الموحدون
وكان من أكبر الدول التي نجحت باسم المهدي أيضا في المغرب دول الموحدين، وزعيمهم محمد بن تومرت وهو شيعي أيضا من نسل علي بن أبي طالب، وقد رحل إلى المشرق، وتلقى علومه بالعراق، ولقي هناك الغزالي والكيا الهراسي والطرطوشي وغيرهم، وأخذ عنهم الحديث وأصول الفقه والدين. والحق أنه كان ورعا ناسكا متمسكا بالدين شديد الغيرة عليه منكرا للخارجين على الدين في شدة وحماسة؛ لذلك كان في كل بلدة يحل بها تؤخذ عليه هذه الشدة، ويتعرض للأذى ويتحمله في صبر. كان ذلك في مكة وفي مصر حتى طردوه منها، فخرج إلى المغرب ولم يدع هذه الشدة حتى وهو في السفينة، فألزم أهلها بإقامة الصلاة في أوقاتها وقراءة أحزاب من القرآن، ثم نزل بلدة «المهدية» حيث يقيم حزبه الشيعي، ونزل في مسجد مغلق على الطريق، فكان ينظر من النافذة فإذا رأى منكرا بين المارة نهى عنه. وادعى أن عنده نسخة من كتاب «الجفر» وأن رجلا سيظهر في بلد حروفه «ت. ي. ن. م. ل» (تينمل) وأن أكبر أصحابه رجل اسمه «ع. ب. د. ا. ل. م. و. م. ن» (عبد المؤمن) وأن أوانه قد أزف وكان من مكره أنه لقي رجلا قديرا اسمه عبد الله الونشريشي، وكان عالما فصيحا باللغة العربية والبربرية، فصحبه وأوعز إليه ابن تومرت أن يتغابى ويتجاهل، حتى إذا جاء الوقت أوعز إليه بالفصاحة والعلم، وادعى شيخه أن هذه إحدى معجزاته ... فكان ذلك ... وصحبه ... وذهب إلى أقصى المغرب، وتحدث في تغيير الدولة مع خاصته، فنصح الملك وزيره بأن يحتاط للأمر قبل استفحاله، وأن لا يستكثر اليوم ما ينفق؛ لأنه إن أبطأ لم تقاومه الأموال كلها، وأنكر ابن تومرت على الملك أن الخمرة تباع جهارا، وتمشي الخنازير بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى فنصحه أصحابه بالالتجاء إلى جبل في بلدة قريبة، فسألهم عن اسمها فقالوا: الاسم الذي رآه في الجفر، وما زال يبث في أهل الجبل الخروج والتسلح حتى آمنوا به، واستطاع أن يجهز جيشا عدده عشرة آلاف رجل مزودين بالسلاح، وقد كسر أصحابه أول الأمر كسرة مشينة، فطيب خاطرهم، وقال لهم: إن الحرب سجال ورسول الله كان ينتصر وينهزم، وأن العاقبة للمتقين ثم أعادوا الكرة فانتصروا.
وكان من ألاعيبه أن استنطق رجلا من أهل الجبل فسأله: عرفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت فإنك المهدي القائم بأمر الله ومن تبعك سعد، ومن خالفك هلك، ثم عرض أصحابه على هذا الرجل، وطلب إليه أن يميز أهل الجنة من أهل النار، وكان قد اتفق معه على أن يجعل أعداءه من أهل النار فيتخلص منهم ...
على كل حال مات هذا المهدي قبل أن ينتصر، وخلفه عبد المؤمن وكان أحسن حظا من شيخه. فتح كثيرا من بلاد المغرب والأندلس، وكان من نتيجة ذلك دولة الموحدين المشهورين في تاريخ الأندلس، فكانت هذه مملكة عظمى من بركات المهدي المنتظر، تشمل المغرب كله إلى حدود مصر والأندلس، وكانت أيضا دولة شيعية عظيمة تستند على فكرة المهدي. ولكن الحق يقال: إن التشيع دائما ينصر الفلسفة أكثر مما ينصرها السنيون، ولعل ذلك لفكرة أن التشيع مبني على تأويل الظاهر إلى معاني باطنة. وعلى إدراك معان عميقة بنيت عليها الدعوة الشيعية. فالفلسفة أنسب لها. فالحضارة العظيمة والفلسفة العميقة التي أينعت في العهد الفاطمي والشيعي، ومنها رسائل إخوان الصفاء ونحوها في المشرق كانت نتاج التشيع.
وكذلك في عهد الموحدين أينع الفيلسوفان العظيمان ابن طفيل وابن رشد. فقد حلت الفلسفة في الأندلس. وكانت من قبل ذلك محرمة، أما ابن طفيل فكان صبيا في غرناطة. ثم عين سكرتيرا لعامل غرناطة قبل الموحدين، وهو الذي أخرج القصة البديعة المشهورة المسماة «حي بن يقظان»، وخلاصتها أن حيا هذا ولد يتما في جزيرة خالية من الناس ولكنه منح عقلا فاحصا، فاتصل بالطبيعة، وأخذ يفهمها شيئا فشيئا من غير تعليم. وقد استطاع بعقله وحده أن يفهم من الطبيعة أسرارها، وأنه لا يمكن أن تكون من غير صانع، فلا بد أن يكون هناك إله ذو صفات خاصة ينظمها ويدبرها، ثم التقى في إحدى الجزر برجل مؤمن تعلم على أحد الصالحين علم الأنبياء، فرأى حي أن تعاليمه التي اهتدى إليها بفكرته وطبيعته، تنفق وتعاليم هذا الرجل الذي تعلم عن طريق الدين. وخلاصة ذلك أن نتيجة كل من الشرع والعقل واحدة. وأن الشرع لا ينافي العقل، ويتخلل القصة نظرات كثيرة دقيقة صائبة. وقد نقل الكتاب على العبرية بعد مائتي عام من ظهوره. ثم نقل إلى أكثر اللغات الغربية، وخلفه بعد ذلك في منصبه كطبيب ابن رشد الفيلسوف الشهير. ولكن قوله: بقدم العالم كرأي أرسطو أقام عليه الفقهاء فحماه أمير المؤمنين بادئ الأمر، ولكنه اضطر أن يتخلى عنه أخيرا إرضاء للرأي العام، فنفاه بعد أن امتحنه محنة مؤلمة، وأحرق مؤلفاته ما عدا كتبه الطبية والرياضية، ولكن ابن رشيد سرعان ما توفي.
على كل حال كانت دولة الفاطميين ودولة الموحدين دولتين شيعيتين تدينان بفكرة المهدي، وتعاقبت بعد ذلك على مدى الأزمان فكرة المهدي هذا تظهر من حين إلى حين.
ومن غريب الأمر أن المنصور بن أبي عامر الحاجب لما تغلب على الأمويين، وحل محلهم حكم البلاد حكما طيبا، وقاتل أعداء الإسلام شديدا ...
ولما مات خلفه ابناه أحدهما اسمه عبد الرحمن، فتلقب بالمهدي، ولكن خرج عليه محمد بن هشام الأموي وتلقب بالمهدي أيضا، فكان مهدي يحارب مهديا، وقد أسرف محمد بن هشام هذا في قتل الخصوم حتى اتخذ من رءوسهم أصصا يغرس فيها النباتات على اختلافها، وكان يعتق النبيذ في قصره، ويشربه حتى سموه نباذا.
ولما ذهب الموحدون والمرابطون وانتصر الأسبانيون على المسلمين، ولم يبق للمسلمين إلا بقعة صغيرة في الأندلس كان ملوك بني الأحمر يتطلعون إلى مهدي منتظر يقويهم على الأسبان، ويطردهم منها لما عجزوا أنفسهم عن طردهم.
وبتوالي الأزمان كثرت الأحاديث عن المهدية والمهدي. ومن قديم رأى الناس نجاح هذه الفكرة. فالأمويون اخترعوا مهديا اسمه السفياني، وقال صاحب الأغاني: «إن خالد بن يزيد بن معاوية زاد في أخبار السفياني وكبره»، وكان فيه معنى المهدي المنتظر، وبقيت هذه العقيدة في السفياني على الدولة العباسية. والعباسيون أحبوا فكرة المهدي أيضا، ولكن جعلوها في البيت العباسي لا العلوي.
Shafi da ba'a sani ba