فحصل من تعقله خالقه عقل هو أيضا جوهر عقل آخر؛ كحصول السراج من سراج آخر.
وحصلت من تعقله ذاته واجبة بالأول نفس، هي أيضا جوهر روحاني كالعقل، إلا أنه في الترتيب دونه.
وحصل من تعقله ذاته ممكنة لذاته جوهر جسماني هو الفلك الأقصى، وهو العرش بلسان الشرع.
فتعلقت تلك النفس بذلك الجسم، فتلك النفس هي النفس الكلية المحركة للفلك الأقصى كما تحرك نفسنا جسمنا، تلك الحركة شوقية بها تتحرك النفس الكلية الفلكية شوقا وعشقا إلى العقل الأول، وهو المخلوق الأول، فصار العقل الأول عقلا للفلك الأقصى ومطاعا له، ثم حصل من العقل الثاني عقل ونفس وجسم؛ فالجسم هو فلك الثاني وهو فلك الثوابت وهو الكرسي بلسان الشرع، وتعلقت النفس الثانية بهذا الفلك.
وهكذا حصل من كل عقل ونفس وجسم، إلى أن ينتهي إلى العقل العاشر. ثم حصل منه العالم العنصري. والعناصر أربعة: الماء والنار والهواء والأرض، وحصلت منها المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، والإنسان الذي هو أكمل الحيوانات، وهو بنفسه يشبه الملائكة، ويمكن أن يبقى بقاء السرمد إذا تشبه بها في العلم والعمل، ويصير هو أيضا أخس من البهائم والسباع إذا اتصف بأخلاقها داخل الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا. وأما إذا تنزه عن طرفي الإفراط والتفريط في الأخلاق وتوسط بينهما، فلم يكن شبعا ولا حاملا في القوة الشهوانية، بل يكون عفيفا؛ فإن العفة توسط الشهوة، ولا يكون أيضا متهورا ولا جبانا، بل يكون شجاعا كسب القوة الغضبية، فإن الشجاعة تتوسط بين التهور والجبانة. وكذلك له حكمة في المعيشة، وهي حسن التدبير فيما بينه وبين غيره، إما بحسب أهل منزله الخاص وهو يتم بين زوج وزوجه، ووالد ومولود، ومالك ومملوك. وإما بحسب أهل المدينة في المعاملات وفي السياسات إن كانت له رتبة في السياسة. وهذه الحكمة توسط في تدبير نفسه وغيره دون الجربزة والبلاهة، وهذه الحكمة غير الحكمة التي هي العلم بالحقائق؛ فإن تلك الحكمة كلما كانت أشد إفراطا كان أحسن، وهذه الحكمة لا ينبغي أن تكون بالإفراط وإلا لكان جربزة، ولا بالتفريط وإلا لكانت بلاهة.
وهذه الخصال الثلاث؛ أعني العفة والشجاعة والحكمة، هي التي سميت «عدالة»؛ فالعدالة هي مجموع هذه الثلاث، فمن اتصف بها وكان أيضا حكيما بالحكمة النظرية التي هي العلم بحقائق الأشياء فقد صار كاملا في العلم والعمل، وصار من جملة من قيل في حقهم:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم .
فإن قلت: فهل يمكن أن تحد الحكمة النظرية تحديدا لا يمكن أن يكون أقل منه حتى تسعد بها النفس تلك السعادة، فيكون من السابقين المذكورين؟ قلت: يمكن ذلك التحديد بالتقرير فنقول:
ينبغي أن يكون عالما بوجود واجب الوجود تعالى وصفات جلاله ونعوت كماله وتنزيهه عن التشبيه، ويتصور عنايته بالمخلوقات وإحاطة علمه بالكائنات وشمول قدرته على جميع المقدرات، ثم يعلم أن وجوده يبتدئ من عنده ساريا إلى الجواهر العقلية، ثم إلى النفوس الروحانية الفلكية، ثم إلى الأجسام العنصرية بسائطها ومركباتها من المعادن والنبات والحيوان، ثم يتصور جوهر النفس الإنسانية وأوصافها، وأنها ليست بجسم ولا جسمانية، وأنها باقية بعد خراب البدن إما منعمة وإما معذبة، فهذا القدر من العلم مجمله ومفصله هو القدر الذي إذا حصل للإنسان استسعد بالسعادة التي شرحنا حالها، أعني سعادة السابقين الكاملين. وبقدر ما ينتقص علمه وعمله انتقص من درجاته وقربه من الله تعالى. وأما الذي قد انحطت رتبتهم عن درجة هؤلاء الكاملين علما وعملا، وهم المتوسطون، فيكونون إما كاملين في العمل دون العلم أو بالعكس؛ فهم يكونون محجوبين عن العالم العلوي مدة حتى تنفسخ عنهم تلك الهيئات الظلمانية بتلك الأعمال الردية التي كانوا يعملونها في حياتهم الدنيا، وتتقرر الهيئة النورية قليلا قليلا، فيتخلصوا إلى عالم القدس والطهارة ويلتحقوا بهؤلاء السابقين. وأما الكاملون في العلم دون العمل من القسمين المتوسطين، وهم المتنزهون من أهل الشرائع الذين يعملون الصالحات ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويتبعون الأنبياء فيما أمروا ونهوا عنه، ولكن لا تكون لهم زيادة بسط من حقائق العلوم ولا يعرفون أسرارها والأسرار والتنزيلات الإلهية وتأويلاتها، فهم إذا تخلصوا عن أبدانهم انجذبت نفوسهم إلى نفوس الأفلاك وعرجوا إلى السماوات، فشاهدوا جميع ما قيل لهم في الدنيا من أوصاف الجنة في غاية الشرف والرتبة، يلبسون فيها من سندس وإستبرق وحلوا أساور من فضة متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. ولكن لا يبعد أن يفضي بهم الأمر إلى أن يرتقوا إلى العالم العقلي والصقع الإلهي، فينغمسوا في اللذات الحقيقة التي لا يمكن أن يشرحها بيان ولا يكشف عنها مقال ولا يوازنها حال. وإذ قد وصلنا إلى هذا المقام، وكشفنا هذه الأسرار التي عميت عنها أبصار أكثر الناس وغفلوا عن أنفسهم وأحوالهم على الحقيقة، فلنكتف بهذا القدر من الاستبصار للطالبين المسترشدين. جعلنا الله وإياكم من المهتدين، إنه هو البر الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله والطاهرين أجمعين. (تمت الرسالة الشريفة في النفس الناطقة بتوفيق الله وبأمن جوده وكرمه.)
Shafi da ba'a sani ba