والأمر الثاني محاولته التوفيق بين أفلاطون وأرسطو. وقد رأينا أن ذلك التوفيق بدأ بالإسكندرية، وعند أفلوطين وفرفريوس بوجه خاص. ولكن جوهر فلسفة أفلاطون التي تؤمن بالمثل أصلا للموجودات، يخالف جوهر فلسفة أرسطو التي تعد فلسفة وجود قبل كل شيء، وتخالف جوهر فلسفة أفلوطين التي تعتمد على «الواحد»، وتصدر عنه الموجودات بسلسلة من «الفيض». ولم يستطع الكندي أن يحل هذه المشكلة، وأن يدمج فلسفة الوجود وفلسفة «الواحد» في مذهب جديد يوفق بينهما. وهذا ما فعله الفارابي فيما بعد.
صفوة القول: لم يكن الكندي رئيسا لمدرسة في بغداد بالمعنى المقصود من مدرسة عبارة عن بناء يشتمل على حجرات يجري فيها التعليم بطريقة منظمة؛ إذ كانت تلك المدارس لأسباب تاريخية وقفا على النصارى وملحقة في الأغلب بالأديرة، بعد انتقال الفلسفة والعلوم من الإسكندرية إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى حران، وإلى «جنديسابور»، ومنها إلى بغداد؛ ولذلك قال الدكتور مايرهوف في بحثه عن انتقال التعليم من الإسكندرية إلى بغداد: إن «الكندي الذي عاش آنئذ في بغداد، وكان أول فيلسوف مسلم، لم يكن يدير أي مدرسة، وإنما كان يعطي دروسا خاصة.»
استطاع الكندي أن يبرز كفيلسوف، وأن يرتفع عن مجرد اتباع الكتب المترجمة، وأن يخلق في بغداد جيلا من التلاميذ، ولم يكونوا كثيرين، أشهرهم ثلاثة هم: ابن كرنيب الذي كان صاحب مدرسة في بغداد، وأحمد بن الطيب السرخسي، وأبو زيد البلخي.
أما الذي اشتهر بين العرب حتى سمي المعلم الثاني، فهو الفارابي. (2) مدرسة الفارابي
أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي. ولد 259 هجرية، وتوفي 339. والفارابي نسبة إلى مدينة فاراب بين حدود فارس وتركيا. انتقل إلى بغداد وتعلم بها الفلسفة على شخص يسمى يوحنا بن حيلان، فأتقن المنطق، وانتهى به المطاف إلى بلاط سيف الدولة الحمداني، فخدمه، ولازمه، وتوفي بدمشق سنة 339 هجرية. سمي المعلم الثاني في أكبر الظن؛ لأنه أدخل صناعة المنطق عند العرب، باعتبار أن أرسطو - صاحب المنطق - هو المعلم الأول. وقد طعن على الكندي وقيل إنه يجهل المنطق، ولا يعرف بوجه خاص صناعة التحليل، أو البرهان، وأن الذي ذلل المنطق، ويسره، وفسره، هو الفارابي. والحق أن الكندي كان رائدا شق الطريق، وكان يكابد في وضع المصطلح العربي المقابل للمصطلح اليوناني، وقد هجر كثيرا من المصطلحات التي وضعها، ولم تستقر في الواقع إلا زمان الفارابي، الذي يعد صاحب الفضل في استقرارها. وأيضا فإن الكندي - كما ذكرنا - لم يكن يؤمن بالمنطق أداة أولى لتحصيل الفلسفة، وآثر عليها الرياضيات؛ لذلك لم يكن يعنيه كثيرا أن يتعمق في صناعة المنطق، على الرغم من أن ثبت مؤلفاته يدل على أنه فسر معظم كتب أرسطو المنطقية.
وللفارابي كتب كثيرة معروفة؛ منها آراء أهل المدينة الفاضلة، وإحصاء العلوم، وتحصيل السعادة، والتنبيه على سبيل السعادة، والجمع بين رأيي الحكيمين، وغير ذلك من الرسائل المطبوعة. وله من الكتب المخطوطة الشيء الكثير، إلا أن معظمها مفقود، وكتابه الموسيقى الكبير تحت الطبع في الوقت الحاضر.
ثم إنه لم يتعلم على يوحنا بن حيلان فقط، بل على أبي بشر متى بن يونس أيضا. وذكر ابن خلكان كيفية اتصاله بأبي بشر، وتعلمه منه، بما يوضح كيف كان يجري التدريس، قال: «ولما دخل بغداد، كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يقرأ الناس عليه فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطوطاليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، ولم يكن في ذلك الوقت مثله في فنه. وكان حسن العبارة في تآليفه، لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر. وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته، فأقام أبو نصر كذلك برهة، ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفا من المنطق. ثم إنه قفل راجعا إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطوطاليس، وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها.» من هذا يتضح أن أبا بشر متى بن يونس كان رئيس مدرسة في بغداد، ولكنه لم يكن هو الذي ابتدعها، بل تعلم على غيره في سلسلة متصلة من التعليم الفلسفي.
ولكي نفهم موضع الفارابي في هذه السلسلة، يحسن أن نتتبعها من بدايتها بالإسكندرية، وذلك عن رواية نقلها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء عن كلام للفارابي في ظهور الفلسفة، وأنه كان زمان اليونانيين حتى أرسطو، ثم انتقل إلى الإسكندرية في حكم البطالسة حتى كليوباترا، ولما استولى الرومان على مصر، استنسخوا الكتب الموجودة بالإسكندرية، وأصبح للفلسفة موضعان للتعليم؛ أحدهما في روما، فلما انتصرت النصرانية زالت مدرسة روما وبقيت الإسكندرية، وانتقل منها التعليم إلى أنطاكية واستمر بها إلى أن بقي «معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو. فأما الذي من أهل مرو، فتعلم منه رجلان؛ أحدهما إبراهيم المروزي، والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلم من الحراني إسماعيل الأسقف، وقويري، وسارا إلى بغداد، فتشاغل إسماعيل بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأما يوحنا بن حيلان، فإنه تشاغل أيضا بدينه. وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها. وتعلم من المروزي متى بن يونان (أي يونس) ... وقال أبو نصر الفارابي عن نفسه إنه تعلم من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب البرهان.»
وإذا كنا قد عرفنا طرفا من طريقة أبي بشر، فإن الغموض يلف شخصية يوحنا بن حيلان. ويبدو أن تأثر الفارابي بأبي بشر كان أعظم. وقيل إن الفارابي كان أصغر سنا من أبي بشر، ولكنه كان أحد ذهنا، وأعذب كلاما؛ وسبب ذلك أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج النحوي، فيأخذ عنه النحو، ويأخذ عنه ابن السراج المنطق.
ولسنا ندري إلا النزر اليسير عن طريقة الفارابي في التدريس. ويمكن استخلاص هذه الطريقة من ثبت كتبه الوارد في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة؛ فقد كان الفارابي قصير النفس في التأليف، وكتبه تعاليق. ويبدو أنه في التأليف كان يستغرق زمنا طويلا؛ لأن كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة بدأ في تصنيفه ببغداد، «وحمله إلى الشام في آخر سنة ثلاثين وثلاثمائة، وتممه بدمشق في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وحرره، ثم نظر في النسخة بعد التحرير، فأثبت فيها الأبواب، ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولا تدل على قسمة معانيه، فعمل الفصول بمصر سنة سبع وثلاثين ...» ويهمنا في هذا الخبر أن جماعة من التلاميذ سألوه أن يرتب الكتاب، ولكن من الصعب معرفة أسماء هؤلاء التلاميذ. ويبدو كذلك أن الفارابي كان يضيق بالكتابة، ويستحسن الإملاء على تلاميذه، من ذلك أن له كتاب «شرح كتاب البرهان لأرسطوطاليس، على طريق التعليق، أملاه على إبراهيم بن عدي، تلميذ له بحلب.» ومن ذلك أيضا كتاب يسميه ابن أبي أصيبعة «كلام أملاه على سائل سأله عن معنى ذات ومعنى جوهر، ومعنى طبيعة.»
Shafi da ba'a sani ba