واستمر «ليقون» حوالي نصف قرن رئيسا للمدرسة، من 268 إلى 225ق.م، ولم يؤثر عنه الاشتغال بالعلم الطبيعي، بل اتجه إلى الأخلاق والسياسة والبلاغة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت مدرسة الإسكندرية تنتزع الراية من المدارس الأثينية التي لم يعرف عنها تجديد أو ابتكار.
ثم توالى الرؤساء على المدرسة، ويهمنا أن نتحدث قليلا عن الرئيس الحادي عشر، وهو أندرونيقوس الرودسي. وكانت مدته من 78 إلى 47 قبل الميلاد. وترجع أهميته إلى أنه هو المسئول عن ترتيب كتب أرسطو على النحو الموجود بين أيدينا الآن، أو أنه هو الذي أعد كتب أرسطو للنشر على هذا النحو. ولسنا نقصد بالنشر أنه طبعها؛ فلم تكن المطبعة قد اخترعت بعد، وإنما كانت الكتب تنسخ على لفائف من أوراق البردي أو رقائق الجلد. ويكفي أن تتصور «المكتبة» الملحقة بالمدرسة، والأبنية التي تتسع لمثل هذه الكتب الضخمة. وقد احتذت برجامون والإسكندرية في إنشاء مكتباتها حذو مكتبة أرسطو.
ولعلنا نترك حديث المدرسة بعض الوقت؛ لنتحدث عن قصة كتب أرسطو، تلك القصة التي تشبه الأسطورة؛ ذلك أن ثاوفراسطس حين حضرته الوفاة، أوصى بمكتبته إلى زميله وصاحبه نيلوس، وكان في تلك المكتبة الخاصة مؤلفات أرسطو. ولما كان نيلوس مواطنا من طروادة بآسيا الصغرى، فقد حمل الكتب معه هناك، حيث أنشأ حلقة أفلاطونية (وكان نيلوس يدرس بالأكاديمية مع ثاوفراسطس وأرسطو). وحين أراد حكام برجامون إنشاء مكتبة تنافس مكتبة الإسكندرية، خشي ورثة نيلوس أن يستولى على مكتبتهم، فأسرعوا بإخفائها في كهف، وظلت حبيسة المغارة قرنا ونصف قرن، إلى أن سمع بخبرها أبيليقون الضابط المرتزق في جيش ميثريادس، وكان جماعا للكتب، فاشتراها بثمن بخس. وكانت الرطوبة قد محت كثيرا من الكتابات الموجودة باللفائف، ولم يستطع أبيليقون أن يرتب هذه المؤلفات، وأن يصدر منها نشرة صحيحة. وأرسلت الكتب إلى روما، حيث أراد تيرانيون النحوي أمين مكتبة شيشرون أن يرتب الكتب، ولم يفلح. أما النشرة الصحيحة، فهي تلك التي أشرنا إليها من عمل أندرونيقوس الرودسي. ويعد عمله في هذا الترتيب والنشر شرحا لمؤلفات أرسطو؛ فهو أول شارح .
احتاج أرسطو إلى شراح؛ لأن العهد كان قد بعد بين تعليمه في القرن الرابع قبل الميلاد، وبين العصور الجديدة بعد ثلاثة قرون؛ أي منذ القرن الأول قبل الميلاد. وكانت فلسفات جديدة قد ظهرت إلى الوجود، وأصبحت هي السائدة؛ كالرواقية، والإبيقورية، والإسكندرانية، ثم الأفلاطونية المحدثة. ولما تدهورت مباحث الفلسفة، أخذ المشتغلون بها من المتأخرين يخلطون بين هذه الفلسفات كلها، على الرغم من أن الأسس التي تقوم كل منها عليها مختلفة. هذا إلى أن أوائل الخلفاء على مدرسة أرسطو لقرب عهدهم منه، كانوا يحسنون فهم كتبه واتجاهاته، فلما انقضى ذلك الرعيل الأول، خلف من بعدهم خلف أصبحت هذه المؤلفات بالنسبة إليهم أشبه بالطلاسم التي تحتاج إلى تفسير أو إلى شرح. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الشراح.
والشراح للمشائية كثيرون، وصلت بعض كتبهم إلى العرب الذين كانوا على معرفة وثيقة بهم، ولكن أشهر الشراح بإطلاق بالنسبة إلى العالم العربي الإسكندر الأفروديسي في القرن الثالث بعد الميلاد، وثامسطيوس في الرابع بعد الميلاد، وسمبلقيوس في القرن السادس بعد الميلاد. وقد اتصل العرب بهذه الحركة؛ فكان ابن رشد من أكبر شراح أرسطو، لا تقل منزلته عن الإسكندر الأفروديسي أو ثامسطيوس. وقد نقلت شروح ابن رشد إلى اللغة اللاتينية، وعرفت أوروبا أرسطو والمشائية عن طريق ابن رشد.
ولا تزال مدرسة أرسطو على الرغم من أنها أغلقت نهائيا أبوابها في أثينا عندما طرد الإمبراطور جستنيان الفلاسفة سنة 529 حية حتى اليوم، ونقلت أفكارها إلى جميع اللغات، ولا يزال منطق أرسطو مستخدما، ولا تزال اتجاهاته الفلسفية الرئيسة باقية، وعلى رأسها أن الفلسفة هي العلم بالموجود، أو هي العلم بالعلل الأولى والغايات الأخيرة. وبقيت الأرسطية ولا تزال عنوانا على تفسير الموجودات بالهيولى والصورة، أي بمبدأين لا بمبدأ واحد. والقول بالقوة والفعل باعتبار أن القوة تقابل المادة، والفعل يقابل الصورة، وعلى القول بنظرية الوسط في الأخلاق.
الرواق والحديقة
كانت المدارس الفلسفية في اليونان كثيرة، أشرنا إلى أبرزها وأهمها وأعظمها أثرا في تاريخ الفكر البشري. وورد في أثناء ذلك ذكر بعض المدارس التي لم تلبث أن انقرضت بموت أصحابها. وفي أواخر القرن الرابع وأوائل الثالث قبل الميلاد، ظهرت أربع مدارس؛ هي الكلبية والشكاك والرواقية والإبيقورية، وأشهرها الرواقية والإبيقورية. فالرواقية نسبة إلى مكان التعليم في الرواق، والإبيقورية نسبة إلى صاحبها إبيقور، الذي كان يعلم في الحديقة.
وعلى الرغم من زوال المدرستين منذ القرن الأول للميلاد تقريبا، إلا أن روح الرواقية لا تزال سارية حتى اليوم، على حين اكتسبت الإبيقورية معنى منحرفا، وأصبح الشخص الذي يوصف بأنه إبيقوري إنما يدل ذلك على انهماكه في الشهوات وإسرافه في الملذات.
نبدأ بالحديث عن الرواقية فنقول: إن الذي أسس هذه المدرسة هو زينون الرواقي، أصله من مدينة أكتيوم بجزيرة قبرص، وهي مدينة يونانية استقر بها مهاجرون من فينيقيا التي تقع على الشاطئ المقابل للجزيرة. ويروى أنه خرج في تجارة فغرقت السفينة على مقربة من بيرايوس ميناء أثينا، فلما نجا توجه إلى أثينا، واستقر بها، ودرس فيها، وكان فيما يقال في الثلاثين من عمره. فلما استقر به المقام، اشترى من وراق كتاب زينوفون عن سقراط، وهو المذكرات المشهورة، فأعجب به وسأل: أين يوجد رجل مثل سقراط؟ فأشار عليه الوراق باتباع أقراطيس الكلبي. وتنقل زينون عشرين عاما بين المدارس الفلسفية في أثينا، ثم أخذ يعلم الفلسفة في رواق مشهور بأثينا كان محلى بنقوش بوليجبنوتس أشهر الرسامين اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان ذلك الرواق فيما مضى منتدى للأدباء والشعراء يلتقون فيه، وكان إلى ذلك مباحا لكل طارق، فلما اتخذه زينون مكانا للتعليم، سمي وأتباعه بالرواقيين.
Shafi da ba'a sani ba