معشر الأحياء:
إن كان في الدنيا شيء معصوم من الخطأ فهو فطرة النفوس السليمة، لأنها لا تريد إلا ما تريده الطبيعة لها، ولا تهم إلا بما تهم به القدرة العظيمة التي ركبتها ودعتها إلى الوجود.
سموا حنق الجماهير على العظماء كيف شئتم، فإنما هي أحرف تتغير ولا تتغير الحقائق والغايات. سموه حسدا أو أنانية أو اضطهادا أو انتقاما أو غيرة أو جهلا. سموه كيف شئتم ثم انظروا إلى الباعث وانظروا إلى النتيجة، فإن كان الباعث مستمدا من الطبع والنتيجة حفظ النوع، فغيروا لغتكم فهو أيسر وأجدى من تغيير قوانين الطبيعة وإرادة الخالق الحكيم.
انظروا إلى الأمم التي سادت فيها فلسفة الثعلب، ونسي الجماهير أنفسهم فأقروا للأقوياء بالحق المطلق في التصرف بهم، ثم أخبروني هل أفلحت تلكم الأمم؟
انظروا إلى الهند ومصر في العهد القديم، ألم يكن السوقة رجزا لا يجوز مسه في نظر رءوس البراهمة؟ ألم يكن الشعب متاعا زهيدا في نظر كهنة الفراعنة؟ أما كان ساداتهم آلهة وأبناء آلهة؟ هل تأشب بين الطبقات حجاب أصفق وأصلب مما تأشب بينها في هذين البلدين؟ فماذا أورثهم ذلك؟ هل دام لأولئك السادة بأسهم، واستتب لهم مدى الدهر مجدهم؟ كلا، بل أمن الأعلياء على منازلهم فأفسدهم البطر والدعة فسفلوا، وحجرت المسكنة على نفوس جماهيرهم فلم ينبغ منهم خلف لأولئك الأعلياء، فتهافتوا، فكانوا جميعا من الخاسرين.
والعالم - وفقكم الله - كالقدر الفائرة لا تزال تعلو وتهبط ما دام في مائها حرارة. ادخروا أعلاها وأريقوا ما دونه ينفد الماء ولا تدخروا شيئا، ودعوا ماءها يهدأ أو تستقر طباقه تفتر الحرارة وتخفت الحركة، والجماهير - أصلحكم الله - هم من كل نوع مادته وذخيرته؛ منها تتجدد حياته، ومنها يكمل نقصه، فمن قضى عليهم بالهوان الدائم فقد قضى على النوع بأسره قضاء يحيط ضرره بالأعلين والأدنين على السواء.
فها أنتم أولاء ترون أن التسليم للقوة يهزمها ويضعفها، وأن مقاومتها تشحذ سلاحها وتضاعفها، فإذا كانت رحمة القوي للضعيف الإبقاء عليه، فرحمة الضعيف للقوي منازعته، وكذلك تشمل رحمة ربكم الخلق جميعا.
ولقد يقول قائل منكم: إن المقاومة شأن الجماهير مع كل عظمة يناوئون العظيم، سواء كان جبارا طاغيا أو إماما هاديا أو مفكرا واعيا، فإن لم يقدروا على مناوأته، أضمروا له الحقد، وانطووا له على البغض، وتربصوا به الدوائر، كأن لهم ترة عنده، أو كأنه أخذ العظمة منهم وأساء إليهم بالتفوق عليهم.
أقول لهذا القائل: أصبت، ونعم ما يصنع الجماهير!
إنكم تكرهون مناوأة الجماهير للعظماء مع أنه لا تثبت لعظيم عظمة إلا بالثبات على المناوأة، وتلومون الجماهير في التريث عن تلبية النوابغ كأنهم يستطيعون أن يغيروا أنفسهم كلما خطر لنابغ منهم أن يدعوهم إلى ذلك، وهم في الحقيقة لا يتريثون عن أمر يدعوهم إليه نابغ أو مسيطر إلا لأحد سببين: فإما أنه لا يلائمهم، أو لأن أسبابه لا تتهيأ لهم، وعذرهم واضح في الحالتين؛ أليس الخير قبل أن تتهيأ أسبابه وتتمهد مواضعه شرا عاجلا أو مطلبا مستحيلا؟ فلو أنصفتم الجماهير لرأيتم في تباطئهم عن إجابة نداء النوابغ دليلا على أن الوقت لم يحن بعد لإجابته، فكم من عظيم يرى ما لا يروقه من أحوال العالم فيخاله عيبا، وما العيب إلا في تفكيره، ويتعجل إصلاحه ثم يحسب إصرار الناس عليه جهلا، وما الجهل إلا في تعجله، ويظن أن ما يدعو إليه من بدائه العقول، وما بديهة الفرد مهما عظم بأصدق من بدائه النوع برمته، فهو إذا أصاب أصاب من جانب واحد، وهم بعد لا يعرفون جانب الصواب منه إلا إذا ناوءوه، فإن ثبت أخذوا به، وإن لم يثبت فقد كان الضرر في الأخذ به لا في نبذه وإهماله؛ هذا هو محك العظمة ولا محك سواه. على أنني لا أقول للعظماء: كفوا عن دعوة الجماهير، بل أقول لهم: ادعوهم إلى ما تظنونه صلاحا لهم، ثم أقول للجماهير: قاوموهم حتى يثبت لكم أنهم أهل لغير المقاومة منكم، فمن هذا وذاك يصيب العظماء الإجلال من الجماهير، ويصيب الجماهير النفع من العظماء، ولولا ذلك لاشتبهت علينا الظواهر فخلطنا بين الجليل والحقير، والنافع والضار، والباقي والزائل.
Shafi da ba'a sani ba