المفاتيح في شرح المصابيح
تأليف
العلامة مظهر الدين الزيداني الحسين بن محمود بن الحسن الزيداني المظهري الكوفي
المتوفى سنة ٧٢٧ هـ - رحمه الله تعالى -
تحقيق ودراسة
لجنة مختصة من المحققين
بإشراف
نور الدين طالب
إدارة الثقافة الإسلامية
Shafi da ba'a sani ba
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدَّمَة إدَارة الثَّقَافَةِ الإِسلامِيَّة
إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمدُه ونَسْتعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله مِن شُرورِ أنفسِنا، وسَيَّئاتِ أَعمالنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أَجمعين.
أمّا بعد:
فإنَّ الإمامَ مُظْهِرَ الدِّينِ الحُسينَ بنَ محمود بنِ الحُسينِ الزَّيدانيَّ، الشِّيرازيَّ، الحَنفيَّ، المشهورَ بـ (المُظْهِرِي)، ويُقال له: (المُظْهِر)، والمتوفَّى سنةَ (٧٢٧ هـ)، كانَ إمامًا فَقيهًا محدَّثًا، قد ألَّفَ المؤلَّفاتِ البديعةَ الشاهِدَةَ على عُلُوِّ كَعبِه في العلوم، وكانت مَرجِعًا للعُلماء والمحقِّقين، وكان مِنْ أكثرِها شُهرةً عند أهلِ العلم ونَقْلًا عنها كتابُه المَوسومُ بـ "المَفَاتيح في شرح المصابيح"، والذي اشتملَ على شَرحِ غَالبِ مَادَّةِ أحاديثِ الكتابِ
مقدمة / 1
التي قارَبَت الخمسةَ آلافِ حديث.
عُنِيَ فيه ﵀ ببيانِ مُفرداتِه، وحَلِّ إشكالاته، وجَمْع اختلافاتِه، وإعرابِ ما اسْتَغْلَقَ من ألفاظِه، وبَثَّ فقهَ الأئمةِ الأَربعةِ في كثيرٍ مِنْ أحاديثه.
فأتى شَرحًا مُفيدًا محرَّرًا، ليس بالطَّويلِ المُمِلِّ، ولا بالقَصيرِ المُخِلِّ، اعتمدَ في النقل عنه كثيرٌ من الشُّرَّاح المتأخِّرين؛ كالإمامِ الطيْبِيِّ وزَينِ العَرَبِ والكَرمانِّي والبِرماوِيِّ وابنِ حَجَر والعَيني والقَسْطَلاني وغيرهم.
وقد وافَت الإمامَ المُظْهِريَّ المَنِيَّةُ قبلَ تمامِ شَرحِه، فوصلَ فيه إلى أُخْرَياتِ كتابِ المصابيح، فأتمَّه أحدُ تلامذته على نَسَقِ منهج المؤلِّف في أُسلوبه ومَصادره، فظهرت التتمةُ وكأنَّها مِن شرحِ الإمامِ المُظْهِريِّ رحمه الله تعالى.
هذا، وقد قامت لجنةٌ علميَّةٌ مختصَّةٌ من المحقِّقين في دار النوادر بإشراف الشَّيخ نورِ الدِّين طالب بتحقيق هذا السِّفْر الجليل تحقيقًا عِلميًا مُتميزًا مِنْ عنايةٍ خاصَّةٍ بضبط النَّصِّ، معتمدِينَ في نَشْرِه على أربع نُسَخٍ خَطَّية.
مقدمة / 2
كما حُفَّ إصدارُه بجَودَةِ التَّنضيد والإِخْراج والطَّباعة، مع التَّنْويهِ بجهودِهم المشكورةِ في نَشْرِ شروحِ مصابيحِ السُّنَّة التي تصدُر لأوَّلِ مرَّةٍ إلى عالم المَطْبوعات، فجزاهم اللهُ على حُسْنِ صَنِيعهم خيرَ الجزاء، وأثابهم خيرَ العَطَاء.
وإنَّ إدارةَ الثقافةِ الإِسْلامية، إذ يَسُرُّها أنْ تَزُفَّ هذا الكتابَ النَّفِيسَ إلى رُوَّامِ العلمِ ومُحبِّيه، تَأمَلُ مِنَ اللهِ أنْ يكونَ عَملُها مُتقبَّلًا، وتَدعوه سبحانه أنْ يبارِكَ جهودَها في نشرِ الإرثِ الثَّمينِ مِنْ تراثِ الأمَّةِ الإِسلامية، لِما يُسْهِمُ في رِفْعة الأمَّة وعُلُوِّ مَكانتها، وأَنْ يوفِّقَها للكثيرِ الطَّيِّبِ مِنْ ذلك، إنَّه سبحانه نعمَ المَولى ونِعْمَ النَّصير.
إدَارَة الثَّقَافَةِ الإسلاميَّة
° ° °
مقدمة / 3
مَوسُوعَةُ شُرُوْحِ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
المُشْرِفُ العَام
نُورُ الدَّيْن طَالِب
اللَّجْنَةُ العِلْمِيَّةُ الَّتِي شَارَكَتْ في تَحْقِيقِ هَذَا الكتَابِ:
- محمد خَلُّوف العبد الله
- توفيق محمود تكله
- ياسِيْن عَبد الله حمبول
- محمَّد عَبد الحلِيم بَعَّاج
- عَلاء الدَّين بَدْرَان
- جَمال عَبد الرحيم الفارس
مقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدَّمَة التَّحقِيْق
الحمدُ لله منزلِ الشرائعِ والأحكام، وجاعلِ سنَّةَ نبيِّه ﷺ مبينة للحلال والحرام، والهادي من اتَّبعَ رضوانَه سُبلَ السَّلام.
وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، شهادةَ تحقيقٍ على الدوام.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبِه الكرام.
أمّا بعد:
فإنَّ الله - جلَّ وعلا - قد هيَّأ لهذه الأمَّةِ علماءَ ربَّانيين، حَفِظوا حديثَ نبيِّه محمَّدٍ ﷺ في دواوين ألَّفوها في السُّنن والأحكام، والحلال والحرام، وما جاء عنه ﷺ في فضائل الأعمال ونَفَائسِ الأحوال الداعيةِ إلى طُرق الخيرِ وسُبُل الرَّشاد، وما دعا إليه من مكارم الأخلاقِ ومحاسنِ الآداب.
وكان كتابُ "مصابيح السُّنَّة" للإمام محيي السنة، شيخِ الإِسلام البَغَويِّ أجمعَ كتابٍ صُنِّف في بابه، وأضبطَ لشواردِ الأحاديث وأَوابِدها (١).
وهو الكتابُ الذي عكف عليه المتعبِّدون، واشتغل بتدريسه الأئمةُ
_________
(١) انظر: "مشكاة المصابيح" للتبريزي (١/ ٣).
مقدمة / 5
المعتبرون، وأقرَّ بفضله وتقديمه الفقهاءُ المحدثون، وقال بتمييزه الموافقون والمخالفون (١).
وهو كتابٌ مُبَاركٌ، وفيه عِلم جَمٌّ من سُنن رسول الله ﷺ (٢)، ناهزت أحاديثُه الخمسةَ آلاف حديث، أحسنَ الإمامُ في ترتيبها، وفاقَ ترتيبُه للكتب كثيرًا من كتب الحديث المصنَّفة، فإنَّه وضَعَ دلائلَ الأحكام على نَهجٍ يستحسنُه الفقيهُ، فوضع الترغيبَ والترهيب على ما يقتضيه العلم، ولو فكَّر أحدٌ في تغيير بابٍ عن موضعه لم يجدْ له موضعًا أنسبَ مما اقتضى رأيُه (٣).
وقد كثُرت عناية العلماءِ بهذا الكتاب الجليل، وتنوَّعت الشروحُ والتعليقاتُ والتخريجاتُ عليه، وكان من بين تلكَ الشروحِ:
- "شرح المصابيح" لعلَم الدين السَّخَاوي (ت ٦٤٣ هـ).
- "الميسَّر في شرح مصابيح السنة" لشهاب الدين فضل الله التوربشتي (ت ٦٦١ هـ).
- "المفاتيح في شرح المصابيح" للحسين بن محمود الزَّيداني المُظْهِري.
- "شرح المصابيح" لابن المَلَك الحنفي.
- "التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث المصابيح" للفيروزأَبادي (ت ٨١٧ هـ).
- "شرح المصابيح" لابن كمال باشا (ت ٩٤٠ هـ).
_________
(١) انظر: "كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح" لصدر الدين المناوي (١/ ٥).
(٢) انظر: "الميسر في شرح المصابيح" للتوربشتي (١/ ٢٩).
(٣) كما قال محمَّد بن عتيق الغرناطي (ت ٦٤٦ هـ).
مقدمة / 6
وقد اختصر "المصابيح" غيرُ واحدٍ من الأئمة، كان من أبرزِها: "مشكاة المصابيح" للتَّبْرِيزي، والذي شرح الإمامُ الطَّيبيُّ في كتاب سماه: "الكاشف عن حقائق السُّنن"، وكذا شرحه العلامةُ ملا علي القارِيُّ في "مِرقاة المفاتيح".
كما قام بتخريج "المصابيح" الإمامُ صدرُ الدين المَناويُّ (ت ٨٠٣) في "كشف المناهج والتَّناقيح في تخريج أحاديث المصابيح"، ولخَّصه الحافظُ ابنُ حجر في "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة".
إلى غيرِ ذلك من الشروحِ والتَّعاليق القيَّمة، ومِنْ هنا عُنينا بتلك المؤلَّفاتِ عنايةً خاصةً في مشروعنا "موسوعة شروح السنة النبوية" التي نسألُ اللهَ أن يكتبَ لها القَبول والتَّمامَ، وأن يوفِّقنا لإصدارها كما أرادها مؤلِّفوها أنْ تخرجَ لأهل الإِسلام، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
وقد تناولنا في تحقيقنا جملةً من الشُّروح النفيسةِ التي لم تَرَ النورَ بعد، وألفينا فيها علومًا جَمَّةَ لا يستغني عنها مَنْ تَشَرَّب لِبانَ السنَّةِ النبوية، وحَرَصَ على أخذِها رِوايةً ودِرايةً.
وحسبُ المرءِ احتفاءً بجملة الشُّروح المحققَّةِ، والتي نُخرجها إلى عالم المطبوعات لأول مرة، أنَّها تأتي بعد نَشْرِ شَرحٍ واحدٍ يتيمٍ لهذا الكتابِ الجليل، وهو شرحُ الإمام التُّوْرِبِشْتي، فلله الحمدُ على مَنِّه وتوفيقه.
ومن تلكَ الشروحِ الحافلةِ، شرحُ الإمامِ مُظْهِرِ الدَّين الحُسين بن محمود الزَّيداني المُظْهِري، الذي نقومُ بإصدارِه لأوَّلِ مَرَّةٍ مُقابَلًا على أربعِ نُسَخٍ خَطَّية.
وقد اشتملَ هذا الشَّرحُ على غالبِ مادَّةِ "مصابيح السُّنَّة" للإمام البَغَوِي رحمه الله تعالى.
وقد عُني فيه ﵀ ببيانِ مُفْرداتِه، وحَلِّ إشكالاته، وإعرابِ
مقدمة / 7
ما استغلقَ مِنْ ألفاظِه، وجَمْعِ اختلافاته، وبَثَّ فقهَ الأئمَّةِ الأربعةِ في كثيرِ من أحاديثِهِ.
فأتى شَرْحًا مُفيدًا مُحَرَّرًا، ليسَ بالطَّويلِ المُمِلِّ، ولا بالقصيرِ المُخِلِّ، اعتمد في النقلِ عنه كثيرٌ من الشُّرَّاحِ المتأخِّرين؛ كالإمامِ الطَّيبيِّ في "شرح المِشْكاة" ورَمَزَ له بـ (مظ)، وكذا نقلَ عنه شُرَّاحُ "المصابيح"؛ كالإمام ابن المَلَك، وزَينِ العَرَب، ومُلَّا علي القَاريِّ، وأَكْثَرَ الكَرْمانيُّ في "شرح البخاري" وتَبِعَه البِرْمَاوِيُّ في "اللامع الصَّبيح بشرح الجامع الصحيح" في النقلِ عنه، ونقلَ عنه الحافظُ ابنُ حجرٍ والعَينيُّ والقَسْطَلاني وغيرُهم من شُرَّاح البُخاريِّ.
وقد امتازَ هذا الشرحُ ببساطة ألفاظِه، وسُهولة جُملِه وعِبَاراتِه، ووضوحِ ما المرادُ مِنْ أحاديثِه.
وقد وافتِ الإمامَ المُظْهِريَّ المنيةُ قبلَ تَمامِه، فوصلَ فيه إلى أُخريات كتاب "مصابيح السنة" عند (باب المَلاحم) من (كتاب الفتن) (١)، فأتمَّه أحدُ تلامذَتِهِ على نَسَقِ مَنْهَجِ المؤلَّفِ ﵀ في أسلوبِه ومَصَادِرِه، فظهرتْ هذه التَّتمَّةُ وكأنَّها مِنْ شَرْحِ الإمام المُظْهِريِّ رحمهما الله تعالى.
هذا وقد تمَّ التقديمُ للكتاب بترجمة الإمام البغوي، وترجمة الإمام المظهري - رحمهما الله تعالى - ثم تلاه تعريف بمنهج المؤلِّف في هذا الشرح.
وتمَّ تذييلُ الكتابِ بِفِهْرسِ أطرافِ الأحاديث النبوية الشريفة التي شرحها المؤِّلفُ، ثمَّ فِهرسٍ لعناوينِ الكُتب والأبواب.
اللهمَّ اجعلنا ممَّنْ يَسْتَنهج كتابَكَ وسنَّةَ نبيِّكَ محمَّدٍ ﷺ، واجعلْ نيَّتَنا
_________
(١) عند شرح الحديث رقم (٤١٨٨)، وهو في مطبوعتنا (٥/ ٣٨٠).
مقدمة / 8
خالصةً لوجهكَ الكريمِ في نَشْرِ السنَّةِ المُطَهَّرة، يدومُ الأجرُ فيها بعد الممات، ونَبْلُغُ بها منزلةً مرضيَّةً عندك، إنَّكَ وليُّ ذلك والقادرُ عليه، ولا حولَ ولا قوة إلا بك.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأصحابِه أجمعين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
حَرَّرَهُ
نُورُ الدَّيْن طَالِب
ذو الحجة/ ١٤٣٢ هـ
° ° °
مقدمة / 9
الفَصْلُ الأَوَّلُ:
تَرْجَمَةُ الإِمَامِ البَغَويّ (١) صَاحِب "مَصَابِيِح السُّنَّةِ"
" هو الشَّيخ الإمام، العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السُّنة، أبو محمَّد الحسين بن مسعود بن محمَّد بن الفَرّاء البَغَوي الشافعي المفسِّر، صاحب التصانيف كـ "شرح السنة"، و"معالم التنزيل"، و"المصابيح"، وكتاب "التهذيب" في المذهب، و"الجمع بين الصَّحيحين"، و"الأربعين حديثًا"، وأشياء.
تفقه على شيخ الشَّافعية القاضي حُسين بن محمَّد المَرْورُّوذي صاحب "التعليقة" قبل السِّتين وأربع مئة، وسمع منه، ومن أبي عمرَ عبدِ الواحد بنِ أحمد المَليحي، وأبي الحسن محمَّد بن محمَّد الشِّيرزي، وجمال الإِسلام أبي الحسن عبد الرحمن بن محمَّد الدَّاودي، ويعقوب بن أحمد الصَّيرفي، وأبي الحسن على بن يوسف الجُويني، وأبي الفضل زياد بن محمَّد الحنفي، وأحمد بن أبي نصر الكُوفاني، وحسان المَنيعي، وأبي بكر محمَّد بن أبي الهيثم التُّرابي وعدة، وعامَّةُ سماعاته في حدود الستين وأربع مئة، وما علمتُ أنَّه حَجَّ.
_________
(١) نقلًا عن "سير أعلام النبلاء" للذهبي (١٩/ ٤٣٩). وانظر ترجمته في "وفيات الأعيان" لابن خلكان (٢/ ١٣٦)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (٤/ ١٢٥٧)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (٧/ ٧٥)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (١/ ٣١١)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (٤/ ٤٨)، وغيرها.
مقدمة / 11
حدث عنه أبو منصور محمَّد بن أسعد العَطَّاريُّ عُرِف بحفدة، وأبو الفُتوح محمَّد بن محمَّد الطَّائي، وجماعة.
وآخر مَنْ روى عنه بالإجازة أبو المكارم فضل الله بن محمَّد النُّوقاني الذي عاش إلى سنة ست مئة، وأجاز لشيخنا الفخرِ بن علي البُخاريِّ.
وكان البَغَوي يلقَّب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيَّدًا إمامًا، عالمًا علامة، زاهدًا قانعًا باليسير، كان يأكل الخبز وحدَه، فَعُذِل في ذلك، فصار يَأْتدم بزيتٍ، وكان أبوه يعمل الفِراءَ ويبيعها.
بُورك له في تصانيفه، ورُزق فيها القَبول التام لحُسن قصده وصدق نيته، وتنافس العلماءُ في تحصيلها، وكان لا يُلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصِدًا في لباسه، له ثوبُ خام، وعمامة صغيرة على منهاج السَّلف حالًا وعَقْدًا، وله القدمُ الراسخ في التفسير، والباع المديد في الفقه، ﵀.
توفي بمَرْو الرُّوذ مدينةِ من مدائن خراسان، في شوال سنة ست عشرة وخمس مئة، ودفن بجنب شيخه القاضي حسين، وعاش بضعًا وسبعين سنة، ﵀.
* * *
مقدمة / 12
تَرجَمَة الشَّارِح العَلَّامَة المُظْهرِيِّ (١)
هو الإمامُ الفقيهُ المحدَّثُ مُظْهِرُ الدِّينِ الحُسينُ بنُ مَحْمودِ بنِ الحُسينِ (٢) الزَّيْدَانيُّ (٣) الضَّريرُ الشِّيرازيُّ (٤)، الحَنَفيُّ (٥)، المشهورُ بـ "المُظْهِري"، ويقال له: "المُظهِر".
_________
(١) لم نعثر - بعد طول البحث والتفتيش - عن ترجمة مفصَّلة للإمام المُظهري في المصادر والمراجع المتداولة، ولم نجد له ذكرًا إلا في "كشف الظنون" لحاجي خليفة (٢/ ١٦٩٩، ١٧٧٦)، و"هدية العارفين" للبغدادي (٢/ ١٠٨)، و"إيضاح المكنون" له (٢/ ٥٣٦)، و"الأعلام" للزركلي (٢/ ٢٥٩).
وقد حاولنا في هذه السطور جمع بعض النُّتف عن اسمه ونسبه ومؤلفاته مما تيسَّر اقتناصه من تلك المصادر وغيرها مما سنح للجهد الوقوف عليه.
(٢) وقال حاجي خليفة والبغدادي في "هدية العارفين" و"الزركلي": "الحسن" بدل "الحسين"، ولعلَّ الصواب ما أثبت؛ لما ورد في النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق "المفاتيح في شرح المصابيح".
(٣) قال الزركلي: نسبته إلى صحراء زيدان بالكوفة.
(٤) كذا نسبه البغدادي في "إيضاح المكنون".
(٥) كذا جاءت نسبته "الحنفي" على غلاف النسختين الخطيتين لدار الكتب المصريه "ق"، والتيمورية "ت" لكتاب "المفاتيح في شرح المصابيح".
مقدمة / 13
له من المؤلِّفات والتَّصانيف:
١ - "المفاتيح في شرح المصابيح" وسيأتي الكلام عنه.
٢ - "المُكَمَّل في شَرح المُفَصَّل للزَّمخشري"، قال حاجي خليفة: وأوله: "الحمد لله الذي قَصُر عما يليقُ بكبريائه ... إلخ"، فَرَغَ من تصنيفه في جمادى الآخرة سنة (٦٥٩ هـ)، وقال: ومن شروح أبياته شرح أوله: الحمدُ لله الذي فَضَّلَ الإنسانَ بفضيلة البيان ... إلخ.
وفي ظهره: عدد أبيات "المفصَّل" (٤٢٤) بيتًا (١).
ونُسَخُ هذا الكتابِ كثيرةٌ، ولدينا نسخةٌ خطيَّةٌ منه، جاء في نصِّ مقدمتها: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون، الحمدُ لله الذي قَصُر عما يليق بكبريائه ... أما بعد: فقد دعاني فئةُ خُلَصائي وزُمرةُ خِلَّاني أنْ أشرحَ لهم كتابَ "المفصَّل" في النحو، تأليف الإمام فخرِ خَوارِزُم محمود ...، ورامُوا أن يكونَ شرحًا لا يبقى معه في الفصل إشكال ...، ولا يكون في الفوائد إخلال، فطلبوا أنْ تكونَ جميعُ ألفاظِ "المفصَّل" بالحُمرة، والشرح بالسَّواد، وليكون في التعليم والتعلُّم أيسر ...، فأَجبتُهم إلى مُلْتَمَسِهم، ووفرت نفعَ مُقْتَبَسهم، وسميته بكتاب: "المكمَّل في شرح المفصَّل"، واستعنتُ على إتمامه بالله العليِّ الكبير ... ".
_________
(١) انظر: "كشف الظنون" (٢/ ١٧٧٦)، هذا وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن العثيمين في مقدمة تحقيقه لكتاب "شرح المفصل" للقاسم بن الحسين الخوارزمي (١/ ٥٢) مَنْ شَرَحَ "المفصل" للزمخشري، فعدَّ شرح مظهر الدين محمَّد، واستفهم عنده، ثم قال: من علماء القرن السابع، لم أقف على ترجمته، أتم تأليف شرحه سنة (٦٥٩)، وسماه "المكمل في شرح المفصل"، نسخه كثيرة، وأغلبها عليها تعليقات مما يدل على أنَّه كان يدرَّس للطلبة في عصر من العصور.
مقدمة / 14
ويظهر من هذه الجمل أنها مكتوبةٌ بالنَّفَس نفسِه الذي كَتَبَ به المؤلَّفُ ﵀ مقدمةَ شرحهِ: "المفاتيح في شرح المصابيح".
٣ - "شرح مقامات الحَريري"، وقد ذكره البغدادي في "إيضاح المكنون" (١)، وذكر أنه امتلك نسخة منه كتبت سنة (٦٩٥ هـ).
٤ - "معرفة أنواع الحديث"، وهي رسالة مُستَخْرجة من مقدمة كتاب "المفاتيح في شرح المصابيح"، كما ذكر الزِّرِكْلي.
٥ - "فوائد في أصول الحديث"، ذكره الزِّركلي.
* وقد أرَّخَ حاجَّي خليفة والبغداديُّ والزَّرِكْليُّ وفاةَ الإمام المُظْهِريِّ سنةَ (٧٢٧ هـ).
° ° °
_________
(١) انظر: (٢/ ٥٣٦).
مقدمة / 15
الفَصْلُ الثَّاني:
دِرَاسَة الكِتَاب
* أولًا: تحقيق اسم الكتاب، وإثبات صحة نسبته إلى المؤلف:
- نصَّ المؤلفُ ﵀ في مقدمة شرحه هذا على اسم مؤلَّفه فقال: وسميته بكتاب: "المفاتيح في شرح المصابيح".
- وكذا جاء على غلاف النُّسختين الخطَّيتين لمكتبة دار الكتب المصرية المرموز لها بـ "ق" وشستربتي المرموز لها بـ "ش".
وقد جاء على غلاف النسخة الخطية للمكتبة التَّيمورية والمرموز لها بـ "ت": "المفاتيح على المصابيح"، وكذا سماه حاجِّي خليفة والزَّرِكليُّ.
وجاء في "كشف الظنون" لحاجي خليفة إشارة إلى تسميته بـ "المفاتيح في حَلِّ المصابيح" وتبعه البغداديُّ في "هدية العارفين".
وقد تمَّ اعتمادُ ما نصَّ عليه المؤلفُ ﵀ في مقدمته، وما جاء على ظهر النُّسخ الخطية المعتمدة في التحقيق.
هذا وقد جاء في نهاية المجلد الأول من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية المرموز لها بـ "ق" تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهو رمضان سنة (٦٥٧ هـ) (١).
_________
(١) وقد ذكر الزركلي في "الأعلام" أنه أتم تأليفه سنة (٧٢٠ هـ).
مقدمة / 17
* أما نسبة هذا الشرح إلى الإمام المظهري: فقد جاء على غلاف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق نسبةُ الشرحِ إلى الإمام مُظهر الدين الحسين بن محمود بن الحسين الزَّيداني المُظْهِري.
- وجاء في مقدمة "تتمة المفاتيح" (١) أنه متمِّم لشرح المصابيح (لمولانا وسيدنا أفضل عصره، وعلامة دهره، مُظْهِر الملة والدين الحسين بن محمود بن الحسين الزيداني).
- كما نسب إليه هذا الشرحَ كلٌّ من حاجِّي خليفة والبغداديُّ والزِّركليُّ.
- ونقل عنه جمعٌ كثيرٌ من الشُّرَّاح؛ كالإمامِ الطَّيبيَّ في "شرح مِشْكاة المصابيح" ورمز له بـ "مظ" (٢)، وابنِ المَلَك وزَينِ العَرَب في شرحيهما على "مصابيح السنة"، ومُلَّا علي القَارِيِّ في "مِرْقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح".
- وأَكْثَرَ الكَرمانيُّ في "شرح البخاري" وتبِعه البِرْماويُّ في "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" من النقل عنه.
- ونقل منه الحافظُ ابنُ حجر والعَينيُّ والقَسْطلاني في شروحهم على البخاري، وكذا المُنَاوي في "فيض القدير"، وغيرهم من الشُّرَّاح.
* "تتمة المفاتيح في شرح المصابيح":
وافتِ المؤلفَ ﵀ المنيةُ قبلَ إتمام مُراده في تأليف هذا الكتاب، فوصل فيه إلى (باب الملاحم) من (كتاب الفتن)، الحديث رقم (٤١٨٧) (٣).
_________
(١) (٥/ ٣٨٣).
(٢) كما ذكر في مقدمته (١/ ٣٥).
(٣) انظر: (٥/ ٣٨٠) من مطبوعتنا.
مقدمة / 18
وقد جاءت الإشارة إلى وقوف المؤلَّفِ عند هذا الحديث في النسخ الخطية لدار الكتب المصرية "ق"، وشستربتي "ش"، والنسخة المجهولة المصدر "م".
ولم يُذكر اسمٌ صريحٌ لهذه التتمة، ولا صاحبها الذي أتمَّ الشرحَ مبيَّنًا، وإنما جاء في النسخة الخطية مجهولة المصدر والمرموز لها بـ "م": أنَّ المؤلف وصل إلى هنا، وتوفي غفر الله له، وأتم هذا الكتاب المبارك الفقيه العالم البارع الكامل شرف الملة، قال (عثمان) مدَّ الله ظلَّه: ابتدأ شرحه من ههنا.
وجاء في النسختين الخطيتين لمكتبة دار الكتب المصرية "ق" وشستربتي "ش" مقدمة لهذه التتمة جاء فيها: "أحمدُ اللهَ حقَّ المحامد والثناء، وأشكره على جميع نَعْمائه وجزيل آلائه ... "، وفيها: "فإنَّ جمعًا كثيرًا من الأصدقاء التمسوا من هذا الضعيف أنْ أتمم "شرح المصابيح" في الحديث لمولانا وسيدنا أفضل عصره وعلامة دهره، مُظْهر الملة والدين الحسين بن محمود بن الحسين الزَّيداني قدس الله روحه، وأدام إليه فتوحه، فأجبت لملتَمسهم، ممتثلًا لأوامرهم، ومشمِّرًا له ذيلَ تقصيري بيُمن نَفَسِهم، واستخرتُ الله تعالى مستعينًا به، ومستمدًا بكرمه ﷻ أن لا يكلَني إلى نفسي وجهلي، ويعينَني على إتمامه، ويوفِّق لي تحصيلَ ما هممتُ إليه ... ".
ثم جاء في نهاية النسخة الخطية "م". "هذا آخر تتمة شرح مولانا وسيدنا الإمام مظهر الدين، قدس الله روحه"، ثم جاء: "تممتُ هذا الكتاب بعون الله تعالى وطلب غفرانه في شهر الله الأصمَّ رجبٍ المرجَّب من سنة اثنتين وستين وسبع مئة الهلالية. كتبه محمَّد بن أحمد بن محمَّد الأبهري حامدًا ومصليًا".
فينظرُ فيما جاء في اسم صاحب التتمة في النسخة الخطية "م" وأنَّ اسمه عثمان، وما جاء في آخرها من كتابة هذه التتمة سنة (٧٦٢ هـ) بيد محمَّد بن أحمد ابن محمَّد الأبهري، وهل هو المتمِّم أو الناسخ؟
مقدمة / 19
* تنبيه مهم:
وقع كثيرٌ من الشرَّاح والنَّقلة عن كتاب الإمام المُظهري هذا "المفاتيح في شرح المصابيح" في الخطأ، عندما راحوا يعزُونَ كثيرًا من النُّقول إليه وهي من كلام صاحب التتمة لا من كلام صاحب "المفاتيح".
وقد وقفنا على مواضعَ كثيرةٍ في "شرح المِشْكاة" للإمام الطَّيبيِّ، و"مِرْقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح" لملَّا على القَاري في عزوهم نقولًا كثيرةً إلى الإمام مُظْهر الدين، وهي من كلام صاحب التتمة، وذلك بعد الحديث (٤١٨٧) من (كتاب الفتن) (١).
كما وقفنا على عزوٍ خطأ للإمام العَينيِّ في "عمدة القاري" (٢) لهذا الشرح، فذكر عن بعضهم قوله: زعم بعض الشراح أن المراد بأنه لا يبلى، أي: يطول بقاؤه لا أنه لا يبلى أصلًا. وهذا مردود لأنه خلافُ الظاهر بغير دليل، انتهى.
ثم قال العَينيُّ: قلت: (بعض الشراح) هذا، هو شارح المصابيح الذي يسمَّى شرحه مظهرًا، وليس هو شارح البخاري، انتهى.
قلت: وهذا الكلام المنقول الذي عزاه العينيُّ للمُظهري في شرحه إنما هو مِنْ كلام صاحب التتمة كما تجده في مطبوعتنا هذه (٣).
* * *
_________
(١) انظر: "مرقاة المفاتيح" لملا علي القاري (١٠/ ٦٤، ٧٥، ٨١، ١٤٧، ٢٧٤) و(١١/ ٨، ٣٢، ١٠٣، ٢١٨، ٣١٤) وغيرها من المواضع في المجلدين العاشر والحادي عشر من المطبوع.
(٢) انظر: (١٩/ ١٤٦).
(٣) انظر: (٥/ ٤٦٧).
مقدمة / 20
* ثانيًا: منهج المؤلف في الكتاب:
ذكر الإمامُ المُظْهريُّ في مقدمة هذا الشَّرح أنَّ زُمرة خِلَّانه وثُلَّة خُلَصائه ألحُّوا عليه في أنْ يضعَ لهم شرحًا على كتاب المصابيح، وطلبوا منه أن لا يكون هذا الشرحُ مطوَّلًا مُمِلًا، ولا مُختَصَرًا مُخِلًا، فأجابهم ﵀ إلى ذلك.
ثمَّ ذكر أنَّه أوردَ في أوَّلِ الكتاب مقدمةً في اصطلاحات أصحاب الحديث وأنواع علوم الحديث.
وأورد فيه كلَّ راوٍ لم يكن مذكورًا في متن المصابيح.
وتَرَكَ ذِكْرَ مَنْ هو مذكورٌ فيه.
ثمَّ بدأ ﵀ بذكر المقدمةِ التي وَعَدَ في معرفة أنواع علم الحديث، وقسَّمها إلى عشرينَ نوعًا.
ثمَّ شَرَعَ بشرح مقدمةِ الإمام البَغَويَّ ﵀ وما انطوت عليه من الإشارات والتنبيهات.
ثمَّ أتى على شرح أحاديث الكتاب، شارحًا لها حديثًا حديثًا، على ترتيب الإمام البَغَويَّ، وظهر من ذلك أنَّه لم يُغفِلْ حديثًا من الأحاديث إلا وشَرَحه. وقد تبيَّن من خلال شرحه ﵀ أنَّه عُني ببيان أسماء الرُّواة وضَبْطِهم؛ كقوله في حديث: "المُسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون ... " رواه فَضالة بن عُبيد. قال: وفضالة - بفتح الفاء -: اسم جد نافذ بن قيس بن صُهيب، وكنية فَضَالة أبو محمَّد، وهو الأنصاري (١).
وكقوله في حديث: "إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جُرمًا ... " رواه
_________
(١) انظر: (١/ ١٣٢).
مقدمة / 21