المتوالي اليمني صاحب مقاطعة بلاد بشارة عن طاعة أرسلان باشا المطرجي والي صيداء، وقتل بعض غلمانه، فاستنجد الوزير الأمير بشيرا الأول الشهابي لقتاله، وأطلق له ولاية صفد مع مقاطعات جبل عامل الثلاث وهي: مقاطعة بلاد بشارة وكانت لبني علي الصغير، ومقاطعة إقليمي الشمار أو الشومر والتفاح وكانتا لبني منكر، ومقاطعة الشقيف وكانت لبني صعب. فجمع الأمير بشير من رجاله القيسيين ثمانية آلاف مقاتل، وزحف بهم إلى قتال المتاولة، فقابلهم في قرية المزيرعة من بلاد بشارة، وانتصر عليهم وقبض على مشرف بن علي المذكور وشقيقه الحاج محمد ومدبرهما الحاج حسين المرجي، وأرسلهم إلى أرسلان باشا فقتل الحاج حسينا وسجن مشرفا وأخاه، وامتدت ولاية الأمير من صفد إلى جسر المعاملتين. ووقعت العداوة في البلاد بين المتاولة وغيرهم من سكانها. ولما مات الأمير بشير سنة 1707م وخلفه الأمير حيدر وعزل أرسلان باشا وخلفه أخوه بشير باشا، عاد بنو علي الصغير إلى العيث في مقاطعاتهم، وانضم إليهم المناكرة والصعبية؛ لأن بشير باشا أعاد لهم مقاطعاتهم، فجمع الأمير عسكرا وسار إليها للاستيلاء عليها ولقتال المتاولة المذكورين، فبلغ قرية النبطية فالتقاه المتاولة خارجها فتصادموا وكسرهم وقتل كثيرا منهم، فالتجأ بعضهم إلى القرية وتحصنوا فيها، فأغار عليهم وأعمل فيهم السيف حتى مزق شملهم وقتل معظمهم، فجلا بنو علي الصغير عن بلاد بشارة واستولى عليها الأمير، ووضع محمودا أبا هرموش الدرزي نائبا عنه ليجبي الأموال الأميرية، وعاد إلى دير القمر وكان ذلك سنة 1708م.
أما محمود أبو هرموش فظلم الناس، وأخذ أموالا زائدة عن المرتبات المعينة، فنمى ذلك إلى الأمير حيدر فاستقدمه للمحاسبة نحو سنة 1710م، ففر إلى صيداء والتجأ إلى واليها بشير باشا، وكان يحبه لكثرة هداياه له فحماه مدة. وأرسل فأثار بعض الأمراء والأعيان اليمنيين في الغرب والجرد بمساعدة الأمير يوسف أرسلان حاكم الغربين الأعلى والأدنى (في الشوف). وانحاز أبو هرموش من الحزب القيسي إلى اليمني، وصار من زعمائه وتبعه بعض القيسيين، فصاروا يمنيين فتقوى اليمنيون في الشوف واستولى كبيرهم الأمير يوسف علم الدين مع محمود أبي هرموش على لبنان، فترك الأمير حيدر دير القمر بولديه الأمير ملحم والأمير أحمد وتبعه من أعيان البلاد الشيخ قبلان القاضي وولده الشيخ أمين والشيخ علي النكدي والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخان محمد تلحوق وولده شاهين. وبقي له في البلاد حزب آخر مثل الأمراء اللمعيين مقدمي المتن وغيرهم من الأعيان.
فسار الأمير حيدر بمن تبعه إلى غزير وأرسل عياله إلى مقاطعة الفتوح إلى المشايخ الخازنيين. فما وصل محمود أبو هرموش إلى دير القمر حتى استقدم إليه الأمراء آل علم الدين من دمشق؛ إذ كانوا قد فروا إليها كما مر، وأرسل عسكرا إلى غزير لقتال الأمير حيدر الذي أنجده المشايخ الحبيشيون، وانتشب بينهم القتال من الفجر إلى المساء. فاندحر عسكر أبي هرموش إلى جهة البحر متقهقرا. وفر الأمير حيدر بأعوانه، واختبأ في مغارة فاطمة أو مغارة عزرائيل في سفح جبل الهرمل، وفر الغزيريون إلى جهات طرابلس.
ولما خلت غزير من القيسيين أغار عليها اليمنيون سحرا، فنهبوها وأحرقوها حتى تركوها قاعا صفصفا وقيل في تأريخها: «ندمت غزير 1711».
8
وعاد عسكر أبي هرموش إلى دير القمر، وقد كثر قتلاه وجرحاه، فتحامل على القيسيين وصادرهم ورفع منزلة اليمنيين، وتزوج ابنه من أمراء آل علم الدين، وصار مدبرا لشئون حاكمي لبنان منهم وهما الأمير يوسف وشقيقه الأمير منصور، فصار زمام الولاية بيده، فحصر المقاطعات باليمنيين وضرب على أيدي القيسيين، ولم يبق لهم حرمة ولا حفظ لهم عهدا، فأضمر القيسيون له ولأعوانه السوء وسعوا في جمع كلمتهم والتئام شملهم واستعادة سلطتهم. وهكذا حمي وطيس التحزب في أنحاء لبنان وضواحيه بسبب هذه العصبية، واضطرب حبل الأمن وانتشرت القلاقل، فصارت البلاد ميدانا للمشاحنات والتعصبات ومثارا لعواصف الفتنة، ومهبا لزعازع المخاصمات في جميع المقاطعات.
ولما كان حكام صيداء وعكاء ودمشق وطرابلس يرون سلطة الإقطاعيين وسطوتهم واعتزازهم بالمال والرجال، سعوا بخضد شوكتهم وتفريق كلمتهم، فكانوا يثيرون فيهم العصبيتين القيسية واليمنية وينحازون إلى أحد الحزبين لإضعاف الآخر، فأوقظوا بذلك طرف الفتنة وكثرت الدسائس، وانتشر الخداع بين القوم فأخذوا يتطاحنون ويتنابذون. وكانت قرية عين دارة إذ ذاك قد اعتصم بها اليمنيون وتقووا وبنوا لهم فيها حصونا منيعة، ووقفوا في طريق المارة من القيسيين في أعلى الجبل، وكان أكثر مقدمي المتن والجرد وشيوخهما يمنيين وعين دارة نقطة اجتماعهم، وهي من العرقوب في الشوف.
وسنة 1711م عقد القيسيون اجتماعات كثيرة قرروا فيها الضرب على أيدي اليمنيين، فأرسلوا يستقدمون إليهم زعيمهم الأمير حيدر الشهابي بواسطة المشايخ الخازنيين، وكان هذا لن يزال مختبئا في الهرمل ومعه بعض أعوانه، فقدم إليهم برجاله المذكورين، وسار إلى قرية رأس المتن ونزل عند المقدم حسين بن عبد الله بن قيدبيه بن محمد اللمعي زعيم أحزابه، وراسل مشايعيه القيسيين في الشوف وغيرها واستقدمهم إليه، فاجتمع عنده المقدم مراد ابن المقدم محمد والمقدم عبد الله اللمعيان برجال المتن، والشيخ سيد أحمد أبو عذرا والشيخ سرحال العماديان برجال الباروك وما يليها، والشيخ خازن الخازن برجال كسروان، والشيخ علي أبو نكد برجال المناصف، والشيخ محمد تلحوق برجال الغرب، والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخ قبلان القاضي وغيرهم.
فلما علم محمود أبو هرموش بذلك، بعث إلى أنسبائه الأمراء السبعة من آل علم الدين الفارين كما مر قبلا، فحضروا إليه من غوطة دمشق بتسعمائة من أعوانهم، وانضم إليه جميع الأحزاب اليمنية من الجرد والمتن والغرب وغيرهم، فاشتد بهم أزره، وكتب إلى حليفيه بشير باشا والي صيداء ونصوح باشا والي دمشق يستصرخهما، فجاء والي صيداء المذكور برجاله إلى حرش بيروت، ثم إلى بيت مري في المتن، ووالي دمشق الموما إليه إلى قب إلياس في البقاع، ثم إلى المغيثة فوق حمانا في الجبل حسب طلب أبي هرموش، الذي نهض بعسكره إلى عين دارة ليجتمع بأعوانه، ويزحف على الأمير حيدر بيوم واحد.
أما الأمير حيدر، فلما علم بوصول محمود باشا إلى عين دارة، قصدها برجاله الذين اجتمعوا عنده في عين زحلتا، وقسم عسكره إلى ثلاثة أقسام وفاجأوا عين دارة. وكان أسرع من زحف إليها اللمعيون؛ لأنهم ساروا في وادي قطليج عند جسر شمليخ، فوصلوا إلى رأس القرية قبل غيرهم.
Shafi da ba'a sani ba