عن طريق تفعيل اللامقايسة التي قال بها كون والإسراف فيها يرفض فييرآبند حتى سلطة العلم الراهن في مضمار المعرفة العلمية ذاتها، يتمسك بأن تحتفظ كل نظرية بمكانها في تاريخ العلم وفي الوعي العلمي، كل نظرية لها دورها، والحكم عليها يجب أن يكون بالنسبة إلى سياقها، لظروفها وتحدياتها؛ لأن النظرية العلمية في جوهرها محض طريقة للنظر إلى العالم، توضع بجوار طرق أخرى، ويشدد على قدرة النظريات القابعة في تاريخ العلم على إخصاب الواقع العلمي الراهن، وطرح مداخل ومنظورات مختلفة لحل المشكلات المطروحة للبحث، ويواصل شططه، ليزعم أن اللامقايسة ليست بين النظريات فحسب، بل أيضا بين الأنماط المعرفية ذاتها، فلا يعود ثمة مبرر لادعاء الأفضلية المطلقة للعلم على أشكال المعرفة الإنسانية الأخرى، إنها شكية التفكيكية وجنوحها للإطاحة بكل الثوابت في مغامرة غير مأمونة العواقب.
شطحات التفكيكية كثيرة، ومعظمها مما لا يقبله المنطق. والمشكلة مع مفهوم المنهج العلمي أنه لا ينفصل عن منطقه، فلا يمكن نفي العقلانية التجريبية، قد لا نكتفي بها ولكن لا يمكن إلغاؤها. نفيها أو إلغاؤها يعني أننا لا نتحدث عن المشروع العلمي أصلا! وهذا خلف محال، فعن أي منهج نتحدث؟! على أية حال، انتهى فييرآبند إلى أن العلم مجرد تقليد معرفي ضمن تقاليد معرفية عدة، والعقلانية التجريبية منهج للعلم ضمن مناهج عديدة له، وكما ذكرنا تلك قضية مثيرة لجدل لا ينتهي، والحق أن فييرآبند نفسه أكثر فيلسوف علم مثير للجدل على الإطلاق، اندفاعاته الفلسفية بلا حدود، أعلن أن هدفه حماية العلم من شوفنية الروح العلمية وطغيانها، وحماية الفلسفة من أساتذتها المحترفين إياها، وحماية الحضارة الغربية من توجهها الغربي. باق أن نقول: وكان يريد قبلا أن يحمي مفهوم المنهج العلمي من عقلانيته وتجريبيته!
الأجدى أن ننتقل الآن إلى المعامل الثاني، الذي جعل ميثودولوجيا ما بعد الحداثة أو الميثودولوجيا الراهنة، تقدم مفهوما للمنهج العلمي أكثر تكاملا، نابضا حقا بالحيوية والفاعلية والخصوبة والدفء، وقد بلغ هذا ذروته مع الفلسفة النسوية. (4) مفهوم المنهج العلمي: رؤية نسوية
النسوية من أبرز المعالم التي صاحبت مجيء القرن الحادي والعشرين، وتمثل الآن واحدا من أهم اتجاهات الفكر الراهن والفلسفة المعاصرة. النسوية ليست مذهبا، بل هي تيار أو اتجاه، يضم مذاهب عديدة، أحيانا تكون نقاط الاختلاف بينها أكثر من نقاط الالتقاء، ولكنها جميعا، وبمجامعها، تشارك في معركة فييرآبند المقدسة، أو بالأحرى معركة ما بعد الحداثة، ضد فلول الاستعمارية والمركزية الغربية، واتخاذ العلم الغربي الحديث ذريعة لهذا وذاك.
13
وتستبسل النسوية من أجل خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية)، سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع، امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الاستعمارية والإمبريالية، وتعمل على فضح وتفكيك كل هياكل الهيمنة والاستبداد وأشكال الظلم والقهر والقمع، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم، الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنا وعدلا.
إنها ليست مجرد بحث عن حقوق المرأة أو إثبات لذاتها، فقد اكتسبت نضجا فكريا، وهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية جامعة، وتقديم صياغة نظرية عن الهوية النسوية، وبدلا من التماهي مع النموذج الذكوري، لا بد من العمل على إبراز الأنثوية كجانب جوهري للموجود البشري، كان قمعه اعتوارا طال السكوت عليه، ونزفا حضاريا لإمكانيات هائلة، يمكن أن تكسب الإنسانية شيئا من التوازن.
الفلسفة النسوية - كتمثيل لما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية - هي منطلق نقدي للحداثة، تلقي الضوء على المثالب والقصورات والحيودات، باحثة عن رؤية متكاملة، تستوعب منظورات وقيما، يمثلها جانب طويلا ما جرى تهميشه؛ أي الجانب الأنثوي، ولعلها لا تعبر عن نظرة خاصة بالنساء، بقدر ما تعبر عن نقد وتطوير لما هو عام وشامل للبشر أجمعين، لا تزعم أن النساء يمتلكن الحقيقة، بل فقط أن الرجال لا يستأثرون بها، وذلك لإحداث توازن وتكامل مأمول بين جانبي الموجود البشري: الذكورة والأنوثة، بدلا من انفراد الذكورية بالميدان، فتأتي المحصلة أكثر سخاء.
وفي هذا السياق تقدمت النسوية بفلسفتها للعلوم، واستطاعت حقا تطوير مفهوم المنهج العلمي، وتقديم نظرة ميثودولوجية، تمثل إضافة إيجابية.
14
Shafi da ba'a sani ba