ثم ننحدر درجة أخيرة في سلم التفكير، فنجد هذه النماذج قد تحولت إلى أضدادها، فالناقد الأصيل يصبح شتاما هجاء، ينتقد كل شيء، ويلتمس العيب في كل إنسان، ويحقر من شأن كل عمل، والشارح المدقق والمفسر المتعمق يصبح فأر مكتبة أو خرطوم خنزير، والمفكر القدير ينقلب إلى مجادل لكل رأي، معارض لكل دليل، مؤيد للقول وضده، إنه يسمح بتجاوز الصواب والخطأ، واجتماع الإله والشيطان، يدعي أنه يفهم كل شيء، ويحاول أن يرفع صوته في كل سوق، المثل الأعلى للحقيقة غاب عنه، والموضوعية الأمينة لم تعد قضيته، ويصبح العالم متعالما والأديب أدباتيا، والفيلسوف فيلسوفا (على نحو ما يقول التعبير العامي اللطيف!) يلوك الأسماء الغريبة في فمه ويتحذلق بالنوادر العجيبة في كل «صالون»، ويلبس كالمهرج في كل اجتماع رداء، ويستخدم كالبهلوان منطقا في كل سيرك. الشاك الأمين أصبح لا يدري أين يغرز سهمه، والمتشائم الجاد لا يعرف أين يضرب معوله، ويصبح أحدهما عدوا للفكر والآخر عدوا للإنسان، حاقدا على العالم محتقرا للثقافة، إنهما يفقدان كل مقياس، وينكران كل قيمة، وينتهيان إلى النزعة العدمية، أو إلى عدمية النزعة والاتجاه، أي إلى الفوضى بعينها، إن كل صورة نبيلة تمسخ وتشوه، وجلال الفكر الصامت الجاد يصبح ضجيجا في يد أناس غايتهم لفت الأنظار. •••
المتأمل في هذه اللوحة يشارك في مؤتمر فلسفي، يختلف عن كل المؤتمرات التي نعرفها في القرن العشرين، فالفلاسفة هنا مجتمعون، لا يتعصبون لمدرسة، ولا يتقيدون ببرنامج، ولم تبعث بهم دولة على حسابها. الواحد منهم لا يلقي محاضرة، بل يشارك في حديث، والحديث حر منطلق سخي وكريم، يسمح بالمناقشة والاعتراض، ولا يعرف الخطبة المفزعة التي يتكلم فيها واحد ويصمت الجميع؛ ذلك أنه هو الحديث الذي عبر عن الفكر في نشأته الأولى، قبل أن تدون الكلمة في كتاب، أو تسجن الحروف في مخطوطة. هو مؤتمر دائم أو أكاديمية مفتوحة لا تعرف المواعيد والجلسات ولا اللجان والندوات، ومع ذلك فقد اجتمعت هنا اتجاهات ونزعات عديدة، تستطيع النظرة الأولى أن تميز منها مشاهد خمسة:
أول ما يلفت انتباهنا رجل نصف عار، يجلس في استرخاء وعدم اكتراث على درجات السلم (شخص 40)، إنه هو الفيلسوف الشحاذ ديوجينيس، الذي عرف في تاريخ الفلسفة باسم «الكلبي»، لعله كان أول من دخل إلى معبد الحكمة، فلم يستند إلى عمود أو جدار، ولم ينتظر أن يتحلق حوله المريدون والأتباع، بل تمدد في جلسته كما يتمدد الكلب في دفء الشمس! إنه في الصورة يدير ظهره للجميع، ويكاد يذكرنا بالحكاية التي تروى عنه، حين اقترب الإسكندر الأكبر منه وأراد أن يتحدث إليه، فما كان منه إلا أن طلب منه أن يبتعد حتى لا يحجب عنه نور الشمس! لقد استغنى عن كل شيء، ولم تعد به حاجة إلى إنسان، حتى الملعقة التي كان يأكل بها قذف بها بعيدا عنه، حين رأى صبيا يشرب الماء من راحة كفه. وأما الوعاء الذي يأكل منه فالبعض يؤكد أنه يراه في الصورة، والبعض الآخر لا يرى ضرورة إليه. وأيا ما كان الأمر، فقد فرغ من أكله قبل أن يتوافد الحاضرون إلى «المدرسة»، ومضى يقلب البصر - من بعيد - في المخطوطة التي يحملها في يده اليسرى، وكأنما يلقي عليها نظرة ازدراء قبل أن يلقي بها بعيدا عنه، على نحو ما ألقى بكل شيء وتخفف من كل شيء!
ولكنه - شاء ذلك أو لم يشأ - مشترك في الصراع الدائر حوله، ومهما حاول إيهامنا بأنه قد استغنى عن كل شيء، فهو لم يستغن بعد عن هذه الرغبة في الإيهام! وإلا فلماذا أتعب نفسه بالحضور؟ ألم يكن يستطيع أن يبقى في برميله المشهور؟ لعله يشك في قدرة مظهره على بيان مخبره، ولعله يندم على أنه لم يحضر برميله معه! هذا الفيلسوف الذي ظن أن التفلسف شكل ورداء، قد أحضر كل ما يثبت «كلبيته»: اللحية الكثة المشعثة، والرداء الذي يكشف من الجسد أكثر مما يخفي، والجسد الممدد على السلم كأنه ثوب قديم متسخ لا يدري صاحبه كيف يتخلص منه، كل هذا يصرخ باحتقار من سمته العصور القديمة «بسقراط المجنون» للتمدن والتهذيب، وينطق بأن الفيلسوف هو الشحاذ الأبدي الذي يسأل عما لا يدريه أحد، ويتصدق بما لا يملك أحد أن يعطي. إنه فيلسوف المراعي والغابات، يهيم على الأرض كالوحش التعيس، عاريا إلا من خرقة تستر عورته، جائعا إلا من كسرة تخطفه من الجوع، وما أكثر أتباعه من العراة ودعاة الطبيعة والفطرة! سوف يحاول على الدوام أن يمد يده إلى الكتب التي لا يفهمها، ويجادل في المسائل التي لم يتهيأ لها، وسوف يرتد دائما إلى طبيعته الحيوانية، ويعرف أن الفلسفة عند أمثاله ليست سعيا إلى المعرفة، بقدر ما هي فن عملي من فنون الحياة، ومع ذلك فلا يجوز أن نظلمه ونجرده من كل «عاطفة» فلسفية؛ فوحدته الفاسدة في جوف برميله دليل على أنه يتصل بالفلسفة بسبب، وكلمته الأبية المتهورة للإسكندر الأكبر - إن صحت الرواية - برهان على شجاعته النادرة المضحكة.
إن المفسرين جميعا يتفقون على أنه هو «ديوجينيس» بن «سينوب»، الشحاذ الذي زهد في كل شيء، فلم يبق له من ترف إلا الفلسفة، والكلب الآدمي الذي أراد أن يثبت أن التفلسف هو الشيء الوحيد الذي ليس كلبيا فيه، وأن الفكر هو الذي يعصم الإنسان من أن يعيش ويموت كالكلاب ...
أما المشهد الثاني فهو - في أغلب الظن - يرينا أول القادمين بعد الفيلسوف الشحاذ، إنه الساخر الأزلي، الذي لا تفارق الابتسامة شفتيه، سقراط الساذج المكار في آن واحد، التفت حوله جماعة من كل شكل وصنعة وطبقة، وليس من المصادفة أن يكون سقراط هو أول الحاضرين بعد ديوجنيس؛ ذلك أنه مثله يملك الوقت للجدل الذي يبدو كأنه لا ينتهي، ويملك الوقت ليمضي من بيت إلى بيت، ويحمل فلسفته إلى الحواري والأسواق (وأين منها فلسفة اليوم التي لا تستطيع أن تغادر تابوتها الحديث الذي نسميه الكتاب أو قاعة المحاضرات؟) هنا نجد سقراط (شخص 21 وجماعته) وكأنهم يتهيئون للانصراف بعد أن طال بهم الحوار والنقاش، والفيلسوف يفرد ذراعه اليسرى ويعد على أصابعه كأنه يريد أن يؤكد شيئا انتهى إليه لمن لا يزالون يصغون إليه، والشك يطل من أعينهم يريدون أن يقولوا: «فلننصرف على كل حال، وهل يمكن لسقراط اللبق أن ينتهي إلى شيء؟!»
يبدو من سقراط الجانب الأيسر من وجهه فحسب، تجلله لحية كثة، وتشع منه وداعة أليفة، رداؤه بسيط فضفاض، في لون الزيتون الأخضر، يلتف حوله حزام يشد بطنه المنتفخة، وحركة يديه معبرة بسيطة، يكاد يفرد أصابعه ليعد عليها حججه النافذة المقنعة، وقبحه المشهور عنه قد عوضه النبل المعبر في حركاته وإيماءاته، ولعله الآن يختم الحديث الذي طال بينه وبين الجماعة الملتفة حوله، ويحاول - بعدما اعترف لمحدثيه بأنهم يعرفون ما لا يعرف - أن يتدخل بتواضعه الساخر المعروف، فيستخلص النتائج ويحدد المفاهيم، ولعله لم يصل كالعهد به إلى نتيجة محددة، بل ترك الحديث مفتوحا ليستأنفه في اليوم التالي على مأدبة صديق أو في زحام سوق، ومع ذلك فحركة يديه، والإشارة القاطعة بسبابة يده اليسرى ترجح أنه قد توصل إلى نتيجة لا سبيل إلى الشك فيها، ينصت إليها محدثوه في رضا واقتناع.
إن جماعة سقراط تتألف من ستة أشخاص، ترتبط بهم ارتباطا وثيقا جماعة أخرى (على الجانب الأعلى من الصورة إلى اليسار) من ثلاثة أشخاص (13-15)، لقد حضروا مسرعين، ورئيسهم الذي مد ذراعه اليسرى في هدوء وكأنه يعتذر أو يبرر موقفهم لواحد من جماعة سقراط (يتميز بشعر رأسه وذقنه الكث المهمل الطويل): «ها نحن قد أتينا، إن رفيقي قد أتى معه بالكتب التي كلفتمونا بإحضارها، لقد قطع الطريق جريا، يكاد الرداء أن يسقط عنه لفرط تعجله ولهفته على إحضار مخطوطته، لا شك أنها ستعاون على حسم النزاع وإيضاح البرهان، ولكن ماذا تريد أن تقول؟ هل كان تعبنا عبثا؟! ألم نتفق على الرجوع إلى الدليل المكتوب؟ وا أسفا للجهد الضائع؟ لقد تحقق ما توقعته، سقراط الذكي قد كسب المعركة، استطاع بسحر كلامه وخبث منطقه أن يجعلكم تتخلون واحدا بعد الآخر عن وجهة نظركم، ألم أقل لك ذلك من قبل؟! ألم يكن في استطاعتنا أن ندخر تعبنا؟ تقول: إننا تأخرنا؟ ولكن ما قيمة ذلك إذا كنتم أنتم قد تسرعتم بالاقتناع؟ هل جاءكم الآن كلامي؟!»
إن المتحدث بلسان الجماعة الثانية يبدو على وجهه ما يشبه الندم أو خيبة الأمل، والرجل الأشعث الشعر الذي يبدو أنه يؤنبه أو ينهره أو يستفزه يلتفت إليه، ولكن أذنه ما زالت معلقة بكلام سقراط. إن كل شيء يظهر له الآن سخيفا بعدما قال الفيلسوف كلمته، ربما كان أحد معارضيه قبل لحظات مضت، وربما كان واحدا من أولئك السفسطائيين الذين يهمهم أن يعلنوا هزيمة سقراط على الملأ، ولكن الأسانيد والحجج التي بعث في إحضارها لتأييد رأيه قد تأخرت، والحكيم الساخر قد أوقعه في شبكته، وهو إن كان يلوم هؤلاء الشبان على تكاسلهم؛ فلأنه لا يجد الشجاعة لكي يلوم نفسه. ألم يقف مع سقراط وينصت إليه؟ وكيف كان له أن يفلت من سحره أو ينجو من خطره؟ ها هو كل شيء قد ضاع، والمجتمعون حول سقراط قد اقتنعوا بما قال وأعطوه قلوبهم قبل أسماعهم، ولن تستطيع قيثارة هوميروس نفسه أن تصرف انتباههم عن حديثه الخطر الجميل!
سقراط يختم حديثه، لعله لا يقيم الدليل على صدق رأيه بقدر ما يثبت خطأ معارضيه، إن أهم شيء لديه الآن أن يجردهم من وهم قديم قبل أن يقنعهم بحقيقة جديدة، الشاب الأشقر الذي يقف إلى جانبه ويضع يده اليمنى على أذنه يتطلع إلى المعلم في حب من يصدق الآن كل كلمة يقولها دون حاجة إلى انتظار بقية الحجج والبراهين: «لا بد أن أنصرف الآن يا سقراط، اعذرني إن كنت لا أستطيع أن أنتظر حتى تتم كلامك، لقد خلصتني من أخطائي المتزمتة الموروثة، وإن كنت لا أتصور الآن كيف نجحت في ذلك. ها أنا أنصرف كما قلت لك، ولكن إيماني بك لا يخلو من الدهشة منك!» وأما الشاب البديع - لعله فارس أو محارب - الذي يضع على رأسه خوذة ويقف أمام الساحر الأصلع الفقير، وقد وضع ذراعه اليمنى في خصره، ووقف في استرخاء وقفة المستسلم المذهول، فهو لا يملك إلا أن يعطي نفسه كلها في نظرته المحبة الوفية لسقراط، إنه - كما يبدو - لم يشترك في الحديث اشتراكا فعليا، ولعله كان يعبر الطريق مصادفة مزدهيا بردائه الجميل وقامته الفارعة وجسده الممتلئ بالحياة، ولعله كان قد سمع بسقراط وشيطانه فيما يسمع بقية الأثينيين، فلما رآه يتحدث معهم وقف يستمع فيمن يستمع إليه، ويشاهد بعينيه فن «القابلة» الذي أتقنه سقراط كما أتقنت أمه توليد النساء. إن الشاب الجميل المسحور ببراعة سقراط في توليد الأفكار لا يملك الآن إلا الإعجاب المطلق به، وإن كان لا يفهم كثيرا مما يقول، أو لا يهمه أن يفهم منه القليل ولا الكثير، وكأنه يقول الآن لنفسه: ومع ذلك فهو يؤكد لكل من يصادفه أنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف! حقا ما أمتع الاستماع إلى سقراط هذا، وما أشد ما يختلف عن غيره من أدعياء المعرفة!
Shafi da ba'a sani ba