وإذا كانت الفيثاغورية قد قبلت هذا العدد الكبير من الأتباع والمريدين، فإن التعاليم التي كانت تقدم لهم هي تلك الخاصة بالدين والأخلاق لا بالعلوم الرياضية. وقد عرفنا أن النحلة التي آمنوا بها هي الأورفية. والأولى أن الفيثاغورية لم تتعصب لديانة بعينها، بل أخذت من كل ديانة بطرف، وبذلك عمل فيثاغورس على التوفيق بين الأديان المختلفة؛ فأخذ من طقوس بابل ومصر وتراقيا وعقائد اليونانيين إلى جانب الأورفية. وقد ظلت هذه النزعة التوفيقية مصاحبة للفيثاغورية على مدى حياتها. وعندما ظهرت الفيثاغورية الجديدة بالإسكندرية في القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، امتازت بهذه النزعة التوفيقية، وبخاصة بعد ظهور المسيحية، حتى إذا انتقلت الفيثاغورية إلى العرب في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، لازمتها هذه السمة مما نجده واضحا في رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفا»؛ فإن أصحابها كتموا أسماءهم، وزعموا أن تعاليمهم سرية، وبدءوا رسائلهم بعلم العدد، كما دعوا إلى الزهد وتطهير النفس.
إن بلوغ السعادة القصوى لا يتم إلا بتطهير النفس، ويقوم هذا التطهير على عدة مبادئ ومعتقدات، على رأسها الاعتقاد في انفصال النفس عن الجسد، وسمو النفس وتعاليها على البدن، وبقائها بعد فنائه، ثم الاعتقاد بتناسخ الأنفس، ثم اتباع طريق الزهد والرياضة لتصفية النفس وتطهيرها.
سادت فكرة التناسخ عند الفيثاغوريين بعد انتقالها إليهم من فلسفات الهند ومن الأورفية. وكان فيثاغورس - فيما يروى - مؤمنا أشد الإيمان بهذه العقيدة، ويقال إنه رأى شخصا يضرب كلبا يعوي، فأوقفه عن ضربه؛ لأنه عرف من صوت الكلب أنه أحد أصدقائه الذين ماتوا وتناسخت روحه في هذا الكلب. وتبعا لهذه العقيدة، فإن صاحب الأعمال الصالحة في حياته الدنيا تحل نفسه عند الموت في جسد شخص صالح، وأن صاحب الأعمال الطالحة تحل نفسه في جسد حيوان؛ وهذه هي السعادة والشقاوة في نظرهم.
كانت هذه الآراء شائعة في مدرسة فيثاغورس، وكشف أفلاطون عنها في محاورة «فيدون» التي يتحدث فيها عن خلود النفس . وكان سقراط يدين بالفيثاغورية، ولكنه أخذ يفكر في مبلغ ما في هذه الآراء من صواب، فقبل بعضها ورفض بعضها الآخر؛ قبل رأيهم - أو رأي النحلة الأورفية - في أن البدن سجن للنفس، ولكن ليس على المرء أن يفر من هذا السجن بالانتحار؛ لأننا أشبه بالقطيع الذي يملكه الراعي، ولا تملك الخروج على أمره. ولا بد للمرء أن يمضي فترة العقوبة مسجونا في هذا البدن. غير أن سقراط رفض فكرة التناسخ، على الرغم من قبوله فكرة التطهير.
إن فكرة «التطهير» التي بدأت منذ فيثاغورس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد، تقلبت في أدوار مختلفة، واتخذت أشكالا متباينة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو في الزمن القديم، حتى إذا بلغنا العصر الحاضر، رأينا مدرسة التحليل النفساني - ونعني بها مدرسة فرويد - تعتمد في العلاج على فكرة «التطهير»
Catharsis . والهدف من «التطهير» الفيثاغوري هو التخلص من «عجلة الميلاد»، أي التخلص من التناسخ في بدن حيوان، وبذلك يظل المرء يشقى طول مدة التناسخ، ويخرج من شقاء إلى شقاء. ولم يكتف فيثاغورس لتحقيق التطهير باتباع قواعد معينة في الطعام، والقيام بعبادات منظمة معينة على أيدي الكهنة، ولكنه أضاف إلى الزهد والعبادة شيئا جديدا هو ممارسة العلم الرياضي والموسيقى لتصفية النفس، كما يستخدم الدواء لتصفية الجسم. ومن المعروف أن فيثاغورس رفع الموسيقى من المرتبة العملية، فأصبحت علما نظريا، فأضحت علم التناسب، وأقامها على سلم يتميز بطول النغمات عدديا؛ وبذلك ارتفع فيثاغورس ب «التطهير» من مجرد نزعة عملية إلى مرتبة نظرية. وقد اتبع سقراط وأفلاطون هذه الطريقة في «التطهير»، فكانا يجمعان بين الزهد والسيرة الفاضلة، وبين اكتساب العلوم الرياضية وبخاصة الهندسة. وكان أفلاطون يكتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا.» واستفاد أرسطو من طريقة التطهير في الفن؛ فالتراجيديا بما فيها من مواقف تبعث على الخوف والرعب والشفقة وغير ذلك، تجعل المتفرج يتقمص هذه المواقف وينفعل بهذه الانفعالات، فتخرج من باطن نفسه، ويتطهر منها، وروي أن بعض المرضى العصبيين كانوا يعالجون في القرن الرابع قبل الميلاد بالطريقة الفيثاغورية، وبخاصة بواسطة الموسيقى.
والمدرسة الفيثاغورية عظيمة الأثر في تاريخ الفكر الفلسفي؛ ذلك أن التفسير الرياضي للكون كان سائدا حتى زمان أفلاطون، الذي اشترط أن يتعلم الطالب الهندسة قبل أن يتعلم الفلسفة؛ والعلة في ذلك أن الرياضيات علوم يقينية، مضبوطة، مستمدة من العقل ذاته لا من الخارج، وأساسها البديهيات الفطرية في العقل، والتي لا تحتاج إلى برهان، وإنما يكفي مجرد تصورها للاعتقاد فيها؛ مثال ذلك بديهية المساواة وبديهية الكبر والصغر؛ أي إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وإن الكل أعظم من الجزء. وقد بين أفلاطون في محاوراته أن الخادم الذي لم يتلق أي «تعليم»، يستطيع أن يدرك هذه الحقائق البديهية من ذاته، مما يدل على أنها مفطورة في العقل. وقد استمر هذا التيار الذي يعتقد في فطرية البديهيات الرياضية، منذ زمان أفلاطون حتى ديكارت وكانط ورسل في الوقت الحاضر.
ولكن في نفس الوقت الذي ظهر فيه هذا التيار الرياضي عند فيثاغورس، ظهر أيضا تيار آخر يفسر العالم تفسيرا طبيعيا؛ إما بمادة واحدة، كما كانت الحال عند طاليس، أو أنكسيمندريس، أو أنكسمانس. وقد انتهى الأمر بهذا التيار الطبيعي عند أرسطو إلى تفسير الموجودات بأنها مركبة من هيولى وصورة، إلى جانب رد العناصر إلى أربعة أساسية؛ هي النار والهواء والماء والأرض. وقد سيطر التفسير الأرسطوطاليسي على العالم حوالي عشرين قرنا من الزمان، إلى أن عاد العالم مرة أخرى إلى التفسير الرياضي للموجودات، لا على نحو ما كانت تفسر قديما، بل بمعادلات رياضية.
إن الذي وجه الدراسات هذا التوجيه الرياضي هو فيثاغورس، ولذلك لم يكن من الغريب أن يقول برتراند رسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»: «إني لا أرى شخصا غير فيثاغورس كان له أثر يماثله في عالم الفكر؛ لأن ما يبدو لنا أفلاطونيا، نجده في جوهره عند التحليل فيثاغوريا.»
الأكاديمية
Shafi da ba'a sani ba