Aletheia (أي الحقيقة) أو الجلاء بعد الغموض والاختفاء.
حقيقة الفن إذن هي إظهار حقيقة الوجود، وهنا يسأل القارئ: ولكن الفن يتعلق دائما بالجميل والجمال لا بالحق والحقيقة؛ فالحقيقة مجالها المنطق، والفن الجميل هو الذي يظهر الجمال، أم ترانا نريد بقولنا: إن الفن يظهر حقيقة الوجود أنه يحسن تقليده ومحاكاته، وهو الرأي القديم الذي لم يعد له اليوم مكان؟ أم نقصد أن لوحة فان جوخ قد نجحت في محاكاة حذاء واقعي وجعلت منه عملا فنيا؟ ليس الأمر كذلك.
فاللوحة لم تقتصر على إعطائنا صورة هذا الموجود الذي نسميه بالحذاء، بل نقلت إلينا الحقيقة العامة للموجود، وهي لم تنقل لنا هذه الحقيقة عن مثال أو فكرة سابقة في الوجود، (من يستطيع اليوم أن يزعم أن الفنان الذي يبني معبدا يونانيا أو فرعونيا قديما قد نقله عن فكرة المعبد على وجه الإطلاق؟ أو أن المتنبي أو شكسبير قد حاكى بقصائده مثال الشعر في ذاته؟) بل أظهرت الحقيقة في هذا العمل الفني، أو جعلتها تحدث في الزمان والتاريخ، أو فتحت عين الموجود على الوجود، ولا بد هنا من أن نعود فنسأل: ما هي هذه الحقيقة التي تتجلى في بعض الأزمان في صورة الفن؟ وماذا نقصد بأن الفن يظهر الحقيقة؟
الأصل في العمل الفني هو الفن، وما هو الفن؟ هو ما نجده في العمل الفني، ومن أجل هذا رحنا نبحث عن طبيعة العمل كعمل، وقادنا هذا إلى البحث عن صفة «الشيئية» التي تكمن وراء كل عمل فني أو غير فني، رأينا أننا لن نصل إلى نتيجة نرضى عنها بتصوراتنا التقليدية عن الشيء، لا لأن هذه التصورات التي ورثناها من تاريخ الميتافيزيقا لا تكفي للتعرف على شيئية الشيء فحسب، بل لأنها كذلك تسد علينا الطريق إلى طبيعة العمل بما هو كذلك، فلكي نصل إلى حقيقة العمل لا بد أن ننتزعه من كل العلاقات التي تربطه بما عداه، حتى يقوم وحده بذاته وفي ذاته.
العمل الفني يعرض في المعارض ويضم إلى المجموعات، المعجبون يتسابقون إلى رؤيته، والتجار يتنافسون في الحصول عليه، الجهات الرسمية تسهر على رعايته والنقاد يهتمون بأمره، والفلاسفة يجعلون منه موضوعا لعلم الجمال.
ولكن هل نلتقي بهذا كله بالعمل الفني في حقيقته؟ لقد انتزع العمل الفني من عالمه ففقدنا القدرة على رؤيته على ما كان عليه، لوحات جويا أو أعمال باخ أو قصائد المعري هي هي، ولكنها لم تعد تقول لنا كل ما كانت تقول لأصحابها أو معاصريهم، لقد أصبحت تراثا نحافظ عليه، أو نحاول القرب منه، ولكنها أصبحت بذلك أيضا «موضوعات» للبحث والمناقشة والتذوق، وابتعدت بذلك أيضا عن طبيعتها الأصلية.
بأي شيء إذن يرتبط العمل الفني إن نحن جردناه من كل علاقة بما عداه؟ نقول: إنه ينتمي إلى عالمه الذي تتحقق ذاته من خلاله، فالحقيقة «تحدث» في العمل الفني وتتجلى فيه، وقد رأينا ذلك على ضوء لوحة فان جوخ، فلنجرب أن نراه الآن على ضوء عمل فني آخر، وليكن معبدا من معابد الإغريق. هذا البناء الذي نسميه بالمعبد لا يحاكي شيئا، إنه يقف هناك في الوادي تحيط به الصخور من كل مكان، في داخله تمثال للإله، نراه من قاعة الأعمدة وتشع حوله القدسية والجلال. المعبد هو الذي يجعل الإله يتجلى فيه ويغمره برهبته وحقيقته، والمعبد هو الذي يجمع ويهيئ هذه الوحدة من العلاقات التي نرى من خلالها قدر الإنسان اليوناني وتاريخه وميلاده وموته وهزيمته وانتصاره وارتفاعه وسقوطه، إنه يفسح لنا هذا الأفق الواسع الذي نطلع منه على عالم هذا الشعب، وكأننا نراه وهو يعود إلى نفسه ويتأمل قدره ومصيره.
المعبد يقف هناك فوق الصخور، يستريح فوق هذه الكتلة المعتمة الصابرة، ويقاوم العاصفة الثائرة حوله، والمطر المتدفق عليه، ويبين كم هي غاضبة هذه العاصفة، وكم هو مقتدر هذا المطر، لمعان الصخر الذي تباركه الشمس هو الذي يظهر روعة النهار ورهبة السماء ووحشة الليل، صلابته التي لا تتزعزع تصطدم بها أمواج البحر الهائج فيذكرنا بهدوئه كم هي ثائرة، الشجرة والعشب، الحية والفراشة تظهر في صورتها وتبدو على ما هي عليه، كل شيء حول المعبد ينمو ويتشكل ويتخذ موضعه من الكل، والأرض كلها تظهر للإنسان في معناها الأصيل، سكنا له وموطنا، لا نعود نقول: إنها كتلة هائلة من المادة، ولا إنها فلك من الأفلاك التي تسبح حول الشمس، بل نقول: هي التي تظل كل ما ينمو ويتفتح ويتنفس، وهي التي تعطي له المسكن والأمان، المعبد الشامخ في موضعه فوق الصخور هو الذي يفتح أعيننا على هذا العالم ويعين له مكانه فوق الأرض، هذا الوطن الأصيل. إننا لا نقول: إن البشر والحيوان والنبات والأشياء كانت موجودة ومعروفة من قبل ثم جاء المعبد فأصبحت الوسط الذي يحيط به، بل الأولى أن نفكر بالعكس، الإنسان لا يعرف قدره وتاريخه، وأنواع الحيوان والنبات لا تظهر حقيقتها إلا بعد أن يظهرها العمل الفني على عالمها ويضعها فيه؛ فالعمل الفني هو الذي يظهر الحقيقة ويجليها ويخرجها إلى النور.
المعبد هو الذي يضع هذه الكائنات المحيطة به في عالمها الحقيقي، وهو الذي يعطيها وجهها ويطلعها على ذاتها قبل أن تصبح موضوعات للعلم والدرس والتحصيل، وكذلك الأمر مع صورة الإله المنقوشة بداخله وأمامه المحارب المنتصر الذي يقدم له القرابين، ليست الصورة من قبيل المحاكاة، ولا هي تريد أن تعرفنا كيف يبدو الإله، ولكنها العمل الفني الذي يدع الإله نفسه يظهر في حقيقته، أي الذي يجعله «يكون». من خلال العمل الفني «تظهر» الحقيقة، يكون الإله، «يوجد» العالم، ما معنى قولنا: إن العالم «يكون»؟ معناه أننا نعرف من خلال العمل الفني ما هو العالم، فليس العالم مجموعة من الأشياء والموضوعات مما نعرف وما لا نعرف، نحصيها ونضعها إلى جانب بعضها البعض، وليس العالم فراغا حقيقيا أو متخيلا نتصور مجموع الموجودات في إطاره؛ ذلك لأن العالم أعلى درجة في الوجود من كل ما نلمسه أو ندركه من الموجودات، ولأنه لا يمكن أن يصبح «موضوعا» مما نجده أو نراه أمامنا، ففي الفترات الحاسمة من تاريخنا حين نولد أو نموت، وحين ننتصر أو ننهزم، ونكلل بالمجد أو نقع في الكارثة، في مثل هذه اللحظات يكون العالم عالما؛ ذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي قدر عليه - سواء أراد أو لم يرد - أن يوجد في الوجود ويسأل عن حقيقة العالم، فالحجر لا عالم له، وكذلك النبات والحيوان، إنهم منتمون بالضرورة إلى وسط يرتبطون به على الرغم منهم، وعلى العكس من ذلك الفلاح، فهو يقيم في العالم المفتوح أمامه، المتسع لأفراحه وهمومه، الذي تلقاه حين ولد وسيؤويه حين يموت، ولكنه حين يزرع ويرعى البذور ويتعهد الثمار بفض أسرار الأرض ويكشف عن حقيقتها ويجعلها تصبح أرضا، وكذلك المثال حين يعالج الصخر، والشاعر حين يتناول اللغة، والرسام حين يمد ريشته في اللون، والموسيقي حين يؤلف بين الأصوات، ففي كل عمل فني يتفتح العالم ككل، وتتجلى الحقيقة على حقيقتها.
في وقفة المعبد في مكانه الشامخ فوق الصخور «تحدث» الحقيقة، لا نقول: إن شيئا قد صور هنا أو عبر عنه أو أتقن تقليده، بل نقول: إن الوجود كله قد تجلى وظهرت حقيقته. وفي لوحة فان جوخ «تحدث» الحقيقة، لا نقول: إن شيئا قد أجيد رسمه أو أحسنت محاكاته، بل نقول: إن طبيعة الحذاء كأداة قد ظهرت في هذه اللوحة، وفي ظهورها تجلى الوجود كله - الأرض والعالم في تلاقيهما وفي تنازعهما - في نور الحقيقة، المعبد واللوحة كلاهما لا ينبئنا بشيء عن شيء، فالجمال يظهر في بساطتهما وصفائهما، وبظهوره تتجلى الحقيقة، حقيقة العالم والوجود كله، ألم نقل: إن الفن هو إظهار الحقيقة؟
Shafi da ba'a sani ba