كلمة في تصدير الطبعة الثالثة
هذه الرسالة وليدة الحرب العالمية الماضية، شغلني موضوعها يومئذ لأنه موضوع الصراع في الحياة الإنسانية بل في الحياة عامة، وأحببت أن أعرف لهذا الصراع معنى يطمئن إليه الضمير، فانتهيت بالرسالة إلى معنى فيه بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، وهو أن الحق والنواميس الطبيعية يتلاقيان.
وأعدت طبع الرسالة بعد الحرب الماضية بسنتين، فقلت في مقدمة الطبعة الثانية: «لا أزال أعتقد بعد الحرب كما كنت أعتقد قبلها أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا هي رضيت لأمة أن تستنزف موارد الأمم بغير الحق ثم اطمأنت إلى هذه الحالة، فقد آذن ذلك بانحلالها، وكان منها بمثابة ضعف الوطنية في الأمة وضعف الحيوية في الفرد، وكلاهما نذير الفناء.»
وها هي ذي الطبعة الثالثة لمجمع الأحياء تصدر والدنيا مشغولة بحرب عالمية أخرى هي أشد هولا، وأوسع مدى، وأقوى اختلافا على المبادئ والآراء من الحرب التي نشبت قبل ثلاثين سنة، فإذا كان هناك خاطر يرد على الذهن في تصدير هذه الطبعة - خلال هذه الحرب القائمة - فذلك الخاطر مما يزكي موضوع الرسالة ويؤدي نتيجتها، أو يسير بنا في وجهتها، وهي أن الصراع الأكبر الذي نشهده اليوم سينتهي أيضا إلى عاقبة فيها بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان؛ لأنها تناقض القوة العمياء: قوة الحديد والنار، وتشايع القوة البصيرة: قوة العدل والحرية.
عباس محمود العقاد
أكتوبر 1944
مقدمة الطبعة الثانية
خواطر عامة حول موضوع الرسالة
كتبت هذه الرسالة في النضال بين الأهواء والمبادئ، واستكناه وجه الحكمة التي تبدأ منها وتعود إليها أعمال الناس ومساعيهم في هذه الحياة، وفحواها «أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، وأن الحق الذي نعرفه ونغار عليه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون المتجلية في تاريخ البشر، فليس ما نعتقده حقا إلا أداة موصلة إلى الحق العميق المكنون عنا، والذي يرتسم طرف منه في عقائد الطبائع القوية السليمة، ومهما بلغ من إجحاف هذه العقائد وقسوتها فهي أرحم بالناس من الموت، والموت كائن لا محالة في خلو الناس من العقائد، أفرادا كانوا أو جماعات.
وإننا إذا أردنا أن نعرف رحمة القوى المسخرة لهذا الوجود، فلا نعرفها بقياس قوانينها إلى القوانين التي نتخيلها ونفترضها ونود أن نجريها في الوجود لو كان الأمر بيدنا، ولكننا نعرف هذه الرحمة المحجوبة بشيء بين واضح؛ هو اليقين بأن القانون الذي يوضع لبقاء فرد واحد في عصر واحد، غير القانون الذي يوضع لبقاء جميع الأمم في جميع العصور. وإننا لو سألنا ساخطا متمردا على الكون أي الحكمتين أعم رحمة وأوفر خيرا؛ الحكمة التي تضع القانون الأول، أو الحكمة التي تضع القانون الثاني؟ لما تردد في الجواب، وحينئذ نعلم أن نظاما ترسمه الحكمة الخالدة لا يمكن أن تكون سعادته وقفا على مخلوق يولد اليوم ويموت غدا، وأن السعادة المطلقة للفرد معناها الإبادة المطلقة للنوع، وليس أرحم من حكمة تفدي الوجود الإنساني قاطبة بسعادة واحد منه، ولكنها رحمة لا نعلم أي الناس أحق بظهور آياتها في أعماله وآماله؛ لأننا لا نعلم غايتها، وإذا جهلنا هذه الغاية فنحن لا نجهل حقيقة ثابتة مقررة لا مراء فيها ولا جدال، وهي أنه ليس في العالم فرد أو شعب مهما عظم اقتداره واشتد سعيه وضخمت أهبته وأحكمت تدبيراته، يحق له أن يزعم أنه قد صنع في مدته الزائلة ما يؤهله لأن يستوعب غاية الكون الأبدية في غايته الموقوتة، فإذا هو اقتدر وسعى وتأهب ودبر، ثم كان من غاية الكون أن لا تتحقق غايته كما يريدها ويتخيلها، فكل ما في الأمر أن غاية الكون أكبر من غاية هذا الفرد أو ذاك الشعب، ومتى تعارضت الغايتان - ولا بد أن تتعارضا في حادثة من الحوادث - فلا ظلم في تضحية الصغرى منهما لأجل الكبرى، بل الظلم أن يدرك بمجهود أحد الشعوب ما لا يجوز أن يدرك إلا بمجهود الشعوب كافة ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وقد يأسف الإنسان لهذا القضاء أسفا يقتل نفسه، ويغم على عقله، ويشل حواسه وطبائعه، فيقف حائرا لا يدري بم ينصح الذين يريد لهم الخير! وقد يرى أن الشر والخير سواء في أداء غاية الوجود، وأن فوز الشعب الخامل قد يفضي إلى أسباب هذه الغاية كما تفضي إليها خيبة الشعب العامل، فكيف ينصح لهذا الشعب أو ذاك بالجد والعمل، ولا ينصح له بالتواني والجمود؟! وكيف يقيس الأعمال بعضها إلى بعض، وليس لديه المقياس الذي تقدر به نتائج هذه الأعمال؟! وماذا يقول وماذا يصنع وكل قول ككل قول، وكل صنع ككل صنع؟! وهذا أعظم ما يبتلى به العقل من ضروب الحيرة، وربما غله وقيد حركته وأيأسه، ولكن العقول الكبيرة لا تلبث أن تنصل من هذه الحيرة مطمئنة صافية، ولن تضيرها شيئا إذا سلم الجسم من رجة صدمتها، فتعلم أن الظلام الذي كان يغشاها ويلفها في كفن الخبال والتردد ليس هو ظلام العماية المخيمة على أعين الأقدار، وإنما هو ظلام ينتهي إليه كل بصر يرمي إلى ما وراء طفاوة النور المفاضة حوله، ويثبت عنده أن ما أعنته من الألم اللاذع، إنما هو ألم العجز عن استشفاف حجب المستقبل البعيد، لا ألم الكون المتخبط في فوضى ذلك المستقبل، ويعزيه عن هذا العجز أنه لم يؤت العقل ليضبط به أعنة الحوادث، ويصرف به مقادير الخلق، ويسيطر على قوانين الأرض والسماء.
Shafi da ba'a sani ba