وانتهت إلينا هذه الرسائل الساحرة كما نشرها تلميذه فور فيريوس الذي قسم منها أربعة وخمسين رسالة إلى ست مجموعات اشتهرت إلى اليوم باسم التاسوعات، غير أن أفلوطين لم يكتبها على هذه الصورة، بل أغلب الظن أنه كتبها في فيض من الإلهام، وتركها بلا فواصل أو عناوين. وليس مرجع ذلك - كما يرى تلميذه - أن بصره كان قد ضعف في أواخر حياته ضعفا شديدا، بل لا بد لنا أن نبحث عن سببه في طبيعة الموضوع نفسه، فما هو هذا الموضوع الذي سنحاول أن نقترب من حقيقته؟
على الرغم من أننا نلاحظ في السنوات الأخيرة ما يشبه حركة البعث لفلسفة أفلوطين كما تتجلى في نشر أعماله باليونانية نشرا دقيقا محققا وفي ترجمتها إلى معظم اللغات الأوروبية؛ إلا أن أفلوطين لم يقدر له أبدا أن يكون من الفلاسفة الذين يقبل الناس على قراءتهم ومناقشة آرائهم والتحمس لأفكارهم، ومع ذلك فيكاد كل مثقف أن يعرف شيئا عنه أو يردد بعض كلماته المعروفة: الواحد، الفيض أو الإشعاع الذي تصدر به الموجودات الكثيرة من الموجود الواحد الأول، التدرج الذي يهبط من العقل إلى النفس إلى المادة، المادة أصل الشر، الفناء والوجد ... إلخ. كما يكاد كل من له إلمام بالفلسفة أن يعرف أن أفلوطين قد علم أن مصير النفس التي سقطت عن الواحد هو أن تعود مرة أخرى إلى الأصل الأول الذي نبعت منه، وتتحد معه في لحظات نادرة من حياتها بما يشبه الوجد والانجذاب؛ الأمر الذي وفق إليه أفلوطين أربع مرات في حياته، على نحو ما يروي عنه تلميذه ومؤرخ حياته!
ولكن هذا التصوير لفلسفة أفلوطين لن يفرق كثيرا بينها وبين غيرها من المذاهب الفلسفية المأثورة في تاريخ الفكر الغربي، حقا إنها قد تبدو شيئا مشوقا عميقا غريبا، ولكنها ستبدو للقارئ المعاصر - الذي يفهم عن «الحقيقة» و«الواقع» - شيئا مختلفا أشد الاختلاف عما كان يفهمه القدماء منهما، وكأنها أثر تاريخي عفى عليه الزمان، وسكنت فيه نبضات الحياة. وربما كان للقارئ الذي يرى هذا الرأي عذره، فأفلوطين هو أعظم الناطقين باللسان اليوناني في المرحلة الأخيرة من مراحل الفلسفة اليونانية، اتحدت فيه عناصر هذا التراث الضخم وأينعت ثمرتها الناضجة المتأخرة، وتشكلت في صورة مذهب شامخ يطل كالفنارة الوحيدة على شاطئ بحرها الزاخر غير المحدود.
من المعلوم أن أفلوطين هو الجسر العظيم الذي انتقلت عليه الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المسيحية والإسلامية في العصور الوسطى، وكان اتجاهه إلى الباطن هو الخطوة الحاسمة الأولى على طريق التصوف الطويل، وكانت تأملاته في العلاقة بين العقل
1
وبين الفكرة
2
هي التي جعلته يضع المثل الأفلاطونية في العقل، ويمهد بذلك للفكرة السائدة في العصور الوسطى عن «العقل الإلهي
Intellectus divinus » التي أدت في العصور الحديثة - على يد ديكارت - إلى تصورها عن «العقل الإنساني
Intellectus humans » الذي ما يزال يحاول إلى اليوم - باسم شعارات التقدم المختلفة على مر الأجيال - أن يشكل العالم ويتحكم فيه ويسيطر عليه.
Shafi da ba'a sani ba