ولما رأت هنريتا أن سلفها أعرض عنها، وأصبحت مهجورة منه ومن أخيه زوجها، وجهت التفاتها إلى مغرم عان طالما تصباها من قبل، وحاول التقرب إليها ولم يفز بطائل، وهو الكونت أرتو دي غيش. كان هذا الفتى الجميل الطلعة سليل إحدى الأسر العريقة في الحسب والنسب، وكان مع جمال شكله ممتازا بحسن سجاياه. وقد هام بالأميرة هيام قيس بليلاه، ولم تعره حينئذ أقل التفات؛ لأنها كانت مشغولة عنه بسواه.
فلما أخلى الملك قلبه من هواها وشغله بهوى غيرها، أعارت توسلات الكونت دي غيش أذنا صاغية، ولم تقتصر على قبول رسائله التي كان قد بعث بها إليها بواسطة الآنسة مونتالي إحدى وصيفاتها، بل زادت على ذلك أن اطلعت عليها وأجابته عنها. ثم اتصلت بينهما عري المحبة وازدادت توثقا. وفي أحد الأيام أدخلت الآنسة مونتالي إلى مخدع الأميرة امرأة في زي عرافة (مبصرة البخت)، وهي بالحقيقة لم تكن سوى العاشق الولهان دي غيش.
وعندما بلغ لويس الرابع عشر خبر هذه الحادثة استشاط غيظا وغيرة، وأمر على الفور بطرد الآنسة مونتالي وإبعاد الكونت غيش إلى أحد ميادين القتال. وقبيل خروجه لطيته طلب أن يخلو سرا بالأميرة، وأوشكت هذه المؤامرة أن تنتهي بأسوأ العواقب.
وبعد نفي الكونت دي غيش تقدم إلى الأميرة المركيز دي فارد، وكان هذا المركيز من أبهى رجال البلاط طلعة وأشدهم انغماسا في حمأة الدعارة. ولكن الأميرة أشاحت عنه بوجه باسر وردته في صفقة الخاسر؛ لأن قلبها كان لا يزال يصلى نار الأسف على فراق حبيبها دي غيش، وأفكارها مشغولة بالحنين إليه والخوف على حياته من الأخطار المحدقة بها في ساحة القتال . أما المركيز فلم ينثن عن عزمه. ولما خابت مساعي التزلف والتملق عمد إلى وسائل الإكراه، وبعد بذل الجهد تمكن من الاستيلاء على الرسائل التي كان دي غيش قد كتبها إلى الأميرة معرضا فيها بالملك، وهددها بإطلاع لويس الرابع عشر عليها إن لم تجبه إلى ما طلب. ففت هذا التهديد في ساعدها؛ لأنها كانت تفضل الموت على إفشاء هذا السر لسلفها، وتوسلت إلى المركيز أن يرد رسائلها إليها. فقال لها: «يمكنك يا سيدتي أخذها إن أجبت شروطي.» - شروطك؟ إني مستعدة لقبولها أية كانت. فما هي؟ - تعالي إلي في منزل الكونتس دي سواسون، وهناك أخبرك بشروطي قبل تسليم الرسائل إليك.
فوجدت الأميرة نفسها في قبضة يد رجل هو من أسقط رجال فرنسا شأنا وأسفلهم نفسا. ولما رآها مرغمة على الانقياد إلى مشيئته عاملها بما استطاع من التنقص والامتهان. فمن ذلك أنه ضرب لها موعدا لتوافيه في منزل كان بالحقيقة معدا لاجتماع السيدات بعشاقهن، فلم يوافها في الوقت المعين، بل غادرها تنتظر قدومه على أحر من الجمر. وجال في البلاط يخبر أصدقاءه بالمكان الذي تنتظره الأميرة فيه. وبهذه الوسيلة هتك ستار الصون والحصانة عن سيرة أميرة إنكلترة وكريمة الملك تشارلس الأول، وجعل ذكر عارها وشنارها مضغة في الأفواه ولماظة بين الألسنة والشفاه!
أما زوجها، فلم يبد شيئا يستحق الذكر من الاهتمام بمصيرها، بل زاد إسرافا وغلوا في التخنث والتبرج والتهتك على الوجه الذي سبق وصفه. وأطلق للمركيز العنان في تحقير زوجته وسومها أفظع ضروب الخسف والامتهان.
وأما الدوقة - زوجته - فقد برح بها القنوط حتى اضطرت أخيرا أن تلجأ إلى الملك تائبة نادمة مستغيثة برحمته أن ينقذها من جور المركيز الغشوم، فأغاثها وزج دفار في سجن مونبليه وأراحها من فظائعه وموبقاته التي تقشعر لذكرها الأبدان.
وعندما أنقذت من براثنه وجهت اهتمامها للاستظلال بحياة الهدوء والسلام والطمأنينة، متذرعة إليها باختباراتها المرة الأليمة غير ناسية ذكرى طيشها وحماقتها. ولكن ما أصدق القول المأثور: «في كتاب القدر المقضي به على كل إنسان صفحة مخيفة مكتوب في أعلاها هاتان الكلمتان: أماني مقضية.» فقد شربت هذه الأميرة إلى الثمالة كأس المسرات التي أباها عليها زوجها الساقط الشأن. ومع كل ما عانته من ضروب العناء والشقاء لم تدفع كل ما عليها من ثمن ما تملته وتمتعت به. وقد شرعت سحب الفاجعة المزمعة أن تغشى حياتها تنشأ متلبدة فوق رأسها. وكان إهمال زوجها لها قد تحول الآن إلى مقت وكراهية ورغبة شديدة في القضاء على حياتها.
وحدث أنها بعد رجوعها من زيارتها الأخيرة للندن بثلاثة أسابيع طلبت كأسا من شراب الهندبا لتروي ظمأها الشديد (وكانت قبل ذلك بيومين قد حملها طيشها على الاستحمام بنهر السين، فأصابتها برداء شديدة) وبعدما شربت الكأس لم تبطئ أن شعرت بألم يقطع أحشاءها فصاحت: «مسمومة!» فارتج القصر وهرع كل من فيه على صوت صياحها وتألمها مذعورين مضطربين. ورن صدى الحادثة في فرسايل، فخف الملك والملكة، وعند وصولهما قيل لهما إنها مشرفة على الموت، ولما دخلا إليها وجداها تتقلب وتتلوى من شدة الألم، وكادا لا يعرفانها من جراء ما طرأ عليها من الضعف والهزال. أما الأطباء الذين دعوا لمعالجتها فاستخفوا بما تعانيه، وقالوا: «إنه مغص يزول عما قليل.» وبهذا القرار سكنوا مخاوف المشاهدين، فانصرفوا يضحكون ويمزحون. وكان زوجها أقل الناس مؤاساة لها وهي في سكرات الموت.
ولما تحققت أن ساعتها دنت استدعت الأب بوسويه الشهير ليسمع اعترافها الأخير. فقالت له: «سأموت عما قليل. وقد سممت خطأ.» وقالت للسفير البريطاني الذي جاء لعيادتها: «إني في أسوأ حالة كما ترى، وعما قليل أقضي نحبي! ولست بآسفة إلا على الملك، فإنه سيفقد بي الشخص الوحيد الذي كان يحبه حبا خالصا.» ولما سألها السفير عن صحة ما شاع من أمر دس السم لها، اعترض كاهن كان واقفا بجانبها، وقال لها: «لا تجيبي عن سؤال كهذا وقدمي نفسك قربانا لله.»
Shafi da ba'a sani ba