هكذا يمكن القول بأن البعد اليوتوبي من أهم أبعاد الوجود الإنساني؛ لأنه يقوم على حقيقة بسيطة هي أن الإنسان بطبيعته كائن مستقبلي، يشعر في كل لحظة من لحظات حياته المتناهية أنه كائن لم يكتمل بعد، وأن عليه - على حد تعبير نيتشه - أن يصبح ما يكونه أي يحقق هويته وكيانه الأصيل الذي يتحد فيه الوجود والماهية، ويتصالح الواقع والحلم، والنهائي واللانهائي، والطبيعة والعقل، والفعل والإمكان ... ومن هنا يأتي قلقه الدائم أو قل عطشه وجوعه الذي لا يرتوي ولا يشبع أبدا! فهو يشده إلى المستقبل هربا من الحاضر أو سخطا عليه، ويدفعه إلى نقد الواقع السائد ونفيه وتجاوزه إلى واقع أفضل وأعدل وأقل تناقضيا ونقصا وكأن فيه بلغة الفلك الحديث ثقبا عدميا أسود يريد له أن يمتلئ بمستقبل «يوتوبي» يجذبه إليه، ويحاول أن يبدعه بجهده وإرادته ومعرفته، ليعانق الوحدة الكلية والسعادة المطلقة والأمل الذي لا يخيب. وما دامت هذه الوحدة السعيدة قد تعذر حتى الآن تحقيقها على الأرض، وما دام الأمل قد خاب باستمرار فليحلق إليها على أجنحة الخيال الهارب أو الساخر أو الجاد. (22) «لا يسمع فيها نعيب الغراب، ولا صرخة طائر الموت، ولا يفترس الأسد والذئب الحمل الضعيف، ولا تنوح الحمامة، ويختفي الترمل واليتم والمرض والشيخوخة والشكوى والبكاء.» (عن لوح طيني من مدينة نيبور أو نفر السومرية.) «وكانت الأرض الخصبة تقدم للبشر الفواكه الوفيرة بغير حد، وكانوا يعيشون في مزارعهم في راحة وسلام مع أشياء كثيرة طيبة، أغنياء بقطعان الماشية ومحبوبين من الآلهة المباركين.» (عن هزيود، الأعمال والأيام، 109-121.)
يشهد هذان النصان الموغلان في القدم من حضارتين مختلفتين بأن الحلم ب «الحالة اليوتوبية» قد خفق في صدر الإنسان منذ البداية (1)؛ فالنص الأول يرجع للسومريين الذين تصوروا الجنة التي يصفها اللوح المذكور في مكان مطل على الخليج العربي - ربما يكون هو البحرين الحالية - سموه ديلمون أو تيلمون . والثاني يعبر عن حنين شاعر الرعاة والفلاحين البسطاء في بلاد الإغريق في العصر الملحمي والبطولي (عاش في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد) إلى ماض ذهبي فقد إلى الأبد ويصعب أن يستعاد، وكلاهما يوحي بالدلالة المباشرة التي كانت ولا تزال تفهم من كلمة اليوتوبي، وهي الحالة الأولية لنظام أو تجمع بشري يفضل أي نظام سائد وتتمثل فيه الحياة الطيبة المتجانسة، ويرفرف عليه السلام والسعادة والعدل، والخير والبساطة والتناغم مع الطبيعة. وإذا جاز لنا أن نطلق كلمة النظام على مثل هذا التجمع البدائي البسيط فلا بد أنه كان ينطوي على أحد معاني اليوتوبيا، وهو التحرر من أسباب الشر والجشع والتنازع والظلم (كالصراع على الملكية والسلطة والقوة وسائر الصراعات المقترنة بالتطور المدني والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي والديني ... إلخ). ولا بد أنه كان في نفس الوقت هو الصورة المضادة للنظام الذي عاش فيه كل من تخيل أو كتب اليوتوبيا بأنواعها وصيغها المختلفة، وعبر عن سخطه على ذلك النظام وتحسره على الحياة السعيدة التي ذهبت ولن تعود، وتعبير الشاعر هزيود لا يقتصر على تقييم العصور الكونية حسب قيمة المعادن إلى عصور ذهبية وفضية وبرونزية وحديدية، إنما يضيف صراحة أنه يعيش في أسوئها طرا وهو عصر الحديد الذي لمس فيه بوادر التحلل والسقوط والانهيار. وتنبأ باستفحال ظواهرها التي يبدو أنه عانى منها أشد المعاناة كالكذب والغرور والعنف والعدوان وخيانة العهود وفقدان الاحترام للحق والقانون وغياب كل إحساس بالخشوع والإجلال، وكأنما كان ينفذ بحدسه الصائب إلى عصرنا وحياتنا ومدننا اليوم! ولذلك لا نعجب إذا سمعناه يقول: «ليتني ما عشت مع هؤلاء الناس!» (الأعمال والأيام، 5-174) بل إن تشاؤمه ليصل إلى حد التنبؤ بإهلاك زيوس لهؤلاء البشر الذين لا يستحقون العيش على أرضه، وذلك قبل أن يبلغ هذا التشاؤم ذروته الفاجعة في القرن الخامس بقول سوفوكليس على لسان الجوقة في أوديب (البيت 1224): «أفضل شيء أن لا تولد أبدا، وإذا أنت ولدت فعد وبأسرع وقت من حيث أتيت!» (2). (23) لا شك أن برشت الذي تفتحت عيناه في إحدى مدن الغابة السوداء في الجنوب الألماني - كان أبوه برجوازيا مدير مصنع للورق في مدينة أوجسبورج - قد عرف المدينة الفاسدة والساقطة وعانى ما عانى من اضطراب علاقاتها وظلم أهلها قبل أن يرسم خطوطها وملامحها على هذه الصورة في ماهاجوني وغيرها من أوبراته ومسرحياته في الثلاثينيات. ولذلك تبرأ من طبقته وعاش حياة التشرد الفوضوي في أحياء الفقراء والمغنين المتجولين، وصادق الأفاقين واللصوص والملاكمين والعاطلين وبؤساء الشعراء والفنانين. ولم تمر هذه المرحلة التعبيرية في حياته وفنه إلا بعد أن استقرت في نفسه تلك الصورة السوداء، وأخذ في المرحلة التعليمية التي تلتها في إعلان الحرب على المدينة الرأسمالية الظالمة؛ على نحو ما رأينا قبل أن يقترب في مرحلته الناضجة والأخيرة من اليوتوبيا التي لم يقدم لها - بقدر علمي - تصورا واضحا متكاملا وإن كان قد أحال إليها بطريقة ضمنية كما ذكرت من قبل. في خضم هذه الحياة المضطربة اضطرته نذر النازية وجحافلها الزاحفة في أوائل الأربعينيات إلى مغادرة بلاده والتشرد في منفاه من مدينة إلى مدينة، حتى رست به سفينة الضياع على شواطئ كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية التي جرب فيها مع بعض أصدقائه المقربين (ومنهم بلوخ الذي سبق ذكره) مرارة البؤس والضنك وعاش شبه مجهول ومتجاهل من الحياة الثقافية والفنية، ومطاردا من زبانية المباحث المكارثية، متهما بتهمة الشيوعية التي جرته من محاكمة إلى محاكمة.
ولما انتهت الحرب واستدعته الجمهورية الاشتراكية الجديدة ووعدته بمسرح خاص بفرقته وهو مسرح البرليزنر أنسيمبل أو فرقة برلين عند الشفباور دام، أسرع إليها من منفاه في الولايات المتحدة، ووضع فنه وجهده في خدمة الأيديولوجية التي طالما دعا إليها وروج لها. ويضيق المقام عن ذكر المضايقات التي تعرض لها بعد ذلك من الحزب وأجهزته - كالتدخل في عمل المسرح، ومنع بعض عروضه التي كانت غالبيتها من تأليفه - ولا يتسع كذلك للكلام عن علاقته بالنظام المتشدد وحكومته. ويكفي أن نقول إن سخطه عليه قد بلغ أقصاه بعد قيام التمرد الشعبي المشهور - الذي سحقته الدبابات الروسية - ضد هذا النظام في شهر يونيو سنة 1953م، إذ يقال إنه كتب رسالة طويلة إلى زعيم الحزب ورأس الدولة آنذاك - وهو ألبرشت - يقول له فيها عبارته المشهورة: «إذا كان هذا الشعب لا يعجبكم، فابحثوا عن شعب آخر تحكمونه.»
10
ولا بد أن نزعته العدمية قد غلبت عليه في سنواته الأخيرة بوجه خاص، وهي السنوات التي قضاها تحت سقف «اليوتوبيا» وجنة العمال والفلاحين التي ظهرت له في صورة مختلفة عن الصورة التي رسمها في خياله أو في أعماله، وإن لم يتخل أبدا عن الحلم بها والدعوة إليها حتى آخر أنفاسه. ولا بد أيضا أن هذه العدمية المتأصلة هي التي جعلته يكتب بكائيته الشهيرة التي رثى فيها نفسه وجيله كما نعى مدن البشر التي لن تسلم من السقوط، وأقصد بها قصيدته عن ب. ب؛ أي برت برشت المسكين:
أقمنا، ونحن جنس طائش،
في بيوت حسبناها بمنجى من الخراب.
وهكذا بنينا صفوف العمائر الشاهقة في جزيرة مانهاتن،
ورفعنا الهوائيات النحيلة التي تداعب المحيط الأطلنطي.
لن يبقى من هذه المدن
Shafi da ba'a sani ba