ولا نقول: إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا؛ ولكنا نقول: إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة، والأمم تدل على فضلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق، وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطي جماد، والنبات يأخذ ويعطي قليلا، وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم، يصح الاعتبار، ويطرد القياس .
تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكينا في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان، ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل، وتخلي لها سبيلها في الحياة، وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعي بين الأمم مشكور، لا ينكره إلا من ضل به الهوى، أو جار به الحسد.
وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم، ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل، دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق، ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيرا للبشر، وسلاما للناس أجمعين.
ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة، أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة والإحساس المرهف والإدراك النافذ لغة كاملة معجبة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظا غير ما وضعته لشبيهه، إدراكا للفرق الدقيق بينهما. فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلا كلمة واحدة، وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم، وإذا دلت اللغات على صفات الوجه الإنساني مثلا بكلمات مركبة لكل صفة، دلت العربية على كل حلية في الإنسان، وكل صفة في عينيه وحاجبه وأنفه وفمه وأسنانه وغيرها بأسماء خاصة، وليس هذا مقام التمثيل والتفصيل.
ثم هذا الإحساس الدقيق المتمثل في المفردات يتجلى في التركيب مدهشا؛ فكل كلمة لها في الجملة مكانة يحس بها المتكلم، أو تحس بها الكلمة نفسها، فتعطي أو تأخذ صوتا مكافئا لهذه المكانة، فالكلمة الأصيلة لها أقوى الأصوات وهو الضم، والأخريات لها الفتح والجر. وما أرى هذا إلا ضربا من الحياة في الألفاظ والتركيب، يبين عن أدق الإحساس وألطفه.
وإذا اشتملت اللغات على كلمات هي مادتها، ففي اللغة العربية مادة وقوالب يستعملها صاحبها حين الحاجة ، فيها مادة ووزن، فخذ المادة أو اخلقها أو استعرها من لغة أخرى، ثم صبها في قالب من قوالب الأسماء والأفعال، وصورها بالقوالب أو الأوزان ما تشاء، فلغتنا تدل بالمادة والوزن، وبالصيغة والهيئة، فمن سمع فاعلا أو مفعولا أدرك أن هذا الوزن في حركاته وسكناته له معنى يلازمه في المواد كلها. وبهذا امتازت اللغة واستبانت خصائصها، حتى نفت عن نفسها كل كلمة أجنبية ما لم تخضع لأوزانها وقوانينها؛ للأسماء أوزان وللأفعال أوزان، فما لا تزنه هذه الأوزان فهو أجنبي؛ وبهذا بقيت على الدهر المتطاول خالصة نقية، صحيحة قوية.
قيل: إن لغتنا صعبة بهذه المفردات وبهذه التراكيب والأوزان، وإنها تكاد تأبى على دارسها وتعجز طالبها، وهذا حق لا ندفعه، وإن عد عيبا فلا ننكره، ولكنه ليس من نقصان في خلقها، أو اختلال في بنيتها، أو عجز في موادها وأوزانها، ولكنه نتيجة التطور الكامل والنمو التام، فأدنى الأشياء في هذا العالم أيسرها وأقلها تركيبا، والكمال يصحبه التركيب والتفصيل والإشكال والإعضال، اعتبر هذا في النبات والحيوان، وفي الحيوان ذي الخلية الواحدة والإنسان، ثم انظر المراتب بينهما، واعتبر هذا في البداوة والحضارة، وفي أنواع الحضارات، تجد النقص بساطة ويسرا، والكمال تركيبا وصعوبة. الكمال في هذا العالم لا ينال إلا بتطور تلده الأحقاب بعد الأحقاب، وتنوء به العزائم بعد العزائم، فلغتنا صعبة، ولكنها كاملة دقيقة مواتية، حية حساسة، موسيقية متلائمة.
وقد امتحنت هذه اللغة الحضارة الواسعة، واختبرها التاريخ الطويل، فلم تعجز ولم تعي ولم تضق بكل ما أدركه الإنسان من علم، وثقفه من صناعة؛ بل وسعت حضارة القرون المتطاولة، والأمم المختلفة، غير كارهة ولا مكرهة.
وقد أراد الله لها أن تكون لغة كتابه، وترجمان وحيه، وبلاغ رسالته، فاشتملت على العالم الحسي والعقلي مصورا في كلمات وآيات، وجوزيت على هذا خلودا ما خلد للإنسان عقل وقلب، وما استقام له إحساس وإدراك.
وتقلب الزمن، وتوالت المحن، وثارت الفتن، وهي ثابتة ناضرة رائعة، ثبات قوانين الله وروعة كواكبه. خمسة عشر قرنا محت لغات وخلقت لغات وبدلت لغات، وحرفت لغات ، والعربية هي العربية، لم تمح ولم تغير ولم تبدل، ما آية الخلود بعد هذا؟
Shafi da ba'a sani ba