تكون عادة في قاعة الفحص؛ وهي مكتب ومضجع لرقاد المرضى لدى فحصهم ودولاب أسلحة العمليات، ومكتبة بها كتب وسجلات، وتليفون وميزان صغير للأطفال، وكرسيان كبيران وموقد ومروحة كهرباء، والدكتور عبد الحكيم جالس بثوب العمل الطبي وأمامه مريض يخاطبه.)
المنظر الأول
الطبيب :
أمامي هنا ... تفضل بالجلوس (يجلس المريض بارتباك) .
المريض :
أشكرك يا جناب الدكتور، إنني منذ رأيتك في غاية الانشراح.
الطبيب :
مم تشكو؟ وهل أنت مريض من زمن طويل؟
المريض :
عند النوم عادة يذهب النوم عني، ولكن عند الصحو أنام.
الطبيب :
تقصد أنك مصاب بالأرق ليلا وبالخمول نهارا. إذن لا تنام!
المريض :
أبدا ... ولا أذوق للنوم طعما.
الطبيب (بشيء من العجب) :
وبعد!
المريض :
الأحلام يا دكتور ... الأحلام الفظيعة! دائما أغرق في بحر عميق أو أهلك في حريق أو يدهمني قطار سريع فأذهب مذعورا جزعا.
الطبيب :
أحلام! ... في أي وقت تراها وأنت كما قلت لا تذوق للنوم طعما؟
المريض :
طبعا أرى هذه الرؤى في النوم.
الطبيب :
إذن تنام أحيانا.
المريض :
طبعا ... سبحان من لا ينام ... أحيانا أنام نوما عميقا جدا ...
الطبيب :
ولكن متى نهارا أو ليلا؟
المريض :
كلا ... لا ليلا ولا نهارا، ولكن عندما يأتي النوم ...
الطبيب (ضاحكا) :
ما عمرك الآن؟
المريض :
هذه مسألة لم أعرفها بالدقة، على الرغم من أنني حاولت كثيرا أن أهتدي إلى حقيقة سني من المرحومين والدي فلم أنل مرامي ! وليس لدي شهادة ميلاد!
الطبيب :
من أربعين إلى خمسين؛ أي منتصف العقد الخامس.
المريض :
يجوز وربما كنت أصغر من ذلك بقليل أو كثير!
الطبيب :
ثم ماذا تشكو بعد ما ذكرت؟
المريض :
عصفورة قلبي يا دكتور ترفرف.
الطبيب (مستسلما) :
هل شهية الطعام لديك حسنة؟
المريض :
آكل كل شيء وفي أي وقت لأن البطر حرام. وربما أفطرت أو تغديت مرتين، ولكن عشائي نادر جدا.
الطبيب :
هل سبق لك أن مرضت في صغرك بإحدى الحميات الحادة؟
المريض :
كثيرا جدا يا دكتور، كل أنواع الحميات وخصوصا الزكام الشديد في أوائل الشتاء.
الطبيب :
الزكام ليس حمى! أقصد الحمي القرمزية أو الحصبة أو التيفوس أو التفوئيد (يدق التليفون)
نعم ... ألو ... أنا ... متى يمكنك أن تحضري ... فورا بالعيادة.
المريض :
لا بد ... لا يخلو الأمر في الصغر ... لكن الزكام ...
الطبيب :
هل وراثتك نظيفة أو ملوثة؟
المريض :
الحمد لله على كل شيء. مات المرحوم والدي ولم يترك لي شيئا؛ لأنهم قالوا أن لا تركة إلا بعد وفاة الدين وفعلا سددناه.
الطبيب :
لا أقصد هذا ... ولكن أسأل إن كنت ورثت مرضا معديا مثل الزهري أو السل؟
المريض :
لا ... لا يا دكتور الحمد لله ... أظن والدي كان أصيب بشيء من هذا القبيل، ولكنني لم أرث منه شيئا.
الطبيب :
هل أنت متزوج وعندك أولاد؟
المريض :
عندي أولاد ولكنني لم أتزوج.
الطبيب :
عندك أولاد ولم تتزوج! ... فمن أين رزقت بهم؟
المريض :
من الزوجة الأولى ولم أتزوج بعد أن طلقتها.
الطبيب :
هل تعيش الآن حياة عائلة أو بمفردك؟
المريض :
طبعا كل إنسان له بيت.
الطبيب (بيأس مع إظهار الحلم) :
ما صناعتك؟ ما عملك اليومي؟
المريض :
أنا إيرادجي.
الطبيب :
ماذا؟
المريض :
إيرادجي؛ أي أعيش من إيرادي الخاص الذي تركه لي المرحوم والدي.
الطبيب (يضحك) :
حسن ... اخلع ثيابك العليا (يفعل ذلك فيفحصه الطبيب فحصا عاديا، وفي هذا الوقت يكون المريض قد أخرج لسانه وأغمض عينيه ومد ذراعه الأيمن بغير طلب من الطبيب)
أدخل لسانك وافتح عينيك واقصر ذراعك فلا لزوم لهذا الآن (يجلس ويكتب له تذكرة الدواء)
تأخذ ملعقة من هذا السفوف ثلاث مرات في اليوم، وتشرب جرعة من الشراب قبل النوم.
المريض (بعد سكوت) :
وما العمل الآن؟ إنني لم أشعر بالشفاء!
الطبيب :
طبعا ستشعر به بعد أخذ الدواء.
المريض (بتردد) :
هل انتهت العيادة؟
الطبيب :
طبعا (ينظر في ساعته قلقا)
لقد مضى أكثر من ربع ساعة على نبأ حضورها ولم تحضر!
المريض (يمد يده بنقود قليلة) :
تفضل يا دكتور.
الطبيب :
ما هذا؟
المريض :
أنا لا أقصد أن هذا قيمة الفيزيتة، ولكن أجر مركبة لانتقال سعادتك.
الطبيب :
مركبة لي أو لك! أنا لم أنتقل بل أنت في حاجة للانتقال فأبقها معك.
المريض :
أبقاك الله يا دكتور (يحيي ويخرج فيشيعه الطبيب بأدب وابتسام، ويعود فيدون في سجله، وعند اشتغاله بذلك يدق التليفون فيتناول السماعة) .
الطبيب :
ألو ... ألو 7777 نعم أنا الدكتور نفسه ... نعم متذكر ... متى الحرارة هبطت؟ ... عظيم يستمر على الدواء نفسه والغذاء شوربة خضروات مع مغلي الشعير اللؤلؤي ... أربعة أيام أخرى ... نهارك سعيد (لنفسه)
ظننتها هي التي تتكلم لتخبرني بعدولها ... إن حديثها الأول يدل على شدة انفعالها! (يفتح باب الغرفة وتدخل ملكة بحالة انفعال شديدة فينهض للقائها)
ما بك؟ ... لقد شغلتني عليك. ماذا جرى؟ أين عبد الحكيم؟ هل يشكو شيئا؟ منذ تكلمت بالتليفون لعشرين دقيقة خلت، وأنا انتظرك على الجمر، وقلبي شديد الخفوق كأنني أتوقع أمرا خطيرا.
المنظر الثاني
ملكة (تجلس) :
كلا ... اطمئن على عبد الحكيم فإنه بخير. أما أنا فقد تمزق قلبي إربا من شدة الانفعال والألم. إنني أشعر بدنو أجلي ... لا بد أن أموت قريبا جدا لأنني لم أعد أستطيع تحمل هذه الحال.
الدكتور :
أية حال؟
ملكة :
حياتي المنزلية في كنف هذا الوحش المستتر بشكل إنسان.
الدكتور :
هل جد شيء منذ زيارتي في يوم الجمعة الماضي؟
ملكة :
نعم جدت أشياء وأشياء (تدنو منه وتحادثه بصوت منخفض) .
الدكتور (مشمئزا) :
مهما يكن ما حدث فظيعا فخففي عنك، فإن بنيتك ومزاجك لا يتحملان هذا الانفعال الشديد المستمر.
ملكة :
ولكن ماذا أفعل؟ أغثني ... فكر معي ... دبر لي حيلة ... ابحث لي عن مخرج من حياتي مع هذا المخلوق الفظيع الجشع الأناني.
الدكتور :
ماذا تريدين أن أفعل؟ اطلبي منه الطلاق بإلحاح ... اجعلي بينك وبينه وسطاء.
ملكة :
هذا حلم لا يتحقق؛ لأنه لا يريد كما قلت لك في يوم الجمعة ... إنه ليس متعلقا بي بل بدخلي ومالي. فهو لا يريد أن يطلق الأطيان ولا أرى فائدة في المقاضاة؛ لأنها طويلة الأجل مملة مبددة للمال والأمل. وربما مت قبل الوصول إلى الأحكام النهائية التي تعيد إلي حريتي ومالي.
الدكتور :
إذن اتركي المنزل واذهبي إلى مكان آخر. فلعله يطلقك إذا غبت عن نظره وفقد الأمل في استرجاعك.
ملكة :
أغضب كما يفعل نساء من الطبقات النازلة من الشعب! أنا لا أعرف الغضب على هذه الصورة. وافترض أنني فعلت ذلك، فأين أذهب؟ إن أبي مات وبيته مغلق وليس لي صديق أو حبيب من أهل أقربين أو غير أقربين.
الدكتور :
هنا في بيتي، فإنه مفتوح على مصراعيه للترحيب بك وبولدنا.
ملكة :
هنا في العيادة! كيف ألجأ إلى العيادة؟ إنه مكان عام ومحل مطروق يغشاه القاصي والداني! فالحياة فيه لي ولطفلي غير ميسرة.
الدكتور :
إذن (ينهض ويسير في الغرفة ذهابا وإيابا بانفعال) .
ملكة :
إذن ماذا؟
الدكتور :
انتظري قليلا (يدق الجرس فيدخل صالح خادم العيادة، وهو نوبي في ثوب أبيض ومتمنطق بحزام من قماش أحمر)
اعتذر إلى حضرات الزائرين، وأخبرهم أنني مشغول ومتعب، ولن أستطيع للأسف أن أقابل أحدا. ومن شاء منهم فليتفضل بالحضور غدا قبل الظهر.
صالح (ينحني) :
سأفعل يا سعادة البيك (يخرج) .
ملكة :
ألأجلي فعلت هذا وضحيت بعيادتك الليلة؟
الدكتور :
كلا ... لأجلهم ... لأجل هؤلاء المرضى، فإنني لا أستطيع أن أفحصهم وأنا مشغول البال، ولا يمكنني إرجاء المناقشة معك فيما حضرت بسببه. إنني أمدك بما تطلبين من المال. أعطيك ما تشائين من دخلي. خذي كل شيء وأنا يكفيني القليل.
ملكة (تقف) :
عبد الحكيم ... عبد الحكيم ... ماذا تقول؟ تفعل بي حسنة وهي التضحية بوقتك وعملك ... وتتبعها بسيئة فتعرض علي العطاء. هل جئتك مستنجدة للمال؟! ... كلا ... هذا قول شديد يجرح حاسة العفة والإباء. ولم أعهدك قاسيا تهرق دماء الكرامة لمن يحبك مخلصا.
الدكتور (مرتبكا ويدنو منها مطيبا خاطرها) :
عفوا ... عفوا يا عزيزتي ... لم أقصد أن أجرح عاطفتك، ولكنني في مجال الاقتراح واستعراض الحلول الملائمة لما نحن فيه. تكلمي أنت ... قدمي رأيك ... ماذا تريدين أن أفعل؟ (تجلس راضية) .
ملكة :
انظر أنت في نفسك، كيف تستطيع أن تساعدني للخروج من هذا المأزق الحرج؟
الدكتور :
إذن افترضي أننا لم نلتق وأنا أنسحب من حياتك، فلعل تجديد معرفتنا هو الذي أقلق راحتك واهتاج عواطفك الكامنة؟ لعلك كنت قبل لقائنا راضية بقسمتك كما كنت أنا راضيا؟
ملكة (بحدة) :
ما شاء الله! طبعا أنت تفكر الآن في قطيعتي! فربما سئمت لقائي ومشاركتي في الرأي. فأنا بلا ريب أضيع وقتك الثمين وأشغل فكرك بعد أن كان خاليا. فقد أعدت إليك ذكرى الماضي وهو أليم، وشغلتك بالمستقبل وهو خفي مظلم. وربما ظننت أيضا أنني أريد أن أضع على كاهلك ولدا كنت بوجوده جاهلا، وعن أمه منصرفا.
الدكتور :
ملكة ... ملكة ماذا تقولين؟ ما هذا؟ أنت محمومة يا حبيبتي (بتأثر جدا)
أنا أريد التخلص منك ومن ولدك! ولدي ... كبدي ... قلبي ... أملي في الحياة. صورتي في طفولتي ... ثمرة حبي الأول والأخير ... إنه جنون ... مري ... تكلمي ... ماذا تطلبين؟ لقد عرضت عليك كل شيء ... إني متأهب لأنفذ لك كل ما ترغبين.
ملكة :
كل ما أرغب ... لا أرغب شيئا سوى الخلاص ... الخلاص من هذه الحياة. أيهون عليك ولدنا عبد الحكيم، تتركه مع ذاك الرجل يتربى في منزله، وهو ليس له والدا ولا قريبا حتى ولا في حكم الصديق؟
الدكتور :
أترك عبد الحكيم كيف؟ وأين أنت إذن؟ هل عبد الحكيم في بيت ذاك الرجل بمفرده؟
ملكة :
أنا! ... أنا ... لا تذكرني بعد اليوم فليس لي وجود ... بل إن حياتي أفضل منها العدم. وإما أخلص من عشرة هذا الرجل ونعيش معا وابننا العزيز الوحيد، فيعرفك ويتأكد أنك أنت والده، ويتمتع بحنان الأبوة الصادقة التي عاش منها حتى الآن محروما في كنف ذاك العتل البغيض ذي القلب الخالي من الرأفة والحنان. وبهذا نكون قد التمسنا وسيلة لإصلاح الخطأ الذي قضت علينا الأقدار به فاقترفناه. ونحن في غرور الصبى وطيش الشباب. إما هذا الحل وإلا فإني باخعة نفسي. حقا إن قتل النفس مجبنة، ولكن في حالتي هذه الموت أفضل ما يريحني.
الدكتور :
الانتحار ... تقضين على نفسك بيدك! إنك لا تدركين معنى ما تقولين! أتقضين على ثلاثة نفوس؟ أنت وولدك وأنا!
ملكة :
أنت تعيرني بفكرة الانتحار مع أنك أوجدتها في نفسي مذ كنا في حوار حول موضوع سعادتنا. فهددتني به إذا لم تنجح في إقناع والدي بالموافقة على زواجنا.
الدكتور :
حقا لقد كانت الحياة هينة في نظري إذا حرمت السعادة بقربك.
ملكة :
والآن صارت هذه الحياة بذاتها غالية؛ لأنك صرت ذات مكانة سامية.
الدكتور :
أبدا ... أبدا ولكني ربما كبر شأن الحياة في نظري؛ لأن صناعة الطب تعلمنا احترام الحياة الإنسانية، ولأنني الآن أخدم الكثيرين وأخفف من آلامهم ما استطعت. وليس هذا بالأمر الهين. وأيضا كبر شأن الحياة في نظري من أجلك وأجل ولدنا، فقد لقيتكما بعد الفراق الطويل وبعد اليأس من الهناء بقربك.
ملكة (بعد تفكير ونظر حولها في عدد الجراحة ودولاب الأدوية) :
إذن لا توجد سوى طريقة واحدة.
الدكتور (بفرح) :
ما هي؟
ملكة :
طريقة العلم الحديث.
الدكتور (بدهشة) :
أية طريقة للعلم الحديث؟!
ملكة :
ألم يخترع العلم الحديث طريقة؟
الدكتور :
العلم الحديث! أية علاقة بينه وبين الزواج والطلاق؟
ملكة :
ليس في استطاعتي أن أعبر عما في ضميري بأوضح من هذا.
الدكتور :
ولكنني لم أفهم حتى الآن مقصدك!
ملكة (بتململ) :
سأفصح لك ... ألمانيا التي اخترع علماؤها دواء لكل داء ... ألم يخترعوا وسيلة لخلاص امرأة ضعيفة مثلي من براثن وحش كاسر كذاك الرجل؟
الدكتور (بوجل وذعر) :
ماذا تقصدين؟
ملكة :
هل حياة مثل ذاك الرجل تستحق الاحترام؟ ماذا علينا لو ...
الدكتور :
لو! ... لو ماذا؟
ملكة :
لا أدري ماذا أقول لك بعد ذلك؟
الدكتور (محدقا فيها ومأخوذا من هول الاقتراح وفظاعته) :
يا لطيف! يا ملكة ... هل بلغت بك الحال النزول إلى هذا الدرك الأسفل من الخلق؟ أتطلبين مني أنا هذا الطلب؟! ارجعي إلى رشدك، ولا تجعلي للبغض سلطانا على نفسك.
ملكة :
هذا ليس بغضا يعمي ويصم، ولكنه الحب الأعظم لك ولولدنا. أنا مسكينة أنا معذبة أنا محرومة من الحنان حولي ومن العطف علي وعلى ولدي. انظر إلى جسمي ووجهي! لقد أمسيت من فرط الهم والنحول في دور الفناء ... وأنا لا أزال في مقتبل العمر.
الدكتور :
ولكن أنت التي تحبيني وتحبين ولدك، كيف يخطر ببالك ويدخل في روعك أمر كهذا الذي ذكرت؟!
ملكة :
ولكن هل فهمت مقصودي؟
الدكتور :
فهمت ما فهمت ولا حاجة بنا إلى التفسير.
ملكة :
لقد تكلم معي منذ أيام عن صحته وهو في حاجة إلى العلاج بحقن للتقوية ... وطبعا هذه الحقن توجد في أنابيب ... وهي إن زادت عن مقدارها المعين لكل حالة فقد تورد المحقون بها موارد حتفه. وأنا التي أقوم له بتفريغ هذه الحقن بين جلده ولحمه. فإذا ما سلم إلي ذراعه الضخم آمنا أفرغت فيه سما زعافا مهلكا لا يظهر له أثر كغيره من السموم.
الدكتور :
أنت مجنونة! ... لقد فقدت عقلك ... إن فقر الدم وتحمل الهم فعلا بك فعلهما؛ فأورثاك هذه الحال التي هي أشبه بالاستهواء الذاتي أو بحران الحمى منها بأي شيء آخر. فقومي إلى الهواء الطلق وانزعي من فكرك هذه الهواجس المزعجة (يسرع إلى النافذة فيفتحها فيدخل الهواء باردا؛ فتهتز ملكة كمن أصابه قشعريرة البرد، فيلمس عبد الحكيم زر الكهرباء فيدخل صالح)
أحضر فورا قدحا من شراب الليمون المثلوج (يخرج صالح) .
ملكة (ناهضة) :
أستودعك الله الآن يا دكتور ... فقد عرفت ما كنت أريد الوقوف على حقيقته.
الدكتور :
إلى أين تذهبين؟
ملكة :
لأرى عبد الحكيم فقد طال عليه الانتظار.
الدكتور :
أين هو؟
ملكة (تتردد) :
في السيارة مع نعيمة أمام الباب.
الدكتور :
في السيارة كل هذا الزمن؟ لا بد أن أراه (يدخل صالح حاملا شراب الليمون المثلوج)
يا صالح ادع المربية التي في السيارة إلى هنا ومعها السيد الصغير الذي تحرسه (يخرج صالح بعد أن يضع الشراب على المائدة) .
ملكة :
لماذا تحضره؟ هل بلغ بك حبه درجة يهمك معها أمره؟!
الدكتور :
يا ملكة ... اجلسي ... اسمعي وتعقلي ... أنا رجل شريف ورأس مالي شرفي في صنعتي.
ملكة :
وهل مسست بسوء ذلك الشرف؟
الدكتور :
فلنضرب صفحا عما إذا كنت مسست أو لم تمسسي ... إنني منذ تقابلنا بعد فراقنا الطويل محافظ على شرفك بوصف كونك زوجة لرجل آخر، ولم أحاول يوما أن أحط من كرامتك.
ملكة :
لا فائدة ترجى من الكلام عن الكرامة وعن الرجل الآخر؛ لأن الفرق بيننا في هذه المسألة شاسع، ومسافة الخلف لا حد لها. إن كرامة المرأة هي الحب والسعادة، وليس في قلبي متسع لغيرهما. وها أنا قد خاب رجائي للمرة الأخيرة في الحب والسعادة.
الدكتور :
ولكنني نسيت نفسي في سبيلك، ومحوت اسم السعادة من صفحة حياتي لأجلك، ولم أرد قط أن أعرف امرأة سواك فلم أتزوج.
ملكة :
وماذا يعوقك عن الزواج؟ أما وقد فكرت فيه فأنت تطلبه!
الدكتور :
إن قلبي لا يتسع للحب مرتين. فلما اختبرت حظي في المرة الأولى، عولت على أن لا أعيد الاختيار مرة ثانية.
ملكة :
ولكن هذا القلب الذي أحبك ولا يزال مشغوفا بك (تبكي بكاء مرا)
فارحمني ودع هذا الحب القوي يعيد سيرته الأولى.
الدكتور (يدنو منها متأثرا) :
ولكنني يا ملكة لا أستطيع أن أستعيد عهد الحب الطاهر النقي الشريف بجريمة ممقوتة شنعاء، تلوث أيدينا وتقتل ضمائرنا وتنغص عيشتنا ... فابحثي عن حل آخر ... انظري في وسيلة أخرى، فإني قابل بها مهما تكلفني من الوقت والتضحية بالمال. ولكن بعدا وسحقا لذلك الخاطر الذي طرأ على قلبك (تجلس كمن تقبل عذرا مؤقتا، ويدخل صالح ومعه نعيمة تحمل الطفل، فيقصد إلى والدته ثم يرى الدكتور فجأة؛ فيلقي بنفسه بين يديه، فينسحب صالح، وتشير ملكة على نعيمة بالانسحاب) .
الولد :
هذا منزلك يا عمي؟
الدكتور :
نعم يا حبيبي.
الولد :
أريد أن ألعب هنا في منزلك وآخذ هذا وهذه وذا وهذه (يمد يده إلى المكتب ويأخذ تمثالا صغيرا وقلما ومقصا وصورة ويجمعها في يديه، ويصعد على كرسي ويحدث انقلابا في الأشياء الموجودة على المكتب، وفي أثناء ذلك تنزل دموع صامتة من عيون الأم والدكتور يطرق برهة وينظر برهة إلى الطفل وهو يلعب لاهيا) .
ملكة :
ولكن أنت أخطأت قصدي ... وأريد أن تفهم غايتي جيدا.
الدكتور :
تكلمي ... أفصحي ... أريد أن أفهم أكثر مما فهمت.
ملكة :
نحن لا نريد أن نرثه في أطيانه وماله ... فإن تركته لأهله وقومه الذين يحبهم ويحبونه ... أما نحن فلا نريد إلا الخلاص منه.
الدكتور :
كيف تكون لأهله وقومه؟! ألست زوجته وهذا الطفل البريء منسوب إليه؟
ملكة :
سأبوح لك فيما بعد بسر تدهش له، ويكفي الآن أن تعلم أننا لن نرثه، وأنني لا أريد إلا الخلاص.
الدكتور :
هذا هو ما فهمت ولم يخطر ببالي أنك تريدين أن ترثيه؛ لأنك قنوعة وقد عرفت ذلك فيك منذ الصغر.
ملكة :
إنني لست متمتعة بنفسي ولا بولدي. وأعيش كل يوم عيشة الرهبة والإرهاق. خمس سنين قضيتها على هذه الحال.
الدكتور :
لقد خطر ببالي فورا حل لهذه المعضلة.
ملكة (بانفعال) :
ما هو؟
الدكتور :
ندبر طريقة لخطف الولد.
الولد (متنبها فجأة) :
ولد من يا عمي؟ لماذا تخطفه؟ وممن تخطفه؟
الدكتور :
الولد الذي رأيت صورته في المرآة يا عبد الحكيم (نحو ملكة)
ونضعه في منزل خاص مع خدم مخلصين لنا. وأتولى أنا جميع شئونه ولك أن تزوريه في أي وقت شئت.
ملكة :
إذن أنت تريد تخليص الولد لا تخليصنا معا. ففكرت في طريقة إنقاذه وضربت صفحا عني أنا، كأنني عقبة كئود في سبيل تربيته. مع أنني لم أشك لك عجزي عن القيام بشئونه، ولكن أريد الحياة سعيدة معه في قربك.
الدكتور :
هذا آخر ما فكرت فيه، وليس لدي طريقة غيرها.
ملكة :
فلنفرض أننا نفذنا هذه الفكرة بحذافيرها، فمن يدرينا أن ذاك الرجل لا يحاول أن يظهر بمظهر الشهم البطل فيأخذ في البحث حتى يهتدي إلى مقره فيلحقك بسببنا أذى وتكون عند ذلك فضيحة مزعجة.
الدكتور :
هذا صحيح، ولكن الفضيحة مهما كانت مزعجة فإنها أخف من الجريمة. فإن خطف الطفل أهون من قتل رجل. على أن الطفل سوف يكون مكرما معززا ثم نترقب الحوادث وننتهز الفرص، فلعل الله يهدي صاحبنا فيطلقك من تلقاء نفسه.
ملكة :
لقد فكرت في هذا، بل في أكثر من هذا، وقلت صبرا لعله يصاب بداء وبيل.
الدكتور :
وهل تمنيت له الأمراض كلها، أو تمنيت له مرضا معينا.
ملكة :
ومع ذلك فلو مرض فإنك بلا ريب ستكفل علاجه.
الدكتور :
كلا ... سوف أنسحب؛ لأنني إذا تقدمت لعلاجه فلا بد أن أنصحه وأخلص له في العمل، وعسى أن يشفى من دائه.
ملكة :
هذا حل جميل هادئ. ولكنه يحتاج إلى الصبر العميق والعمر الطويل. وصبري قد نفد وعمري قصر.
الدكتور :
أنت متوهمة.
ملكة :
هل هذا آخر رأي عندك ... خطف الولد والقيام بخدمته؟!
الدكتور :
نعم ... هذا أقصى ما أستطيع. وقد عولت قبل إبدائه على أن أقف حياتي على راحته وخدمته والصبر مفتاح الفرج.
ملكة :
اسمع ... أنا حضرت إلى هذا المكان لغاية واحدة؛ هي أن أعرف هذا الولد بأبيه وأجعله يحبه، وقد كشفت عن قصدي لذاك الرجل. فقد قلت له لا بد أن أعرف هذا الطفل بأبيه ليتمتع بحبه.
الدكتور :
أقلت له هذا القول؟
ملكة :
نعم.
الدكتور :
فماذا قال لك؟
ملكة :
ماذا تظن أنه قال؟ لقد حسب أنني سأعلم الطفل محبته هو، ولم يمر بفكره خاطر غيره.
الدكتور :
ما أشد تهورك! العقل بركة يا ملكة.
ملكة :
إن كان العقل بركة واحدة فالحب بركتان. والآن أدركت حقيقة مركزي، فإنني وإن كنت امرأة، فقد وجدت في نفسي شجاعة كافية، فاحتفظت بشرف أمومتي. صحيح أنني أخطأت إذ قبلت الزواج في تلك الحالة التي أنت عالم بها، ولكنني كنت في مأزق حرج، محصورة بين أمرين كلاهما شديد الخطر؛ الأول: قتل الجنين وتعريض حياتي للضياع وفقد الشرف، والثانية: دخول منزل الزوج بحالتي. وهذا أمر شنيع لا أزال أقشعر منه كلما ذكرته. ولكن ما حيلتي لقد اعترفت لوالدتي وأشرت لأبي من طرف خفي بل هددتهما بالانتحار. وفعلا حصلت على سم ونويت أن أشربه لأخرج من الحياة بأسرها، ولكنني لم أستفد شيئا من هذا كله، وذهبت متاعبي أدراج الرياح. فلما غلبتني الحوادث وناءت علي بثقلها، استسلمت لحكم القضاء والقدر، وعملت برأي والدتي الصالحة اليائسة.
الدكتور :
وهل كان رأيها؟
ملكة :
نعم لقد كان رأيها، وعملت به فعشت هذه السنين الخمس في حلم مزعج (تبكي) .
الولد (يسرع إليها ويطوقها بذراعيه) :
ماما ... ماما ... ماذا يبكيك؟
الدكتور (يتأثر وينهض ويسير في الغرفة ذهابا وإيابا) :
أنا المسبب لهذه المصائب كلها. جنيت عليك في سبيل حبي، وهونت عليك علاقة أنتجت كل هذه الآلام! ولكن يا حبيبتي إذا افترضنا أن العلاقة الأولى جريمة في سبيل الحب، فكيف نمحو أثرها بجريمة أخرى؟
ملكة :
حاشا لله أن تظن أنني أريد أن أحملك على إتيان أمر يخالف ضميرك وشرف صناعتك. إنما أقصد أن أتقي جرائم عدة ومصائب متتابعة. فلا بد أن أقتل نفسي بعد الخروج من هنا؛ إذ ما قيمة الحياة بعد الذي جرى (يتكئ على النافذة ثم يفيق لدى سماع كلامها الأخير) .
الدكتور :
حذار من هذا التفكير فيما تقولين! فقد ظننتك مازحة!
ملكة :
مازحة ... أنا! تقول هذا وأنت الذي عرفتني منذ الصغر. نعم إنني كنت أحب المرح وأميل للهو، الحياة البريئة، فأروح عن نفسي بالدعابة والممازحة، ولكن الآن من أية الطرق يأتي قلبي الفرح وأنا أقضي معظم أيامي في هم وغم لا يفارقني الأسى إلا إذا نظرت إلى ولدي واهتممت بشئونه. فأنا إذن غير هازلة ولا مازحة فيما اعتزمت تنفيذه (ملتفتة إلى ولدها فجأة)
عبد الحكيم، حبيبي هل أنت مدرك كل ما تعانيه أمك في سبيل راحتك؟
الولد :
ماما ...
ملكة :
هيا بنا إلى منزلنا فقد دخل الليل علينا.
الولد :
اتركيني هنا يا ماما أنام عند عمي.
الدكتور (بانفعال واضطراب) :
طيب يا حبيبي ابق هنا، ونم عندي ودع ماما تذهب وحدها.
الولد :
ماما تذهب وحدها عند نعيمة والدب!
ملكة (بدهشة) :
أي دب تعني يا حبيبي؟
الولد :
الدب الذي ألعب به ... الذي لا يتكلم ولا يضحك.
ملكة :
كان هذا قصدي وقد سعيت له ... أن نبقى هنا أنت وأنا.
الدكتور :
ملكة ... إن كان هذا قصدك حقا فلا بد أن أنفذه مهما يكن في الأمر من خطر. أعطيتني حياتك وأغلى ما عندك. وأنا إذ ذاك شاب صغير بائس وأنت سعيدة وغنية. لقد استهنت بكل شيء في سبيلي، فهذا دين لك علي فلا بد أن أسدده.
ملكة (تدرك معنى قوله وتلمح التصميم على مطاوعتها في عينيه فتدنو منه وتأخذ بيده فيتخلص منها بلطف) :
لا ... أنا لا أريد أن يكون عزمي وليد فكرتك، بل أقصد تكوين عقيدتي بعيدا عن المؤثرات الخارجة عن إرادتي.
أحقا عزمت على خلاصنا من الحال التي نئن من حملها؟
الدكتور :
أنا عزمت ولكن الخلاص ليس بيدي.
ملكة (تفتح حقيبتها الصغيرة باضطراب، وتخرج منها طردا صغيرا، وتمد به يدها إلى عبد الحكيم) :
أنت وحدك صاحب الحق في هذا الطرد الصغير بما يحتوي!
الدكتور (يتناول الطرد ويفضه بانفعال فيجد به قنينتين صغيرتين وخطابين مغلقين فيفحص القنينتين) :
سلماني مركز وسيانور البوتاس! من أعطاك هذا السم الزعاف؟ خطابان أحدهما باسمي والآخر باسم زوجك (يفض الخطاب الأول)
هذه شهادة ميلاد عبد الحكيم. ماذا أقرأ؟ اسم الوالد عبد الحكيم ... صناعته طبيب. اسمي أنا ... لقد نسبت الولد إلي بدون عقد زواج بيننا! ... كيف تسنى ذلك لك؟
ملكة :
هذا سري الذي لن أبوح لك أو لسواك به ... فقد أقسمت على كتمانه للأبد.
الدكتور (يستمر في قراءة الخطابين) :
هكذا كل شيء أوضحته بالتدوين في الورق! إن الخطاب المرسل إلي معلوم غايتك منه. ولكن زوجك لماذا تطلعينه على تاريخ المسألة فيعرف فجأة أنني أبو الولد؟
ملكة :
لأجل أن لا يحتفظ به ويسلمه إليك بغير منازعة، فيرتاح ضميري وأرقد هادئة تحت الثرى، وليعلم أيضا أنني كنت زوجته بالاسم فقط، وأنه كان مكروها طول مدة قرانه.
الدكتور (يقلب نظره في الخطابين ويضع القنينتين في دولاب الأدوية ويغلقه بالمفتاح) :
هذه أعمال لا تصدر حقا إلا عن نفس يائسة (يغلق النافذة ويطرق مليا، ثم يرفع رأسه كمن أدرك حقيقة يريد التصريح بها) .
ملكة :
ما لك معرض عني؟! هل ندمت على إخلاصك لي؟ هل عدلت عن معونتي؟
الدكتور (كأنه يخاطب شخصا أمامه) :
كل شيء يأتيه المرء في ميعة الصبا لا بد أن يدفع ثمنه في الكبر باهظا؛ لذا سأدفع عن خطئي في الصغر أعظم ما يستطيع المرء دفعه من ثمن. حياتي كلها ومستقبلي. فاعلمي أنني اليوم أحبك مثلما أحببتك فيما مضى، وقد وهبتك نفسي، وروحي وقلبي جعلتهما لك فدى ... (يأخذ الولد بين ذراعيه ويقبله ويبكي) . (ستار)
الفصل الخامس (الوقت الساعة الأولى من صباح يوم من أيام الربيع في العوامة [محاسن] ملك مرعشلي باشا مربوطة على ضفة النيل الشرقية بين كوبري البحر الأعمى وكبري الزمالك، وهي مكونة من طبقتين؛ السفلى وفيها المدخل ونوافذها مضاءة وتبدو فيها حركة خدم يذهبون ويجيئون يحملون مستلزمات الحفلات، والطبقة العليا مضاءة بأنوار ذات جملة ألوان ومفروشة بأثاث الجلوس ومزدانة بشجيرات خضراء في براميل من الخشب وقد نشرت أمامها الأعلام. وبالعوامة حفلة استقبال وغناء شرقي؛ سرورا بالإنعام على مرعشلي بك برتبة الميرميران الرفيعة الشأن. وعند رفع الستار تسمع نغمات الموسيقى الشرقية يوقعها جماعة من الآلاتية. وقد جلس على المقاعد المصففة حول بعض الموائد بشكل بوفيه أو مقصف، جماعة من المدعوين البكوات والأعيان بملابس السهرة وبعض مشايخ وهم يتكلمون ويضحكون ويتناول بعضهم صنوفا من الحلوى والفاكهة. ويدخن البعض الآخر سجاير لفافات من الطباق من نوع هافانا، والبعض جالس والبعض واقف، وبالجملة تدل الحركة في الطبقتين على أن العوامة ومن فيها في أواخر حفلة كبرى لا تزال آثارها.)
المنظر الأول
مرعشلي (وقد لبس بذلة سموكن من صنف جيد وياقة متوسطة، وهو يشعر بأنها ثياب غير لائقة به؛ فيلمس ظهره تارة، وطورا ينظم ربطة الرقبة، ويظهر قلقه على الزهرة البيضاء التي ازدانت بها عروة سترته العليا، فيتقدم إلى الدكتور عبد الحكيم ويوجه الحديث إليه) :
لقد أنسنا بلقائك كثيرا يا حضرة الدكتور (يقدم له سيجار هافانا) .
الدكتور (يهم بالوقوف) :
شكرا لك يا سعادة الباشا. أنت تعلم أنني لا أدخن (يخرج ساعته من جيبه وينظر فيها)
وأرجو أن تسمح لي بالانصراف، فإننا في الساعة الواحدة بعد نصف الليل.
مرعشلي :
الانصراف من هنا ! في مثل هذه الليلة المباركة! لقد بذلت وسعي في الاستعداد لراحتك؛ فأعددنا لك أفضل الغرف لتقضي فيها هذا الهزيع الأخير من الليل.
الدكتور (بتردد) :
لا بأس.
مرعشلي :
أكرمك الله كما أكرمتنا.
الدكتور :
أرجو أن تأمروا إدريس أن يحضر لي الحقيبة الصغيرة من سيارتي، وأن يودعها الغرفة التي تفضلتم علي بها.
مرعشلي :
لك ذلك (يشير إلى أحد الخدم ويهمس في أذنه) .
الدكتور :
المنظر هنا جميل جدا ... الطبيعة في غاية العظمة.
مرعشلي :
بالطبيعة يا أفندم هذا من بعض فضلك، لا سيما المصابيح فإنها من ألوان متعددة؛ الأحمر، والأخضر ... و...
الدكتور (مبتسما) :
لا ... أقصد النيل وهو زينة مصر كلها، والأشجار الباسقة في ضوء النجوم، وسكون الليل وتلك الضفة الهادئة.
مرعشلي :
والكواكب والنجوم الزاهرة ...
المنظر الثاني
أحد المدعوين (يدنو منهما) :
إن شاء الله يا سعادة الباشا.
مرعشلي :
العفو ... العفو ... والله إنني أخجل عند سماع التفخيم بها. الباشا جاء والباشا ذهب. رتبة البيك لا يوجد أفضل منها وصاحبها مستور. أما الباشوية فمنظور إليها بعين التعظيم؛ وذلك لنذرة الباشاوات في البلد.
أحد المدعوين :
ولكن يا سعادة الباشا أنت لم تسع لها، بل جاءتك الرتبة تجرر أذيالها.
مرعشلي :
سعادتك تستحق الباشوية أيضا من زمن.
المدعو :
إن شاء الله ربنا يحقق هذا الأمل. أنا مثل سعادتك لا أحب السعي في هذا السبيل.
عبد الحكيم :
عند بلوغ الدعوة إلي حسبت أنكم تحتفلون بعيد ميلاد عبد الحكيم، وبعد ذلك فهمت الغرض.
مرعشلي :
لا فرق بين فرحي وفرحه. لو علم أنك ستشرفنا هذه الليلة ما غمضت له عين؛ لأنه لا يفتأ يذكرك ليلا ونهارا قائلا: عمي الدكتور ... أريد أن أراه ... أريد أن أزوره وألعب معه وأنام عنده.
الدكتور :
يا الله؟ صحيح! ... ليحفظه الله لوالديه، وليقر أعينهما به.
مرعشلي :
ومع ذلك سوف يراك غدا في الصباح. لم يبق بيننا وبين النهار إلا وقت قصير. إن غدا لناظره قريب (هنا تدق الآلات أنغاما ختامية ثم يأخذون في الانصراف، ويبدأ الخدم في نقل بعض الأدوات التي لا لزوم لها) .
المنظر الثالث
مدعو ثان (لمرعشلي ) :
نستودعكم الله يا سعادة الباشا، وإن شاء الله تكون الرتبة الرفيعة مباركة تجلب إليكم طول العمر والسعادة والخير العميم (ينصرف، ثم يتقدم بقية المدعوين وتحصل تحيات صامتة، وينصرف جميع المدعوين وينظر مرعشلي باشا للأنوار النظرة الأخيرة، ثم يتقدم إلى الدكتور ويضع يده في يده ويتجهان نحو السلم وينزلان، ويبقى سطح العوامة مضاء خاليا، فيصعد بعد قليل بعض الخدم ويطوفون بالمكان ويطفئون الأنوار ما عدا نورا ضئيلا يبقى مضيئا) .
المنظر الرابع
مرعشلي (صاعدا من سلم في الوسط بثياب النوم وعليها روب دي شامبر وعلى رأسه غطاء ويبدو عليه الأرق والألم والاضطراب) :
آه ... عندي أرق ... أرق شديد من النوع الذي كنت أعانيه في السنة الماضية. وقد رأيت عندما اضجعت أبشع الأحلام وأفظع الرؤى. لا بد أن يكون هذا نتيجة لعسر الهضم. هل أفرطت في الطعام يا ترى؟ يجوز فقد اضطررت للعشاء بضع مرات من قبيل المجاملة ... ما العمل؟ الأكل كثير جدا والطهاة قد تفننوا وأحسنوا صنع المآكل كلها ... هل هذه تخمة أم أنا شاعر بالشبع الشديد من كثرة الفرح؟! إذن فلأنم ولأتغلبن على هذا الألم. وفي الصباح أسأل الدكتور عبد الحكيم فربما يشير علي بجرعة نافعة (يسير قليلا ثم يجلس ثم ينهض وينزل في بطء وتؤدة) .
المنظر الخامس (يصعد على ظهر العوامة الدكتور عبد الحكيم ويسير بمفرده ذهابا وإيابا في ضوء ضئيل، ويبدو عليه القلق ويحاذر أن يدنو من الأماكن التي قد يراه فيها أحد، ثم يقف فجأة عندما يرى شخصا صاعدا فيتبينه فإذا هو ملكة ملتفة بمعطف وعلى رأسها نقاب من الحرير الأسود، فيدنوان من بعضهما بعضا في حذر واضطراب.)
عبد الحكيم :
ملكة ... ملكة
ملكة :
هل أتاك خطابي؟
عبد الحكيم :
طبعا ... ولأجل هذا حضرت. ولما ألح علي بالمبيت هنا منذ ساعة قبلت غير متردد ومع كوني متعبا ولم يسبق لي المبيت على سطح الماء في عوامة كهذه، سيما وأن الإسراف في العمل والإفراط في التفكير والسهر قد أنهكا قوتي. ولكنني لم أستطع أن أخالف أمرك، وخفت أن تظني أني عدلت عن تنفيذ الخطة التي اتفقنا عليها في عيادتي.
ملكة :
شكرا لك ... وطبعا تسلمت الإشارة التي أودعتها غطاء الشفرة أمامك.
عبد الحكيم :
لقد أخذتها في حذر، وعلمت أننا سنلتقي هنا في الساعة الثالثة بعد انصراف المدعوين.
ملكة :
حبيبي ... ما أشد وفائك!
عبد الحكيم (في جد وثبات) :
كنت أنوي منعك عن المقابلة هذه الليلة ... ولكني لم أتمكن من فرصة لقائك في الوقت المناسب لإرجائها. حتى إنني لم أستطع أن أطلب إلى البيك ... أستغفر الله الباشا (تبتسم)
أن يسمح لي برؤية عبد الحكيم نائما.
ملكة :
كيف كنت تريد منع لقائنا؟ وما نحن موفقان إلى مكان وزمان أكثر ملاءمة لنا من هذا المجال في هذه الساعة.
عبد الحكيم :
كنت أفكر في تأجيلها إلى يوم آخر غير هذا اليوم، وهو يوم حركة غير عادية.
ملكة :
نؤجلها إلى متى؟ لقد نفد الصبر (تسعل سعالا جافا فيوجس عبد الحكيم بإشارة منه خيفة) .
عبد الحكيم :
بيد أنني وإن كنت مثلك أميل إلى المبادرة في تنفيذ ما اعتزمنا، إلا أنني أخشى عليك خطر التعرض للبرد أولا وثانيا من أعين الرقباء.
ملكة :
لا خوف علي من البرد، وقد أحسنت التدثر قبل الصعود، ولم أكن نائمة فأخشى صدمة الهواء؛ لأن النوم لا يأخذ الآن بمعاقد أجفاني منذ صممنا على تنفيذ فكرتنا. أما الرقباء وهم من الخدم فقد ناموا ولا تزال نعيمة يقظة في خدمة الصغير. أما هو فإنه يغط غطيطا فظيعا كعادته منذ أصابه دوار التخمة بعد انهماكه على موائد العشاء وتردده على المقصف مرات لا عديد لها.
عبد الحكيم :
ونعيمة ... ما رأيك فيها؟ ألا تزال موضع أمانتك حتى النهاية؟ ألا تعلمين ما يتهدد السادة في أسرارهم من طائفة الخدم؟
ملكة :
ليست نعيمة كغيرها من أهل هذه الفئة، وكفاني دليلا على وفائها طول معاشرتها وصبرها على المكاره معي طول حياتي الشقية في عصمة ذاك الرجل، وقد كانت يدي اليمنى فيما مضى، وهي لا تزال كذلك مهما يحصل لي ولها، وإن تعلقها بعبد الحكيم كفيل بإخلاصها.
عبد الحكيم :
الرأي لك ... ولكن الحذر أفضل من التهاون في مثل ما نحن فيه.
ملكة :
أنا مسئولة عن أمانتها وصدقها.
عبد الحكيم (ينظر إلى الماء والسماء حيث يوجد ضوء الكواكب) :
آه يا ملكة ... كان أملي في الحياة أن تكوني لي وأن أكون لك، وأن تكون لنا عوامة كهذه نغشاها كلما شئنا في حرية واطمئنان، دون خوف واضطراب كالذي نحن فيه، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
ملكة :
سوف يتم كل شيء على ما نروم، وإن شئنا في المستقبل القريب تكون لنا عوامة أفضل من هذه وأفخم رياشا وأثاثا وأجمل موقعا.
عبد الحكيم :
أحقا ما تقولين؟! هل تتحقق أحلامنا ويتحرك في سبيل سعادتنا ميزان القدر؟!
ملكة :
نعم يا حبيبي سيكون لنا ما نتمنى ... ولكن علينا أن نبادر إلى العمل فإلى التنفيذ بأسرع ما نستطيع وفي أقرب فرصة، فإن فرت الليلة من يدنا فقد ضاع الأمل.
عبد الحكيم (ينظر إلى السماء) :
كلما أقلب نظري في السماء وأرى بريق الكواكب في القبة الزرقاء، يدركني حزن عميق وتتملك نفسي عوامل الألم.
ملكة :
لماذا يعروك الحزن ويتولاك الجزع؟
عبد الحكيم :
لأنني لم أبلغ في الحياة شيئا إلا ذقت في سبيله صنوف العذاب. وأعظم أمل كان يضيء ظلمات حياتي وهو تمتعي بقربك ومشاركتي إياك مسرات الحياة والسعي جهدي في إسعادك. حتى هذا الأمل قد خانتني فيه الأقدار.
ملكة :
حبيبي هون عليك. لقد أوشكت همومنا أن تنجلي. وها نحن قد دنونا من السعادة المنشودة.
عبد الحكيم :
كلما أتخيل ذلك الأمر المرهب الذي نحن قادمون على تنفيذه، يقشعر بدني ويضطرب قلبي وتهتز نفسي، وأكاد أسمع من صدري صدى صوت الضمير الصارخ في أعماقها.
ملكة :
هذه أوهام وهواجس يا حبيبي يصورها لك الخوف من القدوم على عمل تحسبه خطيرا وتحسب نفسك عنه مسئولا. على أنني أنا وحدي المسئولة عن تنفيذه. كما أنه هو مسئول عن أسبابه. لقد جنى علي وهو الآن يجني على نفسه.
عبد الحكيم :
أنا أعلم ذلك؟ وقد حدثتني بكل شيء؛ ولهذا صح عزمي ولن أتردد.
ملكة :
اسمع ... كل شيء معد للعمل.
عبد الحكيم (كمن يحاول تغيير وجهة نظرها) :
ألا تخشين أن يفاجئنا أحد هنا؟
ملكة :
لا تخشى مفاجأة ... إن نعيمة بالمرصاد، وقد أمرتها أن تنبهني بإشارة متفق عليها بيننا لدى حدوث ما يخشى منه افتضاح أمرنا.
عبد الحكيم :
أية إشارة؟
ملكة :
انظر إلى هذه الفتحة (تشير إلى منور أو مسقط للنور في وسط السطح)
إنها الآن مظلمة، ولكن بها مصباحا كهربائيا. فإذا شعرت نعيمة بحركة تشككها فهي تبادر إلى إنارة المصباح؛ فأرى النور فجأة فأسرع إلى هذا الدرج (تشير إلى السلم الخلفي)
وهو أقرب سبيل إلى غرفتي.
عبد الحكيم :
ولكن أنا ماذا أفعل؟
ملكة :
أنت لا اعتراض على بقائك هنا بمفردك. فأنت رجل وأعز الضيوف مكانة، ولك في أي وقت أن تنام أو تبقى ساهرا. فلعلك تتأمل جمال السماء أو تتنشق هواء السحر.
عبد الحكيم :
لقد فكرت ...
ملكة :
فيم فكرت؟
عبد الحكيم :
في الأمر الذي تكلمنا فيه واتفقنا على تنفيذه.
ملكة :
لقد انتهى دور التفكير ولم يبق إلا العمل. وأنا الليلة في انتظارك للانتهاء.
عبد الحكيم :
وأنا أيضا أنجزت إعداد الأنابيب وأحضرتها؛ لتعلمي أنني لا أتردد في الوفاء لك وقد صدقتك الوعد.
ملكة (بلهفة) :
أعطني! هات ... أين هذه الأنابيب التي أنتظرها بفارغ الصبر؟
عبد الحكيم :
اصبري ... اصبري ... ها هي معي.
ملكة :
أصبر؟! لقد صبرت حتى لم يبق في قوس الصبر منزع.
عبد الحكيم :
لقد فكرت في الأمر. وها نحن معا وسوف ينتهي في هذه الليلة كل شيء وتقفين معي على حقيقة هذه المسألة.
ملكة :
الأنابيب أولا ... ثم تكلم بعد ذلك ما شئت في شئوننا (يخرج من جيبه ملفا به أنابيب، فتأخذه بلهفة وتقبض عليه بيد من حديد وتدنيه من نظرها)
هذه هي الأنابيب المنقذة (تدنو من عبد الحكيم وتضعه إلى صدرها)
الآن وثقت من حبك إياي ومن بذلك نفسك لأجلي، كما ضحيت بنفسي في سبيلك منذ الصغر.
عبد الحكيم :
ونحن الاثنين نضحي بهذا المسكين في سبيل سعادتنا.
ملكة :
أبدا ... أنت واهم ... هذه ليست تضحية به، ولكنه عقاب قد استحقه.
عبد الحكيم :
وهل لنا نحن أن نعاقبه؟ متى كان للإنسان أن يأخذ في يده بعنف حق العقاب يوقعه على من شاء من البشر؟
ملكة :
انتظر! ... انتظر قليلا واسمح لي أن أنزل لأضع هذه الأنابيب في مكان أمين بعيد عن الخطر ... الآن قد اطمأن قلبي وخفت عني وطأة القلق (تهم بالنزول فيمسك بيدها ليعوقها عنه) .
عبد الحكيم :
انتظري ... إنك لا تعرفين طريقة الاستعمال (تتأفف وتظهر حالة عصبية)
أنت الآن على حال غير عادية. حال شذوذ عقلي لها خطرها. تقولين وتفعلين تحت تأثير الهياج وسوء الظن بالدهر والناس، ولكن لعلك إذا أنفذت ما أنت مقبلة عليه ومات ذاك الرجل أدركك الندم.
ملكة :
الندم ... أي ندم تعني؟ كيف يدركني الندم وأنا أريد أن أقضي على حياتي لأنجو مما أنا فيه ... وأتركك أنت وولدي الوحيد دون أن أتمتع بشيء مما كنت أمني نفسي به. فكيف إذا شارفت الخلاص من مسبب هذه الويلات يدركني الندم؟
عبد الحكيم :
لما كنت في أوروبا شهدت تمثيل قطعة فاجعة حوادثها تشبه ما نعاني الآن هنا، فلما أن أخرجت الزوجة عزمها من حيز الفكر إلى حيز العمل أصابتها نوبة فظيعة من الندم، كانت على عقلها القاضية فجنت جنونا مطبقا.
ملكة :
لا بد أنها كانت مجنونة قبل أن يحدث لها ما حدث. ومع هذا، فأي خير لنا في أن تروي لي مثل هذا الخبر؟
عبد الحكيم :
كلا! ... لم تكن مجنونة ... وعلم الطب لا يدلنا على ذلك. ومثل هذا الطارئ الذي أصاب الزوجة بعد الندم قد يصيب أعقل الناس وأكثرهم ثباتا. إن لمثل هذه الحوادث تأثيرا سيئا على العقول والأجهزة العصبية، لا يظهر إلا بعد أن يسبق السيف العذل.
ملكة (بشيء من الخوف) :
أراك تميل الليلة إلى التشاؤم.
عبد الحكيم :
كلا ... لا تشاؤم ولا تفاؤل ... هذا كلام عادي لم أفكر فيه مطلقا ... بل كنت أفكر في أمر آخر أشد خطورة.
ملكة :
ما هو؟
عبد الحكيم :
هو السؤال الآتي ... من أين للإنسان الضعيف مثلنا حق الإقدام على إعدام شيء لا يستطيع إيجاده من العدم؟ فما بالك إذا كان هذا الشيء هو أعظم الأشياء، بل هو النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق منذ الأزل.
ملكة (بجد وتفكير) :
إن قولك هذا حق، وله في نفسي وقع، وفي ضميري أقوى صدى. وأنا متفقة معك على أمهات هذه المسألة، ولكنني أستسهل الصعب في سبيل السعادة المنشودة وتمتعنا بالحياة معا وتربية الطفل في كنفنا.
عبد الحكيم :
هذا حسن ... ولكن اسمعي، إن السعادة التي تقوم على جريمة هي جحيم مستعر، وكل بيت يبنى على الشر مآله الخراب ومآل أهله العدم؛ حياة منغصة وآمال يكتنفها اليأس ويحف بها الألم.
ملكة (تطرق مفكرة) :
ليست سعادتنا لذاتها هي مأربي، بل مأربي سعادة ولدي؛ فإن اهتديت إلى وسيلة أخرى اتبعتها.
عبد الحكيم :
إذا كان حبك لولدك وحبي هو الدافع لك على سلوك هذا المسلك الوعر، فكيف يمكن أن يجتمع في قلبك الرحيم حب ولدك وحبي إلى بغض هذا الرجل بغضا يدفعك إلى أن تورديه موارد العدم.
ملكة :
وأية غرابة في ذلك؟
عبد الحكيم :
لقد كنت أحسب أن القلب المملوء حبا لا يدخل فيه البغض مطلقا.
ملكة :
هذا قياس مع الفارق ... إنني لا أبغض ذاك الرجل لأنني لم أحببه مطلقا، والمرء لا يبغض إنسانا إلا إذا كان أحبه.
عبد الحكيم :
لقد أصبح لك الآن في الحياة رجلان؛ ولدك وأنا ومن يدري ماذا تفعل الأقدار بنا ... فربما يقع أحدنا أو كلانا في أيدي جبابرة من الرجال أو النساء ... ولعل من يأتي فعلا منكرا يقابل بمثله في أعز الناس على قلبه. هذا إذا نجا هو من العقاب في شخصه!
ملكة (باضطراب) :
في أعز الناس على قلبه! ومن أعز لدي منكما؟ إنني أفضل أن أكون لكما الفدى.
عبد الحكيم :
من يدري؟ إننا تحت تأثير الحب والضمير. حكمنا هنا بالإعدام على رجل أبله لا ذنب له بجانب حبه الأعمى للمال، سوى أنه تخيرك في غفلة من والديك وتأهل بك. وهو لا يدري أنك مشغولة بغيره. فماذا يكون حكم الله علينا إذا نفذنا حكمنا؟
ملكة :
بماذا يحكم الله علينا إذا نفذنا حكمنا؟
عبد الحكيم :
طبعا أنا لا أقصد تنبيهك من جهة الضمير والشرف؛ لأنني استنزفت قوتي في هذا السبيل ولم أنل مأربا، ولكن لي أن أسألك: ما قولك في حكم الله الذي يسمع ويرى؟
ملكة (تنظر إلى السماء كأنها اكتشفتها لساعتها بتأثير قول عبد الحكيم الذي يكاد يكون استهواء) :
الله ... يسمع ... ويرى!
عبد الحكيم :
نعم ... يسمع دقات قلوبنا ... ويرى أدق وأخفى ما يجول في لفائف عقولنا.
ملكة :
إذن لماذا لم يسمع الله شكوانا ولم ينظر بعين رحمته إلى حالنا ونحن في نضارة العمر وسلامة الضمير نلتمس العيش الحلال في ظل الهناء؟
عبد الحكيم (يدنو منها) :
من يدري يا ملكتي المحبوبة! أين موضع الرحمة؟ ... لعلها كانت سارية في حوادث حياتنا ومختفية كتيار الكهرباء في كل ما جرى. وأيضا هناك أمر لا أستطيع أن أفاتحك به.
ملكة :
كلا ... لا تخف ... قل فإنني لكلامك جد مرتاحة ما دمت قد أطعتني وأنفذت رغبتي.
عبد الحكيم (يدنو منها ويقول بهمس) :
ألم نخطئ في شبابنا؟ ... ألم نقترف ذنبا تمقته الشرائع وتأباه القوانين كلها؟ ... تكلمي!
ملكة (بصوت خافت) :
نعم أخطأنا، ولكن لم يكن لنا مناص عن فعلنا.
عبد الحكيم :
لعل في تعذيبنا الآن تكفيرا لسيئاتنا. وعسى أن يكون الله خفف عنا ولطف بنا. فجدير بمن كان مثلنا بدلا من أن يدبر مقتل هذا الرجل أن يطلب العفو ممن يملك غفران الذنوب! انظري ... تأملي ... إن كان هذا الرجل سوف يموت حتما بفعلنا فإرادة الله هي السابقة.
ملكة :
أتؤمن إذن بإرادة الله المطلقة؟ وتوقن أن الأعمار محدودة؟
عبد الحكيم :
طبعا ... لا يؤمن بهذا الأمر حق الإيمان إلا نحن معشر الأطباء. سلي أي طبيب يخبرك ... فكم حالة تعرض لنا يكون المريض فيها ميئوسا من حياته، فنوقن بموته ونؤكده لأهله بأنه لا محالة ذاهب ... ولكن هذا المريض نفسه ينجو بمعجزة لا نعلم سرها! وقد نرى المنية تنشب أظفارها بشاب في مقتبل العمر بدون مرض ظاهر أو علة طارئة!
ملكة (باضطراب) :
ولكن ... ماذا تقصد من هذا القول؟
عبد الحكيم :
قصدي أن نؤجل تنفيذ هذه المسألة ... نؤجلها خوفا من الله وانتظارا لرحمته.
ملكة :
الرحمة ...
عبد الحكيم :
نعم رحمة الله لأجل ولدك ... لأجل ولدنا ... لا نريد أن نلوث أيدينا بتلك الجريمة المنكرة.
ملكة :
ولدي عبد الحكيم (تبكي) .
عبد الحكيم :
نعم ولدك وولدي يجب أن نسهر عليه ونوليه عنايتنا. وأنا صديقك وخادمك. فقد اعتزمت أن أبقى تحت أقدامكما مدى الحياة. لا بوصف كونك معشوقة ... ولكن لأنك أم حنون صابرة.
ملكة (تبكي) :
عبد الحكيم ... ماذا فعلت بي؟ ... لقد أضعفت عزمي وقضيت على إرادتي.
عبد الحكيم :
كلا ... إن الحقيقة على عكس ما تظنين ... إن ما تشعرين به الآن ليس ضعفا في الإرادة ولا زعزعة في العزيمة. إنما هو عين القوة وعين الأمل. قوة الإيمان بالله والأمل في رحمته ... قوة الصبر على تحمل المكاره ... وقوة الاستمرار في البذل والتضحية انتظارا للفرج.
ملكة :
الفرج ...
عبد الحكيم :
عسى أن يكون الفرج قريبا ... أقرب مما ننتظر (تبكي)
كل إنسان في الورى رهين إشارة القضاء والقدر ... وإن له نصيبا من البلاء بالصبر والمجاهدة، وإن تحمله نصيبه من البلاء بالصبر والمجاهدة هو الواجب.
ملكة (تمد يدها بالأنابيب) :
إذن ... خذ هذه الأنابيب وأبقها معك.
عبد الحكيم (بفرح) :
هل عدلت عن تنفيذ خطتك ولو مؤقتا؟
ملكة :
مؤقتا؟ ... لا ... أنا عدلت إلى الأبد ... ليعيش ولدنا سعيدا ... فربما متنا وتركناه وحيدا، ولعل الله يغفر لنا.
عبد الحكيم (بقوة) :
لقد غفر الله لك ...
ملكة :
كيف؟ ... متى؟ ...
عبد الحكيم :
غفر لك منذ عدلت عما كنت نويت فعله ... لأن المرأة التي تلبي نداء ضميرها ولو في اللحظة الأخيرة قبل فرار فرصة التوبة ولها رجعة إلى نفسها ... لا شك مفقودة الذنب ناجية.
ملكة (في حيرة) :
إذا كان هذا لب أفكارك، فكيف قبلت اقتراحي واتفقت على تنفيذه معي؟
عبد الحكيم :
كلا ... يا ملكة لم أقبله ولم أتفق على تنفيذه إلا ظاهرا؛ خوفا عليك من اليأس وجريرة الانتحار التي حدثتك نفسك باقترافها.
ملكة :
وهذه الأنابيب؟
عبد الحكيم :
ها هي ... سأشرب ما فيها أمامك!
ملكة (بذعر) :
حذار (تحاول منعه) .
عبد الحكيم (يضحك) :
لا تخافي، إنها ماء قراح يطفئ الظمأ ولا يزهق الأرواح (يشرب، وفي فترة الشراب يسمع من المسجد القريب من قرية العجوزة أذان الفجر)
الله أكبر ... الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... إلخ. الآن فقط وجدت ملكة حبيبتي الشريفة الطاهرة (يضيء المصباح الموجود في المنور فجأة فتضطرب ملكة) .
ملكة :
ما هذا؟ ... لقد ضاء المصباح ضياء منبئا بأمر جلل!
عبد الحكيم (متنبها) :
هيا أسرعي إلى الدرج.
ملكة (بتؤدة كمن استعادت هدوءها) :
لا لزوم للهرب. كنت رسمت خطة التحذير بالنور لأنني كنت خائفة وجلة ... وكان الرعب يمتلك نفسي لإقدامي على عمل سيئ. أما الآن فقد عادت الطمأنينة إلى قلبي.
عبد الحكيم :
ولكن لا بد لك من معرفة السبب (حينئذ تصعد نعيمة من الدرج الخلفي وتدنو منها) .
المشهد السادس
نعيمة :
سيدتي ... سيدتي ...
ملكة :
ما وساوسك؟ ... ماذا جرى؟
نعيمة :
الباشا لا يتكلم! ... عيناه محملقتان ووجهه محتقن.
ملكة :
وكيف رأيت ذلك؟
نعيمة :
سمعته ينادي بصوت مختنق؛ فأسرعت إليه فإذا به متمدد على أرض غرفته ووجهه وعيناه كما وصفت لك (ينصت عبد الحكيم لهذا الحديث باهتمام، فلا تكاد نعيمة تفرغ منه حتى يسارع إلى النزول وتتبعانه. فيسود السكون قليلا ثم يسمع صوت بكاء من الطبقة السفلى من العوامة، ثم يظهر الدكتور في الطبقة العليا) .
عبد الحكيم :
لا حول ولا قوة إلا بالله ... إنا لله وإنا إليه راجعون ... ذهب المسكين في يوم فرحه برتبته ضحية الشراهة والنهم.
ملكة (صاعدة وهي تبكي) :
هل قطعت الرجاء يا عبد الحكيم؟ ألا من وسيلة تنبه قلبه فربما كان مغمى عليه من شدة التعب؟
عبد الحكيم (في أسف) :
كلا ... هذه سكتة مخية صاعقة ... يموت المصاب بها فورا ولساعته.
ملكة :
ألا يمكن إسعافه بأفضل وأقوى من هاتين الحقنتين؟
عبد الحكيم :
كلا ... إن الحقن بالكافور والكافيين أقصى ما وصل إليه العلم للإسعاف في مثل هذه الحالة ... وقد استعملتهما له يائسا؛ لأنني لدى رؤيته فحصت قلبه ونبضه فتحققت وفاته ... لكل أجل كتاب.
ملكة :
إني أسامحه وأسأل له من الله رحمة واسعة. (ينزل الستار)
الأم المتعبة
دراما عائلية في فصل واحد
القاهرة سنة 1945
1
المنظر الأول (رأفت - محمود - مديحة - الأم)
رأفت :
فين فطوري؟
الأم :
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم! إنت أول ما تفتح عينك على الأكل ... ما تطلب من أبوك.
رأفت :
خلاص اسكتي ... موش عاوز آكل ... هاتي شاي بس.
الأم :
التموين فرغ ... لا شاي ولا سكر ... النهارده 15 في الشهر.
رأفت :
عندك تعريفة أجيب عسل؟
الأم :
عندي ... آدي قرش من فلوس أخوك ذكري، اتفضل ... حاكم انت مدبأني بالعسل!
رأفت :
تعرفي يا ماما إن ما كنتيش تديني أربعة صاغ دلوقت أعمل حاجة وحشة.
الأم :
أطلب من أبوك، أهو نايم في الدور الفوقاني ... هوه انت مالكش لسان؟
رأفت :
طيب والله ما انا فاطر ولا واكل حاجة (يخرج ويغلق الباب خلفه بغضب) .
الأم (بصوت عال) :
خد بيضة أهه اشتريتها لك ... اندهيله يا بهية ... شوف الواد نازل من غير فطور إزاي؟ أعمل إيه؟ ... يتفلق رأفت.
المنظر الثاني (الأم - محمود - بهية - يوسف - ذكري - رئيفة - أحلام - لطيفة)
محمود (بصوت غليظ وهو يعض بالنواجذ على شفتيه ويده في جيب البنطلون ورأسه إلى أسفل) :
هاتي ثلاثة ثاغ علشان أجيب كراث وإرث ثاغ للترمواي أحثن الكمثاري ينزلني.
الأم :
وأنا أجيبك ثلاثة صاغ منين يا واد؟
محمود (بصوت أغلظ) :
مش رايح المدرثة.
الأم :
عنك ما رحت ... (محمود يزمجر ويصدر أصواتا مثل النحلة، ورأفت مطلا برأسه من الباب) .
رأفت :
بهية ... هاتي البيضة والكتاب الإنجليزي اللي نسيته.
الأم :
الله! هو انت جيت؟ البيضة ما خدها أخوك محمود ... خبر أبيض اشرب كباية الشاي دي بتاعته (يسمع صوت من داخل المنزل)
عا ... قميصي ... يا بهية تعالي ... (يرفع عقيرته ويجأر) ... ها ... ها ... ها يا ناس قميصا ... ي حاجا باردا ... (ثم كلام غير مفهوم) .
الأم :
ده ذكري صحي ... ده ما بقلوش ساعتين جي ... مين صحاه يا أولاد؟
بهية (مرتبكة) :
أنا اللي صحيته ... واحد صاحبه عاوزة ف التلفون (بهية تهمس في أذن أمها) ... ده بيملى المسدس سامعه الصوت! (تظهر مديحة وتسرح شعرها وتقول للأم) .
مديحة :
عوزه قرش وده خللي في بالك غير قرش ركوب الترمواي.
الأم :
والقرش اللي اداهولك بابا؟ ... إنت تخدي وتنكري زي القطط.
مديحة :
حاروح لوحدي.
رئيفة (أختها) :
روحي ... خليكي توفري ... بس ما تنسيش آية الكرسي (تشرع مديحة في الذهاب إلى المدرسة بغير فطور، وتخرج الأم من جيب جلبابها لقمة عيش وبصلة وتقول لها) .
الأم :
كلي دول على ما يجي الفول (يسمع صوت بائع الفول المدمس)
البليلة السخنة ... مدمس ... بياع اللوز ...
الأم (لابنتها بهية) :
اندهيله يا بت لحسن بيجري ... لحسن يخلص (تخرج بهية ويظهر الأخ الأكبر يوسف) .
يوسف :
يا بت يا مديحة.
الأم :
مديحة راحت المدرسة.
يوسف :
يا بهية.
الأم :
بهية بتجيب فول مدمس.
يوسف :
يا محمود!
الأم :
محمود غضبان وقاعد بره ولسه ما فطرش.
يوسف :
مين اللي بيزعق ده؟
الأم :
ده أخوك ذكري ... معاه مسدس وخمسين رصاصة في كيس جلد، وبيصوت علشان قميصه البنت بهية هببته عند المكوجي.
يوسف :
وإيه يعني؟ (يسمع صوت ذكري) .
ذكري :
هاتي الجرايد ... فين الجرنال ... مين بيقراها (يجأر بصوت مرتفع)
ها ... ها ... (يظهر ذكري على المسرح وهو يغطي جسمه بملاءة سرير، ويجرجر في رجليه حذاء قديما، ويظهر كمصارع روماني، ويقول لأخيه يوسف)
صباح الخير.
يوسف :
سعيدة مبارك ... (لأمه)
فين النص ريال ... ناوية تاخديه؟
الأم :
ما خدتهوش من رأفت؟
يوسف :
فين ده رأفت؟
أحلام (من تحت البطانية على السرير) :
حرام عليكي رأفت ما عندهوش نص ريال.
الأم :
أنا بس بقول كده علشان أخلص منه.
يوسف (لوالدته وهو ألثغ في حرف الراء) :
طيب دي أخغ مغة تاكلي علي فلوسي (يخرج) .
لطيفة :
فين فلوسي يا ماما؟
الأم :
اسألي اللي بيخدو الفلوس.
لطيفة :
حرام عليك ... تصبحي تفطري إنت وأولادك وأنا ماكلشي.
الأم (تخرج لسانها وتشاور عليه بأصبعها) :
آهوه على ريق النوم أنا ما كلتش حاجة.
رئيفة (لأختها لطيفة) :
خدي الفلوس أهيه ... سابهم رأفت (يسمع صوت بائعة فول نابت) .
لطيفة (تنادي) :
يا بتاعة الفول النابت ... إديني بقرش.
بائعة الفول :
اسم الله عليكي النبي حارسك وضمنك يا نور عيني ... ربنا يخليك لاخواتك وابوك.
لطيفة :
فولك معفن وحامض.
البائعة :
دي فولة حلوة والنبي زي الشهد.
لطيفة :
ماتكيلي كويس ... مال إيدك مربوطة؟
البائعة :
والنبي يا ست متوصية بك ... أنا وأختي على باب الله ... وكانت أمنا تشكر فيكو أوي وموصيانا عليكو.
لطيفة :
الله يرحمها.
البائعة :
الشر بره وبعيد ... دي لسه عيشه، ربنا يخليها هي بس اللي ماتبنش كتير ... أهي قاعدة على بنتي هدى ... أنا محدش تاعبني إلا جوزي كل يوم في المحكمة مسخم على عينه.
الأم (تتدخل) :
هو فولك فيه شطة؟ مرقته زي الفلفل.
البائعة :
دا والنبي زي القشطة ... والا أقولك أنا موش جاية (يسمع ذكري من الداخل يجأر بصوت مرتفع) .
ذكري :
فين فطوري؟
أحلام (تتيقظ منزعجة على صوت ذكري) :
يا ماما ... يا ماما بابا صحي بينده لك.
رئيفة :
ده موش بابا يا أحلام ... ده ذكري عاوز فطوره (أحلام تعود إلى النوم وتغطي رأسها بالبطانية)
طيب.
لطيفة (لأمها) :
متعملي لذكري فول نابت، ده كله حديد وفوسفور وفيه فيتامين.
الأم :
فيتامين ... فيتامين إيه؟ ... كلهم بيفطروا إلا أنا (يسمع جرس تليفون وترد عليه رئيفة) .
رئيفة :
ألو ... حضرتك مين؟ ... عاوز ذكري ... أقول له مين؟ مين؟ بتقول إيه؟ (لأمها)
واحد لذكري.
ذكري (في التليفون بكل أدب) :
صباح النور ... لا ... خلاص الوزراء سحبوا استقالتهم ... آه الرجل بتاعنا كان بيهوش ... مشفتهوش ... إنت عاوز بدلة والمعلم فصل القماش اللي جبته له ... إزاي أخوك حسن؟ ... ده عاوز ستة متر ... قابلني في قهوة الفردوس نشرب قهوة هناك (ذكري يخرج من المنزل) .
لطيفة :
إملي لي الزجاجة ديه زيت يا ماما.
الأم :
وأنا عندي زيت منين ... استني أول الشهر.
لطيفة :
بقي علشان أحط شوية زيت على الفول أستنى تلاتين يوم ... ديه بقت عيشة ما حدش يقدر عليها!
الأم (متهيجة) :
اطلعي لأبوك فوق وقولي له لحسن هو ناقص، اطلعي له علشان يديلك قرش تشتري به زيت ... ما حدش ناهب الزيت غيرك ... والتموين كله والسكر رايح عليكي!
لطيفة :
يا شيخه حرام عليكي.
الأم :
إيه اللي حرام عليكي؟ ... أنا حآبل ربنا بوش أبيض محدش يعرف ديانة أدي ولا تسوف أدي.
لطيفة :
تسوف إيه ونيلة إيه ... عاوزة تقولي تصوف ... بقي اكمن بابا قرأ لك القصيدة العينية تبقي متصوفة؟
أحلام (من تحت البطانية) :
بابا قرأ إيه؟ قرأ لك إيه يا ماما؟ ... العينية ... يا بختك ... دي فيها وحدة الوجود.
رئيفة :
وحدة وجود إيه؟
أحلام :
اسكتي أنت ماتعرفيش الحاجات ديه ... ماتعرفيش غير تمن الصوف والحرير والجزم المودة ... خليكي انت عند باتا وشيكوريل.
رئيفة :
هو ربنا قال إني ما ألبسش كويس؟
الأم :
يا حسرة علي ... لا جزمة ولا بالطو زي الستات ولا شراب في رجلي والشتا داخل علي، وبقى لي تلات سنين أطلب شال من أبوك ويقول لي شال جنسه إيه؟ اكتبي لي قايمة بطلباتك ... اشمعنى زمان كان يعرف ... والله لأنا كاتبة له قايمة ... ويبقى عملت اللي علي.
لطيفة :
يا ماما القميص بتاعك مقطع.
الأم :
الحمد لله! أنا مبسوطة، ربنا عاوز تقطيع الهدوم ده لأنه هو اللي عاوز كده، وهو اللي مخليني أقول كده، وهو اللي مخليني راضية بكده.
أحلام (من تحت البطانية) :
حرام الكلام ده ... دا كفر ... ربنا ما قالش تستني بالهدوم المقطعة ... بابا ديك النهار خلاني أخيط لك القميص، وانت اللي قلت مش عاوزة.
الأم :
بتعيريني! ... ياما خيطت لك وخيطت لإخواتك.
لطيفة :
تستاهلي يا ماما إنك إديتي لإخواتي الشنطة بتاعة التيل والحرير والفوال ... اللي إشي أحمر واللي إشي أخضر وبني ... ولا عرفتيش تخلي لنفسك حاجة.
رئيفة :
وكمان ادوروا على شنطة بابا ونهبوا البفتة والتيل الأبيض ... وكان ناقص ياخدوا البنطلونات والياقات والفانلات (يسمع صوت تصفيق من أعلا) .
الصوت :
فين الفطور يا ست ... الساعة تسعة ونص ... هي بتاعة الفول النابت ماجاتش؟
الأم :
يا بهية ... هو الفول اتسلق؟
بهية :
ولا انحط على النار.
الأم (تخبط على صدرها) :
يوه ... يا ندامة ... ليه ... وبابا حيفطر إيه؟
بهية :
البابور اتخرب.
الأم :
خربتيه؟
بهية :
لا ... عاوز له البلف.
الأم :
الفونية؟
بهية :
البلف بقول لك ... حاجة تمنها زي أربعين قرش.
الأم :
أهو بقى يفطر لبن زبادي وفول سوداني ... لما يبقى يصلح حاجة بيته يبقى يأكل ... أنا تعبت تلاتين سنة في البوابير الخربانة والبلاليع المسدودة ... اللي يفطر يفطر واللي ما يفطرش ما يفطرش!
المنظر الثالث (ينزل الأب من الطابق العلوي وكان قد سمع ما قالته الأم.)
الأب :
بتقولي تعبت تلاتين سنة خدمة؟
الأم (بانفعال) :
أنا مجنونة اللي بخدم واحد زيك ... أنا خدمتي بملايين الجنيهات ... إنت خلاص موش عاوز تديني ريال أتصحح به ... أنا عاوزة أجيب دوا ... واحدة خدمت زي خدمتي تستاهل مليون ريال ... ولكن أنا الحق علي اللي باخدمك وأخدم أولادك ... خلاص مابقتش أطلب منك حاجة ... أنا مالي ومال أولادي تحاسبني على فلوسهم ومصروفهم ... هو علشان تصرف على بيتك تخلي صحتي مهملة؟
الأب :
يا ست روقي دمك وقولي لنا إنت عاوزة إيه.
الأم :
أنا معرفش ... هو كلامي ده كله موش مفهوم ... أنا عاوزة ريال ... أنا مالي تشتري حمام وبيض لأولادك أهم بياكلوا قناطير وأنا لسه على ريق النوم ... أنا ظهري وجعني بعيد عنك ... أنا رايحة أرتاح محدش له عندي كلام ... أنا مش إنسان ... إنت عايز حاجة مني؟
الأب :
لأ ... اتفضلي روحي ارتاحي (يسمع صوت جرس التليفون والأم ترد) .
الأم :
مين حضرتك؟ ... مين؟ نمرة غلط ... نعم ... عاوزة مين؟ غلطانة.
الأب :
يعني يا ست موش عاوزنا.
الأم :
دا بيقول نمرة غلطانة ... قطيعة. (ستار)
Shafi da ba'a sani ba