Macqul da Ba Macqul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Nau'ikan
25
لقد آن لنا أن نعود إلى بغداد، بعد أن وقفنا هذه الوقفة مع معتزلة البصرة عندئذ، لكننا نؤثر أن تكون عودتنا من البصرة إلى بغداد في صحبة «الجاحظ» (775-868م)، فلقد قضى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الشطر الأول من حياته في البصرة حتى صهرته تلك المدينة صهرا بما كانت تعج به أحياؤها من نشاط فكري مبدع عجيب، ثم انتقل ليقضي الشطر الثاني من حياته في بغداد، وإنني لأضع الجاحظ من فكر عصره حيث يوضع عمالقة الفكر جميعا بالنسبة إلى عصورهم الفكرية وذلك على امتداد التاريخ، فماذا يكون عملاق الفكر في كل العصور وفي مختلف الثقافات، إذا لم يكن هو الرجل الذي امتص ثقافة عصره بأسرها، من أصولها إلى فروعها، لا لكي يتلقاها راضيا شاكرا حامدا، بل لكي يتناولها ناقدا ساخرا؛ ابتغاء تحويرها وتبديلها، ولكم شهدنا رجالا أجهضوا إجهاضا في ولادتهم الفكرية، حتى جاء تكوينهم مبتورا شائها، فترى أحدهم إما اجتزأ ثقافة عصره اجتزاء فحصل منها جانبا وفاته جانب، وإما حصل ما حصله في سلبية لا تحرك ساكنا ولا تغير قائما، فأما عمالقة الفكر فتراهم يقفون في ميدان عصرهم الثقافي وقفة المحور تدور حوله الأفلاك، ثم إلى جانب ذلك تراه يصور ما يصوره لينقده أو يعدله، ومن هذا القبيل الضخم كان الجاحظ في عصره.
إنني في هذا الكتاب أسير على طريق «العقل» من تراثنا الفكري، فإذا كنت قد وقفت على الطريق لأستمع إلى الجاحظ، فإنما وقفت لأستمع إلى رجل هو أقرب الناس إلى فولتير في سخريته النافذة، وفي عقلانيته الصارمة، إنه هو نقطة التحول في الثقافة العربية كلها، من ثقافة كان محورها الشعر، إلى ثقافة محورها النثر، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنه تحول من نظرة وجدانية إلى أخرى عقلية؛ فبعد أن كانت الثقافة العربية قبل الجاحظ تخاطب الأذن بالجرس والنغم، أصبحت بعد الجاحظ تخاطب العقل بالفكرة، إنه انتقال من البداوة وبساطة استرسالها مع المشاعر، إلى حياة المدينة وما يكتنفها من وعي العقل ويقظته، فيلتفت إلى الدقائق واللطائف التي تميز الأشياء والأفكار بعضها من بعض، لقد قرأت مرة لكاتب معاصر لنا يحاول تعريف «المثقف»، من طبقة ما يسمى «بالأنتلجنسيا» - أو طائفة المفكرين - فيقول إنه هو من استطاع تحديد الفوارق الدقيقة بين رقائق الفكرة الواحدة، أو هو من استطاع رؤية الظلال المتدرجة الخفيفة، إذ ما أيسر على غير المثقف أن يقبل الأفكار على غلظتها بغير تحليل، دون أن يحس أنه بهذا لا يكاد يدرك من تلك الأفكار شيئا، تقول له - مثلا - أفكارا كالحرية أو الديمقراطية أو المساواة، وما إليها من أفكار تمتلئ أجوافها بشتى الكائنات، فيقبلها على لبسها هذا بغير قلق يساوره، وهكذا تكون بساطة البداوة في إرسال القول، حتى إذا ما انتقل الأمر إلى المدينة وجدت العام قد أخذ يتشقق إلى خواص، وكل خاص بدوره يتفرع إلى فروع، وهلم جرا.
لقد تصادف فيمن يكتبون عن التراث الفكري الذي خلفه لنا الآباء، فيصفونه بفقر في المضمون الفكري نفسه، لكن يغطيه بريق خاطف من لفظ مصقول، حتى لتعمى العين بهذا البريق فلا تدرك كم هو خواء ما يحمله اللفظ من معنى، أو يصفونه في بعض حالاته بالغنى الغزير في المضمون الفكري، لكن اللفظ الذي صيغ فيه ذلك المعنى ينوء بما يحمل، فتثقل العبارة على قارئها ثقلا ربما دفعه إلى تركها إلى غير رجعة، أو يصفونه في معظم حالاته بأنه تراث مفعم بالشواهد حتى لتضيع فيه الفكرة التي جيء بتلك الشواهد لتشهد على صوابها، كما يضيع الفكر وتذوب شخصيته ذوبانا كاملا فلا تراه. لكن هذه الأوصاف الثلاثة التي يمكن أن يوصف بها تراثنا في هذا الجانب منه أو في ذلك، تنتفي كلها أمام الجاحظ، فيوشك هذا الرجل أن يبدأ لنا صفحة جديدة كل الجدة في تاريخنا الفكري؛ فالفكرة على يديه غنية غزيرة الغنى، ومن ثم فهي لا تحتاج إلى بريق لفظ يستر منها فقرا، واللفظ عنده ميسور كل اليسر كأنه الشراب السائغ، لا توقفك فيه عقبة كائنة ما كانت، ومن ثم فلا ثقل ينفرك منه، فتمضي في القراءة ما وسعت ذلك ساعات الفراغ، وطريقة العرض وذكر الشواهد لا تخفي من شخصية الكاتب شيئا؛ فالجاحظ هناك ماثل أمام عينيك وفي مسمعيك عند كل فقرة من كل صفحة مما كتب.
إنك مع الجاحظ إنما تقف بإزاء رجل واضح النظرة العقلية، فهو إذا ما تناول موضوعا بالبحث، جمع الآراء المتضاربة كلها، ليعرض أمام عقله الفكرة ونقيضها، ويدافع عن كل منهما دفاعا يكاد يوهمك أنها هي الفكرة التي يتبناها لنفسه، لكنك سرعان ما تجد الحرارة نفسها في دفاعه عن نقيضها، فتراه يكتب في ذم الشيء وفي مدحه بدرجة واحدة من القوة، وقد يخلق لنفسه أشخاصا يحاورهم ويحاورونه - كما فعل أفلاطون في محاوراته - وذلك ليسبغ شكلا مقبولا على الحوار، فكأنما لكل جانب من الجانبين مؤيد يؤيد جانبا ويعارض الجانب الآخر.
كان الجاحظ في كل هذا ينشد اقترابا من اليقين فيما هو بصدد بحثه، عن طريق الشك فيما يقال عن ذلك الموضوع المطروح للبحث؛ يقول الجاحظ بعد أن روى ما كان سمعه عن نوع من الحية أنها تلد، وعن نوع من الوعول أن أنثاه تلد مع كل ولد تضعه أفعى، «لم أكتب هذا لتقر به، ولكنه رواية أحببت أن تسمعها، ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما؛ فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه، ثم اعلم أن الشك في طبقات عند جميعهم، ولم يجمعوا على أن اليقين طبقات في القوة والضعف، ولما قال أبو الجهم للمكي: أنا لا أكاد أشك، قال المكي: وأنا لا أكاد أوقن، ففخر عليه المكي بالشك في مواضع الشك، كما فخر عليه ابن الجهم باليقين في مواضع اليقين» (الحيوان، ج6، ص10).
إن رجلا كالجاحظ جدير أن يستمع إليه؛ فربما كانت الطريقة المثلى هنا هي أن ندعه يتكلم بألفاظه، بادئين بقليل مما ورد في بعض «رسائله» ومنتهين إلى شيء مما ورد في كتابه الموسوعي الضخم «الحيوان» الذي لا يتقيد موضوعه بحدود عنوانه، وإن يكن الحديث عن الحيوان هو أوسع من الحديث عن أي موضوع آخر مما ورد فيه، وقد نتطرق من «الحيوان» إلى رائعته الأخرى، وهي «البيان والتبيين».
يقول الجاحظ في «رسالة المعاش والمعاد» - وهي في أساسها نصح وتوجيه في الأخلاق المحمودة، خاطب به محمد عبد الملك الزيات، وفي رواية أخرى أنه خاطب به محمد بن أبي داود الذي تولى قضاء بغداد في عهد المتوكل - «اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضار وبغض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبع مركب، وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود في الإنس والحيوان» (رسائل الجاحظ، ج1، ص102) - فأرجو أن يتمهل القارئ معي عند القول بأن حب المنافع ودفع المضار هو موقف يمليه الطبع، تمليه الفطرة البشرية، وأن الأساس في هذا واحد في «الإنس والحيوان» جميعا، فإذا كان مقطوعا بأن الجاحظ في تراثنا الفكري علم شاهق، فإننا لا نجاوز حدود التراث إذا أخذنا بمذهب أخلاقي في عصرنا الراهن هذا، يجعل الأخلاق قائمة على أساس «المنفعة» وحدها، فليس من الأخلاق المحمودة ما تثبت تجارب الحياة على طول السنين أنه ضار، وبهذا المبدأ وحده تزول عن التقاليد قدسيتها أو ما يشبه القدسية عند كثير من مواطنينا المعاصرين، فليست أولوية القبول لما قد جرى به عرف الأقدمين، بل الأولوية هي لما يثبت أنه جالب للمنافع دافع للمضار، ولما كانت المنافع تتغير بتغير الظروف عصرا بعد عصر؛ وجب أن تراجع مبادئ الأخلاق عصرا بعد عصر كذلك، أو قل تراجع حضارة بعد حضارة، ولقد ذهب كاتب هذه الصفحات هذا المذهب النسبي في القيم على اختلافها، فقامت عليه القيامة كأنه خرج بهذا القول عن مبادئ تراثنا المجيد! نعم، قد نجد في الموروث رجلا آخر غير الجاحظ، يجعل مبدأ الأخلاق التزام «الواجب» الذي أمرنا به، لا «المنفعة» التي تقتضيها ظروف المعاش، لكن النقطة الهامة هنا، هي أنه إذا جاز للأسلاف أن يختلفوا في ذلك مذهبا، فهل يحرم علينا نحن المعاصرين مثل هذا الاختلاف في المذهب؟
ونمضي مع الجاحظ في هذه الرسالة عينها «رسالة المعاش والمعاد» لنسمع: «واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار!» (الرسائل، ج1، ص91) - فماذا يقول مفكر عقلاني معاصر لنا أكثر من هذا التحذير، إذا أراد لنا أن يكون «العقل» وحده هو الحكم في أمورنا؟ إنها خدعة من الشيطان أن يخلط لنا في أوهامنا بين حالتين، نظنهما متشابهتين، وبينهما من التباين ما بين الأرض والسماء، وهو نفسه التباين الذي يفرق بين أمة تقدمت وأخرى تخلفت، فليس «التواني» هو «التوكل»؛ الأول هو اللامبالاة - إذا استخدمنا لغة عصرنا - ومن أبرز نتائجه أن نحيل على الأقدار تصاريف الحياة، ثم ننتظر في رخاوة فاغري الأفواه كمن سلبت إرادتهم وأفلت زمامهم، وأما الثاني - «التوكل» - فأمر لا محيص لنا عنه ، ولكن بأي معنى؟ بالمعنى الذي يجعلك تبذل كل جهد ممكن، وتلجأ في قضاء حاجاتك إلى كل حيلة ممكنة، ثم تترك ما يجاوز حدود جهدك وحيلتك للأقدار، هذا أمر واضح؛ لأن الجملة هنا جملة «تحليلية» كما يقول رجال المنطق، أي أنها جملة تفسر شطرها الأول بشطرها الثاني، ولا تضيف إليه معنى جديدا؛ لأنني إذ أطالب إنسانا بأن يبذل في أموره كل جهده، ويحاول حل مشكلاته بكل ما يسعه من حيلة، كان متضمنا في هذا القول أنه لا قبل له فيما يجاوز جهده وحيلته، وإذن فلا مناص له من ترك هذا إلى عوامل أخرى تصرفه.
ويمضي الجاحظ ليكمل القول السابق بهذه الفقرة: «... واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها؛ فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تئول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعاملون والجاهلون» (نفس المرجع السابق).
Shafi da ba'a sani ba