متى أهدي الميت، وأوصى القبر إلى القبر! ومتى عاش المحب بعد فقد حبيبه ساعة واحدة، أو هنئت له لحظة من لحظات عيشه إن قدر له أن يعيش من بعده؟
إن لي في الحياة - كما للناس - أماني كثيرة، وبودي لو استطعت أن أبيعها جميعها بأمنية واحدة، وهي أن أموت يوم أموت بين ذراعيك، ملقيا رأسي على صدرك، شاخصا بعيني إلى وجهك المشرق الجميل، وأن يكون صوتك آخر ما أسمع من الأصوات، وصورتك آخر ما أرى من الصور، عالما أن من يموت ميتة كهذه تفتحت له أبواب السماء، واتصلت سعادة دنياه بسعادة أخراه، فلا يشعر بشقاء الموت، ولا ما بعد الموت.
هنيئا لك إبلالك من مرضك، وشكرا لله على صنيعته عندك في شفائك، وصنيعته عندي في حفظ حياتك لي، وما أحسب أن الله أراد بي أو بك سوءا فيما كان، ولكنه يبتلينا اليوم لنعرف مقدار ما يستقبلنا به من السعادة غدا.
سأكتب لأخي «أوجين» بشأن الهدية التي أزمعت أن ترسليها إليه، وإني شاكر لك شكرا جزيلا عطفك عليه وحبك إياه، أما عنوانه، فهو: «الفصيلة الثالثة، من قسم الجياد الخفيفة في جيش الحدود.» (34) الحظ
مر الشتاء و«استيفن» يختلف إلى أستاذه «هومل» وأستاذه يسعى له سعي الملح فلا ينجح، حتى أوشك أن ينفد ما كان معه من المال، ولم يبق في يده منه إلا بقية غير صالحة لا يعلم ما هو صانع بعدها، فلم يجد له بدا من أن يأخذ نفسه بالتقتير، ويحمل عليها في العيش حملا شديدا، فأكل التافه من الطعام، ولبس الخلقان من الثياب، وغني بالأكلة عن الأكلتين، وبالخبز عن الأدم، وكان يقول في نفسه كلما برحت به الفاقة، واشتدت به ضائقة العيش: لقد قال لي عمي: إن من كان فتى قويا مثلك لا يجمل به أن يعيش عالة على أهله وذويه، وها أنا ذا على فتوتي وقوتي أكاد أموت جوعا، فما أقسى قلوب قومي، وما أبعد الرحمة عن أفئدتهم! لقد كان في استطاعتهم أن يقبلوني عندهم ضيفا عاما أو عامين، حتى يفتح الله لي بابا من أبواب الرزق فأرحل عنهم، أو أن يهيئوا لي - قبل أن يطردوني من بينهم - ملجأ أعتصم به في المكان الذي طردوني إليه حتى لا أموت ميتة الغرباء المشردين.
وكان أكبر ما يحزنه من أمر فاقته أنه وعد ماجدولين بالسعي إلى الثروة والنجاح فيها، وملأ قلبها ثقة وأملا في المستقبل، وأن فشله - إن قدر له الفشل - سيقتلها، ويلقي بها في مهواة اليأس والشقاء، فرثى لها وأشفق عليها إشفاقا عظيما، وود لو صلحت حياته لأن تكون ثمنا لسعادته فبذلها في سبيلها، ثم رحل عن الدنيا طيب النفس عنها وعن جميع آماله وأمانيه فيها.
ولقد مر به يوما - في بعض مواقفه بجانب بعض الجدران - فتى زري الهيئة، سيئ الحال، ومد إليه يده يسأله بعض المعونة، فزوى وجهه عنه حياء وخجلا، فقال له الفتى: أقسم لك بالله يا سيدي أني تركت زوجتي ورائي ما تطيق الوقوف من الطوى، ولقد مر بي وبها يومان ما نجد ما نتبلغ به إلا البكاء والدموع فانتفض «استيفن» انتفاضة شديدة والتفت إليه وقال له: أتحب زوجتك كثيرا أيها الفتى؟ قال: نعم يا سيدي كما أحب حياتي، فأطرق برأسه هنيهة وظل يقول في نفسه: إنه يستعدي عطف الناس ورحمتهم على جوع زوجته وطواها، والناس لا يعطفون، ولو عقل لعلم أنه يسألهم حقا من حقوقه المقدسة لا يعترضه من دونه معترضا إلا استحل دمه ومشى على جثته إليه، فلا جريمة في الدنيا أكبر من أن يرى الإنسان المرأة التي يحبها تموت بين يديه جوعا فلا يفعل شيئا أكثر من أن يغمض عينيها ويسجيها بثوبها، ثم يجلس بجانب سريرها يبكيها ويندبها، ومد يده إلى جيبه فأخرج كل ما كان معه من المال فأعطاه الفتى صامتا، ومشى في طريقه وهو يقول: لقد أنقذتهما من مخالب الجوع بضعة أيام، وأسأل الله أن يقيض لهما من يتولى شأنهما بعد ذلك.
وكذلك عاد «استيفن» إلى مأواه وهو لا يملك من متاع الدنيا حتى قوت يومه. (35) من ماجدولين إلى استيفن
مرت بي اليوم صديقتي «سوزان» وهي عائدة من مصيفها إلى «كوبلانس»، فاغتبطت اغتباطا عظيما، وتمنيت أن لو كنت حاضرا بيننا لتراها، فترى أجمل الفتيات وجها، وأرقهن شمائل، وأعذبهن حديثا، وأجمعهن لأفضل الصفات وأكرمها، فهي تنطق بلغات كثيرة، وتحسن الرسم والتصوير، وتوقع على جميع أنواع الأوتار، وتغني غناء ساحرا فتانا، ولها ثغر وضاء لا يفارقه الابتسام لحظة واحدة، ولا يطربها في الحياة شيء مثل مناظر اللهو واللعب، ولا يعجبها حديث مثل حديث المحافل والمراقص، وقد أصبحت مفتتنة بها لا أكاد أصبر عنها لحظة واحدة، ورجائي إليك يا «استيفن» أن تحبها كما أحبها، وأن تتودد إليها كثيرا يوم تراها.
لم يبق في الصحيفة موضع أكتب إليك فيه شيئا سوى أن أقول لك: «إني أحبك.» (36) من استيفن إلى ماجدولين
Shafi da ba'a sani ba