واعلم -أدام الله توفيقك- أن الأئمة الماضين، والسلف المتقدمين، لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه، ولا انقطاعا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة، وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من محنتها وفتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها: غنى ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة قد أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله، وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا بهم، ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنا فيه وخدعة من الشيطان، والله المستعان.
فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم إن أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟!
قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول، والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المنعوجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.
ثم ذكر أبو سليمان الخطابي بيان معرفة الصانع وإثبات توحيده من الطريق الذي ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين. كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
Shafi 85