وحدث مرة أخرى لما كان الملك الشخص الوحيد السامع للغناء والمشاهد للتمثيل، أن موضوع الرواية كان يتعلق بهبوب عاصفة عظيمة، فقصفت رعود المسرح وعصفت رياحه، وتلا ذلك أصوات هطول أمطار غزيرة على ما هو مألوف في المسارح، فازداد الملك من جراء هذا هياجا واضطرابا، وصاح صارخا من «لوجه»: «حسن! حسن جدا! شائق إلى الغاية! لكني أروم مطرا حقيقيا. افتحوا أنابيب المياه! لقد رأيت بروقا خاطفة، وسمعت رعودا قاصفة ورياحا عاصفة، فأروم أن أرى سيولا جارفة.» فاعتذر مدير الأوبرى عن ذلك مخافة أن الأمطار تتلف ما في الأوبرى من رياش وزخارف.
ولكن الملك لم يقبل هذا الاعتذار، وأصر على طلب المطر الحقيقي قائلا: «ليتلف ما يتلف. لا بأس، إني أروم الحصول عليه فعجلوا في فتح أنابيبه وإطلاق ميازيبه!» ولم يروا بدا من امتثال أمره، فتدفقت المياه الغزيرة على الأوبرى كلها وغمرت المسرح، وتناول رشاشها حلل المغنيين والمغنيات، وأتلفت كل شيء نفيس طريف. وظل الممثلون والممثلات يوالون التمثيل الغنائي متجاهلين ما هو جار، فسر الملك سرورا لا يوصف، وأخذ يصفق ويصيح: «أحسنتم! أحسنتم كل الإحسان! ليزد إيماض البرق وهزيم الرعد وعصف الزوابع وتهطال الأمطار! زيدوا! زيدوا! ومن يخالف أمري يشنق.»
وزاد فيه حب العزلة والانفراد حتى إن قصوره عادت لا تكفي لإجابة ما تمليه هواجسه وتخيلاته، فصار عندما تحزبه الوساوس وتشد وطأتها عليه يهجر القصور إلى بعض القرى ويقيم في خان أو بيت فلاح. وإذا اتفق أن أحدا عرفه هناك طلب الاعتزال في مكان آخر. ولما كان وزراؤه يعترضون على غيباته المتكررة، كان يجيبهم بقوله: «من المحتم على كل أمير أن يفكر في واجبات دعوته. وهذا إنما يستطيعه إذا اعتزل البلاط وضوضاءه، وخلا بالله في ظلال سكون الطبيعة.»
ولم يقتصر جنونه على هذه الأمور، بل تعداها إلى بناء المعاقل والقصور، فشاد منها كل فخم أنيق حصين، وأنفق عليها - على فرشها وتزيينها - نفقات لا تحصى.
وعلى رغم ما أنفقه من ملايين الجنيهات على هذه القلاع والصروح، ظلت الوساوس والرؤى والأحلام تساوره وتحرمه الراحة والسلام والطمأنينة. وكان لعدم استطاعته النوم يقضي أكثر ساعات الليل في مركبة يجرها ستة من أشد الجياد جريا وإحضارا، فكانت تجري به كالبرق الخاطف وهي تنهب الشوارع نهبا. وكان منظرها في ظلام الليل الحالك أشبه بحكايات الجن؛ إذ يشاهد الناظر إليها شيئا أشبه بأوزة ذهبية ناشرة جناحيها، وداخلها الملك النحيل الجسم الأصفر الوجه، متكئ على نمارق مخمل مطرزة بالفضة والذهب، وهي منورة بنور ساطع أنيق.
ومما زاده عتها وجنونا علمه أن أخاه أوتو حكم عليه بالجنون واعتقل في قلعة نيمفنبرج. فاشتد حزنه على فراقه، وأوجس خوف المصير إلى ما صار أخوه إليه. فغلا في اجتناب الناس غلوا عظيما، واتخذ جنونه شكلا جديدا غريبا، فصار يبصق في وجوه الخدم، وإذا أساء إليه واحد منهم إساءة طفيفة ولو سهوا على غير عمد، كان يبالغ في ضربه والتنكيل به. حتى إنه بلغ يوما عدد الذين أصابهم بالجراح 30، توفي واحد منهم بضربة من قبضة يده. وحكم يوما على خادم رفع نظره إليه أن يتقنع بقناع أسود سنة كاملة، وعلى خادم آخر أن يتزيا بزي أبله ويطاف به على حمار في شوارع مونيخ. وأبى مفاوضة وزرائه إلا بواسطة سياس خيله ومروضيها. وارتأى في يوم أن ينشئ مملكة في بلاد العرب. وفي يوم آخر أن هدد وزراءه بالنفي إلى أمريكا. وأمر مرة أن يجلسوه في مركبة تجرها الطواويس. وطلب مرة أخرى أن يدخن الأفيون ويشرب خمر الرين والشمبانيا في كئوس بلور، وعلى وجوهها أوراق الورد والبنفسج. وغير ذلك من الأعمال الشاذة الغريبة التي يضيق المقام دون وصفها.
هذه الأعمال السيئة تحملها البافاريون في أول الأمر بما لا مزيد عليه من الصبر وسعة الصدر، حتى ضاقت صدورهم وفرغ معين اصطبارهم وعزموا على خلعه، وألفوا لجنة عهدوا إليها فحص قواه العقلية، فقررت أنه مصاب باختلال عقلي لا يستطيع من جرائه أن يحكم شعبه، وأن جنونه هذا لا يمكن إشفاؤه. فلما بلغه قرار اللجنة هاج هياج اللبؤة الفاقدة أشبالها، وصاح قائلا: «لا أعارض في خلعي، وأما الحكم علي بالجنون فلا أطيق احتماله.»
ولما جاء الوفد المعين لإبلاغ خبر خلعه إليه وجدوا القلعة مخفورة بسرية من الجيش كان قد استدعاها لحمايته ومعها جمهور كبير من الفلاحين المسلحين، وهم كلهم مستعدون لسفك دمائهم في سبيل الذود عن مليكهم المحبوب على رغم جنونه. وحينئذ عاد الوفد من حيث أتى. وفي اليوم التالي ذهبوا إلى القلعة فأخبرتهم الحامية أن الملك قضى ليله يهددهم بالانتحار؛ ولذلك أذنوا لهم في الدخول. ولما اجتمعوا به خاطبه الدكتور غودن أحد أعضاء الوفد قائلا له: «يسوءني جدا يا مولاي أن أخبرك بأن أربعة من كبار أطباء الأمراض العقلية قد فحصوا قوى جلالتك. وبناء على تقريرهم تعين عمك الأمير لويتبولد نائب الملك، وسأتشرف بالذهاب مع جلالتك إلى قلعة برغ.» وعلى الفور ساروا به إلى هذه القلعة التي لم يقم فيها سوى يوم واحد.
فإنه في عصر اليوم التالي إذ رآه طبيبه الدكتور غودن مستردا شيئا قليلا من الهدوء والسكون خرج يتمشى به في حديقة القصر. وبعد مغيب الشمس خيم الظلام، وهطلت أمطار غزيرة واستبطأ الحرس رجوع الملك وطبيبه، واشتد القلق والخوف على سلامتهما، وأسرع الحرس في التفتيش عنهما وبأيديهم المشاعل والمصابيح، وركب الدكتور مولر زورقا ومعه رجل آخر، وسارا يبحثان عنه في البحيرة.
قال الدكتور مولر: بينما نحن سائران في الزورق صاح رفيقي فجأة وألقى بنفسه في الماء، وقد غمره إلى ما فوق صدره، وقبض على جثة طافية تسير مع التيار؛ وكانت جثة الملك، ثم جاءت بعدها جثة الدكتور غودن. وعلى أصوات الاستغاثة هرع الحراس إلينا وأخرجوا الجثتين من الزورق. ولم يكن على جثة الملك شيء من آثار الخدوش أو الرضوض بخلاف جثة الدكتور غودن، فإن وجهه كان مغشى بالخدوش، وفوق عينه اليمنى لطخة سوداء كبيرة أشبه شيء بأثر ضربة عنيفة بقبضة اليد، وعلى فمه ابتسامة لطيفة كما كان عهد الناس به في حياته. وهكذا يكون هذا الطبيب الخالد الذكر قد ضحى بنفسه وهو يحاول عبثا إنقاذ حياة مليكه.
Shafi da ba'a sani ba