Macqul da Ba Macqul

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
122

Macqul da Ba Macqul

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Nau'ikan

وأهم ما يهمنا من هذا - فيما له مس مباشر بموضوعنا، وهو أن نفرق بين المعقول واللامعقول؛ لنكون على بينة بحدود هذا وحدود ذاك - هو ما يفصل نوعي الإدراك اللذين ما ينفك الفلاسفة يتعرضون للتمييز بينهما، وهما: الإدراك بالعقل والإدراك بالحدس. فالأول هو كما ذكرنا طريق العلم وما يدور مداره من معارف، والثاني هو ما يقول المتصوفة ومن لف لفهم إنه طريقهم إلى الحق. الأول يخطو حتما من مقدمة أو مقدمات، من شاهد أو شواهد، إلى نتيجة أو نتائج؛ وأما الثاني فلا يخطو، وإنما هو ينتهي حيث يبدأ؛ لأنه لمعة بارقة تتم فيها رؤية الحقيقة بغير مقدمات ولا شواهد ، وإن تكن صالحة بعد ذلك لتوليد النتائج. وواضح أن النوعين قد يتعاونان في عملية واحدة؛ فبالحدس نلمح الفكرة التي تصلح أن تكون «مبدأ» نبدأ منه السير بخطوات العقل إلى حيث شاء لنا ذلك السير من نتائج.

ولك أن تقرب فكرة الحدس إلى تصورك، فتجعل من هذا الحدس ومما نسميه ب «الغريزة» شيئا واحدا؛ فإذا قلنا إن الإنسان يدرك بعض الحقائق بحدسه، فكأننا قلنا إنه يدرك تلك الحقائق بغريزته، وإن شئت أيضا فاجعل من «الحدس» و«الغريزة» مرادفين في المعنى - فيما يمس سياق حديثنا هذا - ل «الوجدان»؛ فكلها أدوات في الفطرة البشرية لا تحتاج إلى تعلم واكتساب، ومع ذلك فهي - كما يزعمون لها - أدوات إدراكية تبلغ اليقين بلمحة واحدة. وإنه ليجدر بنا هنا أن نذكر أمرا له أهميته لمن يتتبع مراحل التاريخ الفكري، وذلك هو أن العصور الفكرية قد يختلف بعضها عن بعض، في أن عصرا تسوده طريقة العقل في الإدراك، فيجيء عصر آخر في إثره ليعدل الميزان بأن يجعل للغريزة - أو للوجدان - الغلبة والرجحان، وبالطبع قد يصطرع الجانبان في العصر الواحد؛ فانظر إلى القرن الثامن عشر في فرنسا، كم أعلى فيه فولتير وغيره من الموسوعيين من شأن العقل، فلم يكن من روسو إلا الثورة على تلك العقلانية الجامحة، فيدعو للغريزة وللفطرة وللمشاعر، وتبعه في ذلك الرومانسيون لفترة طويلة.

ويرى برتراند رسل في هذا الفصل الذي بحث فيه موضوع «التصوف والمنطق» أن لا تعارض في حقيقة الأمر بين الرؤية بالغريزة - أو بالحدس - وبين مهمة العقل بعد ذلك في التحليل الذي يرتب عليه تأييدا لما رأته الغريزة أو تفنيدا؛ بمعنى أنه من غير الصواب أن نزعم - كما يزعم المتصوفة والرومانسيون وأمثالهم - بأن الغريزة إذا رأت فلا بد أن تجيء رؤيتها يقينا لا يتطرق إليه الشك؛ وذلك أن الغريزة، أو البصيرة، أو الوجدان، أو الحدس، أو ما شئت له من أسماء، قد يرى على لحظات الزمن المختلفة ما ينقض بعضه بعضا؛ أي إنه قد يرى اليوم أمرا ثم يرى نقيضه غدا؛ ومن ثم يجيء دور العقل الذي لا غنى عنه، وهو أن يحلل ويختبر ويحقق؛ ليرفض - من تلك المتناقضات - ما ينبغي رفضه، ويستبقي ما يجدر به أن يبقى. فلئن كانت بصيرة الوجدان قادرة على الكشف، فالعقل من ناحيته يكتفي بدور المراقب والمراجع؛ ليميز في «الكشوف» المزعومة بين القمح والشعير، ثم لينسق العناصر المقبولة في رقعة واحدة متكاملة النسج والبناء.

هذه حقيقة ذات أهمية بالغة في موضوعنا، وأرجو أن ترسخ في ذاكرتنا إلى أن يحين حين الفصول التالية. فلنذكر جيدا منذ الآن أن المتصوف - مثلا - (والكلام ينصب على أنصار «اللامعقول» بمختلف صنوفهم) له كل الحق في أن يقول إنه رأى كذا وكذا مما لا نستطيع نحن رؤيته معه، لكن الذي لا حق له فيه هو أن يدعي لرؤيته يقين الصدق؛ لأنه هو نفسه - في لحظة أخرى - قد يرى النقيض؛ وإذن فلا بد من أداة أخرى، وهي أداة نملكها جميعا، متصوفة وغير متصوفة، وأعني بها أداة العقل ومنطقه؛ لكي ترقب وتراجع وتنسق وتستبقي من الحقائق ما يستحق الدوام. ومعنى ذلك أننا نحن أبناء هذا العصر، إذ نجد بين أيدينا ذخرا من مخلفات الأقدمين في مجال اللامعقول، لا يجوز لنا القبول الأعمى، ولا الرفض الأعمى. فلا يجوز القبول بحجة أنها إدراكات وجدانية أحسها أصحابها بفطرتهم الصافية، فهي بمنجاة من الخطأ، كما لا يجوز لنا الرفض بحجة أنه من اللامعقول الذي يتنافى - من حيث المبدأ نفسه - مع العقل، بل الأدنى إلى الصواب هو أن ننظر نحن الخلف، بالعقل وحده إلى ما قد خلفه لنا السلف من لمحات اللاعقل، لندمج في حياتنا ما يمكن أن يتسق مع ما نراه بدورنا في عصرنا.

ليست الغريزة معصومة من الخطأ، هذا ما نلح في تقريره لنتخذ منه متكأ لنا عند النظر إلى إدراكات المتصوفة. وإنه لمما يلاحظ أن الإنسان كلما تعرض لضعف في قواه العاقلة - في حالات المرض والعجز - ارتد إلى غريزته يستهديها، زاعما أنها أصدق ما يهدي سائرا على طريق. ومع ذلك فمما يلفت النظر أن هؤلاء الذين يشيدون بسداد غرائزهم في أحكامها على الناس والمواقف والأشياء، لا يمتنعون عن اتهام غرائز الآخرين بالضلال إذا ما اختلف هؤلاء الآخرون معهم في إدراك ما يدركون، فكأنما العصمة التي تمتاز بها الرؤية الفطرية الغريزية مقصورة على فريق من الناس دون فريق.

وانظر - على ضوء هذا - إلى الفلاسفة الذين يبدءون بناءاتهم الفكرية بمبدأ يزعمون له الصدق المطلق لكونه رؤية حدسية. ألا يكفي للتردد في قبول دعواهم أن نجد هذه «المبادئ» على غير اتفاق فيما بينهم؟ إنه لو كانت رؤية الحدس لما هو حق أمرا مفروضا ومفروغا من التسليم بصوابه، بحجة أنها رؤية منبثقة عن الفطرة ذاتها، لما جاز أن يرى هذا الفيلسوف نقيض ما يراه ذلك؛ فبأي شيء نراجع أقوال هذا وذلك بغية القبول أو الرفض؟ إن لهذه المراجعة وسيلة واحدة: هي العقل؛ ولهذا كانت وجهة النظر التي أريد اصطناعها إزاء مأثورات الأقدمين، هي أن نحاسبهم بأداة العقل، فما ساير العقل من مأثورهم أخذناه، وما لم يسايره جعلناه موضوعا للتذوق والتسلية، فلا نأخذه مأخذ الجد، مهما قيل في منزلة قائليه من أرباب الوجدان النافذ خلال الحجب الكثيفة التي ابتلانا الله بها - نحن البشر - فحالت بيننا وبين رؤية الحق كما يزعمون.

ولا بأس هنا في أن نسوق فيلسوفا معاصرا لنا؛ لنناقشه في تفرقته بين إدراك «الحدس» وإدراك «العقل المنطقي»؛ لأنه ممن يأخذون بوجهة النظر الصوفية التي تركن إلى الحدس دون العقل في رؤية «الحق». فهو يقول في تمييزه بين الأداتين إن العقل إنما يحوم حول الموضوع الذي يدركه، على أن الحدس يغوص إلى صميمه. العقل تعتمد رؤيته على زاوية النظر إلى الشيء المراد العلم به، وكلما اختلفت تلك الزاوية اختلفت الرؤية، حتى إذا ما أدرك ما استطاع إدراكه، لم تكن له بعد ذلك وسيلة إلا في أن يسوق إدراكه ذاك في رموز - كألفاظ اللغة أو مصطلحات العلوم - وأما الحدس فلا هو في حاجة إلى زاوية خاصة للنظر، ولا هو يستخدم رموز اللغة أو سواها؛ لأنه ملك لصاحبه ولا سبيل إلى نقله إلى الآخرين؛ فلا غرابة أن وجدنا المعارف العقلية كلها «نسبية» تعتمد على ظروف كثيرة، وأما الحقيقة التي يدركها الحدس فمطلقة.

لأن ترى شيئا بحدسك معناه أن تدمج ذاتك في ذاته، وأن تقع منه على ما هو فريد فيه، وإذا قلنا ذلك فكأننا قلنا إنك تقع منه على الجانب الذي يستعصي على أي تعبير؛ إذ بماذا يكون التعبير إلا بالرمز اللغوي الذي لا يكون إلا أداة «تعميم» لا أداة تفريد، وهو بالضرورة أداة تعميم؛ لأنك تستخدمه في جميع الحالات المتشابهة على حد سواء؛ فإذا كان ما قد رأيته بالحدس «فريدا» لا أشباه له، فهو ليس مما يوصف برموز اللغة أو ما يقوم مقامها. ويضرب لنا برجسون مثلا لهذا النوع من المعرفة الحدسية التي تغوص إلى صميم الشيء المدرك لترى فيه ما هو «فريد» بغير أشباه، معرفة الإنسان لذاته، «فهنالك حقيقة واحدة - على الأقل - نمسك بها في داخل نفوسنا بطريق الحدس لا بطريق التحليل البسيط، وتلك هي «ذات» الفرد الذي يستبطن نفسه ليراها، فهو يرى ذاته في حالة فيضها خلال الزمن؛ أعني أنه يرى نفسه في حالة ديمومتها على امتداد الزمن» (مقدمة للميتافيزيقا، ص8 من الترجمة الإنجليزية). لكن برجسون لم يسعه إلا أن يقول لنا هذا القول بوسائل الرموز اللغوية، التي اتهمها بالعجز عن حمل ما قد أدركه في ذاته بطريق الحدس.

يقول برجسون عن العقل المنطقي إنه أداة عملية مهمتها أن تحقق للإنسان القدرة على البقاء، لكن الأمر إذا جاوز حدود منافع العيش، وقف ذلك العقل نفسه موقف الحيرة والعجز تجاه ما تبديه الحياة من خصائص، في الوقت الذي يمكن للحدس - أو الغريزة - أن تدرك ما قد عجز عنه العقل إدراكا مجملا مباشرا. ويعلق برتراند رسل على ذلك بقوله إننا بمنطق العقل وحده استطعنا أن ندرك ما هنالك من صراع بين الأحياء من أجل البقاء، فلو كان العقل على ضلال في إدراكه، لسقطت من أيدينا نظرية التطور البيولوجي كلها؛ إذ هي نظرية استدلها العقل، مع أنها هي النظرية الماثلة في ذهن برجسون حين يتحدث موازنا بين العقل والغريزة، وقائلا إن العقل - لكونه حديث الظهور في سلم التطور - فهو وشيك الزلل، على حين أن غريزة الحيوان - لأنها ضاربة إلى أول نشأة الحياة - فهي مسددة الرؤية نحو الصواب دائما.

إننا على أحسن الفروض التي تؤيد الحدس، نقول إن الحدس وذكاء العقل معا ظاهرتان انبثقتا على طريق التطور البيولوجي، وإن كليهما نافع للبقاء على حد سواء، ولكن لماذا لا نقول كذلك إن العقل قد جاوز حدود المنفعة وأنتج لنا تطورا ثقافيا وحضاريا، على حين بقيت الغريزة عند حدود المنفعة في حفظ البقاء، وإنها إذا لم تكن عامل تعويق للحضارة، فليست على كل حال عاملا مساعدا؛ فالإدراك الفطري المباشر، الذي ننسبه إلى الغريزة، أو إلى الوجدان، أو إلى الحدس، إنما هو على أشده في الأطفال لا الراشدين، وعند السذج لا الذين أرهفتهم الثقافة وتهذيبها، بل هو على أشده عند طائفة من ذوي البلاهة؛ ولذلك كثيرا ما رأينا جمهور الناس «يتبركون» بهم، وينصتون إلى لغوهم وكأنه الحق يجري على ألسنة الملهمين.

Shafi da ba'a sani ba