٨- حدثنا محمد، ثنا أبو بكر، ثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاطُ، ثَنَا عُثْمَانُ ابن أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ:
خَطَبَ النَّاسَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَوْ بَايَعَ النَّاسُ عَبْدًا مُجَدَّعًا لَتَبِعْتُهُمْ، وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُونِي بِرِضَاهُمْ مَا أَكْرَهْتُهُمْ؛ ثُمَّ نَزَلَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: قَدْ قُلْتَ قَوْلًا يَنْبَغِي أَنْ تَأَمَّلَهُ. فَرَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ أحدٌ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنِّي؛ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنِّي؟.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حاضرٌ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْكَ مَنْ ضَرَبَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ ثُمَّ خِفْتُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ فَسَادًا، وَذَكَرْتُ مَا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْجِنَانِ، فَهَانَ عَلَيَّ ما قال.
٩- حدَّثنا محمد، ثنا أَبو بكر، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْمَنْصُورِ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ، وَهُوَ وَلِيُّ عهدٍ، فَصِرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ كَتَبَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِحَمْلِكَ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثِ دَوَابَّ مِنْ دَوَابِّ ⦗٢٦⦘ الْبَرِيدِ، وَبَيْنَ يَدَيْ محمدٍ السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهِكٍ فَقَالَ لَهُ: خُذْهُ فَاحْمِلْهُ وَجَهِّزْهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَوَكَّلَ بِيَ السِّنْدِيُّ خَلِيفَتَهُ عَبْدَ الْجَبَّارِ، فَجَهَّزَنِي وَحَمَلَنِي. فَلَمَّا دَخَلْتُ الرَّقَّةَ أُوصِلتُ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِي: لَا تَلْقَيَنَّ أَحَدًا وَلَا تُكَلِّمْهُ حَتَّى أُوصِلَكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَأَنْزَلَنِي مَنْزِلًا أَقَمْتُ فِيهِ يَوْميَنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ اسْتَحْضَرَنِي فَقَالَ: جِئْنِي وَقْتَ الْمَغْرِبِ حَتَّى أُدْخِلَكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَجِئْتُهُ، فَأَدْخَلَنِي عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ جالسٌ متفردٌ، فَسَلَّمْتُ، فَاسْتَدْنَانِي، وَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، فَجَلَسْتُ؛ وَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، وَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِسَبَبِ جَارِيَتَيْنِ أُهْدِيَتَا إِلَيَّ، قَدْ أَخَذَتَا طَرَفًا مِنَ الْأَدَبِ، أَحْبَبْتُ أَنْ تَبور مَا عِنْدَهُمَا، وَتُشِيرَ عَلَيَّ فِيهِمَا بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَكَ. ثُمَّ قَالَ: ليُمضَ إِلَى عَاتِكَةَ، فَيُقَالُ لَهَا: أَحْضِرِي الْجَارِيَتَيْنِ. فَحَضَرَتْ جَارِيَتَانِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُمَا قَطُّ، فَقُلْتُ لأجلِّهما: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ، قُلْتُ: مَا عِنْدَكِ مِنَ الْعِلْمِ؟ قَالَتْ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ مَا يَنْظُرُ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الأَشْعَارِ وَالْآدَابِ وَالأَخْبَارِ. فَسَأَلْتُهَا عَنْ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَجَابَتْنِي كَأَنَّهَا تَقْرَأُ الْجَوَابَ مِنْ كتابٍ؛ وَسَأَلْتُهَا عَنِ النَّحْوِ وَالْعَرُوضِ وَالأَخْبَارِ، فَمَا قَصَّرَتْ. فَقُلْتُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، فَمَا قصرتِ فِي جَوَابِي فِي كُلِّ فَنٍّ أَخَذْتُ فِيهِ، فَإِنْ كُنْتِ تَقْرِضِينَ الشِّعْرَ فَأَنْشِدِينَا. فَانْدَفَعَتْ فِي هَذَا الشِّعْرِ: يَا غِيَاثَ الْعِبَادِ فِي كُلِّ محلٍ ... مَا يُرِيدُ الْعِبَادُ إِلَّا رِضَاكَ لَا وَمَنْ شَرَّفَ الإِمَامَ وَأَعْلَى ... مَا أَطَاعَ الإِلَهَ عبدٌ عَصَاكَ وَمَرَّتْ فِي الشِّعْرِ إِلَى آخِرِهِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي مَسْكِ رجلٍ مِثْلَهَا. وَفَاتَحْتُ الْأُخْرَى فَوَجَدْتُهَا دُونَهَا. فَقُلْتُ: مَا تَبْلُغُ هَذِهِ مَنْزِلَتَهَا، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ ⦗٢٧⦘ وُوظِب عَلَيْهَا لَحِقَتْ. فَقَالَ: يَا عَبَّاسِيُّ. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لِتُرَدَّا إِلَى عَاتِكَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: تَصْنَعُ هَذِهِ -يَعْنِي الَّتِي وَصَفْتُهَا بِالْكَمَالِ- لِتُحْمَلَ إِلَيَّ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، أَنَا ضجرٌ؛ وَقَدْ جَلَسْتُ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ حَدِيثًا أَتَفَرَّجُ بِهِ، فَحَدِّثْنِي بشيءٍ. فَقُلْتُ: لِأَيِّ الْحَدِيثِ يَقْصِدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟. قَالَ: لِمَا شَاهَدْتَ وَسَمِعْتَ مِنْ أَعَاجِيبِ النَّاسِ وَطَرَائِفِ أَخْبَارِهِمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، صاحبٌ لَنَا فِي بَدْوِ بَنِي فُلَانٍ، كُنْتُ أَغْشَاهُ فَأَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ ستٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، أَصَحُّ النَّاسِ ذِهْنًا، وَأَجْوَدُهُمْ أَكْلا، وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا؛ فَغَبَرْتُ عَنْهُ زَمَانًا، ثُمَّ قَصَدْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ نَاحِلَ الْبَدَنِ، كَاسِفَ الْبَالِ، مُتَغَيِّرَ الْحَالِ! فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ أَصَابَتْكَ مصيبةٌ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أفمرضٌ عَرَاكَ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَمَا سَبَبُ هَذَا التَّغَيُّرِ الَّذِي أَرَاهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَصَدْتُ بَعْضَ الْقَرَابَةِ فِي حَيِّ بَنِي فُلَانٍ، فَأَلْفَيْتُ عِنْدَهُمْ جَارِيةً قَدْ لَاثَتْ رَأْسَهَا، وَطَلَتْ بَالْوَرْسِ مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَي قَدَمِهَا، وَعَلَيْهَا قميصٌ وقناعٌ مَصْبُوغَانِ، وَفِي عُنُقِهَا طبلٌ تُوَقِّعُ عَلَيْهِ وَتُنْشِدُ هَذَا الشِّعْرَ: مَحَاسِنُهَا سهامٌ لِلْمَنَايَا ... مُريَّشةٌ بِأَنْوَاعِ الْخُطُوبِ بَرى ريبُ الْمَنُونِ لَهُنَّ سَهْمًا ... تُصِيبُ بِنَصْلِهِ مُهَجَ الْقُلُوبِ فَأَجَبْتُهَا: قِفِي شَفَتَيَّ فِي مَوْضِعِ الطَّبْلِ تَرْتَعِي ... كَمَا قَدْ أَنَخْتِ الطَّبْلَ فِي جِيدِكِ الْحَسَنْ هَبِينِيَ عُودًا أَجْوَفًا تَحْتَ شنةٍ ... تَمَتَّعَ فِيمَا بَيْنَ نَحْرِكِ وَالذَّقَنْ فَلَمَّا سَمِعَتِ الشِّعْرَ مِنِّي نَزَعَتِ الطَّبْلَ، فَرَمَتْ بِهِ فِي وَجْهِي، وَبَادَرَتْ إِلَي الْخِبَاءِ فَدَخَلَتْهُ؛ فَلَمْ أَزَلْ وَاقِفًا إِلَي أَنْ حَمِيَتِ الشَّمْسُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِي، لَا تَخْرُجُ إِلَيَّ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَيَّ جَوَابًا. فَقُلْتُ: أَنَا مَعَهَا -وَاللَّهِ- كما قال الشاعر: ⦗٢٨⦘ فَوَاللَّهِ يَا سَلْمَى لَطَالَ إِقَامَتِي ... عَلَى غَيْرِ شيءٍ يَا سُلَيْمَى أُرَاقِبُهْ ثُمَّ انْصَرَفْتُ سَخِينَ الْعَيْنِ، قَرِحَ الْقَلْبِ؛ فَهَذَا الَّذِي تَرَى بِي مِنَ التَّغَيُّرِ مِنْ عِشْقِي لَهَا. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، ابْنُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً يَعْشَقُ؟. قُلْتُ: قَدْ كَانَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: يَا عَبَّاسِيُّ. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: لَبَّيْكَ يَا أمير المؤمنين. فقال: أعط عبد الملك مئة أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرُدَّهُ إِلَي مَدِينَةِ السَّلَامِ. فَانْصَرَفْتُ، فَإِذَا خادمٌ يَحْمِلُ شَيْئًا، وَمَعَهُ جَارِيَةٌ تَحْمِلُ شَيْئًا. فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ بِنْتِكَ -يَعْنِي الْجَارِيَةَ الَّتِي وَصَفْتُهَا- وَهَذِهِ جَارِيَتُهَا، وَهِيَ تَقْرأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ لِي بمالٍ وثيابٍ، فَهَذَا نَصِيبُكَ مِنْهَا، فَإِذَا الْمَالُ أَلْفُ دِينَارٍ وَهِيَ تَقُولُ: لَنْ نُخليك مِنَ الْمُوَاصَلَةِ بِالْبِرِّ. فَلَمْ تَزَلْ تَعَهَّدُنِي بِالْبِرِّ الْوَاسِعِ الْكَثِيرِ حَتَّى كَانَتْ فِتْنَةُ مُحَمَّدٍ، فَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهَا عَنِّي. وَأَمَرَ لِيَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ مِنْ ماله بعشرة آلاف درهم.
٩- حدَّثنا محمد، ثنا أَبو بكر، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْمَنْصُورِ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ، وَهُوَ وَلِيُّ عهدٍ، فَصِرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ كَتَبَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِحَمْلِكَ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثِ دَوَابَّ مِنْ دَوَابِّ ⦗٢٦⦘ الْبَرِيدِ، وَبَيْنَ يَدَيْ محمدٍ السِّنْدِيُّ بْنُ شَاهِكٍ فَقَالَ لَهُ: خُذْهُ فَاحْمِلْهُ وَجَهِّزْهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَوَكَّلَ بِيَ السِّنْدِيُّ خَلِيفَتَهُ عَبْدَ الْجَبَّارِ، فَجَهَّزَنِي وَحَمَلَنِي. فَلَمَّا دَخَلْتُ الرَّقَّةَ أُوصِلتُ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِي: لَا تَلْقَيَنَّ أَحَدًا وَلَا تُكَلِّمْهُ حَتَّى أُوصِلَكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَأَنْزَلَنِي مَنْزِلًا أَقَمْتُ فِيهِ يَوْميَنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ اسْتَحْضَرَنِي فَقَالَ: جِئْنِي وَقْتَ الْمَغْرِبِ حَتَّى أُدْخِلَكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَجِئْتُهُ، فَأَدْخَلَنِي عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ جالسٌ متفردٌ، فَسَلَّمْتُ، فَاسْتَدْنَانِي، وَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، فَجَلَسْتُ؛ وَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، وَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِسَبَبِ جَارِيَتَيْنِ أُهْدِيَتَا إِلَيَّ، قَدْ أَخَذَتَا طَرَفًا مِنَ الْأَدَبِ، أَحْبَبْتُ أَنْ تَبور مَا عِنْدَهُمَا، وَتُشِيرَ عَلَيَّ فِيهِمَا بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَكَ. ثُمَّ قَالَ: ليُمضَ إِلَى عَاتِكَةَ، فَيُقَالُ لَهَا: أَحْضِرِي الْجَارِيَتَيْنِ. فَحَضَرَتْ جَارِيَتَانِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُمَا قَطُّ، فَقُلْتُ لأجلِّهما: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ، قُلْتُ: مَا عِنْدَكِ مِنَ الْعِلْمِ؟ قَالَتْ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ مَا يَنْظُرُ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الأَشْعَارِ وَالْآدَابِ وَالأَخْبَارِ. فَسَأَلْتُهَا عَنْ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَجَابَتْنِي كَأَنَّهَا تَقْرَأُ الْجَوَابَ مِنْ كتابٍ؛ وَسَأَلْتُهَا عَنِ النَّحْوِ وَالْعَرُوضِ وَالأَخْبَارِ، فَمَا قَصَّرَتْ. فَقُلْتُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، فَمَا قصرتِ فِي جَوَابِي فِي كُلِّ فَنٍّ أَخَذْتُ فِيهِ، فَإِنْ كُنْتِ تَقْرِضِينَ الشِّعْرَ فَأَنْشِدِينَا. فَانْدَفَعَتْ فِي هَذَا الشِّعْرِ: يَا غِيَاثَ الْعِبَادِ فِي كُلِّ محلٍ ... مَا يُرِيدُ الْعِبَادُ إِلَّا رِضَاكَ لَا وَمَنْ شَرَّفَ الإِمَامَ وَأَعْلَى ... مَا أَطَاعَ الإِلَهَ عبدٌ عَصَاكَ وَمَرَّتْ فِي الشِّعْرِ إِلَى آخِرِهِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي مَسْكِ رجلٍ مِثْلَهَا. وَفَاتَحْتُ الْأُخْرَى فَوَجَدْتُهَا دُونَهَا. فَقُلْتُ: مَا تَبْلُغُ هَذِهِ مَنْزِلَتَهَا، إِلَّا أَنَّهَا إِنْ ⦗٢٧⦘ وُوظِب عَلَيْهَا لَحِقَتْ. فَقَالَ: يَا عَبَّاسِيُّ. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لِتُرَدَّا إِلَى عَاتِكَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: تَصْنَعُ هَذِهِ -يَعْنِي الَّتِي وَصَفْتُهَا بِالْكَمَالِ- لِتُحْمَلَ إِلَيَّ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، أَنَا ضجرٌ؛ وَقَدْ جَلَسْتُ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ حَدِيثًا أَتَفَرَّجُ بِهِ، فَحَدِّثْنِي بشيءٍ. فَقُلْتُ: لِأَيِّ الْحَدِيثِ يَقْصِدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟. قَالَ: لِمَا شَاهَدْتَ وَسَمِعْتَ مِنْ أَعَاجِيبِ النَّاسِ وَطَرَائِفِ أَخْبَارِهِمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، صاحبٌ لَنَا فِي بَدْوِ بَنِي فُلَانٍ، كُنْتُ أَغْشَاهُ فَأَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ ستٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، أَصَحُّ النَّاسِ ذِهْنًا، وَأَجْوَدُهُمْ أَكْلا، وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا؛ فَغَبَرْتُ عَنْهُ زَمَانًا، ثُمَّ قَصَدْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ نَاحِلَ الْبَدَنِ، كَاسِفَ الْبَالِ، مُتَغَيِّرَ الْحَالِ! فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ أَصَابَتْكَ مصيبةٌ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أفمرضٌ عَرَاكَ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَمَا سَبَبُ هَذَا التَّغَيُّرِ الَّذِي أَرَاهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَصَدْتُ بَعْضَ الْقَرَابَةِ فِي حَيِّ بَنِي فُلَانٍ، فَأَلْفَيْتُ عِنْدَهُمْ جَارِيةً قَدْ لَاثَتْ رَأْسَهَا، وَطَلَتْ بَالْوَرْسِ مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَي قَدَمِهَا، وَعَلَيْهَا قميصٌ وقناعٌ مَصْبُوغَانِ، وَفِي عُنُقِهَا طبلٌ تُوَقِّعُ عَلَيْهِ وَتُنْشِدُ هَذَا الشِّعْرَ: مَحَاسِنُهَا سهامٌ لِلْمَنَايَا ... مُريَّشةٌ بِأَنْوَاعِ الْخُطُوبِ بَرى ريبُ الْمَنُونِ لَهُنَّ سَهْمًا ... تُصِيبُ بِنَصْلِهِ مُهَجَ الْقُلُوبِ فَأَجَبْتُهَا: قِفِي شَفَتَيَّ فِي مَوْضِعِ الطَّبْلِ تَرْتَعِي ... كَمَا قَدْ أَنَخْتِ الطَّبْلَ فِي جِيدِكِ الْحَسَنْ هَبِينِيَ عُودًا أَجْوَفًا تَحْتَ شنةٍ ... تَمَتَّعَ فِيمَا بَيْنَ نَحْرِكِ وَالذَّقَنْ فَلَمَّا سَمِعَتِ الشِّعْرَ مِنِّي نَزَعَتِ الطَّبْلَ، فَرَمَتْ بِهِ فِي وَجْهِي، وَبَادَرَتْ إِلَي الْخِبَاءِ فَدَخَلَتْهُ؛ فَلَمْ أَزَلْ وَاقِفًا إِلَي أَنْ حَمِيَتِ الشَّمْسُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِي، لَا تَخْرُجُ إِلَيَّ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَيَّ جَوَابًا. فَقُلْتُ: أَنَا مَعَهَا -وَاللَّهِ- كما قال الشاعر: ⦗٢٨⦘ فَوَاللَّهِ يَا سَلْمَى لَطَالَ إِقَامَتِي ... عَلَى غَيْرِ شيءٍ يَا سُلَيْمَى أُرَاقِبُهْ ثُمَّ انْصَرَفْتُ سَخِينَ الْعَيْنِ، قَرِحَ الْقَلْبِ؛ فَهَذَا الَّذِي تَرَى بِي مِنَ التَّغَيُّرِ مِنْ عِشْقِي لَهَا. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، ابْنُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً يَعْشَقُ؟. قُلْتُ: قَدْ كَانَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: يَا عَبَّاسِيُّ. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: لَبَّيْكَ يَا أمير المؤمنين. فقال: أعط عبد الملك مئة أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرُدَّهُ إِلَي مَدِينَةِ السَّلَامِ. فَانْصَرَفْتُ، فَإِذَا خادمٌ يَحْمِلُ شَيْئًا، وَمَعَهُ جَارِيَةٌ تَحْمِلُ شَيْئًا. فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ بِنْتِكَ -يَعْنِي الْجَارِيَةَ الَّتِي وَصَفْتُهَا- وَهَذِهِ جَارِيَتُهَا، وَهِيَ تَقْرأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ لِي بمالٍ وثيابٍ، فَهَذَا نَصِيبُكَ مِنْهَا، فَإِذَا الْمَالُ أَلْفُ دِينَارٍ وَهِيَ تَقُولُ: لَنْ نُخليك مِنَ الْمُوَاصَلَةِ بِالْبِرِّ. فَلَمْ تَزَلْ تَعَهَّدُنِي بِالْبِرِّ الْوَاسِعِ الْكَثِيرِ حَتَّى كَانَتْ فِتْنَةُ مُحَمَّدٍ، فَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهَا عَنِّي. وَأَمَرَ لِيَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ مِنْ ماله بعشرة آلاف درهم.
1 / 25