وكثر الخلاف والتحزب فأقعد الزحليين وأقامهم وحدثت مواقع بين بعض الأسر (العيال) يسوء ذكرها. وهكذا كانت الفوضى مستولية على هذه المدينة، وانقسام الكلمة سائدا بين سكانها، مع معرفتهم أنهم مبغضون من جميع من يجاورهم أو يلابسهم بل مع تأكدهم أن القوة في الاتحاد، فكانوا أجدر بالتناصر منهم بالتخاذل. (14) مذبحة سنة 1860م
كان انقسام لبنان إلى قائميتي مقام مسيحية ودرزية واتساع الفتق بين الطائفتين، وعدم رتقه بحكمة وسداد داعيا إلى نشوب حرب جديدة اضطرمت شرارتها في قرية بيت مري في المتن في أواسط سنة 1859م، واتصلت بلبنان وسورية، فحدثت مذابح سنة 1860م المشئومة التي يحزننا ذكرها، ولكن المؤرخ مضطر إلى سرد ما جرى ووصف الحقائق التاريخية كما حدثت. ذلك ما حدا بنا إلى ذكر هذه الفاجعة التي ارتعدت لها فرائص الإنسانية جزعا، وسطرتها الأيام بمداد اللوم والتقريع لمن كانوا السبب في إضرام نارها، سامحهم الله وألهمنا الشفقة والحنان على بني جنسنا في مثل هذا الموقف الخطير، والصبر الجميل في مثل هذا المصاب الكبير.
كان سكان مدينة زحلة قبل شبوب نار هذه الفاجعة متفرقي الكلمة كثيري الخصام، لا يتجاوز عددهم اثني عشر ألف نسمة يتجرد منهم نحو ثلاثة آلاف بطل مدرب على القتال. وكانوا قد بلغوا مبلغا عظيما من التجارة والثروة والسطوة وموقفهم حرج.
فكانت الطائفة الدرزية تحب الاستثآر منهم لما أجروه مع بني القنطار وحاطوم، ولإبلائهم في موقعة العريان، وفي المعارك الأخر التي فصلت في أثناء الكلام عن وقائعها. وكان الأمراء الحرفوشيون وإخصاؤهم الشيعيون، قد تغيروا على الزحليين لحرقهم بريتان وتسليمهم الأمير سلمان الحرفوشي الذي التجأ إليهم، والأمراء اللمعيون قد استاءوا من شنهم الغارة على وكلائهم وعقاراتهم وعدم انقيادهم إليهم كعادتهم وشقهم عصا الطاعة، وقنصل إنكلترة موغر الصدر عليهم لطردهم المرسل الإنكليزي، كما مر إلى غير ذلك مما سبق تفصيله في مواقع مختلفة. فكانت الشئون الخارجية ضدهم من كل جهة، وحالتهم الداخلية مضطربة بانقسام كلمتهم وتفريق مبادئهم وتظاهر أسرهم بالعداء والتحزب؛ فلذلك كانت هذه الموقعة أشد المواقع التي خذلتهم وفتت في عضدهم ورمتهم بالفشل وأعادتهم بالخيبة، فخسروا كل ما كانوا قد ربحوه من المجد في المواقع الماضية عملا بقول الشاعر:
وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها
تشقى كما تشقى العباد وتسعد
ولما امتدت نيران الفتنة في أنحاء لبنان بين الدروز والمسيحيين في هذه السنة، وقرب الدروز من ضواحي زحلة ونواحيها وتأهب الزحليون للدفاع عن مدينتهم، ولكنهم كانوا فرقا متناوئة وجماهير متخاصمة فكانوا يسيرون بدون قائد عام؛ وقلوبهم متنافرة وكلمتهم غير مجتمعة، وقد فزع إلى زحلة كثير من المسيحيين ممن نشبت عندهم أو في جوارهم الفتن، وكثرت الفتوق ولا سيما من العرقوب والبقاع.
ولقد شهد الزحليون أربع مواقع قبل أن تحاصر بلدتهم وتحرق متراوحين بين النصر والفشل، وهذه هي المواقع التي أصلوا نارها.
48
موقعة ظهر البيدر
Shafi da ba'a sani ba