بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين)
[ديباجة الكتاب والدافع إلى تأليفه]
أما بعد حمد ذي العزة والطول، ومن به القوة والحول، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى وصيه علي أمير المؤمنين، وعلى آلهما العترة الطاهرين.
فإني لما عرفت طرفا من أقوال المختلفين، وبعضا من أصول مغالط المتكلفين، وجملة من ردود الأئمة الهادين، المبصرة لمن تمسك بها وبهم من المسترشدين، اختصرت من جملة ذلك خمسة فصول، منبهة على معرفة أكثر مغالط الأصول،
الأول: في ذكر جملة مما ينبغي للمعلم والمتعلم تقديم معرفته.
والثاني: في العقل والنفس.
والثالث: في العلم.
والرابع: في العالم.
والخامس: في الإسلام.
[ذكر جملة مما ينبغي للمعلم والمتعلم تقديم معرفته]
أما الفصل الأول
فهو يشتمل على ذكر ست مقدمات مما ينبه المتعلم على ترك الاغترار بظواهر الدعاوى، وزخارف الأقوال:
Shafi 15
الأولى: أن يعلم على الجملة أنه لا بد لعلم كل فرقة ولمذهبهم من ثمرة وزبدة ينتهى إليها، ولا يمكن كتمها، وأن كل من كانت ثمرة علمه، وزبدة مذهبه، جحد الصانع تعالى، أو جحد كونه مختارا لفعله، أو تثنيته، أو تشبيهه، أو إضافة شيء من صنعه إلى غيره، أو إضافة شيء من فعل غيره إليه، أو تحريف بعض محكم كتابه، أو رفض بعض حججه، أو الإلحاد في شيء من أسمائه، أو إنكار ما يعقل، أو إثبات ما لا يعقل، وما أشبه ذلك؛ فهو المخالف للحق وأهله، والناظر بوهمه لا بعقله، إذ ليس الغرض بالتعلم في دين الإسلام إلا طلب السلامة من شبه المخالفين [له].
الثانية: أنه لا يعتمد في طلب الحق على ما يسبق إلى قلبه، من محبة أحد أو بغضه، لما في ذلك من خطر التعصب على الباطل.
الثالثة: أن لا يرخص لنفسه في تجويز أن يؤدي النظر والإستدلال إلى خلاف شيء مما يعلم ضرورة أو بالإجماع، وذلك لأن المعلوم ضرورة، أو المعلوم بالإجماع لا يجوز الغلط فيه ولا الإلتباس؛ كما يجوز في النظر والإستدلال؛ فلذلك يجب أن يستشهد بالضروري على صحة الإستدلالي، ولا يحكم الاستدلالي على الضروري، ولا المختلف فيه على المجمع عليه، وسيأتي ذكر أمثلة ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الرابعة: أن يعلم أنه لا بد لكل مسألة خلاف من أصل؛ إما صحيح، وإما باطل، ولذلك فإن الخوض في فروع المسائل قبل معرفة صحة أصلها مما يطول فيه الكلام، ولا ينتهى فيه إلى حد معلوم.
Shafi 16
الخامسة: أن يعلم على الجملة، أنه يعجز عن الإحاطة بتفصيل جميع العلوم المختلفة، التي تعجز في دقتها وكثرتها الفكر، وينفد دون إدراك جميعها العمر، وأن يعلم مع ذلك أنه لا يجوز له في العقل ولا في الشرع الاتباع لجميع علماء الفرق المختلفين في علوم الدين، لما في ذلك من لبس الحق بالباطل، والجمع بين الأقوال المتناقضة، والإعتقادات المتداحضة، ولا يجوز له الإعتزال لجميعهم؛ لما في ذلك من الترك للحق مع الباطل، ولا يجوز له الإتباع لبعضهم دون بعض بغير دليل؛ لما في ذلك من خطر التقليد لغير المحق.
السادسة: أن يعلم أنه يجب على كل مكلف أن يقف عند منتهى قدره، وحد عقله؛ أما وقوفه عند منتهى قدره فلئلا يدعي ما ليس له، نحو دعوى من يدعي من الزنادقة أنه رب، ودعوى من يدعي من الروافض أنه نبي أو إمام.
وأما وقوفه عند حد عقله، فلئلا يخرج إلى الغلو نحو ما يأتي من
أمثلته فيما بعد إن شاء الله سبحانه، فهذه جملة مما ينبغي لكل عالم ومتعلم الابتداء بمعرفته وتعريفه.
[الكلام في العقل والنفس]
وأما الفصل الثاني
وهو الكلام في العقل والنفس؛ فهو ينقسم إلى ذكر أقوال
المختلفين في العقل والنفس ما هما؟ وأين هما؟ وإلى ذكر جملة مما يعرف [به] الفرق بينهما:
[ذكر أقوال المختلفين في العقل والنفس]
أما ذكر أقوال المختلفين في العقل والنفس فجملة المشهور منها
ستة أقوال:
Shafi 17
[قول أئمة العترة ومن قال مثل قولهم في العقل والنفس] الأول: قول أئمة العترة ومن قال مثل قولهم، وهو: أنهما من جملة الأعراض التي خلقها الله سبحانه، وجعل محلهما القلب، وأن مثل حلول العقل فيه، كمثل حلول البصر في العين، ولذلك قال الله سبحانه: {لهم قلوب لا يفقهون بها}[الأعراف:179]، وقال: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(46)} [الحج].
وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((اللسان معرفة)
القلب)) وقال: ((المرء مخبوء تحت لسانه))، ومثل حلول النفس فيه كمثل حلول حرارة النار في النار، ولذلك قيل: إنها تقوى بالوسواس كما تقوى النار بالحطب.
[ذكر وجه الحكمة في خلق العقل والنفس وفي مقارنتها له]
واعلم أن وجه الحكمة في خلق العقل: هو كونه نعمة من أتم النعم، وحجة من أبلغ الحجج، وكونه هاديا إلى طريق النجاة.
Shafi 18
ووجه الحكمة في خلق النفس: هو ما فطرت عليه من محبة ما لا بد من إصلاحه من أمور الدنيا.
ووجه الحكمة في مقارنة النفس للعقل: هو ما أراد الله سبحانه في
ذلك من الاختبار والامتحان.
[قول الفلاسفة في العقل والنفس وما تفرع منه من الأقوال]
[و]القول الثاني: قول الفلاسفة: إن العقل الأول من العقول العشرة التي زعموا أنها قبل الزمان والمكان هو أول منفعل انفعل من العلة الأزلية التي وصفوها بأنها علة العلل، وأنها واحدة لا كثرة فيها، وأنه لا يصدر عنها إلا معلول واحد، وأن صور جميع الأشياء كامنة فيها قبل ظهورها، وموجودة فيها بالقوة قبل وجودها بالإنفعال.
قالوا: وذلك العقل الأول هو العقل الكلي، وسائر العقول جزئيات له، والنفس المنفعلة منه هي الكلية، وسائر النفوس جزئيات لها.
قالوا: وهذه النفس الكلية إذا أضيفت إلى ما بعدها من العقول فهي عقل، وما أشبه ذلك من أقوالهم التي هي الأصل والقدوة لكل غال، ومنها تفرعت كل بدعة باطلة، نحو قول المجوس: إن الميت منهم إذا ألقي في النار صعدت به إلى النور.
وقول أهل التناسخ: إن الإنسان يخرج من هيكله إذا مات إلى هيكل آخر.
وقول الباطنية: إن منهم من هو بعض رب، ومنهم رب، ومنهم أكثر، وأن الميت منهم ينتقل؛ لأنه بزعمهم شيء غير الجثة المحمولة.
وقول الصوفية: إن ربهم هواهم.
وقول الأشعرية بالإرادة القديمة التي أضافوا إليها أفعال العباد.
وقول المعتزلة بثبوت ذوات العالم فيما لم يزل.
Shafi 19
وقول أهل القفحة بالقفحة، وما أشبه ذلك.
[الدليل على بطلان أقوال الفلاسفة وما تفرع منها]
واعلم أن مما يدل على بطلان أقوال الفلاسفة التي تفرعت منها هذه المحالات وما أشبهها أمور:
منها: كونها على الجملة مذهبا مخالفا لمذهب أهل ملة الإسلام فيما الحق فيه مع واحد، وذلك ظاهر؛ إذ ليس غرضهم إلا نفي الصانع المختار، وتعطيل الشرائع، وإبطال القول بالبعث والحساب، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة صحة الإسلام، وبطلان [كل] ما خالفه، وذلك لأن كل مذهبين نقيضين إذا صح أحدهما فإن صحته تدل على بطلان نقيضه، وهذا الدليل مما يعلم صحته ضرورة.
ومنها: كونها بدعا مخترصة، وهم لا ينكرون ذلك لأنهم يفتخرون بأن علماءهم وقدماءهم أول من استنبط معانيها بدقة نظره، وسمى ما سمى منها ووصفها بأنها علوم إلاهية فجرت في ذلك مجرى ما ذمه الله سبحانه بقوله: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم:23] ، {إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون(148)} [الأنعام].
ومنها: كونها خارجة عن حد العقل لوجهين:
Shafi 20
أحدهما تفكرهم في كيفية مبدأ الخلق وما أشبه ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، وكذلك قال سبحانه: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم} [الكهف:51].
والثاني: إنكارهم لما يعقل وإثباتهم لما لا يعقل، أما إنكارهم لما يعقل فنحو كون أنواع المتولدات، من الحيوان والنبات، وما فيها من حسن التدبير والتسخير والتركيب العجيب ليس دالا على أن لها صانعا مختارا.
وأما إثباتهم لما لا يعقل فنحو إضافتهم لذلك إلى علل ميتة مخلوقة، ونحو تجويزهم لكمون الضد في ضده، ووجوده قبل وجوده، وقدمه قبل حدوثه، وما أشبه ذلك من المحالات الخارجة عن حد العقل.
ومنها: كون أكثر عباراتهم متناقضة في اللفظ والمعنى نحو وصفهم للعلة الأزلية بأنها واحدة لا كثرة فيها، ونقضهم لذلك بقولهم إن صور جميع الأشياء كامنة فيها وكل مكمون فيه فالكامن بعضه أو في بعضه وكل ما له بعض فليس بواحد على الحقيقة ولابأزلي.
Shafi 21
ووصفهم للعقل الكلي بأنه أزلي لأجل أزلية علته، وأنه لا يجوز أن يتوسط العدم بين العلة ومعلولها، ونقضهم لذلك بوصفهم له بالإنفعال منها، والمنفعل لا يعقل كونه منفعلا إلا إذا كان بعد أن لم يكن، لعدم الفرق بين الفعل والإنفعال في كون كل واحد منهما محدثا، ووصفهم للعشرة العقول بالتقدم والتأخر، ونقضهم لذلك بقولهم إنها موجودة قبل الزمان والمكان، إذ لا يعقل الفرق بين المتقدم والمتأخر من الأشياء المنفعلة إلا بالوقت والمكان؛ إذ لولا ذلك لما علم الفرق بين كون الثاني ثانيا والثالث ثالثا، ولا بين رتبتيهما ولا انفعالهما، وكل هذه الأدلة مما لا يمكن كل عاقل إنكارها إلا بالمكابرة الدالة على العجز، ولذلك جمع كثير من الغلاة بين اسم الإسلام ومعنى الفلسفة ليتوصلوا بذلك إلى إبطال محكم التنزيل، بما ادعوا من علم التأويل، الذي زعموا أنه علم مكنون مكتوم، فمنهم من لا يعلمه إلا من أخذ عليه العهد والميثاق، ومنهم من لا يعلمه إلا من قد قبل منه ما يلقي إليه من المقدمات التي إذا نظر فيها المتعلم أداه النظر فيها إلى ذلك العلم المكتوم، وما أشبه ذلك من الحيل والمكائد التي لا تجوز إلا على من بهر عقله زخرف أقوالهم، وقصر به الشك عن بلوغ درجة اليقين.
Shafi 22
[قول بعض من جمع بين الفلسفة والإسلام في العقل والنفس
وإبطاله]
والقول الثالث: قول بعض من جمع بين الفلسفة والإسلام: إن العقل هو أول مخلوق خلقه الله سبحانه قبل الزمان والمكان، واحتجوا على ذلك بخبر رووه، وهو أن الله سبحانه لما خلق ذلك العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر..إلى آخر الخبر.
وهذا الخبر هو من أقرب وأوضح ما يدل على بطلان قولهم، وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون محمولا على ظاهره أو متأولا.
فإن كان محمولا على ظاهره، وجب القطع على كونه مكذوبا على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأجل تناقضه وتضمنه لمعنى التشبيه، وللجهل بالفرق بين صفة العقل وصفة العاقل.
فأما تناقضه؛ فلأن الإدبار بعد الإقبال، والإقبال قبل الإدبار لا يعقل إلا إذا كان بينهما وقت يعرف به التمييز بينهما، وكذلك الإقبال إلى المقبل إليه والإدبار عنه لا يعقل إلا إذا كان بينهما مسافة، وكان كل واحد منهما في مكان غير مكان الثاني.
فإن قالوا: هو معقول، بطل قولهم بنفي الزمان والمكان، وإن قالوا: هو غير معقول فإثباتهم له عبث.
وأما كونه متضمنا لمعنى التشبيه، فلأن المفهوم من فحوى الأمر بالإقبال والإدبار -هو كون الآمر والمأمور متقابلين، وتقابلهما لا يعقل إلا إذا كان كل واحد منهما في جهة مقابلة لجهة الثاني حتى يقع بصره على ما أقبل به إليه دون ما أدبر به عنه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
Shafi 23
وأما تضمنه للجهل بالفرق بين صفة العقل وصفة العاقل؛ فلأن العقل صفة والعاقل موصوف، والصفة حالة، والموصوف محلول فيه، والحال غير المحلول، ولأن المأمور المنهي المميز بين ما أمر به ونهي عنه لا يكون إلا عاقلا بعقل هو غيره، وهذا هو المعقول المعلوم بالمشاهدة، ولأن العقل لو كان يجوز أن يوصف بصفة العاقل لاحتاج كل عقل إلى عقل إلى ما لانهاية له، وذلك محال بالإجماع.
وإن كان ذلك الخبر متأولا على غير ما يفيده بظاهره؛ لم يكن لهم
فيه حجة، وكل دعوى بلا حجة فهي باطلة بالإجماع.
[قول المعتزلة في العقل والرد على ذلك]
والقول الرابع: هو قول المعتزلة: إن العقل مجموع عشرة علوم ضرورية، وذلك تكلف منهم وتوهم لما لا طريق لهم إلى معرفة ماهيته وكيفيته، لأجل كون العقل جاريا مجرى السمع والبصر وما أشبههما مما يعلم ولا يتوهم، ومع ذلك فلو صح قولهم لما جاز أن يتفاضل العقلاء في العقل؛ لأجل كون تلك العلوم فيهم بزعمهم على سواء، والمعلوم خلاف ذلك، ولأن العلوم الضرورية أكثر من عشرة، وتخصيصهم لبعض منها دون غيره دعوى مبتدعة لا دليل على صحتها من عقل ولا سمع ولا قال بذلك أحد قبلهم ولا بعدهم إلا من قلدهم بغير دليل.
Shafi 24
[قول الطبيعية في العقل]
والقول الخامس: قول من زعم من الطبيعية إن العقل في الدماغ
واحتجوا بكي الدماغ، والذي يدل على بطلان ذلك ما تقدم ذكره من نصوص الكتاب والسنة على أن العقل في القلب، ولذلك وصف الله سبحانه قلب من لم يستعمل عقله بالعمى، وعماه هو ذهاب بصره، وبصره هو العقل، كما أن عمى العين [هو] ذهاب بصرها، وأما كي الدماغ فأكثر الآلات الباطنة يكوى لأوجاعها في غيرها من ظاهر الجسم.
[قول المطرفية في العقل وإبطاله]
والقول السادس: قول المطرفية إن العقل هو القلب بناء على أصلهم الباطل، وهو قولهم: إن صفة الجسم هي الجسم، واحتجوا بقول الله سبحانه: {قلوب يعقلون بها} [الحج:46] ، وقوله: {لمن كان له قلب} [ق:37]، والذي يدل على بطلان قولهم إن العقل هو القلب وتحريفهم لمعنى الآيتين: هو عدم المخصص لقلب دون قلب فيلزمهم لأجل ذلك أن يعتقدوا أن الله سبحانه خاطب كل ذي قلب من الحيوانات، ومعلوم خلاف ذلك.
وأما قولهم: إن صفة الجسم هي الجسم؛ فلو صح ذلك للزم أن يكون الجسم الواحد موجودا معدوما في حالة واحدة لأجل [جواز] وجود بعض صفاته وعدم بعضها في حالة واحدة، وذلك محال، وكل قول يؤدي إلى المحال فهو محال.
Shafi 25
فإن جوزوا كمون ما عدم لزمهم أعظم من ذلك وهو تجويز أن يكون
الموصوف الواحد موصوفين اثنين أحدهما كامن في الثاني.
[ذكر جملة مما يعرف به الفرق بين العقل والنفس]
وأما القسم الثاني من الكلام في العقل؛ وهو في ذكر جملة مما يعرف به الفرق بين العقل والنفس فهو يعرف باختلافهما في ستة أمور مما يجوز أن يختلفا فيه بعد الإشتراك في كون كل واحد منهما عرضا حالا في القلب.
فالأول: اختلافهما في لفظ التسمية ومعناها، وذلك لأن تسمية العقل عقلا خاص له، وقيل إنه مشتق من عقل نواد الإبل بالعقال؛ لأنه يعقل من نظر به عن الجهل، وقيل لأنه يعقل الحكمة في القلب أي يمنعها من الذهاب، وله مع ذلك أسماء مترادفة نحو اللب والحجر والحجا .
واسم النفس مشترك: فمنه ما يراد به الإنسان في مثل قول الله سبحانه: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} [النحل:111].
ومنه ما يراد به الروح [في] مثل قوله سبحانه: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر:42].
ومنه ما يراد به الدم نحو ما في الشرع من ذكر ما لا نفس له سائلة.
Shafi 26
ومنه ما يذكر مجازا وهو متأول نحو قول الله سبحانه: {تعلم ما في نفسي - أي ما أخفي - ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة:116]، أي ما حجبت علمه عني.
ومنه ما يراد به النفس المقارنة للعقل وهي هذه التي الغرض ذكر الفرق بينها وبينه.
الثاني: اختلافهما في وقت الوجود، وذلك لأن الله سبحانه جعل وجود النفس ملازما لأول وقت وجود الحياة لأجل كون الحي من البشر مشتهيا ونافرا، والشهوة والنفرة من طباع النفوس التي فطرها الله سبحانه عليها، لما علم في البلوى بذلك من المصلحة والحكمة البالغة.
واعلم أنه ما مثلها في البلوى بتقديم وجودها واستحواذها على القلب واستخدامها للحواس في حال مغيب العقل المؤمر عليها وعلى جميع الحواس إلا كمثل من ملكه الله سبحانه من ملوك أهل الدنيا بالتمكين والتخلية والإمهال حتى يتصرف في العباد والبلاد في حال مغيب من يبعثه الله سبحانه بعد ذلك من رسله إليه، أو من يقوم مقامهم ليزجره عن غيه، ويمنعه من بغيه.
Shafi 27
والثالث: اختلاف صفاتهما وذلك لأن من صفات العقل كونه هاديا إلى الرشاد، ومميزا بين الصدق والكذب في الأقوال، والحق والباطل في الإعتقادات، والخير والشر في عواقب الأعمال، وداعيا إلى التخلق بمحمود الأخلاق نحو [العلم و]الحلم والكرم والصبر وما أشبه ذلك.
ومن صفات النفس كونها كما قال الله سبحانه أمارة بالسوء، وموسوسة، ومسولة، وداعية إلى مذموم الأخلاق نحو الجزع والهلع والشح والطيش وما أشبه ذلك.
والرابع: اختلافهما في النظر والإستدلال وذلك لأن نظر العقل هو التفكر في الصنع من حيث هو حكمة ونعمة، والتدبر لما حكى الله سبحانه في كتابه من الآيات الدالة عليه، والقياس لما لم يعرف وجه الحكمة فيه على ما عرف، ونظر النفس تظنن وتوهم وتتبع لمواضع الشبه والمتشابه، وقياس ما عرف وجه الحكمة فيه على ما لم يعرف في الحيوانات المؤذية والضارة وما أشبه ذلك مما يدلس به أهل الزندقة على المتعلمين.
والخامس: اختلاف مادتهما، وذلك لأن العقل يستمد من توفيق الله سبحانه وتسديده، ولذلك قال سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى} [محمد:17]، ويستمد من محكم الكتاب والسنة و[من] علوم أئمة الهدى.
Shafi 28
والنفس تستمد من وساوس الشيطان، ومن الشبه والمتشابه، ومن علوم علماء السوء، ولذلك قال الله سبحانه: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام:112].
والسادس: اختلاف أحوال أتباعهما، وذلك لأن المتبع لعقله يقف عند حد قدره لئلا يجهل فضل من فضله الله عليه، ويقف عند حد عقله لئلا يغلو في دينه غير الحق.
والمتبع لهوى نفسه يخوض فيما وراء حد عقله، ويتكبر على من هو أفضل منه، ويحسده، ولذلك قال الله سبحانه: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون(87)} [البقرة]، وقال: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين(50)} [القصص].
Shafi 29
واعلم أن هذه الفروق وما أشبهها [هي] التي يعلم بها ضلال كل معطل ورافض، وكذب كل مدع أن عقله دله على صحة مخالفته للحق وأهله، ويعلم به الفرق بين ما يعلم ولا يتوهم نحو الباري سبحانه، وما يتوهم ولا يعلم نحو ما تقدم ذكره من بدع الفلاسفة وغيرهم، ويعلم به الفرق بين العالم والمتوهم.
وأما الفصل الثالث وهو الكلام في العلم
فهو يتفرع إلى ذكر ضروب مما يتعلق به الغرض، وهو التنبيه على
كثير من أصول مغالط المختلفين فيه، وجملة ذلك هو الكلام في معناه، وفي تنوعه، وفي طرقه، وفي ذكر جملة من الأسماء، وفي الهيولى والصورة، وفي الفرق بين صفات القديم والمحدث، وبين الفاعل والعلة، وبين الحقائق الصحيحة والباطلة، وبين حد العقل والغلو، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يجوز من التقليد وما لا يجوز.
[الكلام في معنى العلم]
أما معنى العلم: ففيه ثلاثة أقوال:
[قول الأئمة (ع) في معنى العلم]
الأول: قول الأئمة - عليهم السلام -: إنه أبين من أن يفسر بغيره، ومع ذلك فإنه اسم عام لأنواع مختلفة المعاني، وكل اسم كذلك فإنه لا يصح السؤال عن معناه حتى يبين السائل أيها يريد؛ فإن لم يبين كان سؤاله مغلطة وتعنتا.
Shafi 30
[قول الفلاسفة في معنى العلم وبيان فساده]
والثاني: قول الفلاسفة إن معنى العلم وحقيقته: هو ثبوت صورة
المعلوم في نفس العالم، وذلك مشتق من دعواهم الباطلة، وهي قولهم: إن لكل معلوم من الموجودات بعد العدم صورة ثابتة فيما لم يزل قبل وجوده، وهو محال، ولأن من المعلومات ما لا صورة له نحو الباري تعالى، وكذلك الأعراض، ولأنه يستحيل أن يكون للمعلوم الواحد ألف صورة في أنفس ألف عالم، ويستحيل أن لا يعلم صورته إلا عالم واحد.
[قول المعتزلة في معنى العلم وبيان فساده]
والثالث: قول المعتزلة: إن العلم هو الإعتقاد الذي يقتضي سكون
نفس معتقده..إلى آخر ما ذكروا، وهو غير صحيح لأجل ما تقدم ذكره من كون اسم العلم عاما لأنواع من العلم مختلفة المعاني، ولأن علم كل عالم من علماء السوء قد اقتضى سكون نفسه بحيث لا يخطر بباله أن أحدا أعلم منه، وكل حقيقة لا يحصل بها التمييز بين الحق والباطل فهي باطلة.
[الكلام في تنوع العلم]
وأما تنوع العلم؛ فلأنه ينقسم على الجملة إلى صحيح وباطل، والصحيح ينقسم إلى علم غيب وعلم شهادة، وعلم الشهادة ينقسم إلى علوم الدين وعلوم الدنيا، وعلوم الدين تنقسم إلى معقول ومسموع، والمعقول ينقسم إلى ضروري واستدلالي، والمسموع ينقسم إلى تنزيل وتأويل وسنة واجتهاد.
Shafi 31
[الكلام في طرق العلم]
وأما طريق العلم؛ فمن العلوم الضرورية ما جبل الله العقول وفطرها على معرفته ابتداء لا عن طريق نحو علم العاقل بأحوال نفسه وتمييزه بين كثير مما ينفعه أو يضره، ونظير ذلك في غير العاقل من الحيوانات ما فطرها عليه من الإلهام.
ومنها - أعني العلوم الضرورية -: ما جعل الله طريق معرفته الخبرة، أو إدراك إحدى الحواس الخمس، والمخالف في العلوم الضرورية كلها لا يوصف بأنه غالط ولا جاهل بها، ولكن يقال مكابر ومتجاهل.
ومن العلوم ما جعل الله سبحانه طريقه النظر في الأدلة العقلية والإستدلال بما حضر من المنظور فيه على ما غاب بطريقة القياس العقلي، والمخالف فيه يوصف بالغلط وبالجهل.
ومنها: ما جعل الله سبحانه طريق معرفته خبر من يجب قبول خبره إما لحكمته وهو الله سبحانه وتعالى، وإما لعصمته وهو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو من شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالصدق نحو كافة الأمة أو جماعة العترة، وإما لأجل وجوب طاعته وهو الإمام السابق، والمخالف لخبر الله سبحانه ولخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولإجماع الأمة كافر بالإجماع، والمخالف لإجماع العترة -عليهم السلام- مختلف في كفره، والمخالف لخبر الإمام السابق رافض وعاص لله ولرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - [إذ] لا فرق بين وجوب طاعته وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
Shafi 32
وكل من طلب علما من غير هذه الطرق فهو متوهم ومتظنن ومخترص،
ومن هنا يعلم بطلان القول بعقول ونفوس وجواهر ليست بأجسام ولا أعراض، ومن هذا الأصل يعلم غلط كل مخالف لأئمة العترة - عليهم السلام -.
[الكلام في ذكر جملة من الأسماء]
وأما الكلام في ذكر جملة من الأسماء: فالغرض به التنبيه على معرفة اختلاف فوائدها، وكثرة مغالطها، وذلك لأنها على ضربين: صحيحة وباطلة.
فالصحيحة: هي كل اسم علمه الله سبحانه عباده، أو ألهمهم على التسمية به، كما قال الله سبحانه: {وعلم ءادم الأسماء كلها} [البقرة:31]؛ قال بعض الأئمة - عليهم السلام -: يعني [أسماء] جميع ما خلق الله بين السماء والأرض.
Shafi 33
والباطلة: هي جميع أسماء البدع، ولذلك قال الله سبحانه: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم:23] {إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون(148)} [الأنعام].
والصحيحة أيضا على ضربين: أحدهما يفيد الإثبات، والثاني يفيد النفي، والأسماء المثبتة منها حقيقة ومنها مجاز؛ فالحقيقة: هو كل اسم موجود، والمجاز: هو كل اسم مستعار، وكذلك المعدوم أيضا فإنه يجوز تسميته شيئا مجازا، ولذلك قال الله سبحانه: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم(1)} [الحج]، يعني إذا أوجدها.
Shafi 34