كتب جانسون هذا النقد في شهر مايو سنة 1952 تحت عنوان لا يخلو من السخرية: «ألبير كامي أو النفس المتمردة»، وكتب كامي في آخر يونيو ردا نشر في عدد أغسطس من «العصور الحديثة»، تنبئ سطوره الأولى بالمرارة والكبرياء، لم يكتب الرد إلى سارتر ، الذي كان الناس جميعا يعلمون أنهما صديقان، بل أرسله باسم «السيد مدير تحرير العصور الحديثة» معلنا بذلك في العنوان نفسه عن الجفوة التي ستستمر بينهما أكثر من سبع سنوات، حتى يضع لها الموت حدا بالحادث الذي أودى بحياة كامي في مطلع سنة 1960. ويبدأ كامي - بلهجة جادة ونبرة متعالية! - فيقول: إنه سيقصر حديثه على المنهج العقلي والاتجاه الذي يدل عليه المقال؛ لأنه - في رأيه - ليس دراسة بقدر ما هو موضوع يستحق الدراسة. ويحمل كامي سارتر مسئولية المقال كله، فيغفل اسم جانسون - الذي يصفه بقوله مساعدكم - ويتساءل عن غرضه من تشويه موضوع كتابه وتلفيق تاريخ وهمي لحياة صاحبه، فإذا كان الناقد يورد تقريظ الصحافة اليمينية لكتابه، فإن بعض المجلات اليمينية قد هاجمته، كما أنه لا يتردد في أن يكون يمينيا إذا وجد الحق مع اليمينيين. هذا إلى أن مقال الناقد يثبت في رأيه أنه ليس هناك حدود فاصلة بين اليمين الرجعي واليسار المتزمت؛ فكلاهما قد هاجم الكتاب وجرح صاحبه.
لم يستطع الناقد في رأيه أن يضعه بين اليمنيين فحاول أن يبرهن على أن دراسته للتمرد والثورة دراسة سطحية تلغي التاريخ وتنكر الواقع ولا تخدم غير الرجعية، ثم عاب عليه أن أسلوبه «قد بلغ درجة من النجاح تكاد تكون كاملة.» وكأن الأسلوب الجميل لا يأتي إلا من اليمين، أو كأن الثوريين ينبغي أن يكتبوا بأسلوب ركيك! ولا ينكر الناقد في هذا الكتاب الذي يعالج موضوع التمرد والرعب في العصر الحديث نوعا من الاحتجاج، ولكن الشيء الذي يغضبه أنه احتجاج بلغ ذروة الجمال والجلال، وكان التعبير عن الاحتجاج يتطلب من الكاتب أن يبتعد عن الحياة، ويلجأ إلى جزيرة البرود والصفاء، ويستخدم لغة ركيكة تصلح دون غيرها للكلام عن شقاء الإنسان!
ويتساءل كامي: كيف يمكن أن يتهم بالرجعية وعدم الواقعية والإيمان بالحقائق المتعالية؛ وجميع كتاباته السابقة على «المتمرد» تشهد على قربه من الواقع والتصاقه بالتاريخ؟ وكيف يمكن أن ينكر قارئ أو كاتب أن الطريق من «الغريب» إلى «الوباء» هو الطريق إلى المشاركة والتضامن بين البشر ؟ لا شك إذن عند كامي في أن ناقده قد اتبع أيسر السبل وأكثرها رواجا، وهي أنه إذا تعذر على الناقد أن يجد عيبا في الكتاب فمن السهل عليه أن يضعه فيه؛ فهو قد راح يتحدث عن موضوعات لا وجود لها في الكتاب أو ليست على الأقل هي موضوعه الرئيسي، وترك المسائل الأساسية التي تناولها كالكلام عن الحد والاعتدال اللذين يفرضهما فعل التمرد نفسه، ونقد العدمية التي جاءت بعد هيجل، والتنبؤ الماركسي وفكرة الذنب ... إلخ. لقد راح يؤكد أنه - أي كامي - يرفض أن يعترف بأي دور للعوامل الاقتصادية والتاريخية في نشوء الثورات. والواقع أنه لم يبلغ من الجهل والغباء إلى الحد الذي يوقعه في هذا الخطأ، ولكنه لم يرد أن يضيف إلى مئات الكتب التي تبحث في الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها التاريخ كتابا جديدا، ولا أن يصف ظاهرة الثورة أو يتتبع أسبابها التاريخية والاقتصادية، وهو الأمر الذي حاوله غيره آلاف المرات، وإنما أراد أن يقصر نفسه على توضيح الخط المنطقي في بعض الوقائع الثورية، والكشف عن موضوعات التمرد الميتافيزيقي الدائمة فيها، وإبراز ميلها الواضح إلى تأليه الإنسان. ومن ثم عدم كلامه بالتفصيل عن تلك العوامل الاقتصادية لا يعني إهمالها أو إنكار أثرها، كما لا يعني السكوت عن شقاء الجائعين.
وإذن فقد كان هم الناقد أن يثبت بعد المؤلف عن الواقع، في الوقت الذي يثبت فيه بعده هو عن نصوص الكتاب! لقد كتب كامي يقول: إن من الممكن التسليم بالدور الأساسي الذي تقوم به الحتمية الاقتصادية في نشأة السلوك والفكر البشري، وإن رفض مع ذلك التسليم بأنها هي التي تقوم بالدور الوحيد، ولكن الناقد جاء يقول: إنه لا يعترف بالدور الأساسي الذي تقوم به العوامل الاقتصادية ... إلخ. فلماذا الإصرار على نقد كتاب لا نصدق ما يقوله صاحبه أو نفهم منه غير ما يقول؟ وما الفائدة إذا كان المؤلف يقول: إن السماء زرقاء فيصمم الناقد على أنها سوداء؟! أليس معناه أن المؤلف مجنون أو أن الناقد أصم؟! إن الناقد يكذب إذ يلخص الموضوع الرئيسي للكتاب على هذا النحو: الشر كله في التاريخ، والخير كله خارجه . في الوقت الذي خصص فيه المؤلف قسما كبيرا من كتابه لمحاربة هذا الرأي وإثبات بطلانه؛ فقد حاول أن يقيم الدليل على أن النزعة التاريخية والنزعة المضادة للتاريخ كلتيهما على خطأ، فالذين لا يؤمنون إلا بالتاريخ يسيرون إلى الرعب، والذين لا يؤمنون بالتاريخ يبررون الرعب أيضا، وكلاهما يسير في الحالين إلى العدمية. وكيف يستطيع أن ينكر التاريخ وفي ذلك إنكار للواقع نفسه؟ إن الكتاب لا ينكر التاريخ، ولكنه يحتج على الاتجاه العقلي الذي يجعل منه شيئا مطلقا، ولا يشهد على ذلك نص أو بضعة نصوص، بل تشهد عليه تحليلات الكتاب وعاطفته العامة. لقد كان على الناقد أن يواجه رأي المؤلف الأصلي، الذي يذهب فيه إلى أن خدمة التاريخ لذاته تؤدي إلى العدمية، أو يحاول بدلا من ذلك أن يثبت أن التاريخ وحده يمكنه أن يقدم قيما أخرى غير القيم التي تمجد القوة والعنف، أو يثبت أيضا أن في إمكان الإنسان أن يخوض التاريخ بغير حاجة إلى أية قيمة من أي نوع. لو أنه فعل ذلك - وهو أمر عسير بغير شك - لاستحق منهجه الاحترام وربما حظي بالقبول، ولكنه اختار الطريق الملتوي، وراح يلفق للمؤلف آراء لم يقلها، وينكر عليه أشياء لم تخطر على باله، وينصب نفسه قاضيا يتهمه بالانعزال عن التاريخ والانسلاخ عن ثورات العصر وكفاح الأحرار في مدغشقر والجزائر والهند الصينية! هذا في الوقت الذي يعرف فيه الجميع موقفه من ثورات التحرير، ودوره في حركة المقاومة السرية في بلاده، أليس من حق المؤلف بعد هذا كله أن يتهم الناقد بالتجرد عن النزاهة والإخلاص والبعد عن كل مناقشة عميقة أو جادة؟ •••
ويتخلى كامي بعد هذا عن موقف الدفاع ليبدأ في الهجوم! فهو يتهم ناقده بأن مقاله يقوم من الناحية الفلسفية على التناقض والعدمية، ومن الناحية التاريخية على عدم الفاعلية. أما التناقض فلأن مقاله يدافع عن الماركسية كعقيدة ويعجز عن تأييدها كسياسة؛ ولذلك يحاول أن يصف كل نقد للماركسية بأنه يمين، وأن يثبت - اعتمادا على هيجل وماركس - أن الفلسفة المثالية فلسفة رجعية، هذا إلى جانب أن يصمت صمتا تاما عن كل الحركات الثورية فيما عدا الماركسية، وإذا ذكرها فلكي يسخر منها أو يتهكم عليها؛ فهو يتجاهل الحركة الدولية الأولى وثورة الباكونيين، كما يصمت عن ثوار سنة 1905 في روسيا، وهم الذين يصفهم كامي بالمتمردين المعتدلين أو القتلة الأبرياء، ويضعهم في مركز كتابه، ثم يسخر بالحل الذي يقدمه كامي ممثلا في الحركة النقابية الاشتراكية كبديل للاشتراكية القيصرية، وينكر أن يكون هناك حل آخر غير الاشتراكية الماركسية، ربما لأنها هي التي أثبتت نجاحها وأصبح لديها جيش قوي ونظام بوليسي متين!
فعل الناقد هذا كله من وجهة نظر ماركسية متزمتة، ولكنه لم يستطع أن يناقش الماركسية كسياسة مفتوحة، يدل على ذلك أمران: أنه لم يتعرض لآراء المؤلف عن ماركس وهيجل، ولم يشر بالتأييد أو النفي إلى هذين السؤالين اللذين طرحهما في كتابه: أليست هناك نزعة إلى التنبؤ في تفكير ماركس (أي التنبؤ بالمجتمع البشري السعيد الذي ستنتهي عنده كل المتناقضات) تدحضها اليوم وقائع عديدة؟ ألم يكن كتاب «ظاهريات العقل» لهيجل سببا في قيام نظرية في الانحطاط أو «الكلبية» السياسية وظهور هيجليين يساريين أثروا على الحركة الشيوعية في القرن العشرين؟
إن كامي لم يهاجم منهج ماركس النقدي، بل أثنى عليه، ولكنه انتقد فكرة التنبؤ «اليوتوبية» وحملها مسئولية جانب كبير من الرعب والإرهاب الذي عرفته الاشتراكية على عهد ستالين مثلا، وهو يرى أن آراء ماركس ليست آراء مقدسة لا تمس؛ إذ أصبح من الضروري مناقشتها بعد مرور قرن من التطور الاقتصادي والعلمي والصناعي، ولو بعث ماركس نفسه اليوم لكان أول من يحرص على تعديل آرائه. وإذا كان من الواجب مناقشة الماركسية، فإن الماركسيين أنفسهم هم أول من يلزمهم هذا الواجب؛ ذلك لأن الفلسفة الماركسية قد وصلت إلى مرحلة تحتم عليها أن تتجاوز نفسها أو تتناقض مع نفسها، وأن تصحح مبادئها أو تتنكر لها.
وأخطر من هذا كله أن الناقد يصمت صمتا تاما عن كل مآسي الاشتراكية «الفردية» المتسلطة، كما يتجاهل ما كتبه المؤلف عن الصلة بين الثورة في القرن العشرين وبين الرعب والفزع السائدين فيه. وإذا صح أن هذه الاشتراكية المتسلطة هي التجربة الثورية الأساسية في عصرنا الحديث، فلا بد من مواجهة صريحة لمشكلة الرعب والتعذيب والإرهاب التي اقترنت ولا تزال تقترن إلى حد كبير بهذه الاشتراكية، وبالأخص مشكلة معسكرات الاعتقال، ولا شك أن طرح هذه المشكلة يضايق الكثيرين ممن يفتخرون بأنهم يعيشون في التاريخ أو يصفون أنفسهم بالواقعية، ولكنهم - على كل حال - لا يستطيعون أن يتجاهلوا عذاب ملايين البشر الذين عاشوا في هذه المعسكرات. وتجاهل هذه المشكلة معناه أمر واحد، وهو الموافقة على المذهب، والسكوت عن السياسة العملية التي يتبعها؛ وفي هذا تناقض دموي صريح، ومغالطة يزعم معها صاحبها أن التاريخ الحديث - على الرغم من اضطرابه وبشاعة وجهه - ينطوي على معنى ضروري ويسير نحو غاية محددة، تنتهي عندها كل التناقضات، ويقوم المجتمع الحر السعيد. إن كتاب المتمرد يحاول أن يبين أن التضحيات التي اقتضتها الثورة الماركسية أمس واليوم لا يمكن أن تبررها إلا النهاية السعيدة المفترضة للتاريخ، وأن الديالكتيك الهيجلي والماركسي يستبعد - في نفس الوقت - هذه النهاية، ولا بد للتغلب على هذه الصعوبة من القول بهذا الفرض: التاريخ ليس له غاية، ولكن له معنى غير متعال عليه. ربما كان هذا الفرض ممكنا، ولكنه سيؤدي حتما إلى نتائج خطيرة، فتحرير الإنسان من كل عقبة لحبسه بعد ذلك في سجن ضرورة تاريخية يساوي في الواقع تجريده من كل بواعث الكفاح للإلقاء به في آخر الأمر في أحضان حزب من الأحزاب، بشرط أن يكون المبدأ الوحيد لهذا الحزب هو الفاعلية والنجاح، ومعنى هذا - بحسب قانون العدمية - هو الانتقال من الحرية القصوى إلى الضرورة القصوى، والنتيجة هي خلق جيل أو أجيال من العبيد.
إن الناقد يوافق على التمرد الذي يمكنه - على حد قوله - أن يساهم في سلامة أي مشروع ثوري، ما دامت شعلته حية في قلب هذا المشروع، ومعنى هذا أنه يوافق على التمرد، بشرط ألا يكون تمردا على الحزب أو الدولة الشيوعية، أما المؤلف فهو يتمرد باسم الطبيعة الإنسانية، وباسم كرامة الإنسان، وهو يحس بكل ما قاسته أوروبا وما تقاسيه من تطرف الثورات وانحرافها، فيقول: إن الروح الثورية في أوروبا تستطيع للمرة الأولى والأخيرة أن تعيد التفكير في مبادئها، وتسأل نفسها ما هو الانحراف الذي أضلها وقادها إلى الرعب والحرب، وتكتشف من جديد - بأسباب تمردها - روح الصدق والإخلاص الكامنة فيها. أما التمرد باسم التاريخ، وجعله هو القاعدة والمبدأ والمعنى الوحيد، فلا بد أن يؤدي إلى تأليه التاريخ، والتنكر للتمرد الحق، وإلغاء الحرية والمغامرة الوجودية، وفي هذا إلغاء لروح المذهب الذي يدعو إليه سارتر صاحب مجلة العصور الحديثة والمسئول في رأي كامي عن هذا النقد وصاحبه، وفيه كذلك إنكار لكل منهج نزيه ينبغي أن يلتزم به النقاد. ليس هناك من حل إذن غير التخلي عن اللعب بالحجج العقلية والوقوف إلى جانب الضحايا والمقهورين والملايين المجهولة التي تحمل التاريخ على ظهرها كما تحمل الصليب، ويستغلها المستبدون كل يوم لأغراض الحرب وصراع القوة والدمار. •••
كان من الطبيعي أن يرد سارتر على هذه السطور المتكبرة المريرة التي وجهها كامي إليه؛ فجاء رده أشد قسوة ومرارة، وإذا كان كامي قد سماه «السيد مدير تحرير العصور الحديثة»، فإنه يوجه إليه خطابه قائلا: «عزيزي كامي.» إنه يأسف في السطور الأولى على الصداقة التي كانت تربط بينهما، ولم تكن صداقة يسيرة، لقد كان هناك الكثير الذي يجمعهما، والقليل الذي يفرق بينهما، ولكنه كان يفضل أن ينصب الخلاف بينهما على المسائل الأساسية، ولا تختلط به رائحة الكبرياء الجريحة، وكان يريد أن يسكت، لولا أن لهجة كامي قد جعلت سكوته شيئا مخجلا، ولولا أن طريقته «البوليسية» في مهاجمة الناقد جانسون قد أجبرته على مواجهته بالحقائق التي كان يجد حرجا في مصارحته بها.
Shafi da ba'a sani ba