نزل استيفن صبيحة يوم من الأيام إلى حديقة المنزل فرأى «مولر» والد ماجدولين واقفا على رأس بعض الجداول متكئا على فأسه، فلم ير بدا من أن يحييه، فحياه بتحية حيي بأحسن منها، ثم أراد أن يستمر أدراجه فرآه ينظر إليه نظرة المستوقف، ورأى كأن كلاما يتحير في شدقيه فاستحى أن يمضي لسبيله، فوقف على كلمة يصل بها الحديث بينه وبينه، فلم ير شيئا أقرب إلى ذهنه من أن يسأله على ابنته، ثم بدا له أنه إن فعل أرابه وألقى في نفسه أمرا غير الذي يريد، وهي المرة الأولى التي خطر له فيها أن في سؤال الرجل الرجل عن حال ابنته شيئا غريبا، أو أمرا مريبا، ثم استمر «مولر» في حديثه يقول: إن منظر الطبيعة في هذه الساعة جميل جدا لا يكدره علي إلا تلك الرعدة التي أشعر أنها تتمشى في أعضائي، فما أمر مذاق الشيخوخة وما أثقل مئونتها، وسلام على الشباب وعهوده الزاهرة، أيام كنت لا أحفل بنكباء ولا رمضاء، ولا أبالي أن أبكر في صبيحة كل يوم تبكير الغراب إلى قمم الجبال وشواطئ الأنهار عاري الرأس حافي القدم، أمرح وألعب، وأتأثر طرائد الصيد في مسارحها وملاعبها، فأصبحت ولم يبق لي من تلك الذكريات إلا وقوفي في هذه الضاحية تحت هذه الشمس المشرقة أنسج من خيوطها البيضاء كساء أتقي به هذه الرعدة، وأمتع نظري برؤية الفتيات الصغيرات صواحب ماجدولين وهن يلعبن معها فوق تلك الهضبة الثلجية.
وهنا وجد «استيفن» مكان القول ذا سعة فقال: إن ماجدولين لم تنزل اليوم كعادتها فلعلها بخير، قال: نعم، هي بخير ولكن ضيفا من أقربائنا نزل بنا أمس فلم أر بدا من أن أكل إليها أمره والعناية به، فتركتهما وذهبت لشأني، وإن كنت أعلم أن ماجدولين ليس في استطاعتها الصبر على النزول إلى الحديقة، ولا يقنعها من الشمس تلك الخيوط البيضاء التي تنحدر إليها من نافذة غرفتها، ثم ذهبا في الحديث بعد ذلك مذاهب مختلفة، وإنهما لكذلك إذ فتح باب المنزل، وإذا ماجدولين وأرشميد مقبلان، يحدثها فتهلل، وتحدثه فيبتسم، وكأن منظرهما منظر عاشقين يتغازلان، لا قريبين يتسامران، فخيل لاستيفن أن هذا المشهد الذي يشهده غير مستحسن ولا مستعذب، ثم اقتربا منه، فصدف عنهما يتلهى بالنظر إلى بعض الزهرات، وود لو وجد السبيل إلى الهرب منهما لولا أنهما اعترضا طريقه، فسلما عليه، فرد ردا فاترا، ثم تركهما مكانهما وانحدر إلى خميلة من الخمائل، فما خطا فيها بعض خطوات حتى سمع الفتى يغرب في الضحك، فما شك أنهما في شأنه، وأنه قد أصبح موضع هزئهما وسخريتهما، وأنهما ما ضحكا إلا للعبث به والزراية عليه، فأحس في قلبه بدبيب البغض لذلك الفتى، وود بجدع الأنف لو وجد السبيل إلى منازلته في ميدان خصام يضربه فيه ضربة تهشم أنفه وتخضب الذي فيه عيناه ليقنعه أنه ليس سخرية الساخر، ولا أضحوكة الضاحك.
ثم عاد إلى نفسه يسائلها عن السبب في انقباضه ووحشته، وعن تلك الحال الغريبة التي ألمت بفؤاده منذ الساعة ويقول: ما لي ولهذا الفتى؟ وبأي حق أحمل له بين جنبي ما أحمل من الضغنة والموجدة؟ فما أنا بعاشق للفتاة فأغار منه عليها، ولا هو بمزاحم لي على هوى فأبغضه فيه!
ولم يزل يسائل نفسه أمثال هذه الأسئلة فلا تجيبه، ويراجع عقله فلا يهديه، حتى عرف أنه لا يسمع خارج الخميلة صوتا، فبرز من مكمنه فلم ير أمامه أحدا، فخرج من الحديقة هائما على وجهه بين الغابات والأحراش حتى أدبر النهار ، فعاد إلى المنزل وصعد إلى غرفته، وإنه ليمر أمام باب غرفة ماجدولين؛ إذ سمع صوت حديث، فذكر ما كان قد نسيه، وعلم أنها تسمر مع قريبها أرشميد، وأنه لا بد أن يكون سعيدا بهذا الحديث وهذه الخلوة، فنفس عليه ذلك، ولا ينفس الإنسان على صاحبه شيئا يكون في نظره حقيرا، فتريث في مشيته قليلا حتى علم أنه إن دنا من باب الغرفة لا يشعران بموقفه، فدنا منها وأنشأ يتسمع حديثهما، فلم يفهم كلمة مما يقولان، ثم انقطعا عن الحديث.
وأنشأت ماجدولين تغني غناء شجيا قد كان يكون عذبا لذيذا في نفس استيفن لولا أن أذنا أخرى غير أذنه تزاحمه على سماعه، ثم انقطع الغناء أيضا فسمع خفق نعال تتقدم نحو الباب، فابتعد عن مكانه حتى خرج الفتى وخرجت ماجدولين وراءه تشيعه في غلالة رقيقة بيضاء لا تلبسها الفتاة إلا بين يدي عشيقها أو من لا تحتشمه من ذوي قرباها، فرأى في وجهها صورة جديدة غير التي كان يراها من قبل، وأحس في نفسه بشيء غير الذي كان يحس به عند رؤيتها، ثم عادت إلى الغرفة وأغلقت الباب وراءها، فعاد إلى موقفه الأول، وما زال راكعا أمام بابها حتى مشت جذوة النهار في فحمة الليل، فصعد إلى غرفته وقد علم أن الذي قام بنفسه منذ اليوم ليس الهذيان ولا الجنون، ولا الوسواس ولا حرارة الحمى كما كان يظن، وإنما هو الحب! (6) الدعوة
دخل «مولر» على ابنته ذات يوم فقال: يا بنية، إني دعوت اليوم جارنا الذي يسكن في الغرفة العليا من منزلنا إلى العشاء عندنا في الساعة السابعة، فأعدي له الطعام، واعلمي أنك ستغنين في هذه الليلة، فقد وعدته بذلك، وقد لقيت من كرم هذا الفتى وعلو همته، وشدة عارضته، وكثرة ذكائه، وسعة علمه بالنبات، وطبائعه، ما حببه إلي، وأنزله من نفسي المنزلة العليا، ولا بد أن أتخذه صديقا، وأن تكون تلك الدعوة فاتحة تلك الصداقة، ثم تركها وخرج إلى الحديقة، وظل مشتغلا بشأنه فيها حتى مالت الشمس إلى مغربها، فعاد إلى المنزل وجلس إلى نافذة غرفته المطلة على الحديقة ينتظر ضيفه، وإنه لكذلك إذ رآه خارجا من باب الحديقة يعدو عدوا شديدا وفي يده رسالة مفضوضة، فهتف بابنته يقول: يا ماجدولين! ما أحسب إلا أن جارنا قد حيل بينه وبين الوفاء بوعده، فقد رأيته الساعة خارجا يعدو من باب الحديقة، ثم رأيته قد سلك تلك الطريق التي لا ينتهي فيها السائر إلى غرض إلا بعد سفر عشرة أميال، فقالت: لا بد أن يكون قد عرض له شأن ما كان يقدره في نفسه، فلا بد أن ننتظره حتى يعود، ثم جلسا صامتين، هذا يدخن لفافته، وتلك تخيط ثوبها، حتى علما أنه لن يعود، فقاما إلى العشاء ثم إلى المنام. (7) الزيارة
جلس «مولر» إلى ابنته، فنظر نظرة في النجوم وقال: ما أحسب إلا أن السماء ستمطرنا في هذه الليلة مطرا غزيرا يبلل هذه التربة الظامئة، ويملأ هذه البقاع الجرداء، فما أجمل الربيع وما أجمل غيوثه المنهلة، وما أجمل أرضه بعد أن يكسوها الغمام من نسج يده تلك الغلائل الخضراء! فقالت ماجدولين: لا تنس يا أبت أن كثيرا من ضعفاء السابلة وطرائد الليل يعانون في مثل هذه الليلة الماطرة من تدفق الغيوث فوق رءوسهم، واعتراض الوحول في طريقهم، وبعد الشقة عليهم ما لا طاقة لهم باحتماله، فوا رحمتاه لهم إن الشقاء كامن لهم في كل شيء حتى في الشئون التي يسعد بها غيرهم، فاكتأب «مولر» وقال: نعم يا ماجدولين، إنهم أشقياء بؤساء ولا بد أن يكون «استيفن» واحدا منهم، فقد مر الهزيع الأول من الليل ولم يعد إلى المنزل حتى الساعة بعد ما قضى ليلة أمس خارجه.
أخذت هذه الكلمة مكانها من نفس ماجدولين، فأطرقت برأسها تقلب صحائف كتابها ولا تقرأ منه شيئا، وإنهما لكذلك إذ طارق يخفق الباب خفقا ضعيفا، فاضطربت ماجدولين ودهش «مولر» وقامت «جنفياف» إلى الباب ففتحته، فإذا «استيفن» ماثل بعتبته، فاستأذن ودخل وهو يقول: عفوا يا سيدي إن كنت ترى أنني لم أف لك بوعدي، فقد أرسل إلي أخي كتابا يدعوني فيه إلى مقابلته على الحدود لتوديعه قبل سفره إلى الحرب، فأعجلني كتابه عن كل شيء حتى عن الاعتذار إليك، فمشيت إليه عشرة أميال لا أتريث ولا أتئد حتى بلغته، فودعته وداعا بين السرور له والحزن عليه، أما السرور فلأني رأيته فرحا مغتبطا برحلته يغني أنشودة الحرب مرة، ويلاعب جواده أخرى، ويمشي مشية الخيلاء بين ريش قبعته وحمائل سيفه، وأما الحزن فلأني أخاف أني يسبقني القدر إليه فيحول بيني وبينه، فأصبح في هذه الحياة غريبا منفردا، لا أجد بين هذه القلوب الخافقة حولي قلبا يحزن لحزني، ولا بين هذه العيون الناظرة إلي عينا تبكي لبكائي، وهنا ذرفت من عينه دمعة كادت تبكي لها ماجدولين، ولكنها لم تفعل ذلك حياء وخجلا، وألقت عليه نظرة عطف ورحمة من حيث لا يشعر، حتى إذا التفت إليها استردت نظرتها وألقتها على صفحة كتابها فقال له «مولر»: لا تجزع يا بني، فالله أرحم بك من أخيك وأرحم بأخيك من نفسك.
ثم أخذ بيده إلى مائدة الشاي وجلسا يشربان معا، وأنشأ «مولر» يحدث صاحبه عن الشاي ومغرسه ومنبته، وأعواده وأوراقه، وأنواعه وألوانه، وطريقة طبخه وأصل كلمته ومصدر اشتقاقها، وآراء علماء النبات في ذلك، وردود بعضهم على بعض، وردوده هو عليهم جميعا، وما زال يثر في ذلك ويسهب ظانا أن «استيفن» حاضر معه، و«استيفن» عنه في شغل بما يختلس من نظرات ماجدولين وما تختلس من نظراته، حتى فرغا من شأنهما، فاقترح «مولر» على ابنته أن تغني لهما صوتا، فأنشأت تغنيه بنغمة تخالطها رعدة الخائف أو رنة المحزون، فما أتت عليه حتى طرب له «استيفن» طربا ملك عليه قلبه، وأحاط بعواطفه ومشاعره، وشعر كأن الفضاء يدور به، وكأن قد بدلت الأرض غير الأرض والسموات، ثم خاف أن يمتد به شوطه إلى أبعد من ذلك، فتناهض للقيام، فمشى معه «مولر» إلى الباب يشيعه ويقول: زرنا يا «استيفن» كلما بدا لك أن تفعل، فما دون مزارك باب موصد، فانصرف بقلب غير قلبه، وعقل غير عقله، وحال بين جنبيه غريبة لا عهد له بمثلها من قبل. (8) المرأة
قضت ماجدولين ليلتها راكعة في معبدها، مستغرقة في صلاتها، تدعو الله، تعالى، أن يعينها على أمرها، وينير لها ظلمة هذه الحياة الجديدة التي بدأت تسير فيها، وقد ألمت بنفسها في تلك الساعة عاطفة غريبة متنوعة الألوان، مختلفة الأشكال، كأنما هي مزيج من الحب والخوف، والسرور والحزن، والأمل الواسع والرجاء الخائب، فكانت تبتسم مرة حتى تلمع ثناياها، وتبكي أخرى حتى يبتل رداؤها، ولا تعلم ما الذي أضحكها ولا ما الذي أبكاها! ولم تزل على حالها تلك حتى حلق طائر الكرى فوق أجفانها، فاضطجعت في مصلاها، وأسلمت نفسها إلى خالقها.
Shafi da ba'a sani ba