الإهداء
المكاري والكاهن
الإهداء
المكاري والكاهن
المكاري والكاهن
المكاري والكاهن
تأليف
أمين الريحاني
الإهداء
إلى الخوري ي. ي.
ذكرى جلسات جلسناها، وآراء تبادلناها، وأغان رددناها، على موسيقى الساقية الفضية، تحت صنوبرة هرمة، بالقرب من دير قديم مهجور، في الجبل الذي نرجو أن يعود إليه الذين هجروه من أبنائه، ويهجره - ولو لمدة قصيرة - أولئك الذين لم يروا من العالم سواه.
نيويورك، سنة 1904م
المكاري والكاهن
عجل يا أخي، عجل. العربة تنتظر في الخان.
حاضر، يا عم. ستة عشر غرشا ومتاليك.
دفع الرجل القيمة، وأخذ السلع، فربطها في منديل أحمر كبير، ثم علقها في عقفة عصاه، وحملها على كتفه، وهرول إلى الخان.
هو أحد الفلاحين في جبل لبنان، أولئك الذين ينزلون إلى مدينة بيروت من حين إلى حين ليبتاعوا حاجات بيوتهم. أسرعت، فأجملت، فقلت إنه أحد الفلاحين، بينما أن مهنته الخاصة هي غير الفلاحة والزراعة، هو من تلك الطبقة التي يحتقرها الناس، رغم أن البلاد لا تستغني عنها. هو أحد المكارين الذين يقضون في الفلاة معظم أوقاتهم، وفي خدمة اللبنانيين يجدون وراء البغال.
يمتاز المكاري اللبناني بثلاث مزايا كبيرة ما عدا الصغيرة؛ أولها: سب الدين، فهو مثل الجندي الإنكليزي، لا يحسن الكلام دون أن ينقطه ويحركه بالمسبات. وثانيها: خفة الروح، فالنكتة هي غالبا في جيبه، أو على لسانه. وثالثها: الذكاء الفطري. هذه المزايا الثلاث تجعل المكاري مؤنسا فكها، وقلما تجتمع كلها في غير المكارين، فقد يكون الوجيه ذكيا، ولا يكون خفيف الروح، وقد يكون الراهب مزاحا، ولا يكون ذكيا، وقد يسب الفلاح الدين وهو بليد ثقيل الدم. على أن هناك فلاحا يشابه المكاري فيما امتاز به، وهو الشريك المرابع للدي؛. وهؤلاء الشركاء هم غالبا أذكياء مجان. ولا عجب، إذا كانوا كذلك يجدفون.
أما المكاري فهو يكثر من المسبات؛ لأن أكثر مشاغباته مع الحمير والبغال، وهؤلاء لا يعرفون من أساليب الجدل والإقناع غير أنهم يحرنون ثم يرفسون. أما أنه مجان؛ فذلك لأن أكثر أشغاله هي مع الرهبان. وأما ذكاؤه الفطري، فإن له أسبابا عدة ظاهرة وخفية، فالخفية نتركها للعالمين بالغيب، ونذكر من الظاهرة ما هو - في نظرنا الضعيف - الأهم.
يقضي المكاري معظم وقته في العراء - في العزلة - في سكينة الطبيعة وجمالها - بين الجبال، وفي الأودية والسهول، فيكثر من مناجاة نفسه، ولا غرو؛ إذ ليس له في تجواله أن يحدث غير رفاقه. وأصحاب المهنة الواحدة ذوو كفاءة في نظر أنفسهم، فقلما يستفيد بعضهم من بعض.
والمكاري في سياحاته المستمرة يتعرف إلى أناس من شتى الطبقات، ويرى قرى عديدة جديدة، فيتسع جو نفسه ومعقوله، ويجتمع له كثير من النوادر والحكايات التي يفاكهك بها في الطريق. أما أنه محتقر؛ فلأنه فكه ومفيد، وقد تعود الناس أن يحتقروا من يفاكههم إن كان على المسارح التمثيلية، أو في مسرح الحياة.
من المكارين وبغالهم تتشكل السكة الحديدية التي تمتد من نواحي الجبل كلها، ولكن الفرق بين قاطرة المكارين وقاطرة السكة كبير؛ فالأولى إذا رفست تضر بصاحبها، والثانية إذا رفست تضر بالشعب الذي تعيش على حسابه. الأولى لا تتذمر، والثانية لا تقنع. الأولى تمشي ساكتة، والثانية تسير وهي تقرقع وتضج. الأولى لا تتعب من العمل، والثانية تحتاج إلى تجديد دائم في قوتها التجارية. في الأولى تتجسم فضائل الحيوان، وفي الثانية تتمثل مطامع الشركات التي يؤسسها الإنسان. فإذا شئت أن تكون سعيدا موفقا، فاسأل الله أن يجمع فيك من طباع الحيوانات إخلاص الكلاب، ووداعة الغنم، وثبات النمل، ونشاط البغال.
نستأنف القصة - أو بالأحرى نبدأ بها - فنعود إلى المكاري الذي هرول من الدكان إلى الخان؛ ليركب العربة التي تصعد إلى الجبل مرة كل يوم. ولا بد قبل أن نباشر القصص أن نزيد القارئ علما بهذا المكاري الذي كان يمتاز عن إخوانه بغير الأمور التي تفلسفنا في ذكرها. فإذا كان إخوانه يجوبون الجبال والسهول اللبنانية والسورية، فهو قد قطع البحار، وساح فيما وراءها من الديار. وإذا كان زملاؤه يمشون وراء بغالهم، وقلما يركبون العربات، فأبو طنوس، مكارينا، اعتاد أن يسافر في السكك الحديدية، وفي المركبات الكهربائية، في البلاد الأميركية، فتعطلت لذلك رجلاه، أو كادت ، وصار يبذل ثلاثين غرشا غير آسف كل مرة يزور فيها المدينة.
قلنا إن في المكاري ذكاء فطريا، واستعدادا لاقتباس الأفكار الجديدة، والاقتناع بها. وقد تعلم أبو طنوس أثناء إقامته في نيويورك شيئا من اللغة الإنكليزية، فهذب الاقتباس والاقتداء ذكاءه الفطري. وكثيرا ما كان يحضر اجتماعات الأميركيين السياسية بعد تجنسه بالجنسية الأميركية، وحيازته حق الانتخاب، فكان تأثير المهاجرة في عقليته كتأثير الهواء في النبات، والنور في الأزهار.
كان أبو طنوس يكره رجال الدين كرها شديدا، وله معهم مواقف تذكر، فهو أحد الذين سخروا من أحد الكهان وزجروه؛ لخطبة خطبها المؤلف ليلة 9 شباط المشهورة في تاريخ المهاجرة السورية. وكان إذا حدثك في الكهان والقسس، يختم دائما حديثه: «تجنبهم تعش سعيدا.»
جاء أحد المرسلين يسأل أبا طنوس يوم كان في نيويورك أن ينضم إلى جمعية الطائفة، فأجاب: «ما أحلى الجمعية التي تكون أنت رأسها، ويكون أبو طنوس ذنبها! إليك عني.» عندما سئل أن يتبرع لبناء كنيسة للطائفة، أجاب متهكما: «يوم يتم بناء الكنيسة أقدم لها طبلا وزمرا.»
رفع أحد المرسلين في نيويورك عريضة إلى رئيس الأساقفة يشكو فيها سلوك أحد إخوانه المرسلين هناك، فشارك أبو طنوس في توقيع العريضة، ولكنه بعد أن فعل ذلك ذهب توا إلى المرسل المشكو منه، وقال له: «إذا رفعت عريضة ضد أخيك الكاهن، فأنا أوقعها بسرور.»
ادعى رئيس الرسالة في نيويورك مرة أنه اكتشف سما في الماء المقدس عندما كان الشماس يصبه له في الكأس ساعة القداس، واتهم أحد معاونيه؛ قائلا: «يريد أن يقتلني ليفوز بمنصبي»، فأحدثت المسألة شغبا في الجالية، وشرع كل سوري يبدي رأيه فيها، فمنهم من قال إن رئيس الرسالة ناقم على معاونه، وهو يريد أن يخرجه من نيويورك بأية طريقة كانت. التهمة باطلة، والسم موجود في التهمة، لا في الماء.
ومنهم من صدق الرئيس وناصره على المعاون.
ومنهم من أساء الظن بالمدعي؛ قائلا: «ألا يجوز أن يكون الرئيس نفسه وضع السم في الماء، ثم نبه الرعية إليه؛ ليتهم معاونه، ويزيد بأهمية نفسه؟»
ومنهم من تساءل: إذا صح أنه كان في الماء سم، فمن أين للكاهن أن يكتشف ذلك قبل أن يشرب الماء؟
وإذا كان قد اكتشف السم قبل أن يذوقه، أفلا يكون له سابق علم بالدسيسة؟
وكيف لا يسيء الظن بالماء، فيقول إن الماء عكر؟
أما أبو طنوس، فلم يكن من المرتابين بسلامة نية الرئيس، ولا من الذين صدقوا التهمة بغضا بالمعاون، أو أنكروها كرها برئيسه؛ بل قال: «كثيرا ما يدس الرهبان السم بعضهم لبعض إما نكاية وتشفيا، وإما طمعا بمنصب رفيع. والكهان فصيلتان من عائلة واحدة، فلا يستغرب إذا كانوا يحملون سمومهم إلى نيويورك.»
هذا هو أبو طنوس عدو الإكليروس، ولم يكن لازما ساكتا، بل كان متعديا متحركا؛ أي إنه لم يكن يكرههم كره من يتجنبهم ويسكت، بل كان يكرههم ويحمل عليهم كل ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وإن لبغضه هذا الشديد الأعمى أسبابا عديدة، سنكشف الستار عن أهمها. لم يكن أبو طنوس ليفرق بين الكاهن الفاضل والكاهن الفضولي. لم يكن ليميز بين التقي العالم، والجاهل المحب لنفسه؛ لأنه لم ير في حياته كلها «أبا» يستحق الاحترام. لم ير قط واحدا من أولئك الأفاضل خريجي مدرسة «البراباغندا» بروما، ومدرسة «سان سلبيس» بباريس، أولئك الذين يقلمون أظافرهم على «الموضة»، ويطيبون لحاهم، ويلبسون الحذاء اللماع ذا البكلة المذهبة.
قبل أن هاجر أبو طنوس إلى أميركا كان مكاري دير من أديرة لبنان، فلم تتح له الفرص أن يتعرف إلى غير القسس، وبعض الكهنة القدماء الذين لا يحسنون الصلاة إذا هم غضبوا. وفي الولايات المتحدة لم يكن ليرى غير المرسلين الذين شاءت حكمة البطريرك أن تبعدهم عن الجبل.
ومن المعلوم لدى العارفين بشئون الإكليروس في الوطن أن الكاهن الفاضل، العالم، التقي، النقي، لا يرغب في هجر وطنه. ولذلك أسباب منها أن الكاهن الفاضل طموح، يريد أن يكون أفضل مما هو - يريد أن يرتقي إلى مقام الأسقف، إلى السدة البطريركية؛ فإذا هجر وطنه، هجر كذلك مطامعه الدينية والسياسية.
فمن أين لأبي طنوس أن يدرك ذلك؟ وكيف يعرف الكاهن الفاضل إذا كان خبره وخبره ما ذكرنا؟ أما إذا قلنا إن أبا طنوس متحامل، متعصب على الإكليروس، فنقول إنه لا يلام. ولعله إذا عرف مثلنا بعض المحترمين، أصحاب الزنانير الأرجوانية، يلطف في تعصبه، ويخفف من شنآنه؛ بيد أن لهذه الشنآن، وذاك التعصب أسبابا طبيعية واجتماعية.
أبو طنوس قاطع البحار والسائح في ما وراءها من الديار.
كان المرحوم والد أبي طنوس شريكا لأحد الأديرة، وكان دائما يتذمر من معاملة الرهبان، من طمعهم، وخداعهم وظلمهم واستئثارهم. هي ذي الآفات التي أضرمت نار البغض في قلب الوالد، ولقنته اللعنات التي كان يتفوه بها على مسمع ولده، فشب الولد وفي قلبه أقباس من تلك النار التي كان ينفخ فيها أبوه. وكثيرا ما تكون النهضات الإصلاحية نتيجة ضرر شخصي، وكثيرا ما يكون المرء مصلحا بالرغم من نفسه. أراد والد أبي طنوس أن ينتقم من بعض الرهبان لظلمهم له، فأشعل في قلب ولده بغض الإكليروس أجمعين؛ فهل أفاد نفسه؟ كلا، وهل يفيد أمته؟ إن في هذه القصة الجواب.
هاكم السبب الطبيعي لبغض أبي طنوس. أما الأسباب الاجتماعية، فمنها وطنية، ومنها أميركية. أما الوطنية فقد أفضنا فيها، وهي تتعلق بالأسباب الطبيعية. كان الوالد من أكاري الأديرة، فكانت معاملة الرهبان له أما للبغض الذي ولد في ولده.
أما الأسباب الأميركية، فمنها شخصية وقد نشأت عن طمع مادي، ومنها عقلية وقد نشأت عن مبدأ صحيح اكتسبه كما قلنا من مخالطة الأجانب، ومن مطالعة الجرائد العربية التي تصدر في تلك الديار.
كان أبو طنوس تاجرا في نيويورك، وكان شأنه شأن كل تاجر يحتاج في بعض الأحايين إلى الدراهم؛ ليدفع ما عليه من مستندات. ولما كان ذات يوم في عسر مالي، قصد الكاهن الذي كان يزوره في البيت، وينادي امرأته: «يا حبيبتنا»؛ ليستدين منه مائتي دولار؛ فرده الكاهن خائبا، وقد اعتذر إليه قائلا: «من أين للكاهن المال، يا ابني؟» وفي اليوم التالي جمعت الصدف الكاهن وأبا طنوس في أحد المصارف، وكان الكاهن ساعتئذ يرسل مالا إلى أحد أقاربه في الوطن !
جرت العادة بين المرسلين أن يستودعوا التجار أموالهم «ويسمسروا» لهم بالتجارة؛ أي إنهم يجيئون بالزبائن إلى من يدفع لهم فائدة كبيرة على مالهم.
كان المرسلون يصدون أبا طنوس ويتجنبونه، فلم يستودعه أحد منهم ماله، ولم يجئه أحد بالزبائن، ولم يقرضه أحد منهم شيئا من الدراهم عند الحاجة؛ فلا عجب إذا كانت هذه المعاملة تمكن البغض في قلب الرجل.
كره أبو طنوس الإكليروس لضرر في البدء جاءه منهم، ولكنه بعد أن مكث عدة سنوات في أميركا، واستنار بنور الواجب الحقيقي، غدا بغضه يتطور ويتحول، فنشأت من دودة محبة الذات؛ فراشة محبة الوطن. نشأ من البغض الذي سببه الضرر الشخصي بغض أوسع منه، وأعدل، وأعظم، بغض من أجل الخير العام. وهكذا أصبح طالب الانتقام محسنا من المحسنين. مثل هذه التطورات النفسية تحدث في كل منا، ولكن الذين يراقبونها ويحللونها قليلون.
قبل أن نواصل قصتنا - بل قبل أن نباشرها - علينا أن ندون حقيقة أخرى. لم يكن أبو طنوس يطالع الكتب، ولكنه يوم كان تاجرا في نيويورك كان الكاتب المستخدم في محله يكاشفه من حين إلى حين أفكاره الخصوصية في المسائل الدينية والسياسية المهمة. والكاتب هذا شاب تلقى العلم في إحدى المدارس السورية، فكان يحسن اللغة الإفرنسية، وكانت له رغبة شديدة في المطالعة. وهذا عامل آخر من عوامل التربية، فالذي مكن عرى الصداقة بين أبي طنوس وكاتبه، هو أنهما اتفقا في النظر إلى أمور كثيرة، وخصوصا إلى الإكليروس.
والكاتب عرف سيده بفولتير الذي كان يكثر من مطالعته، وسلحه بالبراهين «الفولتيرية» على الإكليروس، فكان يسرد له تواريخ الاضطهادات، ويحدثه دائما في ما كان من جهاد الفيلسوف الإفرنسي في سبيل الحرية والعدل.
إن هذا الكاتب، والحالة هذه، لمن المحسنين إلى أبي طنوس؛ فقد ساعد في تكييف بغضه وتطوره، فصار طالب الانتقام ممن ينشدون الخير العام.
أما وقد عرفنا القارئ إلى أبي طنوس تعريفا وافيا، فعلينا الآن بالقصة.
عندما وصل أبو طنوس إلى الخان، سبه صاحب العربة، وقال: «أتريد أن ننتظرك النهار كله؟ ألا تعرف أن العربات تمشي قبل وقتها في هذه الأيام؟» - لماذا؟ - لماذا؟! لأن القمر، يا عيني، متأخر مثلك الليلة. هات الأجرة واركب. تحرك. عجل.
دفع أبو طنوس أربعة بشالك، وتقدم نحو العربة، فرأى فيها شخصا واحدا ذا لحية مستديرة تخللها الشيب، وبيده كتاب يطالع فيه. قد تكون الصدف شرا صرفا في بعض الأحايين، وقد يكون في الشر خير مستتر، خصوصا إذا كان مثل أبي طنوس رفيق سفر لأحد الكهان.
ولكن أبا طنوس، عندما رأى الكاهن، امتقع لونه، وقال في نفسه: «الله يطرد الشيطان.» ثم هم أن يركب، فانتهره الحوذي؛ قائلا: «اركب من هذه الجهة. ألا تعرف أن المحترم يركب إلى اليمين؟»
فأجابه أبو طنوس قائلا: «أفضل أن أجلس إلى جنبك.» - أمجنون أنت؟ - نعم، أنا مجنون. - إذن اجلس جنب المحترم، فيقرأ عليك، ويطردهم عنك. - الله يطرد الشيطان. - ادخل، يا ابني، ادخل؛ قد تأخرنا.
عندما سمع أبو طنوس صوت الكاهن، أحس بشيء دخل قلبه، فأنار قصدا فيه، وحمله مسرعا إلى مجلسه في العربة.
قبل أن سافر أبو طنوس إلى أميركا، كان يقبل يد الكاهن ويدعو عليها ... أما الآن فيدعو عليها، ولا يقبلها. وقد حاول بعض أصدقائه المعتدلين أن يقنعوه أن بغضه الأعمى للإكليروس لا يساعد النهضة الإصلاحية بشيء، وقد يضر بها؛ فما اقتنع أبو طنوس، ولا انتصح.
قال أحد الكتاب: «إن الفكر الذي يتسلط على المرء هو شبه مخرز في الدماغ، وكلما طال عمله، تمكن هناك. فاقتلاعه في السنة الأولى شبيه باقتلاع شعرة من الرأس، وفي السنة الثانية بسلخ الجلد، وفي الثالثة لا يخرج بغير كسر العظم. أما في الرابعة، فيستحيل انتزاعه إلا إذا انتزع معه الدماغ.»
فمخرز البغض للإكليروس في دماغ أبي طنوس لا يكاد يرى؛ لعمقه. وقد مر على عمله ليس أربع سنوات فقط، بل بضع عشرة سنة.
بعد أن جلس أبو طنوس في العربة، رسم الحوذي على صدره إشارة الصليب، وأدار سوطه في الجو، ثم نزل به على الخيل وهو يتمتم قائلا: «على نية الله.»
صرير دواليب تجري في الأوحال، وصفير سوط يلعب في الهواء، ووقع حوافر الخيل، وصراخ بعض أولاد الأزقة - أصوات سمعها أبو طنوس وهو خارج مع الكاهن من المدينة.
أما الكاهن فلم يكن ليسمع شيئا من تلك الأصوات؛ لأنه كان مكبا على كتاب الصلوات الذي بيده. ومن معجزات الكهنة أنهم يستطيعون أن يصلوا دون أن يفكروا بشيء غير الصلاة. فلما انتهى الكاهن من عمله الصالح، نظر إلى رفيقه نظرة السيد إلى خادمه، وسأله عن اسمه، واسم قريته، ثم سأله عن أحواله، فأجابه أبو طنوس؛ قائلا: «لو كانت أحوالي كأحوالك، أيها المحترم، لما كنت أركب في العربة مع رجل لا أعرفه؛ بل كنت أقتني عربة خصوصية.»
ينظر الكاهن إلى الناس نظر السيد إلى عبيده، ولا يحدثهم بغير اللهجة التي تناسب هذه العقلية غير المسيحية، إلا إذا بدا من محدثه ما يستوجب الخروج عن القاعدة.
دهش الكاهن بجواب أبي طنوس، فغير لهجته في الحال. أجل، قد أزالت جرأة المكاري شيئا من كبرياء الكاهن، ثم حلت المباحثة الأخوية مكان الحديث الذي يبدأ وينتهي بكيف حالك؟ وكيف حال أهل البيت؟ - أتظن، يا ابني، أننا أصحاب ثروة. - أظن وأعتقد وأتيقن ذلك يا محترم. أنا أقول لك إن خيرات هذا الجبل كثيرة بالنسبة إلى مساحته وحالته الطبيعية. وعندما كنت أركض وراء البغال، وأجوب الجبال من الطرف الجنوبي إلى الشمال، تحققت أن أغنياء لبنان «العوام» يعدون على الأصابع. وتحققت أيضا أن العامة المؤلفة من شركاء ومكارين وفلاحين لا تملك شيئا؛ فأين خيرات الجبل إذن؟ بأيدي من هي؟ بخزائن من جمعت المجيديات والليرات؟ من هم الذين يأكلون غلات الجبل؟ أقسم بالله وبجميع القديسين، إني صفر اليدين، مع أني كنت في أميركا، وكسبت كثيرا من المال، ثم خسرته. وأنا الآن لا رزق لي، وبيتي مرهون لشيخ القرية. ولست أنا وحدي. إخواني في الفقر كثيرون، والرهبان الذين خدمتهم كمكار يزدادون غنى كلما ازددت أنا فقرا. هم يسمنون، وأنا كما تراني أهزل. ولا أكاد أملأ بطني وبطون أولادي حتى أمسي مديونا للدير وللبقال والسمان في المدينة.
الكاهن :
أرى أن اليأس متحكم فيك ، يا ابني. اذكر قول السيد المسيح، ولا تحسد أصحاب النعمة، ولا تشته مال قريبك. القناعة، يا ابني، كنز لا يفنى.
أبو طنوس :
لا تحرك في السم، يا محترم. اعلم أني سحت كثيرا، وشاهدت كثيرا، وفكرت كثيرا. أنت تقول لي: القناعة كنز لا يفنى، وأنا أقول: أيها المداوي، داو نفسك. ما أجمل أمثالكم، يا محترم! وما أبعد أعمالكم عنها! أمثالكم مثل الطعم تضعونه في الصنارة لتصطادوننا نحن الأسماك في بحر المجتمع الإنساني. إني أعرف هذه الأمور كلها. قد سبرت غوركم، واطلعت على خفاياكم، وفتشت في زوايا قلوبكم، وقلبت صفحات نفوسكم. إني أعرفكم كما أعرف بغلي. إني أعرفك، أيها الرجل! أنت كاهن وأنا مكار. أنت تسلك في الحياة السلوك الذي أساسه الكذب والرياء، ونتيجته المداهنة والاستبداد؛ التدليس لمن هم فوقك، والاستبداد بمن هم دونك. أما أنا؛ أنا مكار. أنا أحد العامة. أنا صفر إلى الشمال، ولكني مع ذلك لا أستحل سرقة شعير جار لأطعم بغلي. أنتم تبشرون بالقناعة، وتجمعون في أكياسكم وصناديقكم المال. أنتم تنهون عن الشر، وقلما تعملون عملا مجردا من الغايات الشخصية الخبيثة. أنتم تأمرون بالصوم والتقشف، ورئيسكم لا يأكل غير الطيور، ولا يشرب غير النبيذ المعتق. أنتم تبشرون بالمحبة، وتدسون الدسائس بعضكم لبعض؛ طمعا بالمناصب والألقاب، وطمعا بالمال. أنتم تحثوننا على التواضع والوداعة، ونحن نذكركم بشموخكم وكبريائكم. أنتم تعلموننا الطاعة والخنوع، ونحن نعلمكم كيف يكون الحلم مع القوة، والوداعة مع السيادة، والمحبة مع الحرية، والعدل مع العلم، والإنصاف مع المساواة، والنجاح العام مع الحكم الديمقراطي العام.
وقف أبو طنوس في كلامه ليشعل سيكارته، ثم قال: أراكم حاملين دائما شبكة الصيد، وفيها كلمة منمقة أم مثل سائر - فيها الطعم - للسمك الناطق - لنا نحن الرعية. ولكني أقول لكم: تحذروا، أيها الآباء المحترمون. قد أدركت الأسماك أسراركم، وعلمت نياتكم ومقاصدكم. وستجتمع ذات يوم على شبكتكم المقدسة، فتسحبها إلى قعر البحر، وتسحبكم وراءها. لا أنكر أنكم بارعون في التبشير بما لا تعتقدون، وأنكم ماهرون في ردعنا عما تتسابقون أنتم إليه. أنتم تنذرون النذور الثلاثة: الطاعة، والعفة، والفقر؛ ولكنكم تنذرون نذرا رابعا، وتنذرونه سرا، وهو أن لا تتقيدوا بنذوركم. لا تؤاخذني، أيها المحترم، إذا صارحتك بما في قلبي، وكشفت لك عن مكنونات صدري، منذ زمن طويل أترقب هذه الفرصة، منذ رجوعي من أميركا وأنا أسأل الله أن يجمعني بكاهن في البرية لأفرج عن نفسي، في البرية لأني لا أحسن التوبيخ أمام الناس. لسنا - معشر الفقراء - مثلكم نوبخ علنا؛ ليقال إننا من الصالحين الأتقياء. قل لي بالرب الذي تأكل جسده، وتشرب دمه كل يوم، هل أنت من الصالحين الأتقياء؟ هل أنت وضميرك في وفق وارتياح؟ هل أطعمت يوما جائعا؟ هل كسوت عريانا؟ هل سقيت عطشانا؟ هل آسيت مريضا؟ وهل أويت طريدا في حياتك؟ لا تؤاخذني، يا محترم، إذا قلت لك - أقول ولا فخر - إني خلصت ذات يوم بغلا من الموت. وأقول ولا فخر إني أفضل أن أكون مكاريا، أو راعي غنم من أن أكون كاهنا. - يا لك من شقي! - أخطأت. أنا، يا محترم، مكار. - ألا تنتهي وقاحتك؟ - أنا عبدك المطيع، يا محترم، ولكن يحق للعبد في هذه الأيام أن يسأل السيد. فقل لي ... - اصمت، يا كافر. - أنا مسيحي، يا محترم. - قد احتملت منك ما لا يحتمله الله من إبليس، فهل تريد أن تجربني أكثر من ذلك؟ - أريد أن أذكرك، أيها المحترم، بأني مكار ... فقير جاهل، وأنك كاهن عالم، تقي، نقي. - إلى أي حد تواصل هذه الجسارة؟ هذه الوقاحة؟ - إلى حيث تنتهي فضيلتكم المزيفة. - الله يطرد الشيطان. - آمين - اصمت، يا لعين! - مبارك أنت يا محترم! - اصمت! اصمت! - أنت خادم الله، يا محترم. - لا تضطرني أن أخاطبك بغير لساني. - أنت بحر الصبر والفضيلة، يا محترم. - لا تضطرني أن أرفع عليك يدي. - تباركني بنقمتك. وأنا السعيد وإن كنت لا آكل جسد الله كل يوم. - أحمل هذه العصا للكلاب ولك ...
إذ ذاك رفع الكاهن عصاه، وضرب بها المكاري، فاقتبل هذا الضربة؛ هادئا باسما وهو يقول: اضربني ضربة ثانية وثالثة. اضربني، يا أخي. هو ذا خدي الأيسر؛ قد برهنت لك على أنك مثلي إنسان، ولست بكاهن، فصرت أحبك وأجلك. اضربني أو عانقني، واحدة من الاثنتين. ارمني خارج العربة، أو ضمني إلى صدرك. أنت أخي، وأنا أحبك وأجلك، وأشعر بما تشعر به؛ فهل لك أن تحبني، وتشعر بشيء من شعوري؟ إذن تعال أقبلك، فتقبلني قبلة الإخاء والمحبة ... لماذا أنت صامت ساكن؟ لماذا لا تقبلني؟ لماذا لا تضربني؟ لماذا لا تبصق علي، وتلعنني، ثم ترفسني؟ وقد أهنتك، وذلك حبا بك. إذن أنا أحبك، أنت أخي، والأب الذي في السماوات هو أبو الناس كلهم؛ فلماذا لا تقبلني ولا أقبلك قبلة الإخاء؟ أنت لا تزال إنسانا مثلي، ولا أزال مسيحيا مع كل بغضي لخدام المسيح في هذا الزمان.
كان المكاري يتفوه بهذه الكلمات والحرارة كالحمى تورد وجنتيه، وتعقد العرق على جبينه، فيبدو وجهه حينا كوجه المصروع، وحينا كمن يسيطر عليه الوحي الأعلى؛ هو وميض برق إلهي ينير القصد الذي قصده أبو طنوس ساعة صعد إلى العربة، وهي ذي الساعة التي يرتفع فيها مثل هذا الرجل إلى أقصى درجة من الكمال البشري، هي الساعة التي يستحيل الإنسان فيها إلها، هي ساعة الأنبياء عندما جاءوا بالمعجزات، هي ساعة المسيح في أبي طنوس. أجل، منذ صلب الناصري إلى هذه الساعة لم يدر إنسان خده الأيسر بنية أسلم من نية أبي طنوس، وبقصد أشرف من قصده.
وماذا فعل الكاهن؟ لا حاجة أن نقول إن سلوك أبي طنوس أدهشه، أذهله، بل رماه في بحر من الهواجس والتحير. وما هي الطريقة التي يتخذها؟ ما هو الجواب الذي يؤديه؟ ما هي الحيلة في الخلاص من هذه الورطة العظيمة؟
أطل القمر بدرا من وراء الجبال، فتلألأت أشعته بين الأشجار، وبسطت الصخور ظلالها في فيض من نوره الفضي، وأنارت الطريق، طريق المسافرين المتخاصمين. جاء القمر، بما فيه من بهاء وجمال، يوفق بين الأخوين، ويضيء بنوره الهادئ طريق السلام والمحبة؛ فهل أفلح عمله؟ ليجاوب الكاهن. ليجاوب أبو طنوس. ليجاوب الحوذي.
ولو تلفت الحوذي في هذه الساعة، وشاهد وجه الكاهن، لكان ينزله في أول بيت يصل إليه، ويسأل أهل البيت الاعتناء به. إن وجهه لوجه منكسر، مغلوب، بل وجه مريض يغالبه الموت، وجه من أغمي عليه.
أما أبو طنوس فلبث ساكتا ساكنا إلى أن أفاق الكاهن من سباته، وأمر الحوذي بأن يقف.
وقفت الخيل، فنزل الكاهن من العربة دون أن ينظر إلى أبي طنوس، ودون أن يفوه بكلمة واحدة. وبعد ذلك صفر سوط الحوذي، وصوت على ظهر الخيل، فجرت دواليب العربة مسرعة، وتنهد أبو طنوس تنهدات يعسر تفسيرها إذا استعنا بالكاهن.
أطل القمر من وراء الجبال، فأنارت أشعته الطريق، طريق المتخاصمين.
لنتأثره. ها هو ذا في الطريق، يتوكأ على عصاه، مطأطئ الرأس، هو يمشي وفي صدره تتزاحم الهواجس، فتشعل رجليه، وفي صدره تلتهب نار ثورة روحية. وكأنه، وهو يمشي في أحلامه، أحس بيد تقرص أذنه، فصاح مذعورا صيحة المتألم، وشرع ينادي أبا طنوس - يا أبا طنوس! يا عربجي! يا عربجي! وقف! ولكن العربة كانت قد توارت بين أشجار التوت، ووراء البيوت. نحن الآن في قرية ... أما الكاهن فظل يعدو وهو ينادي أبا طنوس حتى خارت قواه، فوقع في الطريق كالمصروع.
هل رآه أحد غير القمر؟ نعم، إن أكثر البيوت في الجبل تشرف على طريق العربات. تمر الطريق تحت شرفاتهم، فيراقبون العربات في ذهابها وإيابها. فلما دخلت عربة أبي طنوس القرية ... خرجت امرأة إلى شرفة بيتها، فسمعت الصوت الذي عرفه القارئ، فحولت نظرها إلى الناحية التي صدر عنها، فرأت شبحا أسود يرسف رسفا إلى القرية. وما هي إلا برهة حتى وقع الشيخ في الطريق، فهرولت إليه وبيدها إبريق الماء.
ولشد ما كانت دهشتها عندما رأت وجه الصريع، فرفعته عن الأرض وهي تنادي الكاهن باسمه.
خوري يوسف. يا خوري يوسف.
رشت على وجهه الماء، وسقته من الإبريق، فانتعش، ثم ساعدته، فاستوى واقفا. - ماذا جرى، يا خوري يوسف؟ ولماذا لم تركب في العربة؟ هل جئت ماشيا من بيروت؟ - كلا، يا بنتي. خرجت من القرية وبي صداع شديد، فمشيت أستنشق الهواء. كثر الله خيرك، يا بنتي. لا، لا ، سأذهب إلى بيتي. عودي أنت إلى بيتك، وصلي من أجلي. صلي من أجلي. أما أنا فسأذهب وحدي، سأمشي قليلا، عل هواء الليل يشفي صداعي. أعطيني الإبريق.
شرب الخوري يوسف، وأعاد الإبريق إليها شاكرا.
عادت المرأة إلى بيتها، ومضى الكاهن في سبيله، فاستمر ماشيا حتى وصل إلى زيتونة خارج القرية منفردة. وكان القمر قد تكبد السماء، فلحف تلك الشجرة بضيائه، فتألف تحتها من الأشعة والأخيلة ما يستغوي التقي الطالب في قلب الطبيعة مكانا للتأمل. وهناك، تحت تلك الزيتونة على سجادة من الأخيلة والأنوار حاكها القمر، خر الكاهن ساجدا، وطفق يصلي. •••
بعد أن ترك الكاهن العربة، انتقل أبو طنوس إلى جانب الحوذي، وسأله: أتعرف هذا الكاهن؟ - ومن لا يعرفه في الجبل؟ - وما اسمه؟ - الخوري يوسف المشهور. - المشهور! ما سمعت قبل اليوم بهذه العائلة. - المشهور، يعني يا ... سيدي، المعروف عند كل الناس. وكيف لا تعرفه؟ ألم يكن لك مرة دعوى في الحكومة؟ أما احتجت مرة إلى كتاب توصية من المطران إلى الدير أو القائمقام؟ ألا تعرف تلك الدار الكبيرة، القائمة على رأس الجبل الذي مررنا تحته؟ الخوري يوسف هو يد المطران اليمنى، وأذنه اليسرى، وعيناه الاثنتان. هو منفذ أوامر سيدنا، وكاتم أسراره. وسيدنا، طول الله عمره، لا يرى غير ما يراه الخوري يوسف المشهور- المشهور بثروته، ودهائه، ونفوذه، وقلة علمه، وقصر نظره - كما يقول الشيخ ... وعنده أحسن نبيذ في الجبل. كيف لا تعرفه؟ هل أنت غريب؟ أم هل أنت متجاهل؟ - وهل هو متزوج؟ - نعم، وله ولدان الواحد يدرس اللاهوت في روما، والثاني يدرس فنون الغرام على بنات بيروت، ويخسر من عقله وصحته في كل أمثولة يتعلمها.
قدم أبو طنوس سيكارة إلى الحوذي، ثم أشعل سيكارته وهو يقول: «العقل زينة الإنسان، والصحة أحسن من العشق بزمان ... بالله عليه تسمعنا صوتك.»
تنحنح الحوذي، ثم بصق، ثم بصق، ثم انتهر الخيل وهو يكرر العملية؛ تمهيدا للموال البغدادي، ثم أطلق صوته الحماري في الفضاء، فرقصت الأطيار، وتمايلت طربا غصون الأشجار. وبينما هو طائر على أجنحة «مواله»، غير مكترث بالقمر الذي سد أذنيه بغيوم هي كالقطن بيضاء، أخرج أبو طنوس أوراقا وقلما من جيبه، وكتب كلمة على ورقة، ثم طواها وأعطاها إلى الحوذي؛ قائلا: «أكون ممنونا إذا وصلت هذه الورقة إلى الخوري يوسف.» - على عيني ورأسي! - وهذا بشلك أجرتك. - كثر الله خيرك! - غدا صباحا.
استمرت العربة سائرة في نور القمر الفياض، وهي تختفي تارة بين أشجار التوت، وطورا في غابة من الصنوبر، حتى وصلت إلى القرية ... فوقفت هناك، فنزل أبو طنوس، وأنزل أغراضه كلها، فتأبط بعضها، وحمل البعض الآخر على كتفه في عقفة عصاه، وهو يودع الحوذي، ويذكره بالرسالة إلى الخوري يوسف. - كن مطمئن البال. ستصله إن شاء الله غدا قبل القداس!
أحيا الخوري يوسف ما تبقى من الليل في الصلاة، فظل ساجدا تحت الزيتونة إلى أن ودع القمر السماء، فنهض إذ ذاك وهو يشعر بألم في ركبتيه، ويرتعش من هواء الفجر البارد.
هي ساعة الفجر الواقف بين القمر والشمس، يشيع نورا، ويبشر بنور. هي ساعة الفجر التي تتقدم الحادث الذي يحدث كل يوم، منذ كانت الأرض، ويظل جديدا؛ فكل نهار هو غير النهار السابق، كل نهار هو نهار جديد.
في هذه الساعة اليتيمة الشريدة، التي لا هي من الليل ولا هي من النهار، جلس الكاهن على صخرة، بين الزيتونة والطريق، يفحص ضميره، ويتأمل حاله. وفي مثل هذه الساعة، ومثل هذه الحال، يتصل فجر حياة الإنسان بفجر العالم، فيحلم إذا كان نائما الأحلام القريبة من الحقيقة، ويصور الحقيقة، إذا كان مستفيقا، في أشكال تقرب من الأحلام.
وفي مثل هذه الساعة أيضا يفنى ويتجدد جزء كبير من الجنس البشري، فإن حوادث الموت والولادة - أو أكثرها - تحدث، كما يقول العلماء والأطباء، في ساعة الفجر. في هذه الساعة يكتب القمر والمهد اسميهما في سجل الله، ويفترقان بعيد اجتماعهما. وكل واحد منهما يقول: «وكان سلامه علي وداعا.»
هي ساعة التحول والتجدد. ساعة يقبل الموت الحياة، فيريحها من القديم البالي، ومن الفاسد العقيم. وساعة تجيء الحياة بالجديد الطاهر، السليم، النشيط الجميل؛ فيحسن الموت العمل ، وتحسنه الحياة.
رأى أبو طنوس الكاهن في العربة، فامتقع وجهه، وقال في نفسه: «الله يطرد الشيطان.»
وفي ساعة الفجر تتجدد قوى العالم، وتنمو أفكار الإنسان نموا خفيا كما تنمو الأشجار. في هذه الساعة تحدث أكثر الانقلابات الروحية، وتضطرم الثورات في الأنفس المضطربة الحائرة؛ ذلك لأن الأحلام (أحلام النوام) تدنو فيها من الحقائق، والحقائق (حقائق المستفيقين) تدنو من الأحلام.
في هذا الفجر الرمادي الفضي سر للعالم، وسر للفيلسوف، وسر للشاعر؛ فالأول ينشد مفتاح السر في الإحصاءات والحقائق الحسابية، والثاني يبحث عنه في المشاعر والعواطف البشرية، والثالث يكتشفه في الأحلام والتصورات الشعرية.
إن الخوري يوسف الآن لفي فجر نفسه المضطرب. إنه لفي الساعة التي يتصارع فيها الماضي والحاضر، فهل يزوره الموت ليأخذ ما فسد وعقم من أعماله؟ وهل تحييه الحياة الجديدة، فتكتب له الطاهر السليم الجميل من المقاصد والأعمال؟ أينجلي ليل حياته كما انجلت الليلة التي أحياها في الصلاة؟ أيحمل نفسه، في هذه الساعة اليتيمة الشريدة، إلى النهار القريب الانبثاق، أم يعود بها إلى الليل الذي لا تعد الآن منه؟ وبكلمة أخرى: هل ينبذ ما اجتناه واقترفته في ماضي حياته؟ أم هل يحافظ على ثروته، ويتمسك بمنصبه؛ شغفا بالسيادة والمجد الباطل؟
ظل الخوري يوسف جالسا على الصخرة، وهو في بحر من الهواجس تتقاذفه أمواجه، حتى أشرقت الشمس ترسل خيوطها الذهبية من وراء الجبال، فتخللت نسيج الفجر المنبسط في الأودية والغابات، وفوق الربى والمروج، فاستحال رويدا سربالا عصفريا شفافا، تكاد ترى خلاله حتى أعصاب النهار وهي تختلج جذلا. ونفذت الشمس بسحرها إلى قلب الكاهن، فاختلج اختلاج النهار، فوقف ناشطا ملبيا، وهتف قائلا وهو باسط يديه إلى السماء: «المجد لله وحده؛ المجد والحول والطول لله!»
ثم مشى إلى بيته. وبينما هو في الطريق، رأى العربة التي ركب فيها مساء البارحة وهي عائدة صباح ذاك اليوم إلى بيروت، فوقفت عندما قربت منه، ونزل الحوذي وبيده رسالة أعطاه إياها؛ قائلا: «من بو طنوس، يا محترم، رفيقكم الليلة البارحة.»
عرته الرعشة عندما سمع اسم أبي طنوس ، ولكنه ملك نفسه، فشكر الحوذي بكلمات دلت على أنه نسي حادثة الليلة البارحة. واستمر في طريقه إلى البيت، فبادر عند وصوله إلى غرفته الخاصة، وأخرج الكتاب من جيبه ليقرأه.
قرأه أولا وثانيا، ووضعه على المنضدة، ثم تناوله بيده وهو في ذهول وحيرة، فقرأه ثالثا ورابعا. ثم نهض فورا، فبادر إلى الباب، فأقفله، وعاد فرمى بنفسه على الديوان وهو يرتعش ويجهش كالطفل الرعيب.
فكأنه رأى نفسه، وهي عارية، تجلد أمامه، تجلد بسوط الضمير، وسوط الخوف، وأسواط التوبة.
ساعة من هذه الهواجس المخيفة المؤلمة، ثم وقف أمام منضدته، فكان نظره أسرع إلى الكتاب المقدس منه إلى سواه، فتناوله بيديه، وفتحه على الإلهام، فقرأ ما يلي:
أما أنتم فلا تدعوا معلمين، فإن معلمكم واحد، وأنتم جميعا إخوة. ولا تدعوا إليكم أبا على الأرض، فإن أباكم واحد هو الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين؛ لأن معلمكم واحد هو المسيح. (متى 23: 8، 9، 10)
أطبق الكتاب وهو يردد هذه الكلمات: «ولا تدعوا لكم أبا على الأرض، فإن أباكم واحد هو الذي في السماوات.»
ثم فتح الكتاب ثانية كما فتحه المرة الأولى، فبدت صدفة أمام عينيه هذه الكلمات:
ومتى صليت فلا تكن كالمرائين؛ فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع، وفي زوايا الشوارع؛ لكي يظهروا للناس. وأما أنت فمتى صليت، فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. (متى 6: 5، 6، 7)
وبعد الكتاب المقدس قرأ للمرة السادسة أو السابعة كتاب أبي طنوس، وهو سطران لا غير:
اذكرني، يا أخي، في صلاتك إلى أبينا الذي في السماوات، وسأذكرك أنا في صلاتي.
أخوك أبو طنوس
في هذه الساعة اليتيمة الشريدة، التي لا تعد من الليل ولا من النهار، جلس الكاهن على صخرة بين الزيتونة والطريق.
كان والد الخوري يوسف يحدث عن والده، فيقول: «كثيرا ما كان والدي يروي من أخبار أخيه القسيس ونوادره. وكان ذاك القسيس عمي رجلا صالحا ورعا، يؤثر العمل على القول، وحتى على الصلاة.»
وقد كتب جد الخوري يوسف شيئا من أخبار أخيه في الكتاب المقدس؛ ذلك الإرث القديم في بيته، كما يكتب اللبنانيون فيه تواريخ الوفيات والولادات في عائلاتهم.
فذكر الكاهن، بعد أن قرأ تلك الكلمات من إنجيل متى، ما هو مخطوط على داخل جلد الكتاب عن نسيبه القسيس الورع الصالح. فعاد إليه، وقرأه بصوت مرتفع، هادئ، كما يقرأ الإنجيل في القداس:
خرج القسيس من البيت، صباح هذا اليوم يحمل كيسا فارغا، ليطوف في القرى مستجديا باسم السيد المسيح من أجل الفقراء. يوم كل أسبوع، يوم الشحاذة الذي وقفه القسيس على الفقراء المعاويز. وهو في اليوم التالي يطوف في البلدة، وفي القرى المجاورة لها، فيوزع على الفقراء ما يجمعه في اليوم السابق من الدراهم والخبز والدقيق ... والذي يأخذ هو مثل الذي يعطي ... والشحاذ المحب للخير، العامل خيرا لوجه الله، هو مساو بفضله لأكبر المحسنين.
عندما انتهى الخوري يوسف من تلاوة هذا الإنجيل الجديد، سأل نفسه قائلا: «ولماذا خط جدي هذه الكلمات على جلد هذا الكتاب؟ أليقرأها أولاده وأحفاده، ويقتدوا بنسيبهم القسيس الصالح؟ وهل فعل ذلك أحد منا، يا ترى؟ كلا. إذن نحن هالكون. أنا الخوري يوسف هالك لا محالة. وللمكاري الملكوت، للمكاري النعيم الأبدي؛ ولكن الفرصة أمامك. ما فات الوقت. وما زال في عروقك نبض ينبض، وما زال في رماد حياتك جمرة تشتعل، خذها وأضرم بها نارا جديدة. انبذ الماضي الذي فيه هلاكك - انبذه وانسه ... ابن لنفسك بيتا في السماء ... اترك منصبك، طلق مطامعك ... اقتل تنين الأنانية فيك ... فكر في أمر جارك وأخيك ولو يوما واحدا في حياتك ... اصخ إلى صوت المعلم له المجد، اسمعه يقول: «ولا تدعوا لكم أبا على الأرض؛ لأن أباكم واحد هو الذي في السماوات.» اسمعه يوبخك؛ قائلا: «صل في مخدعك، وليس كالمرائين ليراك الناس.» واذكر جدك الذي يحدثك عن أخيه القسيس - ذلك الشحاذ المحسن - واذكر أبا طنوس، أحد إخوانك الفقراء، الذي يتقبل الضربة منك، ويدير لك الخد الأيسر - ثم يكتب إليك ليسألك أن تصلي من أجله!»
لطم الكاهن خديه وهو يجهش ويهتف: «ارحمني، يا إلهي، ارحمني! ارحمني رحمتك للنبي داود!» قال هذا وطفق يتلو المزمور الواحد والخمسين، ثم قال وهو يلطم خديه ثانية: «أنا الخاطئ. أنا الأيتم. أنا المسيحي الكاذب، فهل أدرت مرة هذا الخد إلى المعتدي علي؟ هل عملت الخير مرة من أجل الله، وحبا بالإنسان؟ هل ذكرت مرة في صلواتي إلى القديسة تريزا أنها كانت تطلب من الله أن يطفئ نيران الجحيم، وأنوار السماء؛ لكيما تصنع الخير من أجل الخير فقط؟ وهل خالفت مرة أوامر أسقفي؛ رفقا بالمظلومين والمساكين؟ وهل أحببت مرة قريبي كنفسي؟ ولماذا ضربت المكاري عندما كان يسألني هذه السؤالات؟ ارحمني، يا رب، ارحمني. أنا الذي ما فكرت بغير نفسي، ومصلحتي، ومطامعي. أنا الذي بذلت جهدي كله في سبيل الجاه والمال والمجد الباطل. أنا الذي كنت أسعى لأن ألبس الأرجوان، وأحمل العصا المذهبة. ارحمني واغفر لي، يا من رحمت النبي داود، وغفرت له. وإني منذ الآن أوقف على البر، وعلى الحقيقة ما تبقى من أيامي. ضربت المكاري، فأدار لي الخد الأيسر ... إن في تلك الضربة خلاص نفسي - إن في تلك الضربة ونتيجتها أمثولة للخاطئ مثلي. نعم، سأسلك مسلكا جديدا ولو يوما واحدا في حياتي. سأحل قيودي ولو قبل موتي بيوم واحد. سأحرر نفسي، وأكون خادما لأخي الإنسان. ساعة في عمل الخير خير من سنين في سبيل المجد الباطل ... إلهي، سأصلي إليك وأنا في مخدعي. إلهي، سأنبذ الكهنوت واللاهوت، وأعود إلى أقوال المعلم، له المجد. وسأبذل في يوم واحد، من أجله، ما جمعته في ثلاثين سنة ... وسأشتري غدا ...»
وقف الخوري يوسف مطرقا، ثم قال: وماذا يقول المطران؟ وماذا يقول البطريرك؟ لا يهمني ما سيقال هنا وهناك. إلهي قبل أسقفي، وقبل بطريركي ... ولكن علي ألا أنسى ابني الذي يتعلم اليوم ليكون مثلي. علي أن أنقذه مما هو فيه. علي أن أنصحه في الأقل، وأحذره من المسلك الذي سلكته أنا وهو يرغب به، ويعمل الآن من أجله. نعم، نعم، سأكتب إليه.
قال هذا وجلس إلى منضدته، وكتب إلى ابنه في مدرسة «انتشار الإيمان» بروما هذا الكتاب:
ولدي العزيز، حرسه الله
أنا اليوم في فيض من النور، وقد كنت في لجج من الظلمة. وإني أكتب إليك لأقول إنك تضيع أيامك وشبابك في تحصيل العلوم اللاهوتية لتصير مثل أبيك، وتسلك مسلكه الكهنوتي. اسمع، يا ابني، كلامي، وانتصح بنصيحتي؛ فإذا كنت ترغب في خدمة السيد المسيح، له المجد، فاخدمه كما خدمه الرسل الأبرار. واستمع، يا ابني، أقواله قبل أن تستمع شروح أساتذة اللاهوت وتفاسيرهم. افتح العهد الجديد (متى 6: 5، 6، 7). واسمع إلهنا يقول:
صل في مخدعك، وليس كالمرائين في المعابد، وعلى زوايا الشوارع. واقرأ 7، 8، 9 من سفر 23 يتضح لك، يا ابني العزيز، إن رتبة الكاهن غير محللة في كتاب الله، فلا يحق لك أن تكون أبا روحيا للناس؛ بل أنت أخ للناس أجمعين. كما أن الناس كلهم إخوان لنا. ما أراد السيد المسيح أن يؤسس كنيسة على الأرض، فهو يكره المظاهرات، ويأمرنا بأن نصلي سرا. قد لا تتوفق في حياتك إلى من ينقذك مما تكون فيه من المآثم والمفاسد الكهنوتية. كن من الناس، يا ابني، واخدم الناس كما خدم بولس سيده المسيح. كن محبا للخير، عاملا في سبيله، شفيقا سموحا على الدوام. وبعد ذلك، يا ابني، لك أن تكون ملفانا. اسلك مسلك الحق، والورع، والصلاح، والصدق. وإياك والخداع، وإياك والتمويه. لا تعلم ما لا تعتقده صحيحا. لا تبشر بما لا تتيقن فيه الخير كل الخير للناس. لا تخن ضميرك. ولا تجحد الرب إلهك. واعلم، يا ابني، أنك لا تستطيع أن تسلك هذا المسلك الشريف إذا كنت كاهنا. فانتصح بنصيحة أبيك، وعد إلى بيتك، تجد فيه من أسباب العمل ما يكفيك.
بعد أن أرسل الخوري يوسف هذا الكتاب إلى ابنه بروما، خرج من بيته وقد عزم عزما صادقا أن يقتدي بنسيبه القسيس، وأن يشارك أخاه المكاري.
وبعد أسبوع شاهده أحد أبناء القرية في الطريق يمشي ورفيقا له وراء قافلة من البغال.
كان الخوري يوسف يشتري الدقيق، ويدفع ثمنه من ماله، وكان المكاري أبو طنوس شريكا له في العمل؛ فكان المكاريان الصالحان المحسنان يوزعان الدقيق مجانا على الفقراء والمعوزين .
واستمرا في هذا الإحسان أسبوعين لا غير؛ ذلك لأن «جحود» الخوري يوسف أحدث ضجة في الجبل، وخصوصا في الدوائر الإكليريكية، فاستدعاه البطريرك كما قيل، وأبقاه في المقر القدسي.
وبعد المحاكمة اختفى الخوري يوسف، وانطفأ ذكره. وقد راجت بعد أشهر إشاعة في الشمال أنه موجود في دير قزحيا. إشاعة أثبتها واحد من أولئك المساكين الذين يحملهم أهلهم إلى ذلك الدير؛ ليشفوهم من «الجنون»، فقد فر ذلك «المجنون» هاربا، ثم أفشى خبر رفيقه هناك، الخوري الجاحد، الخوري يوسف يواكيم.
Shafi da ba'a sani ba