ويقف الجميع تحية للحطاب البسيط باول، ويتقدمون نحوه - بعد خلع قبعاتهم - ليقدموا إليه تهانيهم الحارة، وتتراجع الأرملة، وهي العقل المدبر للمدينة والرمز المجسد للعقلية الرأسمالية، عن القوانين والأوامر التي أصدرتها بمنع الضحك والأغاني الخليعة في ليلة الإعصار، وذلك بعد أن «يرش» عليها أوراق البنكنوت التي أخرجها من جيبه كما يخرج الساحر الكتاكيت! بل يصل بها الأمر إلى حد مخاطبة الجميع قائلة: «افعلوا ما تشتهون، كل ما يحلو لكم، طالما الإعصار آت بالخراب كل شيء مستباح يا صحاب.» وهكذا يصبح كل شيء مباحا في المدينة، ويتحول الإنسان إلى إعصار لمواجهة الإعصار، ويغني الحطابون الأربعة لمجرد أن الغناء ممنوع أو مكروه في ليلة الخطر التي يليق بها الصمت والخشوع. ويتقمص الحطاب الذي اكتسب قوانين السعادة البشرية مسوح القسيس، ويلقي موعظة طويلة من إنجيل الفردية العاتية التي بشر بها: «كما يوسد الإنسان نفسه ينام، ولن يغطيك سواك، لن يقيك لفح البرد والظلام، كلما داس أحد، فأنا ذاك الهمام، وإذا ديس أحد، فهو أنت في الرغام.» ويظل يهتف بالناس أن يرتكبوا كل محرم قبل أن يرتكبه الإعصار. ولكن الإعصار يتجنب المدينة في اللحظة الأخيرة. ومن هذه اللحظة أيضا يصبح شعار المدينة هو كلمة «مباح» التي تعبر عن مضمونها الأغنية التي يغنيها الجوقة: «تذكروا تذكروا، في البدء يأتي الأكل والطعام، وثانيا العشق والغرام، تتلوهما الملاكمة، والشرب طبق العقد، والملاكمة، وقبل كل شيء والمهم يا رجال، تأكدوا على الدوام واذكروا في كل حال، هنا يباح كل شيء، كل شيء ها هنا حلال.» (11) ويمر العام على المدينة فتزداد تجارتها ازدهارا، ويقبل الناس على متع الأكل والحب ومباريات الملاكمة، وتتعاقب المشاهد الأربعة التالية لتبين لنا كيف يقبل الرجال والنساء على المتع المتاحة في هذه المدينة الملعونة دون غيرها من المدن الفقيرة المحرومة؛ ففي المشهد الأول يموت ياكوب النهم بعد أن يلتهم عجلا بأكمله! وفي المشهد الثاني نستمع إلى حوار بين جيني وباول نفهم منه أن الحب يشترى ويباع مثل أي سلعة أخرى. وتمر الجماهير المنطلقة كالوحوش لتعلن الحريات الأربع التي سبق أن أكدها الحطاب باول أكرمان في موعظته، ومنها يتضح أن الإنسان يمكنه أن يفعل ما يشاء بشرط واحد هو أن يكون لديه المال الكافي للشراء، ويأتي المشهد الثالث ليعرض علينا مباراة الملاكمة التي تدور بين موسى العتل الضخم - ذي الأقانيم الثلاثة كما تسميه المسرحية - وجو الضعيف الهزيل الذي سمته ذئب ألاسكا، وهي مباراة يراهن فيها المتفرجون على الفائز كما في كل المباريات، ويسأل جو أصدقاءه أن يراهنوا عليه، ولكن الأصدقاء - باستثناء باول - يرفضون تضييع أموالهم في مباراة غير متكافئة على الرغم من استعطافه لهم بحق ذكريات البرد والكد والعذاب المشترك أثناء وجودهم في صقيع ألاسكا. وتنتهي المباراة - كما هو متوقع لها - بموت ذئب ألاسكا بضربة قاضية وخاطفة. ويعرض علينا المشهد الرابع كيف تصيب الحطاب البسيط باول أكرمان نوبة كرم مفاجئة تجعله يدعو الجميع إلى الشراب على حسابه، بعد أن رأى كيف يسقط الإنسان في لحظة واحدة كما حدث لصديقه جو. وتدور الكئوس على رجال ماهاجوني الذين رحبوا بالدعوة وأخذوا يغنون: «في البر والبحر، يسلخ جلد الناس، يعرضه النخاس، بباهظ السعر، لأجل هذا يجلسون طول الليل والنهار، ويعرضون جلدهم للعابرين والتجار، لأن جلدهم بضاعة توزن بالدولار!»
لكن الأرملة المتيقظة لتجارتها لا يعجبها الحال، فتقطع أغنية الجلود قائلة: «والآن ادفعوا الحساب يا سادتي!» غير أن باول لا يملك شيئا، ويستنجد بحبيبته جيني لتسعفه بالمال أو تهرب معه إلى أي مكان. ويحاولان أن يصرفا الأنظار عن ورطتهما، فيصعدان فوق مائدة البليارد مع صديقهما هنيريش ويمثلون أمام الجميع رحلة بحرية تحاصرها الرياح والأمواج المضطربة والسحب السوداء في طريقهم عبر المحيط إلى ألاسكا، ويستمتع الجمهور باللعبة ولكنه ينفض عنها عندما يفاجئ موسى كالوحش قبطان الرحلة ويطالبه بدفع الحساب. ويفتش باول في جيوبه فلا يجد شيئا، وتطلب الأرملة من هينريش وجيني أن يمدا له يديهما، فينصرف الأول صامتا، وتسخر الثانية من الطلب الغريب مؤكدة استحالته بأغنية طويلة عن العبر التي استفادتها من حياتها القاسية التي علمتها أن الإنسان العاقل يختلف عن الحيوان، وأنه كما يوسد الإنسان نفسه ينام، ولن يغطيك سواك، لن يقيك لسع البرد والظلام، وأن الحب شيء رائع ولكنه لا ينفع ولا يدفئ ولا يطعم الجوف عندما يعمر المرء ويشيب شعره.
ويقيد باول تمهيدا لمحاكمته، ويهتف موسى الضخم بمن بقي من الحاضرين: «مرحى يا ناس، رجل لا يملك أن يدفع ثمن الكاس، قحة وغباء ورذيلة، والأسوأ منها الإفلاس.» ثم يقول لهم وهو يصرفهم: «بالطبع جزاء الرجل الشنق، وحكم القانون الموت.» (12) ويقدم باول إلى محكمة ليست أسوأ من غيرها، ويتولى موسى مهمة المدعي، وتجلس الأرملة على منصة القضاء، ويقوم فيللي بالدفاع. وتعرض في البداية قضية رجل ثري متهم بالقتل العمد. ويتحمس موسى في بيان التهم الفظيعة في حق الإنسانية، ولكنه يختم مرافعته بطلب البراءة بعد أن أفهم المتهم القاضية بالإشارة أنه سيدفع للمحكمة رشوة ضخمة. وإذ تسأل المحكمة عن الأضرار التي أصابت المجني عليه فلا يستطيع المقتول أن يجيب على السؤال، تعلن المحكمة براءة المتهم. ثم تنتظر قضية باول وتوجه إليه تهمة الامتناع عن دفع الحساب. وتعلن الأرملة ومعها موسى وفيللي أنهم هم المجني عليهم. وتعرض على هيئة المحكمة تهم أخرى سبقت تهمته الأخيرة، فهو يستحق الحبس يومين بتهمة القتل غير المباشر لصديقه ذئب ألاسكا في حلبة الملاكمة، كما يستحق الحرمان من شرفه لمدة سنتين بسبب الإزعاج الذي سببه في ليلة الإعصار، والسجن أربع سنوات مع وقف التنفيذ لإفساده الفتاة جيني، وعشر سنوات لإنشاده أغاني ممنوعة في ليلة الإعصار الرهيبة، أما العجز عن دفع الحساب فهي تهمته الكبرى التي يستحق عليها الموت كما ينطق بذلك ضمير الرأسمالية على لسان القاضية: «ولأنك ترفض أن تدفع، ثمن ثلاث زجاجات، حكم عليك حضوريا بالإعدام.» ويؤمن أعمدة الرأسمالية الأربعة الذين تولوا المحاكمة على كلامها بقولهم: «بسبب الفقر، أعظم جرم يرتكب على ظهر الأرض، وفي البر أو البحر.» (13) وتأتي اللوحة التاسعة عشرة لتعرض علينا تنفيذ الحكم بالإعدام، ويقرر برشت في عنوان اللوحة أن القراء أو المشاهدين قد يستنكرون إعدام باول أكرمان، ولكن لم يكونوا ليقبلوا دفع الحساب عنه، فإلى هذا الحد بلغ احترام المال في عصرنا، ويبدأ المشهد بوداع مؤثر بين باول وجيني يؤكد فيه كل منهما أنه أمضى مع صاحبه أياما جميلة. ويتجه باول مع صديقه الوحيد هينريش إلى مكان التنفيذ بينما تمر بهم جوقة الرجال التي تعيد أغنيتها عن الحريات الأربع في المدينة: تذكروا، في البدء يأتي الأكل والطعام، وثانيا العشق والغرام ... إلى آخر الأبيات التي سمعناها من قبل. ويسأل باول في دهشة إن كانوا سيعدمونه حقا، فتطفئ التاجرة-القاضية دهشته بكلماتها الباردة: «بالطبع! هذا أمر معتاد.» ويسأل باول: «أفلا تخشون الله؟!»
فيجيبونه على سؤاله بتمثيل مشهد عن إله أسطوري هبط إلى ماهاجوني، وذلك بعد أن يأمروه بالجلوس على الكرسي الكهربائي.
ويبدأ أربعة رجال في تمثيل المشهد الذي يحكي كيف هبط ذلك الإله الأسطوري إلى ماهاجوني ليكتشف بنفسه جرائمهم ويصب لعنته عليهم، ثم يأمرهم بأن يسبقوه إلى الجحيم فيرفضون الذهاب معه لسبب بسيط، وهو أن حياتهم على الأرض كانت جحيما في جحيم: «حذار يا أصحاب، لا تنقلوا قدما، وغلقوا الأبواب، وأعلنوا الإضراب، والثورة العظمى، لا لن تجر أحدا من شعره إلى الجحيم؛ لأننا عشنا الحياة في العذاب والجحيم!» وينتهي تمثيل المشهد باكتشاف باول أكرمان الحقيقة التي غابت عنه. فعندما جاء إلى هذه المدينة ليشتري السعادة بالمال، كان قد أصدر قرار سقوطه بنفسه وختمه بخاتمه. وها هو ذا يجلس على الكرسي الكهربائي وهو فارغ من كل شيء، أو كأنه الفراغ نفسه. كان يقول إن من حق كل إنسان أن يقتطع اللحم الذي يعجبه بالسكين التي تعجبه. لكن اللحم كان فاسدا، والسعادة التي اشتراها كانت أبعد ما تكون عن السعادة، والحرية من أجل الكسب والربح هي العبودية ذاتها، شرب فازداد عطشا، وأحب ولم يزده الحب إلى شعورا بالوحدة. وهو الآن يستجدي شربة ماء فيطوق موسى الضخم رأسه بالخوذة فجأة وهو يقول: «انتهى كل شيء!» (14) وتأتي اللوحة الأخيرة فتقرأ عنوانها: في ظل الاضطراب المتزايد، والغلاء الفاحش، وعدوان الجميع على الجميع، تظاهر الباقون على الحياة في مدينة الشباك دفاعا عن مثلهم العليا، دون أن يتعلموا، وتطالعنا في خلفية المسرح لوحات تمثل المدينة وهي تحترق. ثم تتوالى مواكب المظاهرات التي تتدافع ويختلط بعضها ببعض حتى النهاية، يمر الموكب الأول بقيادة المغامرين الثلاثة المسئولين عن صعود المدينة وسقوطها، حاملا لافتة كتب عليها: من أجل الغلاء. ولأجل صراع الكل مع الكل. لحالة الفوضى في مدننا، لاستمرار العصر الذهبي. وكل شيء في مدينة الجمال ماهاجون، وكل ما صوره الخيال من جنون، يمكنكم شراؤه بالمال؛ لأن كل شيء سلعة تباع. ويعبر المتظاهرون في الموكب التالي حاملين لافتات كتب عليها: لأجل الملكية، ولتجريد الغير من الملكية، للتوزيع العادل للخيرات العلوية، والتوزيع الظالم للخيرات الأرضية، لشراء الحب وبيعه، للفوضى الفطرية للأشياء، لاستمرار العصر الذهبي، ثم يمر الموكب الثالث بلافتات كتب عليها شعارات أخرى معبرة عن عفن النظام الرأسمالي ومبلغ فساده، لحرية الأغنياء، للشجاعة ضد العزل، لشرف القتلة، ومجد القذارة، لخلود الحقارة، واستمرار العصر الذهبي. ويرجع الموكب الأول الذي يؤكد فيه المتظاهرون أن من يملك المال يجد كل شيء في ماهاجوني؛ لأن المال هو الشيء الوحيد الذي يجب أن يتمسك به الإنسان، وكل شيء يشترى بالمال أو يباع، وليس للفقير غير الذل والضياع. ويلحق به الموكب الثالث، فلا يلبث أن يتحول إلى جنازة على الطريقة الأمريكية، ينشد فيها المتظاهرون على روح باول: «والآن لا بد من الدولار.» وغيره من أبيات مقاطع أغنية ألاباما التي رددتها الجوقة قبل ذلك كثيرا؛ ينشدونها على روح باول أكرمان وغيره من ضحايا مجتمع رأس المال الهمجي المستغل، ثم يتبع موكب الجنازة موكب خامس يحمل المتظاهرون فيه جثة باول أكرمان، وفوق رءوسهم لافتة كتب عليها: «من أجل العدالة» بينما يغنون قائلين إنهم لا يستطيعون أن يصنعوا له شيئا .
وأخيرا يأتي الموكبان السادس والسابع وفوق رءوس المتظاهرين لافتتان كتب عليهما: لأجل الغباء، ولاستمرار العصر الذهبي، بينما ينشد المغنون أغنية تؤكد مرة أخرى أنهم لا يستطيعون أن يصنعوا للميت شيئا. وتتلاحق المواكب وتختلط وتتداخل ويتصارع بعضها مع بعض ليرتفع في النهاية صوت ممدود يائس: «لن نستطيع أن نساعد أنفسنا أو نساعد أحدا ...»
4 (15) تلك هي أوبرا «ماهاجوني» التي أتم برشت كتابتها بين عامي 1928م و1929م وعرضت بصورة تجريبية في الاحتفالات الموسيقية المشهورة التي تقام في مدينة بادن-بادن، ثم رفع عنها الستار لأول مرة في شهر مارس عام 1930م في مدينة ليبزيج. ويبدو أن النجاح المثير الذي لقيته أوبرا القروش الثلاثة في سنة 1928م (وقد أعدها عن أوبرا الشحاذين للكاتب الإنجليزي جون جاي (1827م) كما لحنها كذلك صديقه الموسيقي كورت فايل) قد شجعه على مواصلة محاولاته مع «الأوبرا الملحمية» التي تصور تناقضات العادات والأخلاق والقيم السائدة، وتدفع المتفرج إلى الفعل السياسي واتخاذ موقف نقدي وثوري مما يشاهده ويسمعه، وتجمع بين العاطفية المسرفة (التي تشي بحنين رومانسي وتشاؤم عدمي لم يبرأ منهما أبدا!) والسخرية المرة المستفزة، والأغاني العدوانية والبكائية التي تذكرنا بمواويل المغنين الفقراء المتجولين - من نوع البالاد؛ أي الحكايات الشعرية أو القصائد القصصية - وبأغنيات ومرثيات الشاعر المتشرد الضائع فرانسو فيون (ولد حوالي 1431م) الذي طالما تأثر به وبمواطنه رامبو (1845-1891م) هذا العبقري الشريد ورائد التجديد في بنية الشعر الأوروبي الحديث، غير أن حظ ماهاجوني كان أسوأ من حظ القروش الثلاثة؛ فقد أثار عرضها الأول الذي أشرنا إليه فضيحة هائلة بين النقاد والمتفرجين، وقوبلت بمظاهرات الاحتجاج والاستنكار من الجمهور «البرجوازي» ردا على مواكب التظاهرات الاشتراكية والثورية التي ضجت بها اللوحة الأخيرة للأوبرا. وقد حاول برشت أن يبرر الفضيحة بقوله إن منظر ياكوب النهم - الذي مات على المسرح كما رأينا بعد افتراس عجل كامل! - كان أكثر ما أثار أعصاب الجمهور؛ لأنه أوضح بغير تعليق من المؤلف أن هناك من يموتون من التخمة، وترك للمتفرج أن يعرف بنفسه أن هناك أيضا من يموتون من الجوع. ولعل أكثر ما أشعل غضب المتفرجين من الطبقة الوسطى في الثلاثينيات من هذا القرن هي تلك اللوحة التي تبشر بالعصر الذهبي (وقد قصد به العصر الذي ينتهي فيه صراع الطبقات بانتصار الاشتراكية «العلمية» واستيلاء طبقة العمال على الحكم وعلى وسائل الإنتاج)، بالإضافة إلى الشعارات الصارخة التي تحملها مواكب المتظاهرين في نهاية العرض، وتفضح فيها جرائم الرأسمالية: من صراع الجميع ضد الجميع، والتوزيع العادل للخيرات السماوية مع التوزيع الظالم للخيرات الأرضية، والحب الذي يشترى بالمال، والفوضى الطبيعية للأشياء، وحرية الأغنياء، وشجاعة الجبناء، وشرف السفاحين، وعظمة القذارة، وخلود الحقارة، وكلها تعرب عن الأفكار والأشواق والأحلام التي كانت تضطرم في قلوب الاشتراكيين والفوضويين في ذلك العصر المضطرب، فكيف لا تثير ثائرة «البرجوازية» في المجتمع وفي السلطة الحاكمة؟ وكيف لا تغضب الرأسماليين الذين راحت تشهر بفوضى مبادئهم التي تمثلها المواكب الكاسحة على خشبة المسرح، ويرمز لها الرجل الميت الذي لن يستطيع أن يساعد نفسه ولن يستطيع أحد أن يساعده، وهو بطبيعة الحال لا يعبر إلا عن الرأسمالية التي لن تنجو من الهزيمة والفناء الحتمي كما تتنبأ بذلك قوانين المادة والتاريخ «الحتمية»؟ ومن أغرب مصادفات الفن وتقلبات أقداره أن هذه الأوبرا نفسها عرضت بعد ذلك بعام ونصف العام على مسارح برلين فتلقاها الجمهور البرجوازي نفسه بالتصفيق الحماسي! وربما يرجع السبب في رد الفعل غير المنتظر إلى أن التناقضات والأزمات الاجتماعية - وسط أزمة التضخم والإفلاس المعروفة في الثلاثينيات - كانت قد أصبحت موضوعا يشغل الجميع، وتوالت الأعمال الفنية المختلفة التي تتناولها بالوصف والتحليل والتهكم والاحتجاج (ومن أنجحها عروض المسرح السياسي الشعبي أو مسرح الكباريه الذي ازدهر في ذلك الحين ازدهارا كبيرا).
ومن أغربها وأعجبها كذلك أن معظم النقاد الواقعيين أو الاشتراكيين لم يرضوا عنها كل الرضا، فاتهموها بأنها رومانسية وغير علمية ولا موضوعية في تفسيرها للظواهر الاجتماعية، وأنكروا منها عدم تصريحها ب «الحل الإيجابي» - أو الحتمي! - الذي سيتم بقيادة «البرولتياريا» المناضلة التي تحمل مسئولية توجيه التاريخ البشري نحو غايته السعيدة (أي الشيوعية). (16) ومع أن هؤلاء النقاد قد اعترفوا بأن الأوبرا تعبر عن الفوضى السائدة في المجتمع الرأسمالي، وهي في أساسها فوضى اقتصادية - ومن ثم سياسية - ترجع إلى اضطراب علاقات الإنتاج، وافتقارها إلى التخطيط العلمي الذي يحسب حساب الطلب والتوزيع فينتهي بالضرورة إلى التنافس المروع، وتحكم الإنتاج في المنتج، واستغلال صاحب العمل للعامل، وظواهر الاغتراب وأزماته في ظل العلاقات السائدة في المجتمع البرجوازي والرأسمالي (وهي الظواهر التي بدأ هيجل الحديث عنها في فلسفة الحق في سنة 1831م، وأفاض ماركس في وصفها وتحليلها في مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لسنة 1844م التي اكتشفت في القرن العشرين، واستغلها اليساريون الجدد بوجه عام وأصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت بوجه خاص في تأكيد اغتراب الفرد وقمعه في المجتمعات الصناعية المتقدمة سواء أكانت شمولية اشتراكية أو رأسمالية ليبرالية)، ومع أنهم يسلمون أيضا بأن الأوبرا قد نجحت في التعبير عن الأزمة التي تتعرض لها مجتمعات المال والاستغلال، وفضحت المبدأ الأساسي لكل الكوارث التي تداهم المجتمعات الرأسمالية بصورة تكاد تكون دورية، وتقوم على تحكم المال في العلاقات الإنسانية بحيث لا يبقى معه مجال للقيم والأخلاق، وبحيث يصبح كل شيء مباحا ما دام كل شيء وكل شخص سلعة تشترى وتباع، مع كل هذا فإن أولئك النقاد قد ساءهم أن يكتشف هذا المبدأ حطاب بسيط - وهو باول أكرمان - وأن يرضخ له عمال مطحونون قضوا سبع سنوات من عمرهم في قطع الأشجار في غابات ألاسكا وثلوجها، فهل أراد برشت أن يكونوا رمزا لملايين المستغلين؟ وإذا جاز هذا فكيف يستقيم مع تفكيرهم أن يعيشوا ويمارسوا مبدأ طبقه أعداؤهم من زمن طويل؟ وكيف يسقطون كالخنازير المتوحشة في حمأة الرذائل التي اختص بها هؤلاء الرأسماليون، ويتحمسون للمتع والملذات المادية التي تنفيها الأخلاق الاشتراكية وتترفع عنها؟ أم أراد برشت أن يقول إن العمال تحت جناح الرأسمالية قد ينالون حقوقا محدودة ويتمتعون بمتع محدودة، ولكنها مؤقتة ومرهونة بازدهار رأس المال والتوسع الاستعماري؟ ربما يكون الأمر كذلك. ولكن كيف يستساغ أن يكون الرجل الميت - وهو بلا ريب رمز الرأسمالية - هو العامل البسيط باول أكرمان؟ هل نفهم من ذلك أن الرأسمالية مقضي عليها بالانتحار الحتمي كما زعم منظرو الاشتراكية وزعماؤها طوال العقود الأخيرة وقبل الزلزلة المفاجئة؟ أم أن قيمة الإنسان وكرامته مرتبطة بثروته ورصيد شيكاته، وأنها تتلاشى حين يعجز عن دفع الحساب؟ أليس في هذا تبسيط شديد لواقع الرأسمالية العالمية التي ما فتئت «تجدد نفسها» (كما يقول كتاب قيم لعالم الاقتصاد المرحوم الدكتور فؤاد مرسي)؟
5
ثم كيف ينطبق هذا على رجل لا يستغل أحدا ولا يملك وسيلة من وسائل الإنتاج في مجتمع مدينة الذهب التي لا تنتج أصلا، وإنما هي أشبه ببار أو ماخور كبير يستقبل العمال والمنتجين ويستنزفهم؟ وهل من المقبول أو المعقول أن تأتي ظواهر الضعة والشر والانحطاط - حتى ولو كان المال من ورائها - من عمال مستغلين لا أصحاب أعمال مستغلين، كخيانة الصديق لصديقه وتخليه عنه في وقت الشدة، بل تخليه عن الجزء الأفضل من ذاته وتنكره للتضحية والوفاء بمجرد أن يتدخل المال بينهما؟
Shafi da ba'a sani ba