على الإجمال مفهوم المنهج العلمي، يغدو أرقى وأكمل وأكثر إنسانية وأكثر إيجابية، حين يتلاقح بمثل هذه الأبعاد الأنثوية الحميمة. •••
وأخيرا فإن القيمة الحقيقية لهذه الرؤية النسوية لمفهوم المنهج العلمي، ليست في إضافة أبعاد أنثوية حميمة ونابضة ومجدية إلى العقلانية التجريبية، بل في فعل الإضافة نفسه وفي حد ذاته.
ألا إن في هذه الإضافة استجابة مثمرة لما طرأ على فلسفة العلم من عدم اقتصار على العناية بالبنية المنطقية للمعرفة العلمية، بل أيضا في تفاعلها مع سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي، وهذا هو درس توماس كون العظيم ونموذجه الإرشادي، وتنامي أبحاث سوسيولوجية العلم واشتباكها بفلسفة العلم. ومن ناحية أخرى تسير هذه الإضافة في سياق متنام مؤخرا يعرف بالفلسفة التطبيقية، التي تعنى بمباحث تتحول إلى واقع حي معيش. ومع الرؤية النسوية وما أضافته من أبعاد وقيم إلى مفهوم المنهج العلمي، نجد العقلانية التجريبية واقعا حيا معيشا في إطار منهجية أشمل، تحتويها بمعية أبعاد اجتماعية وثقافية وحضارية معيشة، إنه مثال لتحويل مفهوم المنهج العلمي إلى فعالية تطبيقية معيشة، وبالطبع يمكن أن يكون ثمة مبادرات أخرى وتفعيلات أخرى في أطر منهجية أخرى.
فماذا عن تفعيل المنهج العلمي بعقلانيته التجريبية في سياقنا نحن الثقافي وواقعنا الحضاري.
خاتمة: مفهوم المنهج العلمي في حاضرنا ومستقبلنا
يظل مفهوم المنهج العلمي فعالية منتجة، والحديث عنه حديث عن إمكانية واقعية حاضرة ومستقبلية ولود مثمرة. ومن قبل أن تتبدى معالم ما بعد الحداثة، سبق أن انتهى الفصل السابع إلى أن كل وأي حديث عن الحداثة والتحديث، بات مقترنا بتمكين وتفعيل لمفهوم المنهج العلمي؛ ومن ثم فإن مقاربة وضع هذا المفهوم في حاضرنا ومستقبلنا، إنما هو وجه من وجوه قضية الحداثة ها هنا، وصلب من أصلاب إشكالية الأصالة والمعاصرة الشهيرة، التي طال انشغالنا بها، دون الوصول إلى الغاية المنشودة، كما فعلت أمم أخرى كالصين ومن قبلها اليابان وسواهما، لم تشارك في الحداثة، لكنها تمكنت من حل هذه الإشكالية، فاستطاعت الاستيعاب والتجاوز، والإسهام في التقدم المعاصر.
إن الشغل الشاغل هو الواقع الحاضر ومستقبله، ومن أجله كان الاشتباك بالماضي فيما سبق، وفي أي موضع. رأينا في الفصل الثاني كيف أن مفهوم «المنهج» أصلا متوطن في ماضينا أو في تراثنا الذي امتلك رصيدا منهجيا هائلا في مسيرته التاريخية. ورأينا في الفصل السابع كيف قدم هذا الماضي عطاء علميا دافقا من حصاد المنهج العلمي، أسهم في أن يفضي إلى النقلة الحضارية الكبرى وهي العلم الحديث. ألا إن القيمة الحقيقية لمثل هذا الماضي، تكون بقدر ما يسهم في حاضر جيد ومستقبل أفضل
1 ... بقدر ما يسهم بمزيد من التحديث والتقدم، يشترط مزيدا من التفعيل لمفهوم المنهج العلمي.
ونلاحظ أنه على الرغم من ذلك الرصيد التراثي، يبدو المنهج العلمي بعدا غائبا مفتقدا في واقعنا ... في ثقافتنا المعيشة وطرائق تفكيرنا وعوائدنا وسلوكنا وسمات شخصيتنا القومية، بل حتى طباع النخبة فينا، وتلح الحاجة إلى جهود ثقافية مكثفة، أهم مهامها توطين مفهوم المنهج العلمي في حس الجماعة، لنتمرس على مواجهة الواقع الصلب العنيد، الذي يتأبى علينا ونفشل في تطويعه، فنستورد حلولا لمشكلاته في استنزاف للموارد وتعويق لسيرورة نماء وتقدم. المطلوب الخروج بمفهوم المنهج العلمي إلى آفاق الثقافة العربية، بمفهومها الأنثربولوجي إن صح التعبير، أو الأيديولوجي إن جاز التعبير، المهم ألا يقتصر على المنظور الترانسندنتالي المتعالي للثقافة، ولا يظل موضوعا للحوار بين صفوة المثقفين وأبحاث بعض المتخصصين، بل تشريب المواطن بفعاليات المنهج العلمي بوصفه أسلوبا في الإنشاء وفي الإدارة، في التخطيط وفي التنمية، في الإنتاج وفي الاستهلاك ... وفي مواجهة وقائع الحياة اليومية، وهذه مهمة تشارك فيها التربية والتنشئة ومقررات التعليم ووسائل الإعلام والتثقيف، التي لا تزال تطابق أحيانا بين الثقافة والأدب، وتجعل السهرة الثقافية تعني سهرة أدبية.
وهنا يتمثل دور لتجديد التراث وتطوير خطابنا الثقافي، من أجل توطين مفهوم المنهج العلمي وزرعه في ثقافتنا وتجذيره في التربة العربية، يتزامن هذا مع نقض المركزية الغربية وتصاعد احترام التعددية الثقافية، والدعوة إلى أن تضطلع كل ثقافة بمسئوليتها إزاء توطين العلم وتفعيل منهجيته.
Shafi da ba'a sani ba