فلو أن راميا سدد إلى قلبه سهما حديدا فنفذ ما بلغ منه ما بلغ هذا الكتاب، ولو أن نازلة من نوازل القدر هوت عليه فاختطفت نفسه من بين جنبيه لكان له مصابها رأي غير رأيه في هذا المصاب، فقد سكن على أثر ذلك سكونا لا تطرف فيه عين، ولا ينبض فيه عرق، ولا يخفق قلب، ولا يتحرك خاطر، حتى ليكاد يعتقد الناظر إليه في تلك الساعة أن هناك منزلة وسطى بين الحياة والموت تنبعث فيها الحواس في سبلها، ولكنها لا تعود إلى الدماغ بشيء مما تحس به.
واستمر على ذلك ساعة، ثم انتفض انتفاض الطائر المذبوح، ودار بعينيه يمنة ويسرة كأنما يفتش عن شيء أضاعه، فوقع نظره على الكتاب وهو ملقى بجانبه، فقرأه مرة أخرى، ثم ضرب جبهته بيده وأنشأ يقول بصوت خافت: لا أمل لي بعد اليوم، ها أنا ذا، وها هو ذا الكتاب بين يدي، ما أنا بحالم، ولا الكتاب بكاذب، نعم إن «مولر» طردني من بيته، وقتل نفسي قتلا، وفجعني في جميع آمالي، وحال بيني وبين ماجدولين؛ أي إنه فرق بين روحي وجسدي، إنه فعل ذلك وهو لا يدري ماذا يفعل، إنه اجترم هذه الجرائم كلها ساكنا هادئا كأنما هو يعبث بفأسه في أرضه، أو يحول جدوله من طريق إلى طريق، لقد قسا علي قسوة لم يقسها أحد من قبله على أحد، إنه علم أني فقير لا أملك شيئا، ورأى أن الفقر جريمة لا عقاب لها إلا القتل، فقتلني.
ثم كأنما جن جنونه فثار من مكانه ثورة الأسد الهائج، وتمثل له كأن «مولر» ماثل بين يديه، فمشى إليه مهددا، وصار يهذي ويقول: مهلا، رويدا أيها الشيخ الأبله، أظننت أني بين يديك شاة خرقاء أو دجاجة بلهاء تقدم نفسها لسكين الذابح حينما يريد؟ لا لا! أنا إنسان عاقل، ورجل شجاع، لا بد أن يكون لي أمل أحيا به، وسعادة أنعم بها، ولا بد أن أقاتل عن أملي وسعادتي حتى أبلغهما أو أقتل دونهما.
كذبت أيها الرجل، إنك أضعف من أن تمد يدك إلى هذا الرباط المقدس فتقطعه، إنك أعجز من أن تنتزع شعرة من شعر رأسك الأبيض، فأحرى أن تعجز عن أن تنتزع روحا من جسدها.
إن الذي بيني وبين ماجدولين شيء لا تصل إليه يدك، ولا يمتد إليه سلطانك، ولا يتعلق به أمرك ونهيك، وعطاؤك ومنعك.
إنك تستطيع أن تطردني من بيتك؛ لأنك تملكه وأن تحبس ابنتك في غرفتها لأنك أبوها، ولكنك لا تستطيع أن تمنع قلبينا أن يتحابا، ونفسينا أن تتصلا.
إن الذي خلق الإنسان وأسدى إليه نعمة الحياة والرزق لم يسترقه بهذه النعم، ولم يملك عليه قلبه ثمنا لها، بل تركه حرا يحب من يشاء، ويبغض من يشاء، وأنت تريد أيها الشيخ الضعيف المسكين أن يكون لك على قلوب الناس سلطان فوق سلطان الله، وإرادة فوق إرادته.
أي شأن لك عندنا؟ وأي صلة لك بنا؟ لقد ذهب عصرك وذهبت بذهابه، وأصبحنا لا نعد وجودك وجودا، ولا حياتك حياة، فإن نظرنا إليك فكما ننظر في ساعة من ساعات فراغنا إلى صفحة من صفحات التاريخ الغابر.
إن عقلك الذي بلي ورث وانتشر فوقه طبقة سوداء من القدم، لا يصلح أن يكون مرآة صادقة نرى فيها وجوهنا، ونتاحكم إليها في سعادتنا وشقائنا.
إنك شره طماع، رأيت أن ماء حياتك قد نضب، وأن أغربة الفناء السود تحلق فوق رأسك المشتعل شيبا، فعز عليك أن تموت، فجئت إلينا تحاول أن تقاسمنا حياتنا الجديدة الغضة، فكان مثلك كمثل ذلك الملك الظالم الذي كان يمتص دماء الأطفال ظنا منه أن ما ينقص من حياتهم يزيد في حياته.
Shafi da ba'a sani ba