وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة، ومقابلة الاختيار بالاضطرار، واليقين بالشك، واليقظة بالحلم إلا للذي خصصت به من إيثار الحق، وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار؛ وأشد ما تكون إلى الحيلة فقرا أشد ما تكون للحجة طلبا. غير أن ذلك بطرف ساكن، وصوت خاضع، وقلب جامع، وجأش رابط، ونية جسور ، وإرادة تامة، مع غفلة كريم، وفطنة عليم. إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق ترفقت، غير منخوب ولا متشعب، ولا مدخول ولا مشترك، ولا ناقص النفس، ولا واهن العزم، ولا حسود ولا منافس، ولا مغالب ولا معاقب. تفل الحز وتصيب المفصل، وتقرب البعيد وتظهر الخفي، وتميز الملتبس وتلخص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حظه من المعنى. وتحب المعنى إذا كان حيا يلوح، وظاهرا يصيح، وتبغضه مستهلكا بالتعقيد، ومستورا بالتغريب.
وتزعم أن شر الألفاظ ما غرق المعاني وأخفاها، وسترها وعماها، وإن راقت سمع الغمر، واستمالت قلب الريض.
أعجب الألفاظ عندك ما رق وعذب، وخف وسهل، وكان موقوفا على معناه، ومقصورا عليه دون ما سواه. لا فاضل ولا مقصر، ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة، واستوفى خلال المعرفة.
Shafi 63