Macqul da Ba Macqul

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
85

Macqul da Ba Macqul

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Nau'ikan

ويسأل: «أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟» (ص37). «... إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وإن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر» (ص37-38)، «فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا» (ص39).

وما ينفك الجرجاني معيدا ومؤكدا بأن مصدر الجمال الأدبي هو أن تنتظم الألفاظ على نظام المعاني الذي اقتضاه حكم العقل ومنطقه، ولكي يبين لنا الفرق بين مثل ها النسق العقلي في الترتيب، وبين مجرد التجاور الذي لا ينطوي على ضرورة عقلية؛ يوازن لنا بين حروف منظومة في لفظة معينة، وبين عدة ألفاظ منظومة في عبارة، فأما نظم الحروف في اللفظة الواحدة فهو اتفاقي صرف، «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد» (ص39). ولكن ما هكذا الحال في نظم الكلم؛ لأن هذا يقتفي آثار المعاني، فكما أوجبت الضرورة العقلية أن تتتابع المعاني في الذهن على تسلسل معين، ينبغي أن تجيء الجملة على هذا الترتيب نفسه لتتم الموازاة الكاملة بين ما جرى في النفس وما جرى في اللفظ، فلئن كانت حروف الكلمة الواحدة قد ضم بعضها إلى بعض بغير ضرورة توجب صورة بعينها دون أخرى، فإن نظم الكلم لا يقتصر أمره على توالي الألفاظ في النطق، بل إن الألفاظ ليتبع بعضها بعضا على نحو يصون للفكرة وحدتها وكيانها، إنه ليقال عن الألفاظ إنها أوعية للمعاني، فإذا كان أمرها كذلك، «وجب لا محالة أن تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس، وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق» (ص42).

ويرى الجرجاني أن الترتيب الذي يقتضيه النحو، هو نفسه الترتيب الذي يقتضيه العقل، وبالتالي فهو نفسه الترتيب الذي تنساب به المعاني في الذهن، وإذا كان ذلك كذلك، فما عليك إلا أن تسوق عبارتك ترتيبا يتفق مع قواعد النحو، فإذا هو الترتيب «الجميل»، ويسوق الجرجاني مثلا لذلك هذه الجملة: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة تأديبا له»؛ هكذا يستقيم الترتيب النحوي، والترتيب المنطقي في آن معا؛ فالضارب أولا، والمضروب ثانيا، وتاريخ الضرب ثالثا، والغرض من الضرب رابعا.

لكننا في الحقيقة نحس شيئا من القصور في فكرة الجرجاني، ولا ندري كيف نحدده؛ لأنه لو كان المعنى، والمعنى وحده، هو مدار الحكم، وأن كل ما نطلبه من ألفاظ العبارة هو أن يجيء ترتيبها وفق ترتيب المعاني، فلنذكر أن المعنى الواحد يمكن وضعه في أكثر من تركيبة لفظية، كل منها تنساق كلماته على سياق المعنى، فهل تتساوي القيمة الفنية عندئذ بين هذه التركيبات المتساوية جميعا؟ ليس هذا هو الأمر الواقع؛ إذ ترانا نفاضل بين عبارتين متساويتين في الأداء، وإلا فماذا يكون الفرق بين البيت من الشعر أو الآية من القرآن وبين الشرح لذلك البيت أو هذه الآية؟

يقيم الجرجاني نفسه هذا الاعتراض من الوجهة النظرية ليتيح لنفسه فرصة الرد، فيقول: إن الأمر في هذه الحالة يكون كصياغة الذهب مثلا، فتكون قطعة الذهب غفلا ثم يصوغها الصائغ سوارا، فكذلك يكون المعنى «غفلا ساذجا عاميا موجودا في كلام الناس كلهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق» (ص303)، لكننا نرى أن الاعتراض ما زال قائما في أساسه، فنحن لا نريد المقارنة بين المعنى من جهة وعبارة معينة تجسده في لفظها حتى يقال لنا إن المعنى بمثابة الذهب الغفل، والعبارة بمثابة السوار الذي يصوغه صائغ من ذلك الذهب، وإنما نحن أمام مقارنة مطلوبة بين عبارتين، كلتاهما تسوق المعنى بترتيب يرضى عنه منطق العقل، فكيف نفاضل بينهما؟ ولنستخدم لغة الجرجاني فنقول: إننا أمام سوارين صاغهما صائغان من ذهب غفل، فكيف نفاضل بين سوار منهما وسوار؟ ذلك هو السؤال الذي نعتقد أنه ترك عند الجرجاني بغير جواب حاسم، لا في كتابه «أسرار البلاغة» ولا في كتابه هذا «دلائل الإعجاز».

ومهما يكن من أمر، فإن الجرجاني بعد أن يضع هذا الأساس العام للبلاغة في رأيه، ينتقل إلى موضوعه، وهو إعجاز القرآن؛ فبناء على الأساس الذي وضعه، يصبح الأمر واضحا، وهو أن الإعجاز إنما هو في المعاني الواردة في القرآن، لا في طرائق صياغتها اللفظية، فإذا سأل سائل: ما موضع التحدي حين يقول الله تعالى:

قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ؟ جاء جواب الجرجاني على سؤال السائل هكذا: إن موضع التحدي هو في معنى القرآن لا في لفظه، وأخذ يسوق على ذلك حججا على سبيل البرهان، نلخصها فيما يلي:

محال أن تكون مفردات اللغة المستعملة في القرآن هي موضع الإعجاز؛ وذلك لأنه إنما استعمل مفردات كانت مستعملة قبل نزوله، واستعملها بنفس معانيها السابقة ... «لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة؛ لأن تقدير كونه [أي الإعجاز] فيها يؤدي إلى المحال، وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن، ولا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن، ولا يجوز أن تكون [دلائل الإعجاز] في معاني الكلم المفردة التي هي لها بوضع اللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد والرب، ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا، وصف لم يكن قبل نزول القرآن» (ص277).

ولا يكون موضع الإعجاز في القرآن هو ما فيه من مقاطع وفواصل ... «وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك ولم يتعذر عليهم» (ص278).

وليس موضع الإعجاز فيما نجده في القرآن من استعارة؛ لأن كثيرا منه يخلو من الاستعارة.

Shafi da ba'a sani ba