Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Nau'ikan
ومرت فلسفة التاريخ في أدوار؛ كان التاريخ في العصور الوسطى في أيدي اللاهوتيين صورة لتاريخ العالم والإنسان تتفق مع التأليف الإلهي، فلم يحتج اللاهوتيون كثيرا إلى الاطلاع على تجارب الأمم بالفعل، وهو في القرن الثامن عشر أداة لأغراض الفلاسفة، وهو من أوائل القرن التاسع عشر المثال المتعالي يتحقق، وهو في عهدنا الحاضر ما هو إلا التاريخ، تعيين نظام لتعاقب الأشياء في الزمان.
والتاريخ فضلا عن كونه موضوعا قائما بذاته، هو أيضا منهج من مناهج البحث، فيؤرخون للغات، والآداب، والنظم الاجتماعية، والشرائع، والعلوم، والرياضيات، والاقتصاديات، بل وللحب وللعب.
وبالإضافة إلى التاريخ باعتباره طريقا لاكتساب المعرفة يوجد لدى المحدثين طريق آخر هو العلم الطبيعي، وكان ظهور التاريخ وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لاتجاه فكري واحد، هو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي، والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها وكما هي.
وقد بدأ التحول حينما أراد جاليليو أن يعرف شيئا عن سقوط الأجسام، فلم يسأل عما قال أرسطاطاليس في ذلك، أو عما إذا كان المعقول أن يكون الأمر كذا أو كذا، بل عمد إلى التجربة، واستخرج منها ما دلت عليه.
وقد أعجب الناس أيما إعجاب بالنتائج الباهرة التي ترتبت على استعمال الملاحظة والتجريب، وتولد الأمل في أنهما سوف يبددان كل ما يحيط بالكون من غموض، ويكشفان عن كل ما هو محجوب، وأن قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة ما هما إلا اسمان لشيء واحد، وأن عقل الإنسان سوف يكشف عن سر الاطراد في نظام الطبيعة، ولكن الغموض لم يتبدد، بل كان الأمل هو الذي تبدد، وفرق العلماء في القرن العشرين بين العلم وقوانين الطبيعة، وشغلهم العمل في الملاحظة والحساب والتجريب والانتفاع بالأشياء عن السعي إلى معرفة كنه العامل الخفي المحدث.
فالجو الفكري في زماننا جو واقعي أكثر منه عقلي، وإننا بحكم الضرورة، ننظر إلى العالم إما بعين التاريخ، وإما بعين العلم، فإذا ما نظرنا بعين التاريخ رأيناه في تكون مستديم، وهو بناء على هذا لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، وإذا ما نظرنا بعين العلم، رأيناه مما ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل من أنفسنا لتستقيم فيه الحياة بقدر الإمكان، وهذا ما يفسر راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.
وموضوعي هو الفكر السياسي والاجتماعي في القرن الثامن عشر، ولما كنت من أبناء القرن العشرين، ومن ورثة القرن الثامن عشر، فلا مناص من أن أعالج موضوعي تاريخيا، وكان علي أن أعين للقرن الثامن عشر مكانا، فعلي أن أبين ما كان من آثار لوقوع ذلك العصر بعد عصر دانتي وتوماس الأكويني، وقبل عصر أينشتين وويلز؛ أي يجب أن أصل العصر بما سبقه وبما لحقه.
وأثر العصور الوسطى في القرن الثامن عشر أقوى مما تصور رجاله أو مما نتصور نحن، بل إن القرن الثامن عشر أقرب إلى ما سبقه منه إلينا، والأفكار التي قامت عليها فلسفته هي في جوهرها أفكار القرن الثالث عشر، وإن فلاسفته لم يهدموا «المدينة الفاضلة» التي بناها القديس أوجسطين إلا ليعيدوا بناءها بما كان يحضرهم من مواد.
المحاضرة الثانية: قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة
لم تكن «الاستنارة» حركة فرنسية بالذات، فأنى ذهبت تلق الفلاسفة يتكلمون نفس الكلام، ويعيشون في جو فكري واحد، والفلاسفة لم يتخذوا من الفلسفة صناعة تعليم، حقيقة كان منهم «فلاسفة» بالمعنى الذي نفهمه الآن، ولكنهم كانوا قبل أي شيء آخر أدباء يكتبون الكتب ليقرأها الناس، ولينشروا بينهم آراء جديدة، أو آراء قديمة في ثوب جديد، ولكنهم كانت لهم رسالة نهضوا لإبلاغها وللتبشير بما هو آت، وكانوا قوما لم يعتزلوا الجماعة، تفيض آثارهم براعة حديث وسخرية، ولكن هذا كان وسيلتهم إلى غايتهم، ولم يمسهم التشاؤم إلا مسا خفيفا، وتظاهروا بتجنب الحدة والحمية ، ولكنهم كانوا يسعون سعيا حثيثا متلهفا إلى وضع أمور العالم في نصابها، وذاع استعمال كلمات «الإنسانية» «وفعل الخير»، ولن نستطيع أن نجد رجلا في ذلك الربيع المزهر من تاريخ الإنسان إلا يدير مشروع إصلاح، وهل كانت الثورة الفرنسية إلا مشروعا عظيما للإصلاح، وهل كان القرن المستنير بين العصور إلا عصرا آلى قادة الفكر فيه على أنفسهم أن يجهدوا لكي يوطئوا السبل لينعم بنو الإنسان بالسعادة والحرية والإخاء والمساواة.
Shafi da ba'a sani ba