وقد أخبرني من لا يتهم بكذب أن مقام الإمارة المصرية اتخذ النديم وسيطا بينه وبين يلديز في أمر المصاهرة، وسيأتي ذكرها، وكاد يفلح في سفارته لولا أشياء دسها عليه خصم من أخصامه بالآستانة، وبذا بطلت الثقة أو كادت.
حزب تركيا الفتاة
ملك من الملوك، شديد البطش، قاسي الفؤاد، دائم الحقد، جريء في غضبه، خائف في حيلته، مطلق اليدين على أمة تتوجع ولا تدري مكان وجعها، يبعث بأمره إلى رجل من رجاله فيجرده من ماله ونشبه، ويسلبه عزه وسلطانه، ويخرجه من بين أهله وجيرته ويسجنه صاغرا. كل ذلك لنصح نصح به، أو قول صدق فيه، أو حق عرف حبه له، أو ظلم أبى أن يعين عليه. ثم يفرق أهله ويشرد أولاده، ويقفل باب داره، ويختم عليها رجال الشرطة بالشمع الأحمر، ويمسي الرجل وذووه خبرا من الأخبار! هذا هو الاستبداد.
دولة عظيمة، جم ثراؤها، رغد عيش أبنائها، يتقلبون في النعم، ثغورهم باسمة، وألحاظهم غير زائغة، يتسابقون ولكن إلى المجد، يتنافسون إلا أن تنافسهم في الفضل، ربوعهم آهلة وخيراتهم عميمة، لا يخافون مسيطرا إلا كتابا هو القانون، ولا يتقون معاديا إلا الأجل المحتوم، أيديهم مطلقة في عمل ما يفيد، مغلولة عن عمل السوء، تخفض الملوك رءوسها أمام إراداتهم، وتنصاع الحكومات إلى إشاراتهم، لا يعرفون الحزن إلا وصفا، ولا يجهلون من السرور طمعا ولا شكلا! هذه هي الحرية.
الاستبداد الذي اشتكاه العثمانيون هو أكبر مما جاءت به هذه السطور، والحرية التي كانوا يقنعون بنيلها أقل بكثير مما مثلته في الكلمات المتقدمة. نعم كانت الأمة تريد شيئا ولا تدري ما هو، كانت تشكو ولا تعلم ما يشكيها، بل كانت لا تطمع أن تعلمه. فلما حل ميقات الخلاص انتفضت، فتساقطت من عليها نبال الظلم، ووقفت مستبسلة لا ترجو إلا الله، ولا تريد إلا الوطن، حتى إذا ذاقت وصال الحرية واستمتعت بجمالها وشبابها علمت أنها كانت تئن من أجل ذاك، ودرت أن هذا ما لا بد منه لحياة الأمم.
يحسب أكثر الناس أن أبناء تركيا الفتاة محدثون. كلا ثم كلا. هذا فريق عريق مطلبه مترق بترقي الأجيال. وأول من هاجر من الأراضي العثمانية ناقما هو الأمير «جم» الذي يسميه الأجانب «زيزيم»؛ وهو ابن محمد الثاني من ملوك آل عثمان. ولد في سنة 1459، وهاجر مغلوبا من أخيه بايزيد الثاني في سنة 1482، وراح إلى أوروبا تضيفه السجون وتتقاذفه أيدي الملوك، حتى قضى في أسر البابا «إينوسان» الثامن في سنة 1495 مسموما. على أن هجرة «جم» لم تكن من أجل إصلاح، ولكنها كانت النموذج الأول.
إلا أن الأمة العثمانية، وإن انتابتها النوائب وتعددت فيها آفات الاضمحلال، أسعدها الله مرارا بقوم تداركوها وانتشلوها من وهدتها. وإذا كان «الصقولي» الشهير مجددا بناء هذه الدولة؛ فإن «محمدا الكوبريلي» أنالها في سنة 1661 من الثراء والجاه ما لم يفز بمثله معاصره «ريشليو». وقد شاء الله أن يسير فيها على إثره، بل أن يفوته حفيده «مصطفى الكوبريلي» الشهير الوطني الذي لمع نجمه بعد سنة 1691. وما هؤلاء إلا رجال تركيا الفتاة. فعلوا ولم يقولوا؛ أصلحوا لأنهم أرادوا؛ ولم يطلبوا الإصلاح لأنهم قدروا على فعله.
أما مذهب التجديد الحق، وقلب الإدارة العثمانية القديمة إلى إدارة عثمانية جديدة على منوال الإدارات في الممالك المتمدنة؛ فأمر لم يكد يخطر على بال أحد من قدماء العثمانيين قبل سليم الثالث؛ فإنه أول سلطان بل أول عثماني ألهم هذا الرأي؛ رأي القلب من القديم إلى الجديد. ولي الملك في سنة 1789 بعد عمه عبد الحميد الأول، فرآه مضعضع الأركان بادي الضعف، ففطن لوجوب الإصلاح، وأوشك يشرع في إنجازه، لولا أن تعجلته الصروف بما لم يكن في الحسبان. فدخل الجيش النمساوي بلغراد والجيش الروسي بندر إسماعيل، ودارت رحى الحرب حتى اضطر أن يرضى بهدنة «ياس» سنة 1792، ودخل بونابارت مصر واحتل الفرنساويون بر الشام، فاستعان على طردهم بإنكلترا، واستخلص مصر من غاصبها في سنة 1802. وقد ثار الوهابيون في أرض الحجاز، وثار علي باشا «التبه دلنلي» في يانية، وثار الصربيون، وقامت القيامة في داخل البلاد، وانهمك هذا السلطان الجليل بإطفاء هذه الفتن حتى أتى عليها، ثم رأى أن لا بد من إبطال الجنود «اليكيجرية» وجمع جنود مرتبة مدربة على النسق الأوروبي؛ فقد أيقن أن لا خير في أولئك الجبابرة الذين ظهرت سطوتهم في النهب والقتل والاعتداء على إخوانهم من بعد ما افتضحوا وخذلوا في حرب النمسا وروسيا. فأسس ثكنات عديدة وشاد «الخمبرة خانة» والمهندسخانة، ونظم بعض الفرق من الجنود الجديدة. وبذا ثار اليكيجرية عليه وخلعوه في سنة 1807، ثم خنقوه في سنة 1808 بأمر من مصطفى الرابع الذي ولي الملك من بعده. فقضى سليم الثالث شهيد الإصلاح، وبقي عمله ناقصا إلى أن أتمه السلطان محمود وطهر البلاد حتى لم يترك فيها من اليكيجرية أحدا، واستراح واستراحت معه الأمة؛ ومن هنا صح لنا أن نعد سليمان الثالث أول مؤسس لتركيا الجديدة أو تركيا الفتاة فعلا.
ثم شاءت الأقدار أن تنال البلاد العثمانية نصيبها من التمدين على يد الرجل الحر، الشهير ببيانه ودهائه مصطفى محمد رشيد باشا. ومن عجائب النوادر أنه ولد في سنة 1802، وهي السنة التي تهادن فيها سليم الثالث مع الفرنساويين بعد إخراجه إياهم من مصر. ولم يكن لهذا الرجل في صباه من يعينه ويربيه سوى أمه، ولا من يحميه في شبابه سوى ختنه علي باشا المعروف ب «الإسبارطة لي» وذلك إلى سنة 1826. وقد عرف فضل نفسه، وعرف السلطان محمود فضله بعد سنتي 1828 و1833، وكان برتو باشا يريد أن يستخدم رشيدا في إصلاح هذا الملك، فلم يمهله الدهر إلى إنجاز إرادته، ونكب بالنفي ثم بالقتل، وبقي رشيد من بعده واهن القوى واهي الأمر. وقد اختص بمودة إنكلترا وولائها؛ ومن أجل ذلك لقي من فرنسا من العدوان ما أحبط كثيرا من مساعيه. وما لقيه من أعدائه المقربين من السلطان كان أشد وأنكى. ولولا هؤلاء السفل الذين يتزاحمون على أبواب السلاطين ويتخاصمون على المكاسب؛ لاستفادت الأمة من جد أعاظمها، ولم يذهب نصبهم في غير جدوى. كذا بلي رشيد بحساد أبطلوا أعماله وحالوا بينه وبين خير البلاد، ولم يزل يتولى زمام الصدارة ثم يبارحها من سنة 1846 إلى سنة 1857 حتى قبضه ربه إليه؛ فهو ثاني المجددين بعد سليم الثالث، وأول من هذب اللغة العثمانية واستخلصها من حوشي الكلام ومستهجنات العجمة، وفتح باب الإصلاح اللغوي لشناسي الشهير.
ولقد جاء بعده رجلان عظيمان ، أحدهما عالي باشا؛ وهو نابغة المحررات الرسمية في اللغة العثمانية، نشأ في عز رشيد المتقدم ذكره، وانتسب إليه وتفرد بحذقه ودهائه. ولي الصدارة في نحو سنة 1281 هجرية، وبقي يغادرها ويعاودها خمس مرات، وكانت ولايته الصدارة خامس مرة في سنة 1283 وبقي فيها إلى آخر عمره. ولئن فاز عالي باشا في تذليل المصاعب اليونانية التي ظهرت في سنة 1274؛ فلقد خاب في معضلة كريد التي أتت في عهد صدارته وقفل غير فائز منها بعدما قصد إليها بنفسه، وكان عالي باشا من القائلين بالترقي في المألوف والإعراض عن المستجد، وكان يؤثر رضاء السلطان على رضاء الأمة، وكان يطارد أنصار تركيا الفتاة الذين وجدوا في عصره؛ حتى لقد قامت الحرب بين كمال بك مع ضيا باشا وبينه، كلاهما عاداه، وطالت الحروب واشتدت الخصومات، فألفاه أعداؤه خشنا عند المجس وصعبا لدى المراس ما دام حيا، ومثله فؤاد باشا الشهير الذي ولي الصدارة في سنة 1278، فكان أول ما أتى به من جلائل الأعمال أن سعى في عزل مصطفى فاضل باشا من نظارة المالية، ووشى به إلى السلطان حتى أوقع بينهما العداوة والبغضاء، وحرم بذا الأمة من أبي الحرية وموجدها. ولبعض الكتاب في فؤاد هذا مبالغات لا طائل تحتها، ولم يكن الرجل إلا من أنصار الفكر القديم. وقد مات بعدما اختل عقله بالغا من العمر خمسا وخمسين سنة.
Shafi da ba'a sani ba