ووصلت الشحنة الأولى التي احتوت على ستة وعشرين ألف صندوق على مركب شحن إلى مياه الإسكندرية، وجرت، أو كانت جارية عملية الإنزال إلى الشاطئ تمهيدا لتمريرها من الجمرك وبيعها في الأسواق بنفس السعر الذي تباع به الألبان السليمة، وكان كل شيء جاريا في صمت وعلى أتم ما يكون من السرية والتوفيق، إلى أن حدث ما لم يكن أحد - لا الشركة الألمانية ولا المستورد المصري - يتوقعه، وأعلن رئيس وزراء المقاطعة الألمانية عن الصفقة الإجرامية، بل وحدد الجهة التي أرسلت إليها الشحنة القاتلة، ميناء الإسكندرية بالذات.
وكانت صحافتنا حسنة النية تماما، فنشرت تصريح رئيس الوزراء وخبر وصول الشحنة وخبر إنزال محتوياتها.
وغضب الرأي العام، وانصب غضبه على سؤال واحد: من هو المستورد المصري الذي ارتكب هذه الجناية العظمى في حق مصر وأطفالها وآدمييها، إلى هذا الحد كانت الأجهزة المصرية صامتة صمت القبور، وكأنها هي الأخرى في انتظار إعلان اسم المستورد ليتم القبض عليه وعقابه، ولكني فوجئت كما فوجئ الناس جميعا في مصر بالأجهزة المصرية وقد بدأت تتحرك.
بيان لمجلس الوزراء أن مصر لا يوجد بها أي لبن مشع وأن لا صحة لما نشرته الجرائد.
بيان من وزير الصحة يؤكد أن جميع الأغذية المستوردة ومنها الألبان تخضع لفحص ميكروبيولوجي وكيميائي وإشعاعي دقيق، وأنه لا صحة لما قاله رئيس وزراء ألمانيا ونشرته الصحف المصرية بحسن نية أو على الأصح «بسذاجة وغفلة».
وأنا أعرف الدكتور محمد راغب دويدار وزير الصحة وأعرف أنه كان من أكفأ أطباء الوزراء الذين عركوا مناصبها ومستويات تلك المناصب إلى أن أصبح - بكفاءته وتفانيه في عمله - وزيرا للصحة، وهو ربما أول وزير صحة يأتي من قلب أطباء وزارة الصحة أنفسهم وليس من خارجها كما جرت العادة.
بل وأعرف أنه لا يعد مسئولا أبدا عن تسرب أي غذاء فاسد أو مشع، وإنما المسئول هو جهاز يخضع لإشرافه؛ إذ هو لا يذهب بنفسه إلى الموانئ التي ترد إليها الأغذية ليفحصها.
وأعرف أن مجلس الوزراء لا علاقة مباشرة له بإجراءات فحص الأغذية، إنما علاقته بها علاقة سيادية أو إشراف سياسي.
ولذلك كان صدور تلك البلاغات التي تكذب رئيس وزراء ألمانيا الذي «تجرأ» وأعلن عن فساد ألبان ألمانية وحذر منها، ليبعد أي فضح عن بلاده وشركاتها، وكأنه هو المجرم الحقيقي أو هو الكذاب الذي يفتري على شركات بلاده، ويتهمها بالغش والجرم.
وحينما نقرأ أن الشحنة لا تزال في المركب خارج رصيف ميناء الإسكندرية وأن ما هبط عينات للفحص ليس إلا، وحينما أقرأ أن السلطات أمرت بإرجاع السفينة من حيث أتت، أقرأ شيئا متناقضا تماما، من نفي قاطع أن لبنا مشعا أو فاسدا قد استورد إلى مصر، إلى تأكيد أن الشحنة جاءت وفرغت وكانت في سبيلها إلى السوق وإلى المستهلك، وحينا أقرأ أن الباخرة محجوزة بعيدا عن الرصيف، وحينا أقرأ أنها أعيدت.
Shafi da ba'a sani ba