Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Nau'ikan
46
كان هذا مدخلا جديدا للعلم فتحته الفلسفة الطبيعية، فعبر عنه بالعبارتين «البحث في ماهيات الأشياء»، ثم صياغة «القوانين الطبيعية العامة التي تشكل الأشياء على ما هي عليه.»
وحق لهذه الفلسفة الجديدة أن تبهر الأنظار إعجابا، وكان أعجب ما كان من أمرها أن الطرائق التي اتبعت للكشف عن الحقائق العظيمة التي اكتشفت كانت في حد ذاتها بسيطة عادية جدا، فمثلا أن يكتشف نيوتون طبيعة الضوء، كان في ذاته أقل إثارة لإعجاب معاصريه من كونه توصل إليه بتحريك منشور بين يديه، فكأن الطبيعة قد غدت لأول مرة قريبة جدا من بني الإنسان يستطيعون أن يلمسوها بأيديهم، وأن يطلعوا على دقائقها العجيبة بأعينهم، وأنها ليست في حقيقة الأمر إلا تلك الأشياء العادية التي يراها أي واحد من الناس بعينه، ويلمسها بيديه كل يوم، وأن القانون الطبيعي ما هو إلا الكيفية المطردة التي تقع بها أفعال تلك الأشياء، البخار يدفع بعضه بعضا من بزبوز غلاية الماء، الدخان صاعدا خفيفا خفيفا من المدخنة، ضباب الصباح منقشعا عن المرعى، ها هي ذي الطبيعة في كل ما حولنا تجري على سنن لا غموض فيها لتأتي بعجائبها، تطلع آحاد الناس جاهلهم وعالمهم على حد سواء على قوانينها النافذة في كل شيء معقولية وخيرا، وإلى حد ما غرابة وتعقيدا أيضا.
وحينما أضحت الفلسفة تستخدم أنابيب الاختبار بدلا من فن الجدل كان لأي إنسان - بالقدر الذي يسمح به ذكاؤه واهتمامه - أن يصبح فيلسوفا، ويقول جيتة: «أقنع كثير من الناس أنفسهم بأن الطبيعة وهبتهم فعلا قدرا من الإدراك السليم المستقيم، يكفيهم فيما يظنون لكي يكونوا رأيا واضحا عن مختلف الأشياء، وأنهم بهذا قد أصبحوا قادرين على تسخيرها لمنفعتهم ومنفعة أبناء جنسهم، دون حاجة إلى عناء التفكير في القضايا الكونية، ولم يقفوا عند حد الاقتناع، بل طبقوا فعلا منهجهم البسيط الذي وصفت، ففتحوا أعينهم وتوجهوا بأبصارهم نحو الأشياء لا يتلفتون عنها يمنة ولا يسرة ملاحظين مجدين نشيطين.
وبلغ من هذا أن ادعى كل إنسان لنفسه الحق، لا في التحدث في الفلسفة فحسب، بل في أن ينتحل شيئا فشيئا اسم «الفيلسوف»، وبلغ من ذلك أيضا أن صارت الفلسفة لا تختلف في الكثير ولا في القليل عن مجرد الإدراك السليم البسيط العلمي، ولم يتردد واحد من الناس في أن يعالج القضايا الفلسفية العامة والتجارب الباطنة والظاهرة بهذه الأداة التي يملكها الناس جميعا، وكانت خاتمة المطاف أنك تجد الآن الفلاسفة في جميع الكليات الجامعية، وليس فيها فقط، بل في مختلف الطوائف وبين أصحاب مختلف الحرف.»
47
ويذكر كلام جيتة بقول أفلاطون المشهور: «إلى أن يصبح الفلاسفة هم الملوك، فلن ينقطع للمدائن فساد.» أما وقد صار كل زيد من الناس فيلسوفا، فقد حق للفلسفة أن تحدث أثرا سواء للخير أو للشر؛ وذلك لأن زيدا ونظراءه لا يصطنعون الفلسفة - إذا هم اصطنعوها - حبا فيما تكسبه عقولهم من مرانة في الجدل، ولكنهم يفعلون ذلك أملا في الحصول عن طريقها على حياة أفضل، وهم حين تروقهم فلسفة ما ينزعون إلى إضافتها لعظيم من عظماء الرجال يستهويهم حبا أو كرها إن أخرج الناس مذهبا جديدا، وهم حينما يأخذون بهذا المذهب ينسبون له من المعاني ما لم يخطر على بال صاحبه، ولنا في شيء حدث في الخمسين سنة الأخيرة شاهد بهذا عندما قرن الجمهور «فلسفة التطور» باسم داروين،
48
وجعل الداروينية تفيد إما «القردية» أو تسلسل البشرية من فصيلة القرود أو تحميل الرجل الأبيض أعباء البشرية (أو تبرير استعباد الأوروبيين للشعوب الأخرى)، والمعنيان يدهش لهما داروين لو أتيح له أن يطلع عليهما، فقد كان الرجل مستغرقا في علمه، ومثل هذا حدث في القرن الثامن عشر، ربط الجمهور الفلسفة الجديدة باسم نيوتون، على اعتبار أن الرجل بكشفه عن «القانون العام للطبيعة»، رفع حجاب الغموض، وأثبت بالبرهان أن لا شيء فيها غير معقول، وغير قابل لأن يفهم، وأنها تبعا لذلك قابلة لأن تسخر لمنافع الناس، وبرهن هو على هذا فيما ظن الجمهور على حين أن غيره من العلماء لم يتعد فيما يظن الجمهور حد تقريره فقط.
وأصبحت الفلسفة النيوتونية - على هذا النحو - شيئا مألوفا لدى الجمهور في منتصف القرن الثامن عشر، مثل الفلسفة الداروينية في زماننا، ويقول فولتير: إن آثار نيوتون لا يقرأها إلا قليل من الناس، وسبب ذلك أن فهمها يقتضي من القارئ أن يكون عالما، ولكن في الوقت نفسه يتحدث في نظريات نيوتون كل إنسان، ولم يقرءوا كتبه، هم لا يهمهم كثيرا ما قرره من أمثال أن «رد الفعل مساو دائما ومقابل للفعل»، بل الذي يهمهم حقا هو الفلسفة النيوتونية، وهذا شيء آخر، وليس هناك ما يدعوهم إلى أن يرجعوا لكتابه «المبادئ» لكي يجدوا الفلسفة النيوتونية، بل الأفضل لهم ألا يفعلوا ذلك، وأولى بهم أن يتركوا هذا لناشري آراء نيوتون بين الجمهور، هؤلاء أقدر من العامة على أن يحصلوا من الكتاب على ما شاءوا من الفلسفة، بل لعلهم أقدر على هذا من نيوتون نفسه! فليرجع إذن من شاء إلى الكتب من أمثال «تمهيد مبسط سهل للفلسفة النيوتونية في ستة فصول، وتوضيحه ستة ألواح نحاسية»، (من وضع بيامين مارتن ونشر في 1751 وطبع خمس مرات)، أو «علم الفلك مقاما على مبادئ السير إسحاق نيوتون، وميسرا لمن لم يدرسوا الرياضيات»، (من وضع جيمس فرجوسون ونشر في 1756 وطبع سبع مرات)، أو «أصول فلسفة نيوتون» من وضع فولتير، ونشرت له ترجمة إنجليزية في 1738، أو «النيوتونية للسيدات»، من وضع الكونت الجوروتي، وطبع بالإيطالية ثلاث مرات، ونشرت له ترجمة بالفرنسية في سنة 1738، وأخرى بالإنجليزية في 1739 بعنوان «نظرية الضوء والألوان»، أو لمن يفضلون العلم نظما - «النظام النيوتوني للكون - الصورة المثالية للحكومة - قصيدة رمزية»، (من إنشاء ج. ت. دساجلييه وتاريخها 1728).
Shafi da ba'a sani ba