لنؤجل أي موضوع آخر إلى حين؛ فاليوم الاثنين يوم هام، اليوم يوم الاستفتاء، وقد يكون الموضوع المطروح هو نعم أو لا للرئيس حسني مبارك، ولكنني أرى الموضوع من زاوية أخرى؛ فالاستفتاء الحقيقي في رأيي هو الاستفتاء حول «وجود أو غياب» الشعب المصري والإرادة الشعبية المصرية، فكلنا نعلم أن هناك شبه إجماع على إعادة انتخاب الرئيس وأنه سينجح في الاستفتاء، سينجح في الاستفتاء، ما أهمية رأيي إذن، ما دام كل شيء يدور وسوف يدور أردت أم لم أرد؟
والواقع ان هذا الموقف الذي درجنا على قوله وسماعه والعودة إلى قوله وعودة الاستماع إليه، ليس فقط قولا مغلوطا، ولكنه أصبح يمثل لي مرضا أصاب الرأي العام المصري لا بد من علاجه واستئصاله، فحتى لو كان يمثل بعض الحقيقة فإن الاعتراف به والاستسلام له هو إذعان الذين على صواب للذين على خطأ وإحباط، ومفيش فايدة وكله فاسد ولا أمل في أي شيء.
إن أي شعب في الدنيا يستقر على هذه الشعارات الفاسدة هو شعب مريض يريد أن يمرض نفسه أكثر، فالرجل الرجل، والمرأة المرأة حين ينتهي أو تنتهي إلى أنه ليس هناك من فائدة وليس هناك مطلقا أمل، فلا بد، إذا كان إنسانا صادقا مع نفسه أن ينتحر؛ لأن الحياة في ظل إحساس كهذا هي شيء أبشع من الموت وأكثر جبنا وخسة من الانتحار؛ إذ هي حياة شائكة وحشرات وليست حياة آدميين. إن الإنسان إنسان لأنه قادرا أن يفرض إرادته ونفسه وأن يدافع عن كيانه ووجوده، أما الاستسلام المريض للواقع أو لمنطق الكسل القطيعي فهو أمر غير وارد في الصفات البشرية إلى الآن، ولكنه للأسف ساد أكثر من اللازم في مجتمعنا وآن الأوان أن يزول.
لقد كبرنا على هذا المنطق ونحن لا ندري، والذي ساعدنا كثيرا لنكبر هو ست سنوات مضت من حكم الرئيس مبارك.
فأهم ميزات تلك الأعوام ليست هي المنجزات الضخمة التي حدثت في الصناعة والكهرباء والمواصلات والأنفاق، إنما أهم ميزاتها أن الإنسان المصري أصبح «أكبر»، أكبر من التطرف باسم الدين من إضراب مؤسسة الأمن المركزي، أكبر من أن يحكم حكما ديكتاتوريا أو يغتصب السلطة عقيد أو نقيب، أكبر حتى من أحزابه التي تدعي أنها تنطق باسمه، أكبر من الفساد، أكبر من الأجهزة والأشخاص المرتشين واللصوص إذ يكتشفهم، أكبر من أن يرى الظلم أو الجريمة ويتستر أو يقول: وأنا مالي.
نعم لقد كبرنا كشعب.
لقد أزالت ثورة 23 يوليو طبقة حكمت منذ ثورة 19 بأجنحتها المختلفة وإلى قيام الثورة، وقامت الثورة بمبادئ ستة آخرها كان إقامة حياة ديمقراطية سليمة، أي حكم الشعب بالشعب وللشعب وطردت الثورة الاستعمار القديم وقالت: لا للاستعمار الجديد، وحاولت أن تصنع لمصر إرادة قومية عليا، ونجحت في هذا تماما، ولكنها لم تنجح بالشعب ولا قويت بالشعب، ولكنها حققت هذا كله بأجهزة الدولة، فقويت الدولة، ولو كان قائد الثورة قد استخلص درس وقوف الشعب كله معه في اللحظات التي اهتزت فيها الدولة بمختلف أجهزتها لكان قد عرف أن قوته الحقيقية لن تتأتى إلا بقوة شعبه وتقوية شعبه، وجاءت السبعينيات والثمانينات بدولة تضعضعت أجهزتها بفعل الهزيمة، ورغم هذا وبالشعب المقاتل المتحمس وقواته المسلحة كان انتصار أكتوبر، ذلك الذي انتظرنا بعده أن يعم الرخاء، فعم، ولكن على فئة خبيثة أفسدت أجهزة الحكم المضعضعة أصلا، ولم تضف كثيرا إلى قوة الشعب، بل خفت صوت الشعب لترتفع أصوات غليظة غوغائية جعلتنا نقف حائرين مذهولين، أمام هذا الحادث باسمنا.
وجاء مبارك، بإرادة شعبية، فقد وضع الشعب في لحظة اختيار بين الفوضى والهوس أو بين استمرار الدولة كدولة واختيار رئيس لها؛ فالدولة في مصر هامة جدا، للشعب وللمواطنين، لآلاف السنين والشعب المصري يحيا على هيئة دولة، إلى أن أصبحت الدولة جزءا لا يتجزأ من وجوده، حتى لو كانت دولة ظالمة أو يحكمها أجنبي يحتملها الشعب؛ لأنه لا يستطيع أن يعود إلى حياته كقبائل أو قرى أو أقطار، وما دام قد أخذ صفة المواطنة منذ خمسة آلاف عام، فإن قبيلته وقريته أصبحت هي مصر كلها، وأصبحت الدولة جزءا لا يتجزأ من كيانه، ونحن نقاوم التطرف باسم الدين أساسا؛ لأنه يهدد وجودنا ككيان وكدولة ويريد أن يعود بنا القهقرى إلى حكم الطوائف والنحل.
وقد جاء مبارك كما يعرف الجميع على أجهزة دولة شبه فاسدة، وعلى شعب فاقد الثقة تماما فيما يمكن أن تصنعه تلك الدولة.
والحقيقة أن هناك شبه أكذوبة قيلت لنا وصدقناها، أكذوبة أن الدولة هي المسئولة الأولى والأخيرة عنا، وبالتالي فإن رئيس الدولة عليه أن يقوم بكل العمل، هكذا كان الأجانب يحكمون، ولكان الأتراك والمماليك والألبانيون والمصريون الذين حكموه الملك أو الرئيس أو السلطان هو الذي عليه أن يحقق لنا ما نطمع فيه أو نحلم به، فإذا لم يفعل انتقدناه وشنعنا عليه وأطلقنا حوله النكات، ونادرا نادرا ما نثور عليه.
Shafi da ba'a sani ba