لذلك أحببتك يا «إدوار» واتخذتك صديقا، وكان الشقاء هو الوثيقة التي تعاقدنا فيها أن يكون كل منا عونا لصاحبه على دهره، وجنة له من دون نكبات الأيام وأرزائها، مهما تقلبت بهما الأحوال، أو فرقت بينهما الأيام.
فأخذ «إدوار» بيد «استيفن» وأقسم له بكل محرجة من الأيمان ألا يهدأ له في حياته روع ولا يثلج له صدر حتى يراه ظافرا من دهره بالسعادة التي يرجوها، ثم عرض عليه أن يضع بين يديه جزءا من ثروته التي صارت إليه فأبى، وقال: أما هذه فلا؛ لأني لا أريد أن أشتري سعادتي في دنياي إلا بأشرف أثمانها.
وفي الصباح مشى «استيفن» مع «إدوار» ليودعه حتى بلغا مكان الافتراق، فتعانقا طويلا وبكى «استيفن» على صديقه ثم افترقا. (45) من استيفن إلى ماجدولين
خرجت ليلة أمس أرتاض على شاطئ النهر، فلما استقبلت الفضاء شعرت أن أوراق الأشجار تضطرب اضطرابا سريعا في خفوت وهمس، وأن الهواء يمشي متثاقلا مترجحا يتحامل بعضه على بعض، ورأيت قطع السحاب الضخمة السوداء تنتقل في صحراء السماء تنقل قطعان الفيلة في غاباتها، وخيل إلي أني أسمع في أعماقها قعقعة مبهمة تدنو حينا وتنأى أحيانا، وكأنما قد راع هذا الصوت الأجش طيور الماء، وحشرات الأرض، فرأيت الطيور مرفرفة على سطح النهر تستبق إلى أوكارها، والحشرات متعادية بين الصخور تتسرب إلى أحجارها، ورأيت السواد قد صبغ كل شيء حتى لون الماء، فقبة السماء ورقعة الأرض والأفق الذي يصل بينهما منجم أجوف عميق من مناجم الفحم يحاول البرق أن يجد له في جدرانه العاتية الصماء منفذا ينحدر منه إلى جوفه فلا يستطيع، إلا الومضة بعد الومضة تعتلج بين طبقاتها ولا تنفذه.
ثم ما لبثت هذه الطبيعة الصامتة الخرساء أن هدرت وزمجرت فهبت الزوبعة من كل مكان تخبط بيديها أوراق الأشجار فتطير بها كل مطار، وتهز السقوف والجدران هزا وتضرب بعضها ببعض، ثم أقبل المطر يمزق قطع السحاب ويفتح لنفسه والبرق طريقا في خلالها، ثم همى فسالت به الأودية والأرجاء، وامتلأت الأخاديد والأغوار، وكنت على مقربة من كوخ صديقي «فرتز»، وهو ملاح فقير أسدى إلي فيما مضى من الأيام صنيعة لا أزال أحفظها له حتى اليوم، فلجأت إليه، فخيل إلي حين دخلته أنه مقفر موحش ليس به أنيس، ثم أضاء البرق فرأيت في داخله منظرا من أجمل المناظر وأبدعها، رأيت زوج الرجل وأولاده جاثين على أقدامهم خاشعين باسطي أيديهم إلى السماء يدعون الله، تعالى، بدعوات جميلة يرددونها بصوت شجي محزن، فخيل إلي - ولا مصباح هنا ولا ضياء - أني أرى إشراق وجوههم وتلألؤها في هذه الدجنة الحالكة، وأحست لي المرأة فالتفتت إلي وقالت: لم يعد «فرتز» حتى الساعة، ونحن نخشى أن يكون قد أصابه مكروه من أهوال تلك الليلة، فنحن ندعو الله، تعالى، أن يرده إلينا سالما، فأثر في نفسي هذا المنظر تأثيرا شديدا، وقلت في نفسي: «ويل للذين يحاولون أن يسلبوا أمثال هؤلاء المساكين إيمانهم ويقينهم، إنهم يسلبونهم حياتهم التي يحيون بها في هذا العالم وكل ما تملك أيديهم من سعادة وهناء.»
وشعرت بحزن شديد في أعماق قلبي لحرماني من مثل هذه السعادة النفيسة التي ينعم بها هؤلاء القوم، فجثوت بجانبهم أهتف بهتافهم، وأدعو بدعائهم، وأضرع إلى الله أن يمنحني يقينا مثل يقينهم، ولم أدر أن ما أنا فيه إنما هو اليقين الذين أنشده وأضرع إلى الله فيه، ثم رفعت رأسي فإذا «فرتز» واقف على عتبة الباب، فهرعت زوجته إليه تقبله وتنضو عنه رداءه المبتل، ودار أولاده به يلثمونه ويستقبلون لثماته الأبوية الرحيمة، ويستطيرون فرحا به وسرورا، ثم احتملوه جميعا إلى المائدة وجلسوا حوله يحادثونه ويسائلونه عما كابد من أهوال هذه الليلة وشدائدها، وجلست على مقربة منه أسمع حديثهم، وأستشف سريرة نفوسهم، فأخذ منظرهم هذا من نفسي مأخذا شديدا، وكدت - وما حسدت أحدا في حياتي على نعمة قط - أن أحسدهم على نعمتهم هذه وقلت في نفسي: زوجة تحب زوجها وتبكي رحمة به وإشفاقا عليه، وأولاده يجثون على أقدامهم ويمدون أيديهم إلى الله، تعالى، ضارعين أن يحفظ لهم حياة أبيهم، وأب يبكي فرحا برؤية أولاده بين يديه سالمين مغتبطين ... إنها السعادة النفسية العالية التي لا تستمد بهجتها ورواءها من القصور والرياض، والأثاث والرياش، والفضة والذهب، بل من الحب الخالص، والود المتين.
وكذلك سيكون شأننا في مستقبلنا يا ماجدولين، فربما كتب لنا أن نعيش عيش الفقراء المقلين، ولكننا سنكون على فقرنا وإقلالنا سعداء مغتبطين.
لم يبق بيني وبين الحصول على تلك الزيادة التي وعدوني بها إلا ثلاثة أشهر، سأسافر من بعدها إليها في «ولفاخ» لأخطبك إلى أبيك، وأضع يدي في يدك، فلا يبقى للشقاء بعد اليوم إلينا من سبيل. (46) من ماجدولين إلى استيفن
سافرت «سوزان» إلى «كوبلانس» وتركتني حزينة آسفة على فراقها، ولكني سألحق بها عما قليل، فقد وعدها أبي أن نسافر إليها بعد شهر واحد لنقضي عندها بقية أيام الشتاء، وسأكتب إليك عند وصولي لتكون على بينة من ذلك، فلعلك تجد السبيل إلى موافاتي هناك، فأراك - ولو على البعد - والسلام. (47) من ماجدولين إلى استيفن
وصلنا منذ ثلاثة أيام أنا وأبي إلى «كوبلانس» ونزلنا ضيفين في منزل سوزان وأنا مغتبطة بلقائها والسعادة التي أجدها في منزلها اغتباطا عظيما، وقد أخبرتني اليوم أنها ابتاعت لنا مقصورة في ملعب «الأوبرا» نذهب إليها مساء كل أحد، فها نحن أولاء قد وجدنا المكان الذي يمكننا أن نتراءى فيه أو نتلاقي إن استطعنا.
Shafi da ba'a sani ba