ومرادها بهذا ظاهر لا يحتاج إلى شيء من الإيضاح. واتفق أنها اطلعت على ما يثبت خيانة غريغوري أورلوف، فأقصته عنها بعدما ظل وقتا طويلا ينعم بكونه حبيبها الخاص غير منازع من أحد. فاختارت بعده فاسيليتشيكو، ولكنها لم تلبث أن ملته فنقلته إلى موسكو، ووجهت التفاتها إلى بتيومكين، فأدنته منها وبوأته المنزلة التي طالما حن إليها وحسده ألوف من المقربين عليها.
ولا يسع القارئ أن يتصور الفرق الشديد بين هذه الإمبراطورة الفائقة في حسنها وجمالها، وهذا الجندي الذي سلطته على جميع الناس. فقد كان ضخم الجثة، قاتم اللون، خشن الجلد، قبيح الملامح، أعور، وقد فقد إحدى عينيه بالحادثة الآتية:
كان ذات يوم يلعب البلياردو مع ألكسس أورلوف المشهور بضخامة جسده وشدة قوته، وكان هذا في عداد عشاق كاترين المبعدين، فحدث أن بتيومكين فاه بما هاج غيظ أورلوف، وأفضى الأمر بينهما إلى النزاع، فلطم أورلوف بتيومكين لطمة أصابت إحدى عينيه وأفقدتها البصر. وكان هذا التشويه كافيا لأن يقضي على آماله ويحمل كاترين على إقصائه عنها، ولكن الأمر جاء لحسن حظه على خلاف المنتظر، فإنه لسعة مكره أقنعها بأنه فقد عينيه في سبيل الدفاع عن عرضها والذود عن شرفها، فعرفت له هذا الجميل وازدادت تعلقا به وميلا إليه.
هكذا كان منظر بتيومكين عشيق أجمل إمبراطورة في أوروبا مظهرا للقبح والدمامة، ولم يكن هذا بخاف عليه، ولأجله ظل وقتا طويلا يأبى على المصورين أن يصوروه، ولولا شدة إلحاح كاترين وتوسلها إليه لما أذن أخيرا لمصور أن يرسم صورته المحفوظة في قصر الشتاء في بطرسبرج. ولكن هذه الصورة كاذبة؛ لأنها لا تمثل ملامحه الحقيقية التي تعاف العيون النظر إليها لشدة قبحها.
ولم تكن دمامة منظره بأقبح من سوء أخلاقه وسفالة عاداته. قال عنه أحد المؤرخين: «كان بتيومكين دعابة، ولكن أكثر مزاحه مما تبذؤه نفس الحر الأديب. وكان من عادته على الدوام أن يقلم أظافره بأسنانه، ويمعن في حك رأسه الوسخ. وكثيرا ما كان يقضي أيامه في غرفته ليس عليه من الثياب إلا ما يستر عورته، منفوش الشعر وسخ الجسم، وهو يلهو بحك جسده وتقليم أظافره بأسنانه. وكان شديد الإفراط في الأكل والشرب والانبعاث في المسكرات على أنواعها.»
وكان في أسفاره يعيش على الثوم والخبز الأسود. أما في بطرسبرج وكيافو وجاسي وغيرها من أمهات مدن روسيا، فكان يتأنق في تناول أفخر الأطعمة وألذ الثمار وأطيب أنواع الحلوى. وكان بعدما يغادر قصر الإمبراطورة ويخلو في قصره، يخلع الحلة الرسمية ويرتدي جلبابا (جلابية) فضفاضا. وفي هذا اللباس كان يستقبل حتى السيدات. وفي الأرياف كان يلبسه في الحفلات والولائم الرسمية مقتصرا عليه في ستر عريه.
وكثيرا ما كان يعدل عن تعرية ساقيه فيغطيهما بنسيج مطرز بالذهب ومرصع بالألماس وغيره من الحجارة الكريمة.
فماذا كان سر تسلط هذا الجلف على أذكى امرأة في أوروبا؟ يقول أحد المؤرخين إنه في صباه استمالها بما كان يبديه من فرط شغفه وشدة ولوعه بها، ولكنه فيما بعد ذلك كان يواصل التزلف إليها بالإسراف في تملقها وإطرائها.
ومهما يكن من أسباب ذلك، فمن المحقق أن هذا الرجل الوضيع الحقير لم يلبث أن حاز سلطانا مطلقا على الإمبراطورة، فخضعت له وذلت كأنها إحدى إمائه. ويقول مؤرخ آخر إن شغفها به بلغ حد الجنون، وذلك ظاهر مما كانت تخاطبه به في كتبها الغرامية قائلة له: «يا روحي، يا ملكي، يا كنزي الفائق الثمن.» وكان لشدة دهائه ومكره يزيد نار هيامها به اتقادا بقوله لها في رسائله إليها: «عندما رأيتك أول مرة تعلقت أفكاري بك، وسحرني جمال عينيك، فإلى الآلهة أشكو ما أعانيه من حبي لك وشغفي بك، بك وحدك أهيم وإليك أحن، وبغير اسمك المقدس لا تنطق شفتاي، وسوى رسمك الفائق الجمال لا يجول في خاطري.»
وكانت إذا تبسم تطير ابتهاجا وحبورا، وإذا عبس تملكها اليأس واغرورقت عيناها بالدموع، بل لم تكن غلاظة طبعه ووحشية خلقه في مستأنف الأيام إلا ليضرما في فؤادها سعير الوجد والغرام. وما مثلها به في ذلك العهد إلا مثل قيصرة روسيا ورسبوتين في صدر هذا القرن. روى أحد الجالسين معهما حول مائدة الطعام في أحد الأيام قال: «جلس بتيومكين بجانب الإمبراطورة واجما مقطبا، ولم يقتصر على الوجوم وعدم الكلام، بل تعداهما إلى السكوت عن إجابة ما كانت توجهه إليه من الأسئلة، حتى ساءنا الأمر نحن الباقين، وتولانا غيظ وحنق لا مزيد عليهما. ولما فرغنا من تناول الطعام ذهبت الإمبراطورة إلى غرفتها، ثم عادت إلينا وعيناها محمرتان، ومحياها مغشى بسحب الغم والأسى. فإلى هذا الحد كان يبالغ في امتهان عشيقته الملكة غير مكترث لحضوره أمامها وسخ الجسد أشعث عاري الساقين، ليس عليه من الثياب سوى الجلباب، وهي ضاربة صفحا عن ظهوره في أقبح مظهر مناف لقواعد الحشمة والأدب.»
Shafi da ba'a sani ba