ولما كان الأمر كذلك، فربما يتوقع مني القارئ أن أبدأ بحثي في طبيعة المدنية بأن أحاول الكشف عن العناصر التي يتكون منها الرجل المتمدن، ذلك هو الترتيب المنطقي، غير أن هناك ما يعوق اتباع هذا الطريق. ذلك أن الرأي العام قد يتفق كل الاتفاق على أن جماعات بعينها كانت متمدنة، بل وضالعة في المدنية، في حين أن الرأي لا يمكن أن يجمع بهذه الصورة على الأشخاص. ولما كان مرماي البعيد أن أكشف عن ماهية المدنية، فإن أولى محاولاتي ستتجه نحو اكتشاف الخصائص التي تتميز بها الوحدات المتمدنة باعتراف الجميع. وإذا كنت سأبحث في «الجماعة المتمدنة» قبل أن أبحث في «الفرد المتمدن» فمرد ذلك إلى أن لدينا عن الجماعة المتمدنة «نماذج» يقرها العالم بأسره.
ولكني لن أبدأ بهذا أو بذاك، بل سوف أبدأ بوحدات يعدها العالم طرا غير متمدنة؛ إذ لو صدق حكمي على خصائص هذه الوحدات لوجب أن أصل إلى نتائج معبرة سلبية لها أهمية أساسية، فسوف أعرف ما ليس بالمدنية، ولا يمكن أن تكون إحدى خصائص الجماعة المتوحشة مميزا من مميزات الجماعات المتمدنة. لا يمكن أن تكون إحدى تلك الخصائص المميزة التي أبحث عنها والتي تفرق بين المدنية والوحشية. ولا يمكن أن تكون من روح التمدن. ولن أحاول أن أكتشف ما هي المدنية بالبحث عن روحها في النماذج التي يقرها العالم طرا حتى اكتشف ما ليس بالمدنية. وعندما ألتمس - إن استطعت ذلك - صفات مشتركة في هذه النماذج لا وجود لها في الجماعات المتوحشة أكون قد انتهيت من الجانب الأول من عملي؛ عندئذ أكون قد اكتشفت الصفات المميزة للمدنية.
سوف أصوغ نظرية محكمة. وإن كنت أريد أن يشاركني قرائي فيها فلا بد أن أقيمها على فروض تبدو لهم عادلة. أعني أنه لا بد لي من أن أستخلص الخصائص المميزة للمدنية من النظر في وحدات يقر لها الجميع بالتمدن أو بعدم التمدن. والوحدات الوحيدة - كما ذكرت من قبل - التي يجمع الرأي فيها حقا على تمدنها أو وحشيتها هي المجتمعات؛ ومن ثم تحتم علي أن أبحث عن الصفات المميزة في المجتمعات لا في الأفراد، فإن وجدت هذه الصفات استطعت أن أواصل البحث في مصدرها الذي لا يمكن أن يكون إلا في عقول الرجال والنساء. وإن جماعة من هؤلاء - كما سيتبين لنا - لهي المنبع الحق. وإذا أرسلنا خيالنا إلى حد البحث فيما إذا كنا بتعزيز الأسباب نأمل أن نضاعف النتائج - أي هل نستطيع أن نزيد من المدنية - فلا شك في أننا سنجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن الوسائل التي يمكننا أن نخرج بها أعدادا وافرة من أناس ذوي مدنية رفيعة. أما في الوقت الحاضر فلا بد لي من الاتجاه إلى المجتمعات أتلمس فيها الخصائص التي أبحث عنها، ففي المجتمعات وحدها توجد النماذج التي يجمع الرأي على توحشها والنماذج التي يجمع على تمدنها. هناك من هذه المجتمعات اثنان أو ثلاثة على الأقل لا يعارض في سمو مدنيتها أي فرد أصاب من التعليم قدرا معقولا. وسوف أتخذ هذه المجتمعات نماذج الكمال. وهناك ثلاثة أو أربعة مجتمعات أخرى كثيرا ما عدت من بين المجتمعات ذات المدنية الرفيعة، غير أن حقها في هذا الوصف محل تنازع خطير يستند إلى دواع قوية؛ ولذا فلن أتجه إليها.
وكما أن هناك مجتمعات متمدنة باعتراف الجميع، فهناك أخرى يتفق العالم كله على وصفها بالوحشية، وقد تعجب بهذه المجتمعات الوحشية. وقد تعشقها - أو تحسب أنك تعشقها - أكثر مما تعشق المجتمعات المتمدنة. غير أن الإجماع ينعقد على نعتها بالوحشية حتى إن علماء الأنثروبولوجيا يقصدونها ليتلمسوا فيها حال الإنسان البدائي خلال تلك القرون البعيدة أو العصور السحيقة حينما كان ينتقل من البهيمية أو على الأقل من العصر الباليولتك إلى العصر النيوليتك، وقد قام هؤلاء الأنثروبولوجيون العجيبون بدراسات دقيقة في عادات ومعتقدات أكثر الناس وحشية من بين هذه الأقوام المتوحشة، ومن دراساتهم آمل على الأقل أن أعرف ما ليس بالمدنية، ولنذكر أنه ما من صفة - مهما تكن شريفة - يمكن أن تكون من الخصائص المميزة للمدنية، إذا كانت مما تتصف به الجماعات المتوحشة. إن المجتمعات المتمدنة قد تشاطر الجماعات المتوحشة مثل هذه الخصائص بطبيعة الحال، وقد تتصف بها إما كصفات مشتركة بين أفراد البشر جميعا، أو كأثر من آثار البربرية، وكذلك قد تكون هذه الصفات ذات قيمة وجاذبية، وقد يتصف بها كثير من الشعوب ذات المدنية الرفيعة أو أكثرها ولا تقتصر البتة على المتوحشين. ولكن حيث إنها ليست خاصة بالمجتمعات المتمدنة، فلن تعيننا على التعريف، ومع أن بعض الخصائص التي تشاطرها الجماعات المتمدنة مع المتوحشين تشيع بين جميع المجتمعات المتمدنة، إلا أنها ليست من مميزاتها التي تختص بها. وإنما نبحث عن الصفات المميزة (أو الخصائص). نريد خصائص شائعة بين جميع المجتمعات ذات المدنية الرفيعة تخلو منها الجماعات المتوحشة. ولا نأمل أن نعرف ما هي المدنية إلا بعد أن نستخلص هذه الخصائص.
فواجبي الأول إذن هو أن أزيل الموانع من الطريق. يجب أن أستبعد تلك الخصائص التي كان من الممكن اعتبارها من علامات المدنية لولا أن أسفل القبائل المتوحشة وأشدها تأخرا تشاطر المجتمعات المتمدنة فيها، ولهذا الغرض ينبغي أن أكتب فصلا علميا، يبحث في أسفل صفحاته بعض القراء الذين لهم حق التشكك في علمي عن حشد غزير من الحواشي. بيد أنهم سيبوءون بخيبة الأمل. ففي مقالة خفيفة سطحية كهذه لا تجد الحواشي المستفيضة مكانا لها. ولا بد أن يوجد منها القليل، ولكنه القليل فحسب. وقد رجعت في أكثر ما ذكرت في الفصل الأول إلى ذلك المؤلف الثبت الذي وضعه وسترمارك تحت عنوان «أصل الآراء الخلقية وتطورها». هنا يجد القارئ المتشكك الدليل قائما على كل حقيقة مذكورة، بل أكثر من هذا، هنا يجد القارئ سردا رائعا لعقائد الشعوب المتوحشة وأخلاقها، سردا يستند إلى العلم الرصين، مؤيدا بالمراجع العديدة، وموضحا بالطرائف التي تأخذ بالألباب. أما عن الحواشي، فإن اعتراضي عليها في الأدب الخفيف هو أنها تصرف العين من جهة، وهي في أغلب الأحيان - من جهة أخرى - حيلة للتخلص من العمل البغيض الذي يتطلبه تشكيل كتل جامدة من المادة الخام في صورة مقبولة. وإذا تسامحنا في قبول عادة تكرار طبع المقالات وجب أن نتسامح كذلك في هذه الحواشي المطولة المزيدة. فهي تتمة لا مفر منها للصحافة التي تزعم لنفسها الخلود. أما في مقال خفيف ينم عن الصياغة المجملة من أول لفظ إلى آخر لفظ فيه فهي عادة دليل على الضعف وأمر يشق احتماله. ولست أكره التظاهر بالمعرفة، بل إني على النقيض من ذلك أشعر - كما يشعر غيري - بالروعة التي يسبغها على الصحيفة الاقتباس الموفق أو الاسم المهيب، وكذلك لن يفوت على القارئ المستبشر الذي يتحول إلى عقيدتي راحة الضمير وثبات العقيدة عندما يصادفه خلال النص بعض هذه الاقتباسات والأسماء الجليلة، ولكني عندما اضطر إلى الإدلاء برأي من تلك الآراء التي تنتزع من القارئ المعادي صيحة يعبر بها عن تكذيب ما أذكر - عندئذ فقط سأضطر إلى الإشارة في هامش الكتاب؛ كي أرد عن نفسي الاتهام.
من أجل هذا حاولت أن أدخل السرور على مثل هذا القارئ بوصف مقالتي هذه بالخفيفة السطحية، وأؤكد أنها ستكون خفيفة بكل ما في الكلمة من معنى، وربما كانت كذلك سطحية، ولكني عندما استخدمت هذه الكلمة كنت أفكر قبل كل شيء في أحدث دلالاتها. قصدت أنني سوف أحاول أن أكون مفهوما، وإني لأعطف على أولئك الكتاب الذين أرغمهم الفقر أو مقتضيات الخدمة الحربية على الانصراف عن التعليم، وإني لأدرك تمام الإدراك لماذا يعرضون عن أولئك الذين كان هدفهم التعبير عن الآراء في بساطة ووضوح وإيجاز بقدر الإمكان. إن أمثال هذه الأساليب اليائسة تختصر أطول الكتب التي ألفها كثير من خيار أنبيائنا إلى صفحات قلائل. فإذا لم يكن لديك الزبد الذي تكسو به الخبر، فإنك لا تستطيع أن تكسو خبزك بطبقة رقيقة منه. وفي مثل هذا القحط، لا يكون بوسعك إلا أن تغوص في الرغيف متعجبا. ويسمى هذا في الأدب تعمقا. وبالرغم من أن هناك من القراء من يغوص إلى أعمق الأعماق فلا يلاقي هناك أصغر ذرة من الزبد الصناعي فيتشجع على وصف هذه الأعماق بالفراغ - برغم هؤلاء نجد أن الأسلوب العميق يلقى التقدير عادة في أجزاء من أوروبا وأمريكا يتصف أهلها بالنشاط وخفة الحركة. وعلى أية حال، فإن صفات الفئران العمياء التي تثقب الأرض وعمال المناجم الذين يغوصون فيها هي عندي من قبيل التظاهر. ثم إن مقالا من هذا النوع - فوق هذا - يختلف عن الشعر الحديث والفلسفة والخيال الفلسفي الحديث في أنه لا يأمل أن يلقى إعجابا من ذلك الجمهور الضخم الذي يغفل - خلال بحثه عن الحياة - كل الفوارق الدقيقة بين الكلام المعقول والكلام الفارغ. إني لا أجرؤ أن أكون عميقا. وأصارحكم القول إن كاتب هذا المقال كان يود أن يدبجه بكل ما أوتي منتسكيو وهيوم وفلتير من وضوح قليل الغور لو أنه عرف سر سطحيتهم.
وسوف أحاول أن أكون مفهوما لأني أود أن يدرك القارئ ما أقول. ولنفس هذا السبب سأكرر ما أقول، وكان من الممكن أن أتعلم من لوحات الإعلانات - من زمان بعيد - أن تكرار القول هو وسيلة الإقناع، ولكني في حداثتي كنت غرا لا أفهم الناس، فكنت أعتقد أني لكي أنقل إليهم ما أريد ليس علي إلا أن أذكره مرة واحدة في وضوح، وكان في دار النشر لأصحابها السادة شاتو ووندس رجل في مثل سذاجتي، اطلع على مسودات كتابي الأول عن «الفن»، فأشار في رقة بالغة إلى أنني في نقطة من نقاطه - تعريف العمل الفني - ربما بالغت في التكرار. نعم لقد فعلت: و«القارئ» كفرد فذ كان مصيبا كل الصواب، ولكنه كان مخطئا باعتباره ناشرا، بل إني لم أكرر القول بالقدر الكافي للجمهور. وما برح النقاد والأكفاء في إنجلترا وأمريكا حتى اليوم يذكرون أني قصدت «بالعمل الفني» ما قلت على وجه الدقة مرارا أني لا أعنيه؛ ومن ثم فإني أرجو أي قارئ يلاحظ أني في هذا المقال أكرر القول مرارا أن يتفضل بنسبة ما عند المؤلف من إملال إلى خصيصة من خصائص القراء عامة (خصيصة لست بحاجة إلى أن أقول إن السيدة أو السيد الذي تسوقه المصادفة إلى مطالعة هذه الكلمات لا يتصف بها).
ما ليس بالمدنية
ليس احترام حقوق الملكية من خصائص المجتمعات المتمدنة وحدها. حقا إن الحيوان ليس لديه هذا الاحترام، كما أنه ليس لديه آلات من حجر الصوان. وعند الإنسان المتوحش هذا وذاك، وهذا ما يميزه من الحيوان، ولكن لا يجعله إنسانا متمدنا. إن آلات الصوان واحترام حقوق الملكية قد تكون من وسائل المدنية، غير أن الإحساس بهذه الحقوق لا يمكن أن يعد خصيصة من خصائص المدنية، شأنه في ذلك شأن آلات الصوان، بل إن كثيرا من الأغنياء والمفكرين اعتنقوا رأيا يناقض هذا الرأي. غير أن وسترمارك يقول لنا إن قبائل متوحشة عديدة عندها من دقة التفرقة بين «مالي» و«مالك» ما عند قاض إنجليزي، وتكاد السرقة أن تكون مجهولة بين هنود أمريكا الشمالية حتى جاء الجنس الأبيض الذين من الإنصاف أن نذكر أنهم بذلوا قصارى جهدهم في موازنة أي ضرب من ضروب الانحلال الخلقي ربما أدخلوه معهم بإرسال المبشرين يذكرون الأهالي بأن العقوبة الأزلية تنتظر أولئك الذين يخالفون الوصية الثامنة. وعلى أية حال، يجب ألا نظن أن الاعتقاد في الله والحياة الآخرة مقصورة على المتمدنين - وليس هذا الاعتقاد هو خاصيتهم الأولى، بل على نقيض ذلك، نجد أن لدى معظم الأجناس المتوحشة عقيدة حية في الإله، وكثير منها يأكله. وأحط سكان الغابات بأستراليا - وربما كانوا أشد المتوحشين توحشا - يعتقدون في وجود كائن أعلى يضع القوانين الخلقية ويحكم بينهم، بل إنهم ليسمونه «الأب» ويعبدونه في صورة سيد عجوز. إن المتوحشين قلما ينكرون وجود الله. وهم مثلنا يتطلعون إلى مستقبل أعظم.
وفي المجتمعات العامة سمعت السيدات يقلن: إن مقياس مدنية الشعوب هو المكانة التي تخص المرأة بها. ترتفع المدنية أو تنخفض بارتفاع مكانتها أو انخفاضها، غير أن هذا يخالف الواقع، فإن للمرأة عند سكان جزر أندمان، وعند البوشمان والفيدا - وليس بين الناس من هم أقرب منهم إلى الحيوانية، كما يقول وسترمارك - اعتبارا أكبر مما كان لها عند الأثينيين لعهد أرسطو. وبينما نجد أن الذكور في كثير من القبائل المتوحشة - برغم حيوانيتهم يستكينون لزوجاتهم ويضعونهن في مستوى يدنو من مستواهم، كان الصينيون في عصر تانج وعصر سونج - وهما العصران اللذان اشتهرا بالمدنية - لا يرفعون زوجاتهم فوق قدر الماشية إلا قليلا، ومن الواضح حقا أن كثيرا من أكلة لحوم البشر يمتلكون عددا لا يحصى من الفضائل العائلية؛ إذ يتصفون بالرفق والأمانة والجد، والكرم مع أفراد قبيلتهم، والجود مع الأغراب. ويترتب على ذلك فيما يبدو أن ما عند عامة البريطانيين من فضائل ليس خاصا بالجماعات المتمدنة. وكثيرا ما أذهل المكتشفين صدق المتوحشين. ويقال: إن الفيدا من أهل سيلان نماذج تحتذى في الصدق، والأندامان الجزريون والبوشمان «يعتبرون الكذب إثما كبيرا»، في حين أن سمعة الإغريق وأهل كريت سيئة في هذا الصدد، وفي حين أن سكان قارة أوروبا يصفون بريطانيا العظمى بصفة خاصة؛ إذ يطلقون عليها «الغادرة». وكثير من المتوحشين لا يتصفون بالصدق فحسب، بل يتصفون كذلك بالنظافة. فالميجي، وهم شعب ساحل الذهب البائس، الذين يخضعون لأولئك المتوحشين المعروفين باسم منتبي «يغتسلون مرتين أو ثلاث مرات في اليوم» ويغتسلون اغتسالا كاملا، فكم أوروبي من نهاية الإمبراطورية الرومانية حتى اعتلت الملكة فكتوريا العرش اغتسل اغتسالا كاملا مرة في كل عام؟
Shafi da ba'a sani ba