قد أحزنني كثيرا ما تكابدينه من الآلام والأحزان من أجلي، ولو كشف لك من أمر نفسك ما كشف لي منها لعرفت أنك أسعد مني حظا، وأروح بالا؛ لأنك تعيشين في المواطن التي شهدت سعادتنا وهناءنا، والتي نبتت في تربتها آمالنا وأحلامنا، فكل ما حولك يذكرك بحبك، وأيام سعادتك، أما أنا فكل ما حولي غريب عني، أنكره ولا أكاد أعرفه، كأنما هو مؤتمر بي أن ينتزع مني ذكرى تلك الأيام الجميلة التي قضيتها بجانبك، وهي كل ما أصبحت أملكه من بعدك.
سأكون شجاعا كما أمرت يا ماجدولين، وسأبذل جهدي في تذليل كل عقبة تقف في طريق سعادتي بك، فاكتبي إلي كثيرا، وحدثيني عن كل ما يحيط بك من الأشياء، وما يعرض لك من الشئون صغيرها وكبيرها؛ لأجد على البعد عنك لذة القرب منك، واجعلي حبك عونا لي على مقاصدي وآمالي، فحبك هو الذي يحييني، وهو الذي من أجله أعيش وأبقى. (29) حفلة رقص
أقام والد «استيفن» في بيته حفلة راقصة، وأمر ولده أن يشهدها، ولم يكن قد شهد حفلة رقص قبل اليوم، فأذعن على كره منه، فلما اجتمع الجميع وماجت قاعة الرقص بالراقصين والراقصات وقف «استيفن» موقف الحيرة والخجل أمام هذه المناظر المدهشة الغريبة، لا يدري ماذا يفعل، وأي سبيل يأخذ؟ وخيل إليه أن هناك قانونا موضوعا للحركات والسكنات والجيئات والروحات، وأن من أغفل حرفا واحدا من حروف ذلك القانون أخذته العيون، ودارت به الأنظار، ورنت حوله ضحكات الهزء والسخرية، وكان لا بد له من أن يخرج من موقفه هذا إلى أية حالة من الحالات، كيفما كان شأنها، فلمح على البعد شمعة يتضاءل نورها بين الشموع المحيطة بها، فخطر له أن يتلهى بإصلاح ذبالتها، فمشى إليها يتخبل في ثيابه تخبلا؛ لأنها لم تكن ثيابه، بل ثياب بعض أقربائه أعاره إياها هذه الساعات من الليل وصاحبها أطول منه قامة، وأضخم جسما، فلما داناها رأى أن ذبالتها قد التوت على نفسها فطالت واسودت وغرقت في الدهن المحيط بها، فبدا له أن يقرض أعلاها ليصفو أسفلها ثم يمسح الدهن السائر حولها، فما هو إلا أن مد يده بالمقراض إليها حتى انطفأت وتطاير دهنها إلى ثوبه فانتشر في أنحائه، فجمد في مكانه جمود المقراض في يده، واستحال إلى تمثال مضحك ماثل بين أعمدة الشموع، لا يستطيع أن ينقل قدميه حياء وخجلا، فوقع ما كان يخافه، وعقدت حوله الأنظار نطاقا، ومشت البسمات والغمزات في الأفواه والعيون، ومر به في موقفه هذا أحد الظرفاء المتأنقين - وكان لا يعرفه - فأسر في أذنه: «أما تعلم يا سيدي أن إصلاح الشموع في الحفلات عمل غير لائق؟» وسمع فتاة تقول لصاحبتها وقد وقفتا به: «ما أجمل زركشة هذا الثوب»، فأجابتها الأخرى: «إنه آخر طرز في الكرنفال.»
فلم يجد بدا من النجاة بنفسه، ففر من مكانه هاربا لا يلوي على شيء حتى دخل بعض القاعات الخالية وجلس على مقعد فيها يمسح بشفرة المقراض ما تناثر على ثوبه من الشمع، فلحق به أبوه بعد قليل وقال له: ما بقاؤك هنا وحدك يا «استيفن»؟ إن أسرة البارون قد حضرت ولا بد لك من مقابلتها والبقاء معها حتى تنصرف، فامتعض «استيفن» في نفسه وتثاقل في مكانه؛ لأنه عرف ما يراد منه، فألح عليه أبوه فأذعن، ومشى إلى مكان هؤلاء القوم فحياهم وحيا تلك الفتاة التي يريدون خطبتها له تحية جامدة لا تشبه تحية الخطباء ولا المحبين، بل لا تنقص عن تحية المتنافرين المتناكرين إلا قليلا، ثم لم يلبث أن وجد السبيل إلى الخلاص منها فانفتل من مكانه وخرج إلى فضاء الحديقة، وجلس على بعض مقاعدها ينقم على المحافل والمراقص وما ضمت بين أطرافها من رذائل وشرور ويقول: ويل لهؤلاء القوم المرائين الكاذبين، يفسقون ويزعمون أنهم يرقصون، ويقترفون صنوف السيئات والآثام ويقولون إنهم يغنون أو يطربون، ووالله ما اجتمعوا إلا ليخطف العاشق معشوقته من يد زوجها أو أخيها أو أبيها حين أعيته الوسائل إليها، أو لتفتش الزوجة التي ملت زوجها وسئمته عن عشير جديد غير مملول، أو ليلقي الأب بابنته العانس الشوهاء بين ذراعي فتى من الفتيان الأغرار يرجو أن يعميه الشغف الحاضر بها عن النظر إلى عيوبها فيقع في حبالتها، ويصبح على الرغم منه زوجا لها.
إن كانوا يريدون الغناء فلم لا يغنون إلا راقصين؟ أو الرقص فلم لا يرقص الرجل إلا مع امرأة ولا ترقص المرأة إلا مع رجل؟ ثم لا يرقصون إلا متلاصقين متماسكين، كأنهم بين جدران مخادعهم، أو وراء أستار نوافذهم وأبوابهم.
من لهذا الزوج الغبي الذي يلقي بزوجته عارية الصدر والظهر والذراعين والكتفين بين ذراعي فتى جميل ساحر يلاصقها ويخاصرها ويقلبها بين يدي شهواته ما شاء، أن تعود إليه ساعة تعود بالعقل الذي ذهبت به، وبالقلب الذي كانت تحمله بين أضالعها؟ ومن لهذا الأب الأبله المأفون الذي يتبرم بابنته ويستثقل مكانها منه فيقذف بها بين مخالب هذه الوحوش المفترسة، ألا تعود إليه بعد قليل حاملة مع همها الأول همين آخرين: عارا على رأسها، وجنينا في أحشائها؟
إنهم يقودون على أنفسهم من حيث لا يشعرون، ويمزقون أعراضهم بأيديهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولم يزل يهتف في نفسه بأمثال هذه التصورات الغريبة حتى انصرف الناس، فلم يحضر انصرافهم كما لم يحضر اجتماعهم، وكان أبوه قد أشار إلى جماعة من أهل بيته وخاصة أصدقائه أن يتخلفوا، ففعلوا، فلما خلا بهم المكان دعا «استيفن» أمامهم وقال له على مشهد منهم: قد كنت دعوتك إلى مصاهرة هذه الأسرة منذ عام ودللتك على مكان الخير لك في هذه الصفقة الرابحة، فأبيت واستعصيت وفررت مني راكبا رأسك إلى حيث لا أعلم لك مذهبا، فلما عدت في هذه المرة ظننت أنك قد أذعنت وأصحبت وفهمت معنى الحياة كما يفهمها الناس جميعا فجئت تطلبها من الطريق التي يطلبونها منه، فأقمت هذه الحفلة الراقصة، وأنفقت في سبيلها ما لا طاقة لي باحتماله، لا أريد بها إلا أن تكون موضع الصلة بينك وبين تلك الفتاة التي اخترتها لك، والخطوة الأولى إلى خطبتها، فأبيت إلا تمردا وعنادا، كأنما ظننت أنني باق لك بقاء الدهر، أكفلك وأقوتك، أو خيل إليك أن هذا العلم الذي تدل به وتعتز بمكانك منه منجم من مناجم الذهب يخرج لك ما يقوتك اليوم ويقوت من وراءك من بنيك وأهل بيتك غدا، فإن كان هذا ما ذهبت إليه فاعلم أن ثروتي لا تتسع لأكثر من أيام حياتي، ولا تتسع في حياتي لأكثر من الإنفاق عليك طفلا وغلاما وفتى، ثم أنت وشأنك بعد ذلك، وأن هذه الفنون الأدبية التي هي كل ما تملك يدك في هذه الحياة ما صلحت أن تكون في زمن من الأزمان وسيلة من وسائل الرزق، ولا سببا من أسباب العيش، ولن تكون كذلك أبد الدهر؛ لأن السعادة حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها من طريق الخيال، فإن أردت لنفسك الخير فدونك الرأي الذي رأيته لك - وأنت أعلم به، أو لا؛ فدونك الأرض الفضاء فامش في مناكبها ما شئت، واطلب لنفسك الرزق من الوجه الذي تعرفه، فقد أصبح وجودك في منزلي على حالتك هذه من البطالة والفراغ عارا علي وعلى أهلك بل عارا على نفسك إن كنت من الشاعرين!
ثم التفت إلى القوم وقال لهم: ها أنا ذا قد أشهدتكم عليه، وبرئت إليه وإليكم وإلى الله من ذنبه، فلا معتبة علي بعد اليوم.
فقال أحد أقربائه: «إني لم أر في حياتي جنونا مثل هذا الجنون.»
Shafi da ba'a sani ba