عباس محمود العقاد
القاهرة في 8 يناير سنة 1920
الغاب
أين أنا؟ وماذا أرى؟ ومن ذا جاء بي إلى هنا؟ ... ويقظة هذه أم حلم في الكرى؟ أم جاء بي إلى هذه الأرض النائية متصرف فعال لما يريد، أحب أن ينزل في روعي أن الدنيا ليست كلها قصورا باذخة، وأرائك شامخة، ومعامل وأسواقا، ومحابر وأوراقا، ومحافل وجحافل، ومساهر ومساخر، ودرهما ودينارا، وفضة ونضارا، وأن المرء قد يحيا حفل حياته، وينظر مدى عينيه، ويسمع شبع أذنيه، ويحب ويبغض ملء قلبه، وينتعش وسع نفسه، وهو لم يعطف على لندن ونيويورك، أو يسمع ببابل وبغداد، ولم يقرأ فلسفة أرسطو وسبنسر، أو يطرق أذنه اسم هومر وشكسبير، وأنه يقصد كل القصد في إنفاق ساعاته، وهو لم يركب البخار ولا طار في الهواء، ولم يستخدم النار ولا سخر الكهرباء، فهل هذه إرادة ذلك المتصرف الفعال لما يريد؟ وهل أفلح فيما أراد؟
أنا الآن في قلب أفريقيا، والذي أراه حيالي غاب أشجارها باسقات تطالع السحاب من أمم، وجذورها غائرات تذهب في طباق الأرض ذهابها في القدم، يلجأ إليها الهواء فكأنه لاجئ إلى حصن، ويقع عليها الضياء فلا ينفذ إلا بإذن. اشتبكت أعاليها فكأنها السقوف، وهالت مداخلها فتقول هي سراديب أو كهوف، ظلالها أثبت على أديم الغبراء من أصباغ الفراعنة القدماء، لا تنسخها الشمس الساطعة ولا القمر الزاهر، وأصولها أعمق في قرار الأرض من قبر آدم وحواء، ولا يلحقها ظن الفاحص ولا يتعلق بها وهم الحافر. وفيها من الأحياء ما لا يوجد في أعمر الحواضر عداده، ولا ينتهي على طول الزمن أمداده. كواسر صارخة، وعصافير صادحة، وهوام صافرة، زاحفة أو طائرة، ووحوش زائرة، ودواب هادرة، يضرب كل منها على نغمته فيتألف من لغطها المختلف موسيقى الطبيعة المبدعة التي لا تعبأ شيئا بصناعة الموصلي ودحمان، ولا تحفل فتيلا بأفانين واجنر وشوبان. والأزهار نافحات العطر تثني على الشمس بآلائها، وتبرز لها بما كستها من حلل أضوائها، فكأنما هي بأشجارها وأزهارها وأمواهها وثمارها جنة متوحشة متأبدة تئوي صنوف الحيوان، وتأنف أن تكون لهوا ونزهة لبني الإنسان.
أوغلت فيها وبي من حب الاستكشاف فوق ما بي من محاذرة الخطر، فما توسطت رحبتها حتى لاحت لي على بعد امرأة جليلة الهيئة شريفة الطلعة، فدنوت منها، فلم أكد أصدق ما أرى. رأيتها مفتوحة العينين لكنها ضريرة لا تبصر ولا تحيد، وتمثلت لي وقد أخذ بيمينها قائد خفي يتبينه النظر بعد التأمل المضجر والتفرس الشديد، فأدهشني حالها واختبأت أنظر ما شأن تلك المرأة في هذه البقعة، فإذا هي تقول بصوت جهير مطاع ...
سلاما يا ساكني الغاب، سلاما يا أبناء الحياة، سلاما يسل غل الصدور، ويصلح ما بين الواتر والموتور! إلي يا أبنائي فأنا أمكم الحياة، جئتكم في يد القدر أدعوكم لأمر خطير!
وما كان إلا كلمح البصر حتى مادت الغاب بكل شاهق وزافر، مما يمشي على قدمين، أو يدرج على أربع، أو يطير على جناحين، أو يزحف على بطنه، أو يتلوى على نفسه، أقدارا متفاوتة، وأشكالا متباينة، وألوانا متنافرة، من حيوانات وأناسي، فيهم الشمالي والجنوبي، والشرقي والغربي، كلهم ينسلون صوب ذلك النداء، نداء الحياة المطاع.
فلما علمت أن المرأة الماثلة أمامي هي الحياة ! الحياة التي يعبدها الناسك في الصومعة، والعربيد في الحانة، الحياة التي تحبها الدودة المتقلبة في الأقذار، والشاعر العارج في ملكوت الخواطر والأفكار، والحياة التي يضن بها الطفل ابن ساعة، والشيخ ابن مائة وعشرين حجة، والحياة التي لا شبيه لها في الكون ولا نظير؛ تقدمت أتأملها، فلا أكذبك أيها القارئ أني وجدت بها شيات ومعائب كثيرة لا تبدو لأول نظرة، ووجدتها تموه تلك الشيات والمعائب خفية وجهرة، وكأني نظرت على صدرها تميمة من تمائم السحر، أظنها لبستها لتغرم الأنظار بها، وتعمى القلوب عما لا يستحسن منها، ولكن لمحاسنها مع هذا معاني ماكرة، يفتتن بها عاشقوها وهم أبناؤها، مهما خدعتهم وعذبتهم وعبثت بهم. فلو سألت أيا كان في ذلك الحشد المختلط، لقال لك: إنها فتانة القبح والجمال، قتالة الصد والمطال، هذا وهي ما لاحت قط لواحد منهم كما تلوح لجاره، ولا ظهرت لأحدهم في زي واحد بين ليله ونهاره.
وقفت تلك المرأة العمياء المقودة بيد القدر، وقد لزم كل مقامه، وأنشأت تقول ...
Shafi da ba'a sani ba